الطيب عبد الرحيم محمود والذاكرة العامة والخاصة

تابعنا على:   13:45 2020-03-22

تحسين يقين

أمد/ كأن القدر اختاره ليكمل طريق والده الى فلسطين!

ولنا في حدود العام والوطني نتصفح سيرته كفدائي، إعلامي ودبلوماسي وأمين عام الرئاسة..

قبل بضع سنوات، كان الرئيس في نيويورك، والزمن صعب، وسنظل نذكر خطابه الجهوري، في ساحة المنارة-دوار الشهيد ياسر عرافات، حين انطلق بخطبة زرعت في الناس الأمل، وهو من تتلمذت أجيال على صوته في اذاعات الثورة الفلسطينية.

من الذات الشخصي الى العام الوطني والقومي ولعله الإنساني؛ وما بين حديّ الزمان والمكان، تسكن أمكنة أخرى، في الطريق اليه: الوطن، وتسكن أزمنة تصبح كلها الآن ذكريات "لمن رحلوا".

والحديث قيادي وطني يقود للحديث عن الوطن وهو يقودنا للحديث أنفسنا، وبدايات الوعي، والتي كانت مصادفة؛ فلم نكن في بداية الثمانينيات نعرف غير القليل عن الوطن، بسبب تغير المناهج وحذف اسم فلسطين من كل الكتب المدرسية؛ لذلك كان بالنسبة لي ما يشبه الكنز حين عثرت في بيت خالتي أم غازي، على كتب أبناء وبنات خالتي الذين كانوا طلبة في الستينيات، فتحت ذلك الكتاب، فإذا بصورة الجميل إبراهيم طوقان، ثم إذا بالجميل الآخر عبد الرحيم محمود، فكانت سأحمل روحي على راحتي التي رحت أحفظ أبياته اختيارا وليس واجب المحفوظات المدرسي الثقيل. ولما رأت المرحومة خالتي شغفي بتلك الكتب القديمة وهبتني إياها. وعندما وصلت البيت إذا بشقيقتي الكبرى نعمة، تنظر بسعادة نحو الكتاب بشيء كبير من الحنين، وتفاجئني بالقصيدة التي حفظت كثيرا من أبياتها. كان ذلك شيئا من السحر زاده ما عرفناه عن الشاعر الذي ارتبطت كلماته بأفعاله، والذي استشهد في معركة الشجرة في صيف عام 1948. وهو الذي لقب بالشهيد حتى قبل استشهاده بسبب تلك القصيدة:

سأحمل روحي على راحتي       وألقي بها في مهاوي الردى

فإما حياةٌ تسر الصديق          وإما ممات يغيظ العدا

..........................

وبَانَ علـى شَفَتَـْيه ابْتـسام         مَعـانِيْهِ هُـزْءٌ بِهـذِي الدُّنـا

ونام لِيَحْـلُمَ حُلْـمَ الخـُـلودِ           ويَهْنَـَأ فيـه بِـأحْلَى الرُّؤى

وسنكبر كما يكبر الناس، لنقرأ المزيد عن عبد الرحيم محمود العنبتاوي، أبو الطيب، خارج نطاق رقابة الاحتلال، وستصير قصيدته تلك بوصلة..

هو الثاني بعد زميله المتنبي، والثالث زميله الذي التحق بهما عبد اللطيف عقل..

درس في كلية النجاح الوطنية حيث كان إبراهيم طوقان معلمه وزميله، اشتعلت الثورة الكبرى في فلسطين سنة 1936، استقال من وظيفته وانضم إلى صفوف المقاتلين. طاردته حكومة الاحتلال البريطاني بعد توقف الثورة، فهاجر إلى العراق حيث أمضى ثلاث سنوات دخل فيها الكلية الحربية العراقية وعمل كذلك مدرسا للغة العربية في بغداد، ويبدو انه التقى بعبد القادر الحسيني، وعمل مديرا لمدرسة ابتدائية، ولما هدأت الأوضاع في فلسطين عاد الى البلاد واستأنف العمل معلمًا بمدرسة النجاح الوطنية بنابلس. في سنة 1947 اشتعلت الثورة الفلسطينية من جديد بسبب صدور قرار تقسيم فلسطين؛ فقرَّر شاعِرُنا الانضمام لها.

