في ذكرى الانتفاضة الفلسطينية

تابعنا على:   18:11 2019-12-04

هشام عبد الرحمن

أمد/ يستذكر شعبنا هذه الأيام بكل الإجلال والإكبار والتقدير والإعتزاز الذكرى الثانية والثلاثين للانتفاضة الشعبية الكبرى التي انطلقت بتاريخ 9/12/1987، وسجلت تاريخاً جديداً للفلسطينيين وفتحت افاقاً جديدة ودشنت مرحلة تاريخية مختلفة بعد أربعة عقود من النكبة والتطهير العرقي وبعد عقدين من الاستعمار الكولونيالي عام 1967 وبعد 22 عام على انطلاقة الثورة الفلسطينية بقيادة حركة فتح. لقد شكّلت هذه الانتفاضة المجيدة حلقة مركزية في سلسلة النضال والكفاح الوطني الذي يقوده شعبنا على مدار أكثر من مائة عام وحتى الآن.

انطلقت شرارة الانتفاضة الفلسطينية على أثر صدم شاحنة إسرائيلية عمداً لسيارتين فلسطينيتين كانتا تقلان عمالاً من مخيم جباليا في قطاع غزة. وأسفر الحادث عن مقتل أربعة فلسطينيين وجرح تسعة آخرين من ركاب السيارتين مما أثار سكان المخيم الذين خرجوا إلى الشوارع يرشقون جنود الاحتلال الإسرائيلي بالحجارة. وانتشرت التظاهرات المعادية للاحتلال في جميع أراضي قطاع غزة والضفة الغربية. وثم يحدث في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية – بأستثناء ثورة 1936* أن استقطبت جميع فئات الشعب الفلسطيني وتنظيماته، كما واستقطبتها الأحداث التي هزت الأراضي الفلسطينية المحتلة مدة ست سنوات (1987 –1993) والتي أطلق عليها اسم الانتفاضة، أو انتفاضة الحجارة ضد الاحتلال الإسرائيلي. ودخلت كلمة انتفاضة قاموس لاروس الفرنسي والموسوعة البريطاني، بسبب الاهتمام العالمي بها.

لم تكن الانتفاضة الشعبية الكبرى في العام 1987 محض اشتباك سياسي واسع ومفتوح مع المحتلين الصهاينة، بل وكانت تتويجاً لمرحلة من البناء التنظيمي، الحزبي والشعبي، على نطاق واسع , كما شكلت الانتفاضة حدثًا نوعيًّا جديدًا بالنسبة للوطنيين الفلسطينيين، وحَّد الشعب الفلسطيني إلى حدٍّ لم يسبق له مثيل أثناء النضال من أجل تحقيق الاستقلال الوطني، وشكلت تجليًا بارزًا للهوية الفلسطينية وشملت لأول مرة – الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة بكل طبقاته وفئاته وشرائحه .

كما ويمكن الإشارة إلى ان الانتفاضة ساهمت في بروز الهوية الفلسطينية، وتجلى ذلك من خلال المشاركة الشعبية الواسعة في التظاهرات التي اجتاحت المدن والقرى لتنخرط في المواجهات مع قوات الاحتلال الإسرائيلي، وتشكيل الهيئات واللجان الشعبية التي أدارت الأحداث الجارية والتي ألهمت وقادت الجماهير الفلسطينية لتؤكد على وحدة الشعب الفلسطيني ولتكون رافدًا أساسيًّا لتعزيز القيم والوحدة الوطنية المساندة.

هي انتفاضة شعب كامل، سلاحه حجارة بلاده، كانت شرارتها قد انطلقت من مخيم جباليا في غزة . ليأتي الرد الشعبي الفلسطيني شاملاً لكل مخيمات قطاع غزة والضفة الغربية والقدس في وحدة لم تتكرر في المشهد الفلسطيني من قبل .

