حول الانتحار.. إني أتهم

تابعنا على:   21:39 2020-08-04

شريف حسني الشريف

أمد/ ورد في تقرير لمنظمة الصحة العالمية، وجود 3000 حالة انتحار يومياً في العالم، ويقابل كل حالة انتحار تنجح 20 محاولة فاشلة. كما يبلغ عدد المنتحرين كل عام ـ800 ألف منتحر، بمعدل حالة انتحار كل 40 ثانية. في احدى حلقات البرنامج الشهير« خواطر»، الذي استمر تقديمه لعدة سنوات عديدة، يقول مقدم البرنامج: تم توجيه السؤال إلى أحد الأشخاص ما هي طموحاتك في الحياة؟

أجاب أن أجد عملاً، وأن أمتلك بيتاً، وأن أتزوج . فقيل له كان السؤال حول أحلامك، وليس عن حقوقك.

ربما ما سبق يشكل مدخلاً قد يصلح للإجابة على السؤال التالي: ما سبب تكاثر حالات الانتحار، وازديادها وخاصة في بلاد يعلو فيه صوت المآذن بالتهليل والتكبير؟

على الرغم من شمول الانتحار الحالة الانسانية، كونه يشكل خيارا، أو مهربا  من مواجهة الواقع، وعدم اقتصاره على عرق أو فئة أو شريحة معينة  من الناس. وفي ظل مقاربة سريعة فقد  تعددت حالات الانتحار بشكل متسارع في كل من لبنان، وغزة، في الفترة الأخيرة على وقع التهاوي الاقتصادي، والانهيار الذي شملت آثاره كل أسباب الحياة. وألقت بظلالها على المواطنين البسطاء، وفاقمت من معاناتهم، باستثناء الطبقة السياسة التي بقيت في معزل عن العواصف، متحصنة بقوقعتها. وفي ظل ظهور جائحة كورونا وآثارها المدمرة  من حيث ارتفاع نسبة البطالة، وازدياد الفقراء، و عدد العاطلين عن العامل، وتدنى الدخل ومعدلات الأجور، وتراجع معدلات النمو. على الرغم من اختلاف الظروف في كلا البلدين، إلا أن العوامل متقاربة، حيث يسود القهر السياسي، ومصادرة الارادة، وتكميم الرأي، وفرض سلطة الأمر الواقع كمصير أبدي.

يبرز الانتحار والذي هو مقاربة للموت في خطوة جريئة وفردية، ويختلف بمنحى ما عن الموت من حيث كونه نهاية للحياة أو لحدث وجود الأنسان بشكل طبيعي، والذي شكل محورا أساسيا في الفلسفة بعامة بشكل أو بآخر. وقد تعددت وتنوعت مقاربة الموت من خلال الفلسفة اليونانية، وما قبلها، وكما تبدت من خلال محاورات أفلاطون الفيلسوف الشهير تلميذ سقراط ومعلم أرسطو في محاورته« فيدون»، من خلال استعراض البراهين على خلود النفس باعتبارها جوهرا خالداً،  بالقرن العشرين والفلسفة الوجودية التي ركزت ثقلها الفلسفي في التأكيد اعادة التمركز حول  مسألة الوجود من جهة بصفته الإنسانية ، وعلى أن الانسان وجد ليموت، وانه يسير في طريقه إلى الفناء منذ  ولادته. مرورا بالديانات، والأساطير، والفلسفات الشرقية، وحكايات الشعوب وأساطيرها. في مقاربة سريعة يبرز بوصفه خاتمة من صنع الإنسان، وختام مستعجل لمسيرة الحياة، ونهاية رحلة ضمن مسارات، كلها ربما تفضي إلى التعاسة. في الوقت الذي يختاره. والمكان الذي يحدده، وبالطريقة التي ينفذ فيها كيفية تطبيق قراره، بإطفاء شعلة الروح التعسة، في عالم كيفما تتلفت حولك، تجده مسوراً بالقيود والحواجز.