كان المرحوم "الطيب عبد الرحيم ابن 4 سنوات، وهو كما روى لي، أنه لم يذكر سوى الجنازة التي مرت وهو يشاهدها لا يدري الطفل معنى الموت ولا الحياة.

كأن القدر اختاره فعلا ليكون ما كان عليه!

حينما اقترحت عليه كتابة سيرته، ولعلها أيضا سيرة ابيه وجده الشيخ محمود العنبتاوي المعروف من شعراء الشيوخ الظرفاء، ابتسم قائلا لعله تأخر.

 دار حوار وقتها حول شاعرنا عبد الرحيم محمود، ولعلّ ذلك يضيء على الوالد والابن معا، ولا أدري لم وقتها تحدث بذلك التحليل، أهي أسئلتي؟ أم حبه للحديث قبل فوات الأوان. تحدث عن والده المناضل والشاعر، وعلمت منه شيئا مهما، أن أبا الطيب نشأ في أسرة متدينة كالآخرين، إلا أنه تأثر بالأفكار اليسارية الثورية وما تحمل من عدالة، فروى أن اندفاع والده نحو القتال والاستشهاد كما هو الحال في الثورة الأولى، حيث كان ابن 23 عاما، والثورة الثانية عام 1947 حيث كان 34 عاما، إنما كان ينطلق منهما معا، من تدينه، ومن أفكاره، وأنه جمع بينهما.

 لعلها عبقرية النضال!

لم أكن أعرف أن سفيرنا في الأردن هو ابن شاعرنا الشهيد، سررت وقتها أن هناك من يربط ذلك الماضي بهذا الحاضر، وأن الطفل الصغير صارا قائدا.

 لقد أحببنا عنبتا وطولكرم، وعرفت فيما بعد أن عنبتا مشهورة بالشعراء؛ فهل هم كذلك؟ أم تأثروا بشاعرنا الشهيد؟ وهل هناك الشيخ مخطوط شعري ظريف للشيخ محمود العنبتاوي؟

يبدو ان عبد الرحيم محمود قد أثّر شعريا ووطنيا ليس بشباب طولكرم فقط بل بشباب فلسطين؟ ويبدو ان ابنه الطيب أيضا تأثر به..فلم يكن ذلك الصوت الثوري، الذي عانق الراحل فؤاد ياسين في إذاعة الثورة في القاهرة، إلا ذلك التدفق القادم من عمق الوطن، والتضحية والشهادة.

كانت القاهرة بداية تكوين جيدة في الستينيات، حينما كان طالبا هناك، حيث المدّ الناصري القومي، وكان الشاب الطيب تربة خصبة بتاريخ عائلته وعمق ونبل قضيتنا ليركب في مركب الثورة صوتا وكلمة، فكان من المؤسسين الأوائل، وما سيرته في صوت فلسطين صوت الثورة الفلسطينية الا أحد تجليات النضال وتنوير الشعب العربي بقضيتنا، وجمع شباب فلسطين وشاباتها على هدف واحد.

للذين يعرفون الطيب عبد الرحيم أن يرووا عنه ما شهدوا وشاهدوا، ولنا أن نجد فيه أحد قادة الكلمة والوفاء للقرار الوطني، وللقائدين التاريخيين، أبو عمار وأبو مازن.

إنها مناسبة حزينة ودعوة للقادة لكتابة سيرهم التاريخية الشخصية، لانها سيرة ذات ووطن.

واخيرا اكتملت الدائرة القومية، في الطريق من فلسطين وإليها..

لعله الحنين، يعود الطيب عبد الرحيم الى القاهرة، لعله يعيد الذكريات، ولعله يودع مهد الشباب والتكوين النضالي القومي، لعله يتذكر كوكبة من خيرة أبناء وبنات فلسطين ممن تعلموا هنا وناضلوا.. فيا قاهرة المعز لدين الله الفاطمي، ويا قاهرة ناصر، استوصي بابنك خيرا فهو ابن فلسطين وابنك أيضا.

اخر الأخبار