دعاة مغتربون: الأستاذ المربي سليمان الحمد

تابعنا على:   16:06 2019-10-15

د. أحمد يوسف

أمد/ التقيته في مدينة فورت كولينز بولاية ميزوري الأمريكية في الثمانينيات؛ باعتباره أحد قيادات العمل الإسلامي لفلسطين، بل كنائب للدكتور خيري الأغا (رحمه الله) والذي كان – آنذاك - رئيساً لـ"جهاز فلسطين" العام، حيث كان الجهاز بمثابة المرجعية التنظيمية والحركيِّة لعملنا الفلسطيني في الخارج.

كان د. موسى أبو مرزوق هو ممثل الجهاز في أمريكا، وهو حلقة الوصل مع د. خيري الأغا الذي كان بمثابة رأس الهرم لتلك المرجعية.

جاء الأستاذ سليمان الحمد لزيارة أمريكا عام 1983، بهدف اللقاء بقيادة كوادر الحركة الإسلامية الفلسطينية هناك، حيث دارت بيننا أحاديث مطولة حول "تنظيم بلاد الشام" ومهمات العمل التي يقوم بها في الداخل والخارج، وقد طرحنا عليه احتياجاتنا ومطالبنا في الساحة الغربية، من حيث الميزانيات وتحصيل منح للطلاب الفلسطينيين الدارسين في أمريكا كون إمكانياتنا محدودة، وقد وعدنا أن يعمل من أجل ذلك عند عودته إلى الكويت وفعلاً؛ حصلنا على بعض ما طالبنا به وخاصة منحاً لعدد من الطلاب في قطاع غزة.

كان ذلك اللقاء هو الأول الذي أجلس فيه إلى جانبه واستمع إليه، ولكن من باب الأمانة أن ذِكر الرجل كان دائم الحضور على ألسنة الطلاب الفلسطينيين القادمين من الكويت للدراسة في أمريكا.

في الحقيقة، إن قدوم الأستاذ سليمان الحمد للكويت في أوائل الخمسينيات كان له الفضل الكبير في التزام الكثيرين من أبناء فلسطين في الكويت بالحركة الإسلامية، حيث ساعدت أجواء الانفتاح والحرية التي تنعم بها البلاد في تنامي الأنشطة الدعوية وانتشارها، كما شجَّعت المئات من هؤلاء الشباب للسفر للغرب لاستكمال دراساتهم العليا بمنحٍ حكومية أو من خلال الجمعيات الأهلية.

سنعرض لتلك الرحلة التي بدأها هذا الداعية في خمسينيات القرن الماضي، والتي ما تزال مساراتها تشهد له بأنه ترك أكثر من بصمة وأثر على ساحة الكويت والقضية الفلسطينية.

طلب العُلا: النشأة والتعليم

في 18 مايو1929 كان ميلاد الطفل سليمان حسن إسماعيل الحمد في قرية المغار، الواقعة جنوب غرب الرملة وجنوب مدينة يافا.. في تلك القرية، نشأت عائلة الحمد وكانت من العائلات الكبيرة فيها.

عاش الطفل سليمان الحمد وترعرع في بيئة محافظة، فقد كان والده من أشد الناس تديّناً، وكان يشجع أبناءه على حب الدين، ويحرص على تربيتهم تربية صالحة، فقد كان لديه أربعة أبناء وثلاث بنات.. كانت عائلة سليمان تعيش في ظروف مادية جيدة، فقد كانوا مُلّاكاً وكانوا يمتلكون بيارة في 60 دونماً من البرتقال والتفاح والعنب، إضافة إلى 40 دونماً مزروعة قمحاً وشعيراً.

كان في تلك القرية مدرسة حتى مستوى الصف الرابع الابتدائي، وقد درس سليمان فيها حتى أكمل كل مراحلها.. لم يكن التدين موجوداً في بيئة المدرسة بين المعلمين والطلاب، إلا أن مدير المدرسة كان مُتديناً، حيث كان إماماً للقرية.

