ما لا يُقال عن رسائل هيلاري

تابعنا على:   10:54 2020-10-26

ياسر عبدالعزيز

أمد/ لن يكون بوسع تنظيم الإخوان، أن ينفى تلقيه الدعم السخي من الإدارة الأمريكية لكى يحكم مصر، ضمن خطة أوسع لتعزيز نفوذه ونفوذ الجماعات المرتبطة به في المنطقة العربية، كما لن يكون بوسع إدارة أوباما أن تنفى أنها سعت إلى إحداث الفوضى الشاملة في منطقة الشرق الأوسط، تمهيداً لأن تُحكم بلدانها بواسطة جماعات أصولية.

تُعد تلك إحدى النتائج الجانبية التي ترسّخت إثر الكشف عن بعض الرسائل الخاصة بوزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون إبان وجودها في السلطة خلال حكم الرئيس أوباما، إذ أثبتت تلك المراسلات بشكل واضح أن هيلاري أرادت هذا التغيير وعملت بجهد كبير لضمان حدوثه.

كما أوضحت تلك الوثائق بطبيعة الحال، ما كانت قطاعات واسعة ومؤثّرة فى المؤسسات الصلبة والجماعة الوطنية المصرية تدركه عن استخدام تنظيم «الإخوان» من قِبل قوى مناوئة لتقويض الدولة والاستيلاء على الحكم، وهو الإدراك الذي انعكس وعياً وتنظيماً وحركة فى 30 يونيو 2013، بشكل أطاح بهذا التنظيم من السلطة، وأعاد البلاد إلى المسار الوطنى الآمن.

لكن ثمة نتيجة أخرى تظهر بالتوازي، وهى نتيجة تتعلق بطبيعة النظام الاتصالي العالمي الراهن وانعكاساته على ممارسة الدبلوماسية من جانب، وتطور آليات التنافس السياسي الداخلية في بعض البلدان وتجاوزها حدود وقواعد بدت راسخة لقرون من جانب آخر.

تحكم عملية الكشف عن الوثائق السياسية والمراسلات الدبلوماسية قواعد صارمة في البلدان الغربية، ويشخّصها العدد الأكبر من بلدان العالم ضمن استحقاقات الأمن القومي بطبيعة الحال، ويجرى عادة الإفصاح عن تلك الوثائق والمراسلات والجهود الميدانية المُصنّفة سرية بعد عدد محدد من السنوات التى تصل فى بعض الأحيان إلى أكثر من خمسين سنة، بينما تتمتع بعض الوثائق والمراسلات بحماية مطلقة بسبب طبيعتها الحساسة.

تعرف الولايات المتحدة تاريخاً عميقاً من الدبلوماسية السرية، تختلط فيه أعمال السياسة بجهود الاستخبارات، وقد أسفرت وقائعه عن الكثير من التغيّرات الحادة والفارقة فى بلدان العالم المختلفة، ومع ذلك، فقد بدا أن مراجعة مؤثرة جرت على هذا المفهوم، وراحت تُخضعه لاستحقاقات التنافس السياسى، فى البلد الذى يتنافس على قيادته حزبان رئيسيان، لم يعد مفهوم المصلحة الوطنية قادراً على إقناع بعض أركانهما بالتخلى عن كشف الأسرار الخطيرة فى إطار التضاغط والمكايدة.

فى عام 2018، نشر البروفسير جراهام أليسون، أستاذ الحكم والشئون الدولية فى جامعة هارفارد، مقالاً مهماً تحت عنوان «دفاعاً عن الدبلوماسية السرية»، وهو المقال الذى أشار فيه إلى تاريخ عريض من الممارسات الدبلوماسية والمراسلات السرية التى أفضت إلى نتائج كبيرة؛ مثل المحادثات السرية التى أجراها هنرى كيسنجر مستشار الأمن القومى فى عهد الرئيس نيكسون مع القادة الصينيين، وزيارته فى عام 1971 للصين لملاقاة رئيسها تشو إن لاى، تمهيداً لزيارة لاحقة قام بها الرئيس نيكسون نفسه بعد عام واحد من هذا التاريخ، وهى الزيارة التى تمخّضت عن التقارب بين واشنطن وبكين، بالشكل الذى مكّن الأولى من تعزيز الضغوط على عدوها الرئيسى آنذاك الاتحاد السوفيتى السابق.

