المُغترب

تابعنا على:   10:49 2020-12-13

منجد صالح

أمد/ وحيد الحمدان، شاب صغير فقير، يعيش في قرية المزرعة الشرقيّة الوادعة الحالمة، الواقعة على تلّة شمال شرق مدينة رام الله، تُحيطها وتُزيّنها أشجار الزيتون. تتفاوت بيوتها بين فيلات وقصور فارهه فاحشة الثراء وبيوت مٌتواضعة فقيرة. عائلة وحيد من أصحاب البيوت المُتواضعة.

حاول مرّات ومرّات السفر إلى البيرو للإلتحق بعدد من أترابه الذين سبقوه ويسمع عنهم ومنهم، رغم حداثة سنّهم، بأنهم أصبحوا مُتخمي الجيوب بالدولارات، لكن دون جدوى.

هو، بدوره، في قريته، ما زال يُراوح مكانه: "مكانك راوح، مكانك سر، إلى الخلف دُر". ما زال يلفّ ويدور في شوارع القرية وحاراتها، ما زال "يا ربّي كما خلقتني"، فارغ الجيوب نظيفها، إلا من بعض النقود التي يكسبها من يوم لآخر عامل "مياومة" في ورش البناء القاسية عليه.

لم يستطع أن يستمرّ في تعليمه في مدرسة البلدة، وبالكاد أنهى الصف الأول الإعدادي راسبا في ثلاث مواد، منها الرياضيّات.

حظّه عائر، والده يعمل عاملا في الزراعة الموسمية، ومن المستحيل عليه بوضعه وبثقل المسؤولية المُلقاة عليه، مع دخله المُتواضع، أن يوفّر مبلغا من المال يوازي ثمن تذكرة سفر إلى البيرو، من "سابع المستحيلات" توفيرها.

وحيد يعرف ويلمس بجلده هذه الحقيقة ولم يُحاول يوما الطلب من والده  ما لا طاقة له، لم يطلب من والده يوما هذا المُستحيل.

يذهب إلى ديوان العائلة، "العلّية"، المفروشة بالسجّاد، في صدرها تقبع الفرشات الوثيرة والمساند، أين يجلس كبار العائلة ورؤوسها والأثرياء العائدين من بلاد الإغتراب، من المهجر، وخاصة من البيرو.

أمّا وحيد ف"يدفشونه" للجلوس على الحصيرة عند الباب، بجانب "موقف" الأحذية. يُحاول أن يُشارك في أحاديثهم وسواليفهم، لكنه يُجابه ب: "إخرس يا ولد". فيبلع لسانه ويبلع ريقه، "ويبلع الموس على الحدّين". يصمت واجما، يسمع ولا يتكلّم، أبكم لكن ليس أصمّا.

أخيرا و"بقدرة قادر" حنّ عليه الزمن، ابتسمت له الأيّام، فقد بعث له أحد أقاربه المهاجر ويعيش في ليما عاصمة البيرو بتذكرة سفر يقوم بتسديد قيمتها بعد أن يعمل لديه في مصنع النسيج.

"يا فرج الله"، لقد كانت هديّة من السماء بالنسبة ل وحيد المُتقلّي على جمر العازة والإنتظار.

شدّ الرحال إلى البيرو. وصلها مفعما بالأمل مكتنزا بالنشاط. في صباح اليوم التالي "تمتّرس" في مصنع النسيج ممتثلا وشاكرا ل"كرم" قريبه عليه. أتقن المهنة بمدّة قياسية فاجأت الجميع، لأنه يعرف أنّه من "هالمراح ما في رواح"، و"ليما" أصبحت "مربط خيله"، فلا بدّ أن يُقدّم ويبذل جهده مئة بالمئة، "لا مجال للتراجع ولا حتى من أجل "التحمية"، كما يقول المثل الإسباني الشهير.

بعد خمس سنوات من العمل المتواصل الدؤوب، يصل الليل بالنهار ويصل النهار بالليل، استطاع أن يفتتح له مصنعا صغيرا للنسيج، فقد أصبح خبيرا في المهنة، مسيطرا على أسرارها ودهاليزها.