أراد الطالب الطموح سليمان الحمد أن يكمل دراسته، فانتقل إلى مدرسة يبنا التي تقع غرب القرية بـخمسة كيلومترات، واستمر في الدراسة فيها حتى الصف السابع الابتدائي.. كان أحد أساتذته بالمدرسة من قرية عصيرة، وقد نصحه بأن يذهب ليدرس في كلية النجاح بمدينة نابلس، فوضع تلك الفكرة في رأسه، ولكنه أيضاً كان يراسل كلية "روضة المعارف الوطنية" في القدس، فكانت ترسل له المناهج وكل ما هو مطلوب للدراسة فيها.

قرر الشاب المكافح سليمان الحمد الذهاب إلى كلية النجاح، على الرغم من أن كلية "روضة المعارف الوطنية" في القدس كانت أقرب للقرية، فانتقل من القرية إلى يافا ثم القدس وبعد ذلك إلى نابلس، والتي كانت طريقها جبلية صعبة ودروبها وعرة، فقضى فيها أسبوعاً واحداً فقط، حيث كان مسجلاً في المدرسة قبل أن يأتي، وكان والده قد دفع الأقساط على أساس أن يدخل إلى الصف الأول الثانوي دون امتحان.

تفاجأ الشاب سليمان بالأستاذ ومدير المدرسة يخبرانه بأنه عليه أن يقدم ثلاثة امتحانات في اللغتين العربية والإنجليزية وفي الرياضيات قبل الالتحاق بالمدرسة، فاعترض على ذلك، ولكنه لم يكن لديه خيار آخر.. قدَّم الامتحانات، ثم تفاجأ بأنه راسب في مادة الرياضيات!! لم يتقبل الأمر، إذ كانت هوايته الرياضيات، وكان واثقاً كثيراً بأنه لا يمكن أن يرسب، خاصةً في هذه المادة التي اعتاد التفوق فيها، ولكنهم أصروا على ذلك، فانزعج كثيراً، وما زاد الطين بلة أن ابن مختار البيرة في رام الله وقتها قد التحق بالصف دون أن يقدم الاختبارات. بعد هذا الموقف، حمل الشاب سليمان فراشه وكتبه وطلب سيارة أجرة تنقله من نابلس إلى كلية "روضة المعارف الوطنية" بالقدس.

وصل الطالب سليمان إلى كلية "روضة المعارف الوطنية" والتحق بها في الأول الثانوي، وقد كان والده قد جاء إليه على إثر المكالمة ليفهم القصة، فذهب إلى نابلس، وقدَّم لكلية النجاح الايصالات وأخذ باقي المستحقات المالية، ثم انتقل إلى القدس ليلتقي بابنه سليمان، حيث سأله عما جرى معه في نابلس، فأخبره ابنه بالقصة، فاطمأن على أموره وعاد إلى القرية.

كانت كلية "روضة المعارف الوطنية" من أولى الكليات التي أُنشئت في فلسطين، وكانت معروفة بتابعيتها لآل الحسيني، وتخرج منها الكثير من شبابهم، ومنهم الشهيد القائد عبد القادر الحسيني؛ بطل معركة القسطل.

درس الشاب سليمان في الكلية حتى الصف الرابع الثانوي (البكالوريا)، وكان طالباً مجتهداً ومن الطلاب المتفوقين، حيث كان ترتيبه الأول بامتياز على الدوام، وكانت هناك لوحة شرف معلقة في الكلية تشهد له بذلك، إذ لم يكن اسمه يفارقها، لكن البيئة الدراسية لم تكن سهلة، فقد كان الرصاص يتطاير عليهم أحياناً وهم في غرفة المطالعة، وذلك في عام 1947 قبل وقوع النكبة.

قدّم سليمان الامتحان النهائي، وبذلك أنهى دراسته في الكلية قبل شهرين من وقوع النكبة 48، وقد كان فوجه هو آخر فوج يتخرج من تلك الكلية، حيث حزم أمتعته وذهب من القدس إلى الرملة، ووصل إلى الفالوجة ليلاً، لم يكن يعرف أحداً هناك فذهب إلى بيت مختار القرية الذي استقبله في بيته، وهناك تعرَّف على عم سليمان، فجلس معه وجهَّز العشاء وأثناء تناولهم للطعام جاء من يخبرهم باستشهاد عبد القادر الحسيني، فلم يستطيعوا أن يكملوا طعامهم وحزنوا عليه كثيراً.

