الوطنية أم الطائفية.. من يكسب الرهان؟

تابعنا على:   07:56 2019-11-08

د. محمد السعيد إدريس

أمد/ تكتسب الموجة الثالثة من الحركة الاحتجاجية الشعبية العربية مذاقاً خاصاً عن سابقتيها الأولى التى شملت تونس ومصر بالأساس ثم امتدت إلى ليبيا وسوريا واليمن عام 2011، والثانية التى تفجرت هذا العام واقتصرت على الجزائر والسودان. هذه الموجة الثالثة التى تشمل لبنان والعراق وتطورت شعاراتها من شعارات المطالب الاجتماعية والعدالة ومحاربة الفساد إلى شعارات سياسية عميقة الدلالة أبرزها المطالبة بنظام وطني مستقل متحرر من كل أشكال التبعية للخارج دولية كانت أم إقليمية، لكن الأهم هو المطالبة بإسقاط النظام الطائفي الذي يحكم لبنان منذ عام 1943 وفرض على العراق أيام الاحتلال الأمريكي بعد تعرضه للغزو عام 2003، وهنا يكمن التحدي الحقيقي، لأن هذا المطلب يتصادم مع مصالح قوى دولية وإقليمية تتحالف مع أطراف داخلية تشمل زعماء الطوائف وكافة القوى الاجتماعية المستفيدة من هذا النظام، ما يعني أن المطالبة بإسقاط النظام الطائفي يعني إسقاط مصالح كل هذه الأطراف وهنا تكمن الصعوبة والتحدي الذي يواجه مستقبل هذه الموجة الاحتجاجية العربية الوليدة.

كانت الطائفية السياسية والديمقراطية النسبية اجتهاداً دعمته ورعته فرنسا في لبنان وارتضته القوى الداخلية السياسية والاجتماعية. كان المطلوب التوصل إلى إطار للحكم يحقق توازن المصالح وتوازن الإرادات لكل مكونات المجتمع اللبناني، لكن نجاحات هذا النظام الذي ارتكز على قاعدة «الديمقراطية النسبية» أي توزيع الحصص بنسب متفاوتة تتطابق مع الوزن النسبي لكل جماعة، تداعت بسبب سيطرة زعماء الطوائف والكتل السياسية على مقاليد الثروة والسلطة وجرى تهميش المواطن اللبناني أياً كان انتماؤه الديني أو الطائفي وحدث انشطار رأسي في بنية المجتمع السياسي- الاقتصادي اللبناني بين أقلية تملك وتحكم وتسيطر وتقود وتهيمن وتتحدث باسم الوطن وتحتكر الوطنية، وأغلبية لا تملك شيئاً وتعاني الاستغلال والتهميش والإفقار. لم يتوقف الأمر على اقتران حكم هذه الأقلية بالاستبداد والقهر الأمني للمواطن المحروم والمهمش، بل ولّد الحكم الاستبدادي نتائج أخرى شديدة السوء كان من أبرزها الفساد والمحسوبية وتهريب الثروات للخارج والقبول برهن الإرادة الوطنية لمن يدفع ولمن يمول.

اكتشف الشعب اللبناني أنه عاش الوهم وتجرع الخيبة بارتهان إرادته للطائفية السياسية بقبوله لأكذوبة: «من أجل أن يبقى لبنان يجب أن تبقى الطائفية»، كما اكتشف أن الحل الأنسب للحفاظ على لبنان موحداً، وتحقيق طموحات التقدم والرخاء والعدالة والديمقراطية واستقلال الإرادة الوطنية يكون بإعلاء شأن الوطنية اللبنانية كبديل للطائفية السياسية، وأن يتوحد اللبنانيون، كل اللبنانيين، على قاعدة «المواطنة المتساوية» والانتماء للبنان، فقط للبنان، ومن هنا جاء شعار إسقاط النظام الطائفي وإقامة حكم مدني ديمقراطي كأهداف ومطالب للانتفاضة الشعبية اللبنانية التي تزامنت مع تفجر نظيرتها العراقية.

كان العراق مجتمعاً طائفياً وعرقياً تعددياً قبل عام الغزو الأمريكي، لكنه لم يخضع لطائفية سياسية، أي لم تتحول الطائفة إلى طائفية سياسية تحكم وتسيطر وتهيمن على نحو ما فرض بعد الغزو عام 2003، فمن أجل جعل العراق نموذجاً للمشروع الأمريكي الجديد، أي الشرق الأوسط الكبير الذي يرتكز على قاعدة إعادة تقسيم الدول، ومن أجل جعل الصراع الطائفي السُني- الشيعي هو الصراع الاستراتيجي الجديد كبديل للصراع العربي- «الإسرائيلي»، جاء الدستور العراقي الجديد ليفرض الطائفية السياسية والمحاصصة السياسية كأساس للحكم ومن ثم جرى تقسيم العراق إلى ثلاث مجموعات عرقية- طائفية هي: الأكراد والشيعة والسنة، وجرى تقسيم المناصب ومصادر القوة السياسية والاقتصادية بين رموز هذه المكونات الثلاثة ما أدى إلى مجموعة من النتائج شديدة الخطورة.

أول هذه النتائج أن الولايات المتحدة أضحت طرفاً أساسياً في معادلة الحكم في العراق، فهي القوة الضامنة لاستمرار النظام الجديد الذي أرادته ليس فقط للعراق بل ولمعظم الدول العربية. ثاني هذه النتائج أن أصبحت الطائفية السياسية هي محور الحكم العراقي، وجرى انشطار المجتمع رأسياً بين أقلية تحكم وتملك كل شيء، وأغلبية لا تملك شيئاً ومطلوب أن تبقى خاضعة. أما النتيجة الثالثة فهي أن هيمنة الطائفية السياسية الشيعية على القرار السياسي في العراق أدت إلى أن إيران باتت هي أهم قوة صاحبة نفوذ، وثانيها أن زعماء الطائفية السياسية السنية أضحوا مدفوعين للبحث عن قوى إقليمية حليفة لموازنة النفوذ الإيراني، وثالثها، أن الولايات المتحدة وجدت أرضية أكثر استعداداً لفرض نفسها قوة أساسية حاكمة داخل العراق، ما أدى إلى رهن العراق تحت رحمة صراع إرادات ومصالح أمريكية وإيرانية.

الشعب العراقى يثور الآن ضد هذا كله، لاستعادة الوطن وإسقاط النظام الطائفي بالتزامن مع مسعى اللبنانيين، باعتبار أن الوطنية العراقية هي شرط البقاء للوطن العراقي. وهنا يكمن التحدي والخطر على مستقبل انتفاضتي لبنان والعراق من أعداء الوطنية ورموز الطائفية السياسية من الداخل والخارج.

عن الخليج الإماراتية

كلمات دلالية

اخر الأخبار