بين السياسي ومدير الشركة

تابعنا على:   15:44 2020-08-29

بكر أبوبكر

أمد/  السياسة ليست كلامًا منمقا، وليس كلامًا كاذبًا أو متذاكيا، أو حتى صادقا، بمعنى أنك إن افترضت اللسان فقط هو أداة السياسي فأنت واهم.

السياسة ليست أداة الفعل التي يحتجّ بها الكاتب أو المفكر أو المثقف أو حتى عامة الناس، فالسياسي هو من يمتلك الرؤية والأدوات ويوظّفها لخدمة الهدف بكفاءة.

وليس اللسان فقط هو أداة السياسي، والا تحوّل لمنظّر أو مفكر أو محاضر فقط.

الأدوار المختلفة مطلوبة لخدمة القضية، أي قضية، وعلى رأسها بالنسبة لنا قضية فلسطين، فالمطلوب من الإعلامي ليس ذاته هو المطلوب من المفكر أو المثقف أو الكاتب أو الشاعر أو مدير الشركة أو الموظف، وهو ليس ذاته تماما المطلوب من النقابي أو ابن التنظيم السياسي.

لكل دوره (الدورُ مجموع التصرفات من الأقوال والأفعال الملازمة) في المعركة ويتقاطعون معًا في حمل أعباء الهدف وخدمته بتناغم الخطوات والفريق، مع تنوع الأساليب -وربما اختلافها التكتيكي- أحيانا لخدمة الهدف ذاته، ضمن تناغم (سيمفونية) لا تخرج عن الإدارة أو القيادة الواحدة التي توجّه وتحدّد، وتتابع وتقيم، أو تلمّح وتشير وتغمز أوتفتح وتغلق.
إن كانت الحُجّة والبرهان سبيل المفكرين والبحّاثة، فإن ابن التنظيم وظيفته الدعوة والحشد والتثقيف، وسبيل الشاعر والفنان والمثقف إضاءة الدروب لتنير طريق القمر، ودور النقابي حشد الجماهير والتثقيف، ودور العسكري أو المقاوم تنفيذ الأوامر وتحقيق الهدف و الحلم عبر القوة على الأرض.

من يفهم السياسة علم الكلام، فقد ارتد إلى مربع المفكرين والمنظرين والمتكلمين، الذين لا غنى عنهم، ولكنه ليس سياسيًا.

يقول المفكر العربي هاني الحسن أن: (السياسة هي فن الاندراج في الحدث السياسي في اللحظة المناسبة).

وممارسة السياسة دون قوة تسندها عبثٌ ووهمٌ، كما يقول أمين هويدي في كتابه أزمة الأمن القومي العربي ص31، مضيفاً أن العامل الأساسي للاستقرار هو القوة (كل أشكال القوة)لأنها تحقق الردع وبفهم تحقيق التوازن.

ومن افترض اتقانه لفن الحديث مؤهله الوحيد لاعتلاء كرسي السياسة، فقد تحول لمحاضر فقط، ومن رأي بقدرته الفذّة على مناطحة الحجة بالحجة فقط، فعليه أن يتقصّى طريقه وراء الغزالي أو الشافعي أوعباس محمود العقاد أو محمد حسنين هيكل أومحمد عمارة أومالك بن نبي... .

ومن لا يتخذ من الدروب المتعرّجة مسلكًا يجبره على المسير في حقول الألغام تنفجر في وجهه، ومن هنا لنا النظر والاعتبار من مسيرة القادة السياسيين أمثال ياسر عرفات أو محمود عباس أو جمال عبد الناصر، أو (نتنياهو) أو صلاح خلف أو خالد مشعل أو جورج حبش أو غيرهم .

إن الشخص السياسي هو القادر على تحمّل الصِعاب والشدائد-التي لا يستطيع المواطن العادي ان يتحملها فيصرخ وهذا حقه- وليس حق السياسي، والسياسي هو القادر على تحمل الضغوط والتناقضات والتقاطعات ومختلف التجاذبات والتعامل معها بقوة أحيانا وبلطف أحيانا أخرى، ضمن معادلة فهم المتغيرات وتحقيق التوازنات ورؤية المستقبل، وضمن معادلة: اضرب بقوة وتحدث بلطف.

لدى السياسي من الأدوات ما يمكنه أن يحقق الهدف عبر المنطق والحجة والدليل، وعبر الاعلام، وبممارسة الضغوط واستثارة الحس الوطني والقومي أو الانساني واستخدام كل الأسلحة بما فيها العمل العسكري ليتحقق هدفه، وكلما كان الهدف عادلاً وشرعيا (بحيث أنه حاز على ذلك وطنيا واقليميا وعالمياً) كلما كانت مفاتيح القوة بيد السياسي تمكّنه من التأثير أكثر وإحداث التغيير.

القائد السياسي هنا هو من يحرك الجماهير بعقلية التعلم والاستفادة من تجارب الأمس واستثمارها في مسيرة اليوم ضمن رؤية المستقبل.

يقول المفكر والقيادي هاني الحسن عن عقلية التعلم والاستفادة: (إن الشعب الفلسطيني لا يستطيع أن يبدأ كل صباح تجربة جديدة،وينسى تجربة البارحة أو يتجاهل التفكير باحتمالات الغد، وإلا كنّا كالفئران التي تعجز رغم التجربة، وإدراك أن المصيدة تصيد في كل مرة).

السياسي قد لا يصلح مديرًا للمصرف أو للشركة، وهو المدير الذي من مؤهلاته فهم طبيعة وظيفته واتباع التعليمات بدقة وتنفيذها أوالزام الآخرين بها.

ومدير المصرف (البنك) أو الشركة أن لم يتحلى بصفات السياسي مما قلناه ونزيد، فلا يصلح إلا مديرا للشركة، وقِس على ذلك الأدوار الأخرى، وكلها هامة ضمن عمل الفريق.

في السياسة الأخلاقية اتكاء على الجوامع الوطنية أو الدينية أو القومية أو القيمية الاخلاقية، وهذه رغم ضعفها في زمن المصلحة الاقتصادية الطاغية وزمن الشخصنة والنزق والهوى الذاتي للحكام هذا، إلا أنه لا يجب تحت أي ظرف من الظروف التخلي عنها، فهي سند الرواية ومفتاح حقل المباديء.

ورغم أن السياسة (الواقعية) أو السياسة (المصلحية) التي تقدّم الاقتصاد والمصلحة الأنانية وسطوة الحكم على ما سواها هي السائدة، فإن التعامل معها يقتضي فهمها أولاً، والتعاطي معها ثانيا دون بكاء أولطم، ودون تحميل المسؤليات للغير بلا عمل. ودون بكاء ونحيب على فقدان عوامل التجمع الوطني أوالقومي أو الاخلاقي.

نرفض تسويغ الخداع والنفاق والكذب، في السياسة، ونرفض تسخير القوة المادية أو الاقتصادية أوالنفسية أو الإعلامية في المواجهة لتبرير ما لايمكن تبريره-في سياق الحق والعدالة والمباديء- من انحدار أو انحناء أو سقوط.

السياسي الذي أراه هو شخصية ثابتة المرجعية الفكرية، وثابتة الهدف النهائي كما ثبات إيمانه الذي لا يتزحزح بالله وبالنصر، إنه السياسي ذو المباديء، الثابت الصابر ولكنه القادر على تلمّس الدروب المتعرّجة الموصلة للحق بين حقول الأشواك بثقة المخلص والمؤمن وحنكة ودهاء الثعلب، لكن بقِيَم الالتصاق بمطالب الناس والهدف النهائي.

كلمات دلالية

اخر الأخبار