في الصباح، انتقل سليمان إلى يبنا، وهناك وضع أغراضه ثم أكمل الطريق سيراً على الأقدام، وما إن رأته والدته في القرية حتى ملأت الفرحة قلبها، وأخذت تزغرد فرحاً بعودة ابنها.

الهجرة إلى غزة: بداية العمل في سلك التعليم

كان الخطر يتهدد كل الفلسطينيين بتزايد أعداد اليهود، وتزايد قوة وبطش العصابات الصهيونية، فكان لا بدّ للشاب سليمان أن يتعلم الرماية ليدافع عن نفسه وعرضه، فبدأ التعلم على إصابة الهدف بالبارودة التي اشتراها والده.

في ذلك الوقت - قبيل النكبة - وقعت معركة قرب القرية، فقد كانت بلدة الشاب سليمان على تلة تشرف على الطريق الذي يصل شمال فلسطين بجنوبها، فكان اليهود يريدون أن يمروا من هناك فتصدى لهم أهل البلدة، كان على رأسهم عم سليمان ويدعى سليم، ومنعوهم من المرور إلا برفع الراية البيضاء. وفعلاً؛ هذا ما حصل، لكنَّ أحد الشباب الثائرين أحضر لغماً ووضعه على طريق العصابات الصهيونية، وكمن معه الشباب يحملون البواريد على الطريق، وعند وصول القافلة قاموا بتفجير اللغم في المدرعة، واشتبكوا معهم، حيث تمكنوا من قتل 18 شخصاً من قوات الهاجاناه.

بعد تلك الحادثة، أرسلت العصابات الصهيونية رسائل تهديد إلى أهالي القرية بأنه سيتم إبادتها وتهجير كل من فيها، ثم جاءت المصفحات وعصابات الصهاينة وحاصروا القرية، فقرر أهل القرية إخراج النساء والشيوخ والأطفال، وبقي هناك 60 شخصاً مسلحين ببنادق وذخيرة قليلة، بينما كانت العصابات الصهيونية تمتلك أحدث الأسلحة والذخيرة والمصفحات، وبعدها سقطت القرية بأيديهم.

من هنا بدأت رحلة النزوح واللجوء والمعاناة، فقد نزح الشاب سليمان وأهله إلى مخيم وادي العروب في الخليل، وكانوا أول ساكنيه، حيث مكثوا فيه ما يقارب الثلاثة شهور، وبعدها قرروا الانتقال لمكان آخر بسبب عدم وجود عمل، فتوجهوا إلى الجنوب برفقة الجيش المصري، وقد تعرضوا لقصف القوات الصهيونية أثناء الطريق، ووصلوا إلى معسكر البريج، حيث حطوا الرحال ونصبوا خيامهم هناك.

بعد الاستقرار في معسكر البريج، رفع الأستاذ سليمان الحمد مع (محمد حمودة أبو حسني) أول لواء لتدريس اللاجئين، وفي تلك الفترة تمَّ افتتاح مدارس للاجئين في المخيمات، وكانت المدارس عبارة عن حلقات من الأخشاب والحجارة.. بقي الأستاذ سليمان في مدرسة المخيم ما يقارب سنة ونصف، ثم انتقل إلى موقع ناظر مدرسة في النصيرات، وقام مع المعلمين والطلاب والبنائين بجهد كبير جداً حيث استطاعوا بناء مدرسة من حجارة الطين بأيديهم، وكانت عبارة عن 14 حجرة، فأصبح في المدرسة 2200 طالب و50 فصلاً و36 مدرساً.

كانت ظروف التعليم – آنذاك – قاسية، لكنَّ ذلك لم يمنع الأستاذ سليمان عن العمل والاجتهاد حتى يستطيعوا تعليم الطلاب وتدريسهم، فقام بوضع العديد من الأنظمة والقوانين في المدرسة حتى يستطيع الارتقاء بمستواها، وفعلاً كانت المدرسة تأخذ المرتبة الأولى في الابتدائي في المديرية العامة في المنطقة، واستمر في المدرسة ثلاث سنوات، حتى حصلت بعض المشاكل مع المديرية التي جعلته يترك المدرسة.