وعلى الرغم من ممارسات جنود الاحتلال لسياسة تكسير العظام وإطلاق الرصاص على المتظاهرين واعتقال آلاف الشبان، إلا أن الانتفاضة استمرت ست سنوات، واستطاعت أن تفرض نفسها على (إسرائيل) التي عجزت عن القضاء عليها بشتى الطرق. وكذلك على الرأي العام العالمي الذي كان يراقب تصرفات جنود الاحتلال ضد المتظاهرين والسكان المدنيين، ومن شاشات التلفاز ووسائل الإعلام الأخرى.

الا ان الانتفاضة الشعبيية أوجدت حالة من الوعي الوطني في صفوف الفلسطينيين تحت الاحتلال وفي الخارج، ولدى الجماهير العربية بشكل لم يسبق له مثيل منذ سنوات طويلة. إذ دخلت الانتفاضة وجدان العرب، الذين التفوا حولها ودعموها. كما فضحت الانتفاضة الإرهاب* الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، وسلطت الأضواء على المطالب الفلسطينية الداعية إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة. وحددت الانتفاضة مطالبها في البيانات التي كانت تصدرها القيادة الموحدة للانتفاضة: مثل إطلاق سراح المعتقلين، ورفض الاستيطان * وسياسة الإبعاد والاعتقال الإداري، ووقف الممارسات القمعية ضد السكان المدنيين وضد المعتقلين، وإلغاء سياسة المنع من السفر والمضايقات والتوقف عن نشر الرذيلة والفساد والوقوع في شباك المخابرات والمخدرات، ومنع جمع الضرائب الباهظة.

يمكننا القول أن الانتفاضة الشعبية قد تجسدت فيها جملة من القيم الاجتماعية، الوطنية والثورية، كنتاج لمعطيين أساسيين أولها ما ترسخ في صفوف الجماهير من تربية وطنية وثورية في المرحلة السابقة، وخاصة الثمانينيات، تلاقحت مع النضال الشعبي ضد المستعمرين، وثانيها كنتاج للفعل الانتفاضي. لقد تجسدت تلك القيم في الفعل الانتفاضي نفسه، وبالتالي لم تكن معزولة عنه بل هي حاضنة ورافعة للفعل ذاته، تؤثر فيه وتتأثر به.

اليوم، وبهذه المناسبة التي تأتي في ظروف تتعرض فيها قضية فلسطين لأكبر محاولات التصفية , وفي ظل حالة الانقسام التي تعصف بالهوية الوطنية وتهدد الأرض والشعب والنظام السياسي الفلسطيني ككل، وحالة العجز التي يتصف بها النظام السياسي الفلسطيني وحالة التآكل والعجز التي تمرّ بها منظمة التحرير الفلسطينية والفصائل عن القيام بمسؤولياتها التاريخية، وتعطل الحياة الديمقراطية ومؤسسات السلطة التشريعية وغيرها من المؤسسات الناظمة للفعل السياسي الفلسطيني , كل ذلك يتطلب ان تكون قيادات الشعب الفلسطيني كلها على مستوى التحدي وان تعمل جاهدة على إنهاء الانقسام وإعادة بناء الوحدة الوطنية عبر الانتخابات الحرة للمجلس التشريعى والرئاسة وللمجلس الوطني الفلسطيني سعياً لاحياء دور منظمة التحرير من جديد على قاعدة ميثاق وطني جامع وبرنامج سياسي يحفظ الحقوق الفلسطينية ل مجابهة المخاطر التي تهدد القضية الفلسطينية .

ولعل في تجربة انتفاضة الحجارة ما يكفي من الدروس والعِبر والخبرة التي يمكن استلهامها، والبناء عليها في شروط سياسية وميدانية مختلفة، وفي ظروف دولية وقومية وإقليمية ووطنية مغايرة. كيف لا؟ وهي الانتفاضة التي عجز الاحتلال عن وأدها في مهدها، وعجزت إجراءات القمع والبطش والتنكيل عن إخماد لهيبها الذي عمَّ الشعب كله .

اخر الأخبار