السياسات العامة لجامعة القدس تهزم الكورونا تجربة تستحق التعمييم

تابعنا على:   07:53 2020-03-19

د.تهاني جفال

أمد/ غني عن البيان إن مفهوم الأزمة من المفاهيم المعقدة والواسعة في المجتمع المعاصر، تضيق وتتسع وتتراوح صعودا وهبوطا حسب درجة خطورتها، لاعتبارات أننا نعيش في عالم متغير، وفي بيئة داخلية معقدة، وبيئة خارجية عدائية، أعقد من تصورنا، وعالم سريع التغيير وتنمية متسارعة، وانسان وكوكب أرضي أصبح ثقيلاً علينا في ديناميكياته وحركاته اليومية، فهو غير قادر على ضبط التوازن التفاعلي، بين طبيعة بخيلة بطبعها، ومعقدة في فهمها، فمن هنا تطل علينا الأزمات برأسها دائما، لذلك فان الأدبيات العلمية المتعلقة في علم التخطيط الاستراتيجي، وإدارة الأزمات والصراع مع الطبيعة، تخبرنا أن الأزمة أصبحت تمس كل جوانب الحياة بدءاً من الأزمات التي تواجه الفرد، مروراً بالأزمات التي تمر بها الحكومات والمؤسسات، وصولا إلى الأزمات الدولية، بل إن مصطلح الأزمة أصبح من المصطلحات المتداولة على جميع الأصعدة، وفي مختلف المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأيكولوجية، بمعنى أن الازمة لها تداعياتها على أبعاد التنمية المستدامة للدول، الأمر الذي يحتم على المنظمات الحالية الإبقاء على إشعال الضوء الأحمر في إدارة المخاطر ومراقبتها دائما، وهذا قد كان في وعي وإدراك الانسان منذ فجر التاريخ، في كيفية تأمين حياته بشكلها الفردي والجماعي، إلى ان وصل إلي سلوك الأمم المتمدينة والمتحضرة، وامتلك الادوات التكنولوجية الحالية، التي لا مثيل لها ألا أنها لم تؤمن له حالة السكينة العامة في الوقت الحالي .

أولاً : معضلة الأزمة والحلول الخلاقة :
المعضلة الحالية، إننا في طور مواجهة هذا الوباء، ولازال العالم غير قادر على وقف زحفه. بمعنى إننا كدول وأفراد ومنظمات، لازلنا في حالة دفاع أمام تغول فايروس (الكورونا COVID-19 ) ويقال إنه تم محاصرته في الصين هل هذا صحيح؟ أم أن التعايش معه أصبح جزءاً من صيرورة حياتنا ربما هذا أو ذاك، ولكن ما يجرى في العواصم الأوروبية والعالم الغربي على وجه العموم، ليس بالأمر السهل إن هذا الفيروس يشعرك وكأنه لديه تأشيرة (شنغن) كل الحدود مفتوحة أمامه وبلا حدود. لست متشائماً بسبب موت الآلاف من الناس، أو من حرب بيولوجية أو حرب عالمية ثالثة، ولكنني على أمل أن يتوصل العلماء إلى مصل يضع حدًا لهذا الغول، أو هذا الفيروس المسمى (كورونا) وألي أن يصل العلماء إلى براءة الاختراع، علينا التعايش معه وأقصد صيرورة استمرا الحياة اليومية، وهذا الأمر غير سهل، ولكنه أيضا لا يمثل لنا عقدة كؤود لهذا يمكن لنا التحكم في الأمر، من خلال اتباع مواصفات وإرشادات منظمات ودور الإفتاء الطبية لكي ننجو منه إلى بر الأمان.