الإخوان المسلمون: الاعجاب بالفكرة والالتحاق بالتنظيم

كانت بداية تَعرف الأستاذ سليمان الحمد على فكر جماعة الإخوان المسلمين في فترة دراسته في كلية "روضة المعارف الوطنية" في القدس عامي 46-1947، فقد زارهم أحد قيادات الجماعة (الأستاذ سعيد رمضان) وألقى فيهم خطاباً، فأعجب الأستاذ سليمان كثيراً به وبأسلوبه وفصاحته في الخطابة، وأخذ فكرة جيدة منه عن الإخوان المسلمين.

ما زاد إعجاب الأستاذ سليمان بالإخوان المسلمين، وكان له الأثر الكبير في اعتناق فكرهم، هو اللقاء الذي جمعه بمؤسس الجماعة الإمام حسن البنا (رحمه الله)، حيث وجهت وزارة المعارف المصرية دعوة لطلاب الكلية لزيارة القاهرة فحلّوا ضيوفاً عليها، وهناك زاروا الشهيد حسن البنا في مكتبه، حيث حدّثهم عن فلسطين وعن رغبة الإخوان بالتطوع للدفاع عنها، وكان لديه كلمة وقتها فحضروها، وقد أعجب الأستاذ سليمان حينها بفصاحته وطلاقة لسانه واستشهاده بالقرآن الكريم.

أما عن الموقف الثاني الذي زاد في حبه للإخوان المسلمين وتعلقه بهم، كان وجود معتقلٍ للإخوان المسلمين تابع للجيش المصري في معسكر النصيرات للاجئين، حيث تعرَّف الأستاذ سليمان عليهم، من خلال ما كانوا عليه من خُلق ودين، إذ كان في المخيم حنفية مياه واحدة، وكانت الفوضى تعج بالنساء والأطفال من حولها، فكانوا هم من يخرجون لترتيب الطوابير، ويقومون بملء الأواني (الجرار) للضعفاء منهم، وكان هناك بجانب المخيم قسم خاص بالأيتام والأرامل، فكان هؤلاء المعتقلون يأخذون من طعامهم ويقدمونه لهم.

كانت بداية الالتحاق الفعلي بجماعة الإخوان المسلمين في بداية عمله كناظر في مدرسة النصيرات الابتدائية، حيث جاءه مجموعة من دعاة الإخوان وعرضوا عليه الانضمام إليهم، فانضم إلى الجماعة بعد أن تمَّ دعوته إلى أحد اللقاءات الإخوانية، ثم بدأت رحلته الدعوية مع الإخوان المسلمين، حيث بدأ ينشر فكرهم بين الشباب وطلاب المدارس، ولاحقاً قاموا ببناء شعبة للإخوان بجانب المدرسة، ثم قاموا ببناء مسجد كان هو الثاني في معسكر النصيرات، وأصبح الأستاذ سليمان الحمد مسؤولاً عن الإخوان في تلك المنطقة.

في بداية الخمسينيات، بدأت جماعة الإخوان بتدريب أبنائها في قطاع غزة على السلاح، فطُلب من كل شعبة إرسال 12 شخصاً، وفي ذلك الوقت كان الأستاذ سليمان من ضمن أولئك الأشخاص، حيث كانوا يذهبون ليلاً إلى أحد مواقع تدريب الجيش المصري على الحدود ليتدربوا على استخدام الأسلحة، وكان من بينهم أيضاً الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد).

قبل أن يلتحق الأستاذ سليمان الحمد بالإخوان كان قد التحق بالحزب الشيوعي، لكنه لم يبقَ فيه سوى ستة أشهر ثم تركهم، فأصبحوا يؤذونه ويهددونه، وكان هو يصدهم ويتوعدهم باللجوء إلى رجالات العائلة وما لها من هيبة ومكانة يخشى جانبها، فابتعدوا عنه.

بالعودة إلى المدرسة التي كان الأستاذ سليمان الحمد مديرها، فقد حصلت العديد من المشاكل مع مديرية التربية والتعليم والعديد من الموجهين الذين جاؤوا للمدرسة، حتى أنه في ذات مرة جاء أحد الموجهين غير المرغوبين في المديرية للأستاذ سليمان وأخبره بأنهم لا يريدونه مديراً وقد يزيلونه قريباً، لم يلتفت الأستاذ سليمان كثيراً للأمر، ثم جاءت الإجازة الصيفية وذهب إلى مصر، والتقى هناك مدير المعارف - آنذاك - عبد العزيز حسين الذي أخبره أنه سيذهب إلى غزة، وطلب منه أن يلتقيه هناك.