ليست تلك هى الواقعة الوحيدة التى يمكن من خلالها التعرّف على الأهمية الكبيرة للدبلوماسية السرية فى تحقيق المصالح الوطنية الأمريكية، فثمة واقعة أخرى مهمة تتعلق بالعملية السياسية التى أفضت إلى توقيع الاتفاق النووى الإيرانى فى 2015؛ إذ سبقت ذلك التوقيع جهود غير معلنة بدأت من عام 2013، عبر لقاءات سرية جرت فى عواصم مختلفة، بهدف تمهيد الطريق أمام إعلان الاتفاق، الذى مثل اختراقاً ومفاجأة لكثيرين وقت تدشينه.

إن وقائع الاتفاق بين إسرائيل وفرنسا وبريطانيا على شن هجوم ضد مصر فى 1956 تندرج بالضرورة ضمن آليات الدبلوماسية السرية، التى تطورت فى هذه الواقعة لتأخذ شكل المؤامرة، وحين تم الكشف عن وقائع هذا التدبير بات لدينا فى مصر ولدى حلفائنا فى المنطقة وبقية دول العالم ذريعة دامغة وواضحة على هذا التدبير الشرير، وهو أمر ينعكس سلباً بالضرورة على مقاربات تلك الدول الثلاث لسياسات المنطقة، ويظهر تربّصها وعدوانيتها ويُحد من طاقات تأثيرها.

يقول أليسون معلقاً على الأهمية المفترضة لذلك النوع من الدبلوماسية إن «الدبلوماسية السرية كانت دوماً موضع انتقاد، رغم كونها دعامة أساسية للسياسة الخارجية الأمريكية. فيزعم بعض المراقبين أنها نوع من الخداع الذى يعمل على تقويض الشفافية والمساءلة وغير ذلك من القيم التى تقوم عليها الديمقراطية الأمريكية. ولا يعارض آخرون الدبلوماسية السرية فى حد ذاتها، لكنهم يعتقدون أن الحفاظ على درجة معقولة من المساءلة الديمقراطية يستلزم إطلاع مجموعة فرعية صغيرة من قادة الكونجرس على مثل هذه الأنشطة».

لقد كنا رابحين من واقعة نشر بعض مراسلات هيلارى كلينتون لأنها كشفت عن تدخل أمريكى مغرض فى مسار الحالة السياسية المصرية، ولأنها عرّت تنظيم «الإخوان» وفضحت ازدواجيته وخداعه وتابعيته واستخدامه من قبل قوى مناوئة للدولة المصرية، والأهم من ذلك أنها أسقطت قدرته على استخدام ذريعة الاستقلالية أو مناهضة الغرب ومعاداته لكسب شعبية فى أوساط جمهوره من المؤدلجين أو البسطاء.

على الصعيد الأمريكى، يبرز ملمحان فى ما يخص واقعة نشر مراسلات هيلارى كلينتون؛ أولهما ملمح تكتيكى بدا أنه يحظى بجل الاهتمام فى الولايات المتحدة، وهو الملمح الخاص بإضعاف موقف بايدن، الذى انتمى إلى إدارة أوباما، ويمثل الديمقراطيين، ويخوض منافسة ضارية للفوز بمنصب رئيس البلاد أمام منافس جمهورى عنيد هو الرئيس ترامب.

لكن الملمح الثانى لهذه الواقعة يبدو استراتيجياً بامتياز إذ يعيد صياغة إطار التنافس الحزبى على مواقع السلطة والنفوذ فى البلاد، ويُرسى له قواعد جديدة تأخذه إلى آفاق غير مسبوقة، ويتيح محظورات كان الظن أنها بعيدة عن الاجتراء، حين يتم الكشف عن أسرار خطيرة يمكن أن تؤثر فى صورة البلاد ومصالحها، من أجل مصلحة حزبية.

فى هذا المشهد الجديد لا يبدو أن السياسى سيحظى بالحصانة أو الحماية المناسبة لما يفعله وما يقوله؛ وهذا الأمر لن يجرى فقط عبر انتهاك الخصوصية والحروب السيبرانية، لكنه سيحدث أيضاً حين يحتدم التنافس السياسى الداخلى وتقرر بعض الأطراف أن الغايات تبرر الوسائل.

فى هذا المشهد الجديد لا يبدو أن السياسى سيحظى بالحصانة أو الحماية المناسبة لما يفعله وما يقوله؛ وهذا الأمر لن يجرى فقط عبر انتهاك الخصوصية والحروب السيبرانية، لكنه سيحدث أيضاً حين يحتدم التنافس السياسى الداخلى وتقرر بعض الأطراف أن الغايات تبرر الوسائل.

عن الوطن المصرية

اخر الأخبار