عجيب أمر أحفاد الكنعانيين في ربوع هذه الدولة اللاتينية فقد قطعوا آلاف الأميال في هجرتهم، وبدأوا حياتهم العملية، ومعظمهم قادمون من بيت لحم وبيت جالا والمزرعة الشرقية، في صناهة النسيج وتوابعها من القماش والالبسة الجاهزة، وكأنهم قادمون من يوركشاير أو بيرمنغهام، إذ لم يكن في فلسطين في نهاية انهيار الامبراطورية العثمانية وهجرتهم ما يُشير إلى أيّ صناعة للنسيج، فكيف أصبح أبناء الجالية في معظمهم مُلّاكا لمصانع النسيج؟؟!! إنّه الإبداع وقصص النجاح والحفر في الصخر.

على مدى العشر سنوات التالية أصبح وحيد الحمدان أغنى رجل في الجالية الفلسطينية في البيرو قاطبة، فقد ملك ثلاثة مصانع نسيج وأكثر من عشرين محلّا لتجارة وبيع الألبسة بالجملة وبالمفرّق، وعمل في شراء وبيع العقارات، إلى درجة أن أكثر من رُبع مباني مركز ليما التجاري تعامل معها تجاريا، بيعا أو شراء أو تمليكا.

كان لديه مَلَكَةً فريدة في هذا المجال، مجال بيع وشراء العقارات. كان يكمن كالأسد المُتوثّب وبعيني الصقر الثاقبتين يرقب المحال التجارية في أسواق مركز ليما التجاري، حتى يتناهى لعلمه أن محلا تجاريا مديونا وعلى وشك الإفلاس والسقوط، فيتّصل بصاحبه ويعرض عليه بيع محلّه بالكاش، وب "تراب المصاري"، لأن مالك المحل مديون و"مزنوق" ويحتاج إلى السيولة الفورية.

وهكذا يشتري وحيد المحل التجاري ب"سعر بخس"، يقوم خلال شهرين أو ثلاثة اشهر بترميمه وصيانته وتجميله ويبيعه بمكسب مليون او مليونين أو ثلاثة ملايين من الدولارات "حلالا زلالا".

بعد خمسة عشر عاما في بلاد المهجر في البيرو، وبعد جنيه ثروة طائلة تُقدّر بمئتي مليون دولار، وزاوجه من ابنة عمّه وانجابه أربعه أبناء منها، شعر أن "البلاد طلبت أهلها". أراد أن يزور قريته لأول مرّة بعد خمسة عشر عاما من الغياب. وهكذا كان.

سافر إلى موطنه الأصلي، إلى بلدته المزرعة الشرقية، في زيارة صيفية، وصيت وسمعة نجاحه و"سمين" ثروته يسبقانه.

في مساء نفس اليوم الذي وصل فيه قصد "العلّية". ما أن دخل بابها حتى تدافع "القوم" كبيرهم قبل صغيرهم، للترحيب به والسلام عليه وتقديم التحيّة والتبجيل، ودعوته إلى صدر الديوان المفروش بالسجاد والفرشات الوثيرة والمساند، وأجلسوه بإلحاح وببالغ الحفاوة في "قلب" صدر "العلّية".

جلس وحيد لبرهة وهم واجمون، كلّهم آذان صاغية ليسمعوا من فمه ولسانه دُررا وحكايات ينتظرونها بشوق وبفارغ الصبر. لكنّه بقي صامتا لم ينبس ببنت شفة.

أخرج من جيبه محفظة جلدية سوداء اللون "مدبوزة" بآلاف الدولارات.

وقف ثمّ نظر إليهم واحدا واحدا. وضع المحفظة المحشوّة بالدولارات مكانه على الفرشة الوثيرة في صدر الديوان، ثم "دفش" نفسه بنفسه إلى الحصيرة عند الباب بجانب "موقف" الأحذية، وخاطبهم قائلا: "أتذكرون، هنا موقعي، أمّا موقع محفظتي ففي صدر الديوان".

وانسلّ من "العلّية" تاركا المحفظة وراءه.

كلمات دلالية

اخر الأخبار