بعد فترة وجيزة، نزل مدير المعارف المصرية إلى غزة، واتصل بالأستاذ سليمان والتقى به، بعدها تعاقد الأستاذ سليمان مع الكويت وخرج إليها للتعليم، دون أن يقدم استقالته من ادارة المدرسة، لكنهم لم يعطوه أي معاش أو مستحقات مالية.

الانتقال إلى الكويت: بين التدريس وقيادة التنظيم

في عام 1953 خرج الأستاذ سليمان الحمد إلى القاهرة، ومن هناك إلى بيروت ثم إلى الكويت، وكان سفره عن طريق تذكرة عبور وليس جواز سفر، وقد نزل ضيفاً عند أحد معارفه من غزة الذي دعاه إلى منزله، وقد توطدت العلاقات فيما بينهم، فكانوا يسهرون معه في الديوان ويدعونه إلى مناسباتهم، وقد أخذ هو وأحد إخوانه (شحدة عقيلان) بيتاً واحداً وقسَّماه بينهما، ثم بدأ العمل في مدارس الكويت، وكان مدرس رياضيات، ولكنهم أعطوه مادة التربية الإسلامية، ثم توزعت دروسه بعد ذلك بين الرياضيات واللغة الإنجليزية.

عند ذهاب الأستاذ سليمان إلى الكويت كان قد عقد قرانه في غزة، فعاد إليها بعد عام وتزوج، واصطحب زوجته معه إلى الكويت، وقد كانت زوجته صابرة مصابرة وكان طبعها رقيقاً، حيث كانت سلسة المعاملة مع الناس، وقد نجحت في إقامة العديد من العلاقات مع العائلات الفلسطينية في الكويت.

كان هناك نشاط لجماعة الإخوان المسلمين في الكويت، وكان هناك جمعية تابعة لهم وهي جمعية الإرشاد الإسلامية، التي كانت تضم أبناء الجماعة، فالتحق الأستاذ سليمان بالجمعية، وتعرَّف على العديد من إخوانه في الجماعة، وكان منهم الأخ (عبدالله أبو ديب)، الذي كان يجلس معه ويتحدث معه في أمور القضية الفلسطينية، وعندما تكلم أمامه عن أحوال الناس في قطاع غزة نظر إليه وإذ به يبكي، وبعد الجلسة أعطاه خمسة آلاف روبية للطلاب الذين تحدث عنهم في غزة، وبعد رجوع الأستاذ سليمان إلى القطاع استدعى أولئك الطلاب وأعطاهم المال، وأخبرهم بأنه هدية من إخوانهم في الكويت.

بعد عام 1957 جاء الراحل ياسر عرفات إلى الكويت، وكان معه مجموعة من الشباب المنتسبين لرابطة طلاب فلسطين في مصر، ومنهم خليل الوزير ومحمد يوسف النجار، وقد تعرَّف الأستاذ سليمان على ياسر عرفات عن طريق عمدة الإخوان المسلمين في الكويت الأستاذ يوسف عميرة (أبو نادر)، وكانوا – حينذاك - يعتبرون ياسر عرفات ومجموعته من الإخوان.. كان أبو عمار (رحمه الله) ومجموعته يدعون لممارسة الكفاح المسلح لتحرير فلسطين، وقد أسسوا فيما بعد حركة فتح التي صدر عنها أول بيان في 1964، وقد شارك الأستاذ سليمان الحمد في كتابته.

حتى عام 1963 كانت العلاقة بين الإخوان في الكويت وعرفات وطيدة الأركان، لكن بعد تأسيس حركة فتح واختلاف الرؤى بين الجانبين، طلبت جماعة الإخوان المسلمين الفلسطينية من أبنائها الانفصال عن التنظيم الجديد (فتح)، وهذا ما أسماه الأستاذ سليمان الحمد بـ"الانفصال النكد"؛ لأنه كان يري من وجهة نظره أن الأولى هو الاندماج والتغلغل في هذ التنظيم وليس الابتعاد عنه.

