مونودراما هادية لكامل الباشا

تابعنا على:   21:54 2020-01-18

تحسين يقين

أمد/ الموضوع بحد ذاته يملك عوامل الجذب!

فماذا يفعل الفنان هنا؟

خط كوتر عليه كرسيان وطاولة كإحداثيات مثبتة عليه، الأول مغطى بشاشة بيضاء، الثانية بجاكيتة رجل، أما الطاولة فمكان الغسيل. أمام الوتر قماشة عليها شبشب. وهي حافية، ملاءمة لمقادر البوح القادم.

سرد درامي، على الخشبة، أكان ذلك من خلال تمثيل بعض ما هو مسرود، أو كان من خلال الإعلام من خلال الحوار المفترض مع جارتها مقابلها، أو من خلال انزعاجها من جار يلاحقها. استطاعت الفنانة شادن سليم من التحرك لملء المكان والزمان، والأهم النفس، تلك المخاطبة النفوس المشاهدة المصغية بعمق لهذه الجرأة في البوح. الجرأة التي تحدثت عن العلاقة الجسدية.

عانت هادية، كما امرأة النص الأصلي (امرأة وحيدة- داريو فو) ماريا من قلق العلاقة مع الزوج ومن حوله، ومن وجودها كامرأة تتعرض للتحرش والاستغلال، والكذب باسم الحب أحيانا، حتى وإن لجأت للخيانة تعويضا ما عن نقص، إلا أنه ظلت تعيش هذا القلق الذي زاد سوءا مع وجودها في البيت غير مسموح لها المغادرة.

أصبح البيت هو مكان النص-المسرحية، منسجما مع حال هادية فيه، حيث لم تجد من تتواصل معه إلا جيرانها، أو ذكرياتها.

زوجها وأخوها والجار والمتحدث المتحرش بالتلفون، وذلك الشاب الذي يصغرها، والذي أحبها كما ادعى وادعت والدته، والذي كان الحب جسرا الى جسدها، لتعوض شيئا ولتعاني كثيرا.

تصرخ تشتم، ويتسارع ردود فعلها مرورا بالانقضاض على أخ زوجها، المعاق المتحرش بها، كأنها تغتصبه، وصولا للقتل الذي ظهر واقعيا ورمزيا في آن واحد، لقد قادت الشكوى والمعاناة الى القتل المعنوي لما يؤذيها.

ها هي المفارقة هنا، فهذه الهادية لا تظل كذلك..

ابدعت الفنانة شادن سليم، كونها حملت العبء في هذه المونودراما، خصوصا وهي تعبر عن مشاعر وأفكار امرأة تعيش حالة معاناة، وأسر في النهاية. لقد أبدعت الفنانة في التعبير عن امرأة نزقة صوتا وحركة خصوصا حركة اليد على الجسد بتوتر، وكيف رسمت ذلك السياج الحلزوني على جسدها. أو في محاكاة العلاقة الجسدية من خلال توهم الموجود على الكرسي، مجتهدة في التعبير عن النزق.. ربما بالغت في الانفعال.

مالت الرؤية الإخراجية إلى الاعتماد على بوح الفنانة، من خلال ما ذكرناه لإبراز مضمون النص الأصلي الذي أعده وأخرجه الفنان كامل الباشا. وقد كان بالإمكان ردف الفنانة هنا بوسائل تقنية سمعية وبصرية بل وسينوجرافيا أيضا. وحبذا لو تم استخدام "الشبشب" وتركه للبوح مثلا..في الوقت الذي لم نجد دورا للكرسي الثالث الذي كان مغتربا.

إن الاعتماد على المتخيل المقابل، الجارة، أمر واقعي بالنسبة لها وهي في حالة أسر في بيتها، بسبب شك زوجها بها.

وهنا وجدنا مزاوجة ما بين الحوار مع الجارة المتخيلة، والمونولوج الداخلي، وقد تعاونا معا في سرد القصة. وبالرغم من امكانيات ذلك وجماله الا ان تكراره جعلنا كأننا أمام ساردة حكواتية لما جرى لا ما يجري.

