"واقترب موسم الحصاد" الحلقة (1)

تابعنا على:   23:02 2020-04-07

إيمان الناطور

أمد/ تتابعت كلماتها في أذنيه بوشوشة حانية خافتة تمنحه لذة غريبة وتحرك فيه أسرارا كامنة وطاقات خفية لا يحركها سوى صوتها ولا يثيرها الا هذه الكلمات ..تأمل من حوله نفس الجو الكئيب ونفس الغرفة المعتمة مخربشة الحيطان ونفس الساعة وعلى نفس الفراش الارضي الصغير الذي يجاور فراشها انكمش ساكنا لتروي له نفس القصة بصاحبها البطل (عبد الله الشهيد)..تلاحقت كلماتها بهدوء...الشهيد عبد الله كان...الشهيد عبدالله حلم الشهيد عبدالله فعل ...الشهيد عبد الله حقق ..وكل ليلة تزرع بلسانها في مخيلته شهيدا جديدا كلهم يحملون نفس الاسم (الشهيد عبد الله)..الشهيد عبد الله كسر الحواجز...الشهيد عبد الله علا فوق كل القيود...الشهيد عبد الله حطم الخوف..الشهيد عبد الله لايهزمه أحد ..أسلوبها لم يتدن البتة ليجاري عقل الطفل الصغير النائم بجوارها على فراشه مجاهدا ليفهم ما تقوله أمه ويعيشه في مخيلته بكل خلجة من خلجاته...فلم تكن تهتم كونه لا يفهم من قصصها الكثير..ولم يهمها أنه تعلم المشي منذ عام واحد بعد فلم تبال كثيرا بذي العامين الذي يحدق في السقف الاسبستي متهيبا من صوت حبات البرد المتساقطة عليه فهذا الصوت يبعث في نفسها القليل من الانتعاش الذي يروح حزنها ولم تدقق كثيرا على ماهية شعور الطفل نحوه ..كانت تعرف أنه قريبا سيعتاده..وكأنها بروايتها للقصة مرارا على مسامع الطفل لم تقصد أن تفهم الطفل شيئا عن أبيه بل تقصد مواساة نفسها بشيء تقوله وما وجود الطفل الا مشجعا لها بأن أحدا ما يسمعها فالشهيد عبد الله يملأ عليها كيانها ..الشهيد عبد الله يعبئ كل ليلة طاقاتها للتحدث عنه من جديد لتقول قصته لكل من تعرفهم في هذه الدنيا واللذين يمثلون لها مجتمعين شخص واحد..(محمد )ابنها الصغير رغم ان هذه ليست الحقيقة فقلوب اهلها الكبيرة كلها تحيط بها وهي حزينة لأجلها ...لأجل أرملة الشهيد عبد الله (أم محمد) .. كان محمد يكبر أمام عينيها يوما بعد يوم وشيئا فشيئا غدا يعتاد صوت حبات البرد والتي تحولت الى قطرات مطر وبدأت مواعيد تساقطها تتباعد عن بعضها البعض وبدت أصواتها لمحمد أكثر خفوتا ..كانت الايام تمر ولا تزال والدته تقص ذات القصة في كل ليلة دون توقف أو كلل أو ملل...(الشهيد عبد الله لم ينم ليله ولا نهاره وهو يهيم بين مطارد تارة ومهاجم أخرى ..الشهيد عبد الله كان يسهر ليله محاولا الدفاع عن بعض حقوقنا وهو يشهر نيران مدفعه بين مستوطنة وأخرى ...الشهيد عبد الله أصاب العدو بالدوار بحثا عنه فقد كان ذكيا محنكا وشجاعا ...الشهيد عبد الله قتلت قنابله ألف جندي منهم وجرحت ألفين...الشهيد عبد الله كان ينتمي الى هذ الارض وكل من عرفه أحبه مهما أختلف فصيله...فقد كان سيد نفسه ينتمي فقط الى هذا الشعب وعلى هذه الوشوشات تتذابل عينا الصغير في نعاس كل ليلة عندما تتذابل عيناها هي بدموع الحرقة والفراق...فراق توأم روحها الشهيد عبد الله ولم تنم ام محمد ليلة منذ رحيل الشهيد وهي تفكر بالغد ولكن الغد بعد كل ليلة كان يأبى الا أن يأتي ..وفي هذا الغد استسقظت أم محمد على صوت طرقات تصاعدت من جهة الباب فتجللت بثياب العفة وهي تسير لتفتح الباب وجدته عم محمد وأخو الشهيد عبد الله الوحيد وهو يلقي التحية وعلى وجهه ترتسم ابتسامة بشوشة ..كان يقف بصحبة ابنيه الوحيدين جاسر ذو الخامسة والعشرين وياسر ذو الثامنة من عمره فدعتهم للدخول وهمت باغلاق الباب عندما قابلتها عينا والدتها الحزينتان فتعانقتا وكل منهما تقاوم دموعها وما هي الا لحظات قليلة حتى كانوا يجلسون جميعا في قاعة البيت المتواضعة وعلى فراش قديم ورأوا جميعا محمد الصغير وهو يتقدم بخطوات متعثرة وقد صحا من النوم للتو فاتسعت ابتسامة عمه ابو جاسر وهو يقول بابتسامة اختلط فيها الحزن بالأمل :
- تقدم يابن عبد الله هيا فها قد كبرت وغدوت شاب جميل الخلقة حسن الوجه .
وصمت لحظة أضاف فيها جاسر في شرود حزين :   
- مثل عمي عبدالله تماما ..

حلقات من رواية...يتبع

*كاتبة وروائية فلسطينية

اخر الأخبار