انقسم الإخوان آنذاك؛ فمنهم من بقي مع الجماعة، وقليل منهم ذهبوا مع ياسر عرفات (رحمه الله)، وكان الأستاذ سليمان في البداية يقف بالمنتصف، حيث كان الإخوان يعتبرونه من فتح، وفتح يعتبرونه من الإخوان، إلى أن جاءه في ذات مرة خليل الوزير إلى بيته، وطلب منه الذهاب معهم إلى لبنان، فأخبره أنه سيأخذ مشورة إخوانه في الجماعة، فاستغرب أبو جهاد منه وذهب ولم يعد.

في تلك الفترة، كانت هناك مجلة تصدر في بيروت باسم "فلسطيننا"، وكان يشرف على اصدارها خليل الوزير، وكان الأستاذ سليمان الحمد هو المحرر الأول فيها، وقد كانت الصفحتان وسط المجلة باسم "جهاد مؤمن"؛ الاسم الحركي للأستاذ سليمان الحمد، وحتى حينما كان يسافر كان يستخدم هذا الاسم.

بعد خروج ياسر عرفات ومن معه إلى لبنان، مهّد ذلك الطريق للفلسطينيين ليعيدوا ترتيب بيتهم الداخلي في الكويت، والذي أصبح فيما بعد "التنظيم الفلسطيني"، حيث تمَّ عمل مؤتمر في الكويت ودعوة الإخوان الفلسطينيين إليه من مختلف الدول العربية، وكان الأستاذ سليمان هو الذي وضع مشروع اللائحة التي طُبعت في كرّاس، ووزعت على الإخوان حينها ليتم العمل بها.

لم يكن الأستاذ سليمان الحمد ممن يحبون السلطة ويعملون للمناصب، فقد أتيحت له الفرصة لقيادة هذا التنظيم بعد أن قاده عدد من الإخوة الفلسطينيين قبله، وجرت انتخابات بعدها، حيث فاز بنسبة 71 صوتاً والأخ عمر أبو جبارة (رحمه الله) بنسبة 70 صوتاً، إلا أن الأستاذ سليمان تنازل للأستاذ عمر، وقال لإخوانه: "إنه أحق مني، وإمكانياته على القيادة أكثر".

كانت السنوات من عام 1963 حتى 1967 سنوات صعبة على الأستاذ سليمان الحمد، فقد كان له ثمانية أبناء وأربع بنات، وكلهم أتموا تعليمهم الجامعي وكانوا جميعهم مشهوداً لهم ببر الوالدين، وقد أصيب أحد أبنائه بشلل الأطراف فانشغل بعلاجه إلى أن شافاه الله واستعاد عافيته.

في تلك الفترة من الستينيات، عايش الأستاذ سليمان الحمد العديد من المشاكل والخلافات داخل التنظيم الفلسطيني وحتى في الجماعة الإخوانية نفسها، إضافة إلى مشاكل أخرى مع حركة فتح.. بسبب تلك الأمور، قرر التراجع عن إكمال دراسته العليا بعد أن كان عاقداً العزم على اتمامها، حيث كان قد حصل سابقاً على شهادة البكالوريوس الأخ محمد علي حمودة من جامعة لندن في بريطانيا.

عاد الأستاذ سليمان ليكمل دراسته في الماجستير، بعد أن قام الأخ محمد علي حمودة بإقناعه بذلك، فبدأ دراسة الماجستير، لكن جاءت حرب 1967 فزادت الوضع سوءاً، لكنه تجاوز تلك الصعوبات وحصل فيما بعد على درجة الماجستير، وقدّم بعدها للدكتوراه لكنه تراجع بسبب انشغالاته المنزلية، إضافة إلى انشغالاته الحركيَّة في الإخوان.

تأسيس نواة حركة حماس: الجهد والبداية

في بداية السبعينيات وتحديداً في عام 1973، بدأ التنظيم الفلسطيني الإخواني يتسع عمله بين الطلاب في الكويت، وتمَّ فرز العديد من الشباب الذين كانوا في التنظيم العام للجماعة إلى تنظيم الإخوان الفلسطينيين في الكويت باقتراح من الأستاذ سليمان، وكان من ضمنهم الأخ خالد مشعل، وقد تمَّ فرز هؤلاء الشباب للعمل الحركي في جامعة الكويت وفي ثانوياتها.