ثانيا : التحولات الجذرية في المسار:
فايروس كورونا علامة فارقة ستحدث تحولات جذرية في نسق العلاقات الإنسانية والدولية، وفي إعادة ترتيب أولويات الدول، والأنظمة السياسة المعاصرة، والمنظمات والمؤسسات المرنة والمتجددة والمتطورة، وبالتأكيد ستغير أولويات وتوجهات التنمية على المستوى الدولي و الإنساني، والبحث العلمي نحو المزيد من التحولات الذكية، القادرة على التعامل مع المتغيرات الجديدة السلبية، التي تهدد الأمن الحياتي للإنسان، في ظل قسوة الطبيعة الحالية علينا وربما نكون عاجزين من منظور نظرية مالتوس للسكان، وربما ننجح في التحايل والاختراق ، فالحتمية تقول إن البقاء سيكون للدول والمنظمات المتكيفه مع المتغيرات الجذرية في تحولات المطلوبة للسلوك الإنساني، بما يتوافق ويتأقلم مع سيملوجيا المشهد القادم لفيروس كورونا القاتل، على المستوى العالمي، والذي فرض على الدول إغلاق حدودها، وانعزلت خوفا من الموت المتنقل، لهذ كله ، ستنقسم الأمم على الأغلب إلى فئتين: فئة تمتلك أدوات المعرفة، تعمل ليل نهار لاكتشاف العلاج، وفئة أخرى تنتظر مصيرها المحتوم، وقتها ستفهم المجتمعات أن الجامعات ودور المعرفة ومراكز التفكير، ليسوا أداة للترفيه ومضيعة للوقت بل وسيلة للنجاة، وتقديم فكرة قابلة للتنفيذ لصناع القرار التي تنجو بها المجتمعات والدول والمنظمات، وفقا لمبدأ الكفاءة والفعالية والديمومة والاستمرارية .
ثالثا : جامعة القدس : تحويل التهديدات إلى فرص تجربة تستحق التعميم :
اجتمعت قيادة الجامعة الرشيدة والخادمة لمجتمعها، منذ الإعلان عن أزمة فايروس كورونا في بداية شهر مارس الحالي ، وقد اتخذت إجراءات عديدة لمواجهة انتشار الفايروس، وفقا لخطة الطوارئ التي تم وضعها من رئاسة الحكومة الفلسطينية، فعملت الجامعة على تعليق الدوام لمدة ثمان وأربعين ساعة، وكان الهدف من وراء ذلك الحفاظ على سلامة الجميع (طلاب وأسرة جامعة القدس بجميع مكوناتها الحيوية)، وفي نفس الوقت إعطاء فرصة للقيادة للتفكير والتخطيط لإدارة الأزمة، التي شكلت تهديداً خطيراً للبنى الأساسية، للقيم والمعايير الأساسية للنظام الحياتي الفلسطيني والاكاديمي، والذي يتطلب من القيادة وفريق العمل لاتخاذ قرارات حيوية ومصيرية واستراتيجية، في ظل ضغط الوقت، وحالة عدم الاستقرار واليقين في البيئية الدولية والوطنية والإقليمية.
فعناصر الأزمات تتأرجح بين التهديد صعوداً وهبوطاً، تضغط علي الجهاز العصبي لصناع القرار، لاتخاذ البدائل والحلول المرجوة والمنشودة للخروج من الأزمة، في ظل الضبابية وعدم اليقين والطوارئ وكلها تتطلب صناعة قرارات مستقبلية حاسمة قابلة للتنفيذ على أرض الواقع، لذلك وضعت القيادة على المحك، فالتخطيط والمسؤولية وصناعة القرار الحكيم وهو ما يلزم القائد في وقت الأزمات والطوارئ والكوارث، والاستعانة بالتخطيط الاستراتيجي، الذي يتمحور بفكرته المركزية، حول تحقيق رؤيا الجامعة، واستمرار العملية التعليمية دون تأثير الازمة على مبدأ الكفاءة والفعالية، وقد كان ذلك في خطوات نظرية وعملية ترجمة واقعية لتصرفات المنظمات الذكية .
رابعا: الدور القيادي في عبور الأزمات :
إذا أسقطنا التفكير الاستراتيجي والتخطيط الاستراتيجي على واقع جامعة القدس في مواجهة أزمة كورونا، فسنحلل الواقع الذي نعيشه، وسندرك نقاط القوة والضعف والفرص والتهديدات التي أحاطت بها، لقد أدركت قيادة جامعة القدس أن الواقعية أساس لنجاحها، ولتحقيق خطة استراتيجية واضحة الأهداف مرتكزة على معطيات الواقع البيئي، وما هو ممكن تحقيقه، وهنا بادرت قيادة الجامعة في التطبيق العملي لهذه المفاهيم الجوهرية من قيادة وتخطيط استراتيجي، حيث سارعت قيادة الجامعة بإعلان حالة الطوارئ القصوى، فور ظهور أول حالة إصابة في دولة فلسطين، وأكدت على ضرورة توضيح الهدف، والمنطقة، والفترة الزمنية التي يشملها مرسوم الطوارئ، فتجربة جامعة القدس تعتبر الأولي من نوعها في فلسطين، في ضوء التطورات المتلاحقة، والأخبار المتسارعة، فما كان منها إلا أن شكلت لجنة عليا للمتابعة والتقييم لأزمة فايروس كورونا على مدار الساعة، وعملت على تعقيم مرافق الجامعة، وألغت المؤتمرات والفعاليات للحد من التجمعات والاحتكاكات، بما يتوافق مع معايير السلامة للمنظمات الدولية تحت شعار التباعد الاجتماعي ( Social distancing ) كمطلب للسلامة الانسانية .