لا يعد الانتحار إنجذاباً إلى عالم لا نمتلك فيه الامتناع عن القول كم يبدو الموت جميلاً، بل هو قرار يتخذ في ظل وعي كامل، باستثناء بعض الحالات التي لا يكون فيها الوعي حاضراً، كمحاولة للخلاص من هذا العالم، بكل ما فيه من معاناة تتكثف، حتى ينوء قلب أعزل عن تحملها لوحده. في الانتحار نكون حاضرين بقوة في صميم القرار المتخذ، واستحضار لصلابة الروح كي لا يتم التراجع عن الصرخة الأخيرة، في  عالم يتجاهل نداءات قلوب المعذبين.

 وقد اعتبر البعض أن الانتحار لا ينم عن جبن أوكره للوجود، بل هو احتفاء به، وقرار انهاء الحياة هو تكريس لها في ظل صورة معكوسة، حيث لم يتبدى الوجود كما يجب أن يكون.

ما سبق  من كلام يحتمل الرد من عدة أوجه حيث تبرز الاجابات، وخاصة تلك التي تستند إلى المرجعية الدينية، حول قيمة ومغزى الحياة، وعدم امتلاك الإنسان لإمكانية التصرف  بحرية غير مقيدة، فيما هو مؤتمن ومطالب بالحفاظ عليه. إضافة لتأكيد دور وأهمية الايمان، وشجاعة الارادة، و ضرورة التصدي لليأس، وعدم فقدان الأمل.

 كل ما سبق جميل وقيم ولكن ما الذي يدفع البشر على اختلاف أعمارهم للإقدام على هذا الفعل، وقول كلمة الختام.

تتوالي الإجابات بأن للضغوط النفسية والجوانب الاجتماعية والمعاناة دور كبير، كما الظروف المحيطة. كل ذلك يلعب دورا أساسيا  في الوصول إلى حدود الحافة القصوى. حيث بحيث تتكاتف العوامل مع بعضها لتفضي إلى الصرخة الفجائعية، والانسلاخ عن عالم الاحياء. من خلا تراكم الشعور بالانسحاق، وفقدان القوة،  وعدم امتلاك القدرة على المقاومة.

 وأن الانتحار هو احتفاء بالقيمة الذايتة، في ظل الافتقاد لها، تحت وطأة الظروف والمعطيات المضادة التي تغدو طاقة سلبية، تحول البشر إلى ظلال اشباح وأنين، وهو ثأر للكرامة المهدورة وصرخة مدوية بحجم الكون إني اعترض.

ولكن ذلك ليس دعوة للغوص في جمالية الموت بل احتفاء بالحياة، من خلال الدعوة إلى ازالة الشوائب والعقبات، التي تعيق التدفق والانغماس في الدفاع عن الوجود، وعن وجودنا.  بحيث يبرز كصرخة في الأفق الدامي، بأننا لم نعش كما يجب، وكما نستحق، ولكن على الأقل عشنا كما أردنا، وكما يليق بنا أن نعيش، وكما يليق بالحياة أن تعاش.

 الحياة جديرة بأن نحافظ عليها في إطار من القانون الانساني التي يحترم الحقوق ويطالب بها قبل المطالبة بأداء الواجبات.

كل حالة انتحار بسبب الظروف المعيشية هي جريمة نشارك فيها جميعا ولكن المسؤول الرئيسي هو السلطة القابضة على زمام الأمور. حين تدفع بنا إلى حافة اليأس بحيث لا يبقى للهروب من كابوس هذا الواقع سوى التعالي عليه بإلقاء الذات في أحضان الموت.

قد يكون الانتحار انعتقاقا لروح معذبة، ولكنه يشكل خسارة إنسانية بالدرجة الأولى، ومجتمعية، وفقداناً لطاقة كان  يمكن بقليل من بذل الجهد، توظيفها متضافرة في سبيل تطوير المجتمع، وبما يحقق طموح الفرد، والتقدم المجتمعي. ولكن الوقوف ضد الانتحار، والحيلولة دون وقوع المحظور، ليس مصادرة لرأي الشخص المنتحر وقراره بما يخصه بالذات، بل تكريس لحقه في الحياة، واصرار على توجيه أصابع الاتهام لكل من يعمل على سلب الحق في الحياة، من خلال العمل على تكريس الأسباب والدوافع التي تقود للاندفاع رغبة في الانعتاق والخلاص نحو الموت، الذي شكل  منذ القدم، منبعا لأعتى مخاوف الانسان منذ جلجامش وحتى الآن.

كلمات دلالية

اخر الأخبار