كانت قائمة "الحق الإسلامي" وبعد ذلك "الرابطة الاسلامية لطلبة فلسطين"؛ هي الإطار الطلابي للإخوان الفلسطينيين في الكويت، وقد كان لها دور بارز في التمهيد لانطلاقة حركة حماس، حيث كانت هناك منافسة كبيرة بين الرابطة والاتحاد العام لطلبة فلسطين؛ التابع لمنظمة التحرير، فطلب الأستاذ سليمان من إخوانه في مجلس الشورى صرف ميزانية كافية لأنشطة الطلاب والرابطة، حيث كانت هناك منافسة شديدة بينهما، وقد انضم بعض شباب الاتحاد العام إلى الرابطة الاسلامية.

كان الأستاذ سليمان من المؤسسين والداعمين لهذه الرابطة، التي انتشرت في المدارس الثانوية والجامعات، والتحق بها المئات من أبناء الشعب الفلسطيني في الكويت، وكانت - كما يقول الأخ خالد مشعل - النواة لتشكيل ما سمي بـ"الجهاز العام لفلسطين"، والذي يعتبر بمثابة المكتب السياسي للجماعة آنذاك.. ولما للأستاذ سليمان الحمد من فضل في هذا المضمار، فقد أثنى عليه الأخ خالد مشعل في أحد اللقاءات، قائلاً: "إن سليمان الحمد هو أحمد ياسين الخارج"، وذلك لما له من دور كبير في تأسيس الحركة الإسلامية الفلسطينية، وخاصة في الخارج.

كان للأستاذ سليمان الحمد دور مهم أيضاً في تأسيس العمل النسوي للإخوان في الكويت، فقد كانت زوجته الأخت (أم محمد) تساعده في كل أعماله ونشاطاته، فجاءته فكرة إشراك النساء في العمل التنظيمي، وفعلاً تم تأسيس أول أسرة إخوانية من زوجته (أم محمد) إضافة إلى عدد من الأخوات الأخريات، ثم بدأ عملهن يتوسع باتجاه الجامعة ثم إلى الجمعيات والمؤسسات الأهلية، وكانت الأخت (أم محمد) مسؤولة عن عمل الأخوات، وكان لها دور بارز في النشاط الدعوي، حيث سهر زوجها على الارتقاء بثقافتها الدينية والدعوية، فأخذت مكانتها في دائرة المرأة، وتصدرت الكثير من المهمات.. في المقابل، كانت تساعد زوجها الأستاذ سليمان كثيراً في عمله، وتعينه على تحمل ضغوطات العمل الدعوي، وما يفرضه التنظيم من مكابدة وإنشغالات.

سليمان الحمد: بين الحراك الدعوي والجهادي

كان الأستاذ سليمان الحمد من أكثر الإخوان مناداة بالعمل الجهادي لتحرير فلسطين، وكان مبدأه: "المصحف في يد والسيف في اليد الأخرى، وبدون ذلك لن ننجح في تحقيق شيء". لقد كان التيار العام داخل التنظيم الفلسطيني في الستينيات يرى أن وقت المعركة مع الكيان الإسرائيلي الغاصب لم يحن بعد، وبسبب ذلك كانوا يتهمونه بأنه يدعم حركة فتح، لكن عندما فتحت "معسكرات الشيوخ" في الأغوار عام (68- 70)، أثبتت صحة رؤيته، فقد قام مع بعض إخوانه بإرسال مجموعة من شباب الإخوان الفلسطينيين في الكويت إلى تلك المعسكرات. وفعلاً؛ أثبتت التجربة أن الإخوان لديهم القدرة والامكانية للعمل العسكري، وقد رجع الشباب إلى الكويت بانطباعات إيجابية عن تلك المعسكرات.

في الحقيقة، كانت هناك بعض التباينات بين الأستاذ سليمان الحمد وقيادة الإخوان، وكان من أبرزها دعوته إلى قتال العدو الصهيوني، في حين أنهم كانوا يقولون له: "إن الوقت لم يحن بعد".. ، فكان يجيب على معترضيه، بالقول: "ضممنا الناس إلى الإخوان، وحفَّظناهم القرآن والأحاديث، وعلمناهم أن الجهاد فرض عين على أمثالنا ممن احتلت أرضنا، ماذا بعد ذلك؟! إن أمامنا عدواً يجب علينا أن نحاربه".