الأزمات عادة تولد الفرص، وفي ظل أزمة كورونا استطاعت جامعة القدس تحويل التهديدات إلى فرص فقد حولت الاضطراب في العملية التعلمية الذي سببه فايروس كورونا إلى فرصة لوضع التكنولوجيا في مجال التعلم واستمرار الحياة، وقد تكون هذه المرحلة خطوة نحو إحداث تغيير جذري في تطور التعليم الإلكتروني، واطلاق حقبه جديدة، يأخذ التعليم عن بعد دورا محوريا في هذا المجال التعليمي، لقد عملت جامعة القدس على تطوير البدائل الإلكترونية للتعلم عن بعد، لضمان استمرار العملية الأكاديمية. ومن خلال القيادة الحكيمة الخادمة برئاسة الأستاذ الدكتور عماد ابو كشك رئيس جامعة القدس الذي اتخذ القرارات الجريئة والصعبة، والتي تنصب في مصلحة الحد من انتشار الفايروس، واستمرار العملية الأكاديمية، مع المحافظة على مجتمع الجامعة الطلابي والأكاديمي والإداري فقد تم تطبيق البدائل الإلكترونية للتعليم عن بعد، وفق نظام الصف الإلكتروني E-CLASS المعمول به في نظام الجامعة، و تطبيق برنامج ZOOM الإلكتروني، الأمر الذي مكن الجامعة من تقديم خدماتها المعرفية، واعطاء المحاضرات بشكل طبيعي وآمن في موعدها لمختلف التخصصات، وفقا للبرنامج الدراسي الاعتيادي لطلبة البكالوريوس والماجستير، و كانت نسبة حضور الطلبة قد تجاوزت 92% وهي نسبة مماثلة لنسبة الحضور في أيام الدوام الاعتيادية، فقد سمح هذا البرنامج بالتفاعل المطلوب وتبادل المعلومات بين الطلبة والمحاضر في بث حي ومباشر" صوت وصورة"، وتطور أدوات نظام ZOOM للاستخدام الدراسي، كعرض المحاضرات، واستخدام لوح الكتابة عليه، ودمج صور و تنزيل مقاطع فيديوهات علمية، للاستفادة ومن ثم تخزين المحاضرات للعودة لها لاحقا، الأمر الذي كان له بالغ الأثر في استمرار واستقرار العملية التعليمية في جامعة القدس، ومن ناحية أخرى تم الاستعانة بجامعة القدس، والاتفاق مع مديرية التربية والتعليم بمدارس القدس، وصندوق وقفية القدس لبناء وإطلاق منصة إلكترونية للتعليم عن بعد لخدمة الطلبة المقدسين في المدارس المقدسة بشكل عام، وطلبة الثانوية بشكل خاص، وسيتم توفير هذه المنصة خلال عشرة أيام كحد اقصى، لتكون جاهزة لخدمة الطلاب وإثرائهم المعرفي واستمرار العام الدراسي .
خلاصة القول:
يعزى هذا النجاح الذي فاق التقديرات إلى البنية التحتية الرقمية المتينة لجامعة القدس، إذ تعمل الجامعة منذ سنوات، على تطبيق نظام الصف الإلكتروني عن بعد، كجزء من مناهجها، وقد تم اعتماده في الآونة الاخيرة، نتيجة لحالة الطوارئ المعلنة - إن التحدي ومواجهة المرحلة يتطلب من القيادة وصانعي القرار في جميع المنظمات والمؤسسات الفلسطينية أن تحذو حذو جامعة القدس، لكي تستمر الحياة، فالمدخلات والضغوط كثيرة، و يجب أن ترقى العمليات إلى المأمول والمخرجات على هذه الأرض ما يستحق الحياة، فالمطلوب من جميع المنظمات والمؤسسات أن تبدأ في وضع السياسات لإدارة الأزمة والتخطيط لها استراتيجياً، ومن الواجب على صناع القرار من خلال المسؤولية الوطنية والاخلاقية أن تتخذ الآن وليس غدا الخطوات العملية التي تسهل من حياتنا اليومية، والتعايش مع فيروس كورونا، إلى أن يتم اكتشاف المصل لهذا الفايروس القاتل، وخاصة أن الدول العظمى والكبرى اتخذت اليوم قرارات بغلق المدارس إلي نهاية العام الحالي، بمعنى أن الأمر قد يطول أكثر مما يتوقع أصحاب التفكير السطحي، إذن ماذا تنتظرون ؟!

اخر الأخبار