عودا على بدء، سواء على تعرض المرأة للعنف، أو لجرأة بوح المرأة عن العلاقة الجسدية وإشكالياتها، في التواصل وصولا إلى الذروة، كإننا إزاء نظرة الرجل والمرأة، كذلك الجسد بصريا كما حال الجار، والخيانة الزوجية، والحب بهدف الجسد، كلها ساعدت في التواصل مع الجمهور في قضايا حساسة، هي بحد ذاتها جاذبة حتى ولو كانت في شكل نص أو فيلم وثائقي، أما جعل ذلك على خشبة المسرح فيحمل اسباب الجذب، لذلك فإن المضمون بحد ذاته جاذب.

هنا، في حال اللغة والتعبير، فإن المشاهد المنجذب، وجد نفسه أمام تداعيات نفسية وجسدية، بقي أنه ربما كان هناك مجال للتخفيف على الفنانة من خلال إضافات مساعدة، تخفف من النزق قليلا، مثل إضافة بعض الكوميديا، واستخدام الديكور أكثر كما في الغسيل مثلا.

عمل فني جذبنا بموضوعه وتمثيله وإخراجه.

وجرأته أيضا.

وفي البدء والنهاية، سيظل الفن فعلا مجالا حيويا لمناقشة حياتنا في جميع تفاصيلها، خصوصا في حياتنا الشخصية، كما فعلت المسرحية، المأخوذة عن نص "امرأة وحيدة، لداريو فو؛ فما الحياة في أهم أبوابها إلا هو-هي، وما تثيره تلك العلاقة من خصوبة المشاعر، القادمة من أعماقنا، والتي هي في تغير وتطور، وتفاعل لا تثبت على حالة واحدة.

والفن هن ينهض بالإنسان، من أعماقه باتجاهات إنسانية، تلك هي خلود الروائع التي تعني ان حياة البشر هي هي، كما نحياها وكما نقرأ ونسمع عنها، حيث يعد تفاعلنا مع النص-العرض، في الادب والفن، تفاعلا مع الذات أولا، ومع المحيط، بدءا من النفس وعودة إليها.

وهو ما فعلته هنا "مونودراما هادية"، غير الهادية، ولعل تلك مفارقة.

وفي الوقت الذي يمنح المرأة هنا مجالا للتعبير، انحيازا لها، فإنه فعلا ينحاز لهما معا، الرجل والمرأة، لماذا؟ ان فهم النفس، كلاهما معا، يجنبهما أذى كثيرا، والجميل هنا أنه يتم في نطاق الفن، الذي يتعامل معنا بصريا وحركيا ونصا من داخلنا، وليس قادما من أسلوب الموعظة.

مرة أخرى، نؤكد على أن عالم هو-هي، العاطفي والجنسي والاجتماعي والاقتصادي يمثل منظومة معا، وهذا ما وجدناها في النص والعرض، إذا ما ربطنا الأحداث بخلفياتها ومنطلقاتها ومؤثراتها، ولن تكون بمعزل عن البعد السياسي والدولي-العالمي، والوجودي بتجلياتها الأثر عمقا.

انها الفرصة للمشاهد/ة، كي يغوصوا في الحالة بتركيزاتها، في علاقة المرأة بالرجل، في أدق التفاصيل الحميمية، وعلاقة-المجتمع بها، خصوصا في مجال الاستغلال الذكوري.

ومن هنا، يمكن قراءة حالة القتل الرمزي-الواقع، كحالة دفاع-صرخة-احتجاج، حيث يمكن الربط هنا فعلا بكل مظاهر المنظومة، حيث لا يمكن عزل الظاهرة الزوجية عن الحياة الاجتماعية، وعما يتم هندسته وبرمجته للمرأة والرجل منذ الطفولة.

هنا الفن، هنا الحياة.

الفن من الحياة..

والحياة فيها الحياة والفن، بسبب ان الفنون والثقافة تساهم في تكويننا النفسي والأخلاقي. وهو ما يؤسس لتكوين عام وطني وإنساني.

لم تكن "هادية" كحال الوصف، بل عاصفة فعلا، عصفت فينا كرياح حركتنا من الداخل..

المسرحية الحائزة على جائزة أجرأ عمل في مهرجان مسرحي عكا ٢٠١٩

اخر الأخبار