لا شك أن هناك الكثير من الفلسطينيين ممن كانوا يدعون لتبني هذا النهج في ضرورة ملاقاة العدو والاستعداد لمواجهته، وكان الأستاذ سليمان واحداً من بين الداعين للاهتمام بالعمل العسكري، وتشجيع قيام الفلسطينيين بالتصدي للاحتلال، إلى جانب عملهم التربوي والدعوي.

إن هذا الموقف الأصيل والمبكر من الأستاذ سليمان الحمد وإصراره على تبني نهج الجهاد والمقاومة من ناحية، ورعايته الأبوية لجيل الشباب الذين التحقوا بالحركة الإسلامية الفلسطينية في الكويت مطلع السبعينيات من ناحية ثانية، هو الذي هيأ الأجواء لتأسيس نواة العمل الإسلامي لفلسطين، متخذاً من قضية فلسطين - جوهرة المسلمين المفقودة ومقدساتها السليبة - منطلقاً لمشروعه المقاوم وتطلعاته في التحرير والعودة.

يروي لنا الأستاذ عبد القادر الرقب (أبو محمد)؛ أحد رفقاء درب الأستاذ سليمان الحمد، بأنه كان من المتحمسين دائماً للجهاد في أفغانستان، وكان دائم الحرص على استضافة القيادات الأفغانية التي كانت تزور الكويت لجمع التبرعات، بهدف الاستفادة من تجربتهم النضالية ضد السوفييت.

الانتفاضة وفلسطينيو الكويت: الحضور الدائم

في ديسمبر 1987، اندلعت الانتفاضة الفلسطينية المباركة، حيث كانت البداية في قطاع غزة، ثم عمَّت كل أرجاء الضفة الغربية ومدينة القدس، والتي جاء معها الإعلان عن انطلاقة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في الوطن والشتات.

ومن باب العدل والإنصاف الإشارة إلى أن جذور هذه الانتفاضة المباركة كانت قد تمددت وارتوت من بيئات الشتات الفلسطيني، حيث كان نبض الحضور الإسلامي فيها لا تخطئه العين، وخاصة في الأردن والكويت، إذ كان لهما الفضل في تعاظم الفعل المقاوم داخل الوطن المحتل، بما أسدياه من دعم مادي ومعنوي للهبَّة الشعبية، وما قاما به من تعبئة للمواقف وحشد للتغطيات الإعلامية، والتي أخذت مشاهد الانتفاضة من حواري القرى والمخيمات الفلسطينية إلى العالمية، فكان لهما قصب السبق مع إخوانهما في الداخل المحتل في ارتفاع وتائر الحِراكات الشعبية وتظهير المظلومية الفلسطينية في كل الساحات والحواضر الغربية، مما أدى إلى إخراج جيش الاحتلال من قطاع غزة وأجزاءٍ من الضفة الغربية، وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية.

لقد كان الأستاذ سليمان الحمد (أبو محمد) والدكتور خيري الأغا (رحمه الله) رفقاء درب في تأطير هذا العمل الإسلامي لفلسطين، حيث كان د. الأغا يتولى قيادة التنظيم في الداخل والخارج، وكان الأستاذ الحمد نائباً له.

من الجدير ذكره، أن هذا التنظيم (جهاز فلسطين) كان هو المحرك والداعم لكل أنشطة وفعاليات الإسلاميين الفلسطينيين، والذي توزعت محطات فعله النضالي في الحشد والتعبئة إلى أكثر من دولة عربية، وكانت الأردن والكويت – بلا شك – هما أحد ركائزه وأركانه العتيدة.

في الحقيقة، وبرغم قلة ما تناولته وسائل الإعلام في التعريف بهذه الشخصية الدعوية، التي أبدعت خلال ما يقرب من سبعين عاماً في عملها التربوي والحركي داخل الساحة الكويتية، إلا أن د. عزام التميمي قد نجح في برنامج "مراجعات" على تلفزيون الحوار في استنطاق الأستاذ سليمان الحمد على مدار ثلاث حلقات، ليكون شاهداً على مرحلة مهمة من تاريخ العمل الإسلامي الفلسطيني في الكويت.

وللأخ سليمان الحمد (أبو محمد) ونحن نتذكر فضائل عمله الدعوي على الساحة الكويتية، دعاؤنا له بالصحة والعافية وطول العمر.

اخر الأخبار