موسكو والغرب: ثلاثون عاماً إلى الوراء

تابعنا على:   14:48 2021-04-23

الياس حرفوش

أمد/ منذ نهاية عصر ليونيد بريجنيف والولاية الأولى للرئيس الأميركي رونالد ريغان، لم تشهد العلاقات الأميركية – الروسية (السوفياتية آنذاك) والروسية – الغربية ما تشهده اليوم من تدهور. الرئيس الأميركي جو بايدن لا يتردد في الموافقة على وصف فلاديمير بوتين بـ«القاتل». مستشاره للأمن القومي جاك سوليفان يهدد بـ«عواقب» إذا مات المعارض أليكسي نافالني. حديث متزايد عن تبادل طرد سفراء بين موسكو والعواصم الغربية. تهديد من بوتين بـ«رد قاس وسريع إذا تجاوز الغرب الخط الأحمر». قوات روسية قدّر عددها بالآلاف عند الحدود الأوكرانية قبل إعلان وزير الدفاع عن بدء انسحابها. يضاف إلى ذلك الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم الذي لم يتراجع عنه بوتين رغم العقوبات الغربية.

ظن العالم في مطلع هذا القرن أن انهيار العقيدة الشيوعية الذي تكرس بوصول ميخائيل غورباتشوف إلى الكرملين ونهاية الحقبة السوفياتية سوف يقطع الطريق على عودة التنافس الآيديولوجي بين المعسكرين الدوليين، ويسهل بالتالي قيام علاقات تتسم بدرجة أكبر من التقارب بينهما. كما ساور الاعتقادُ كثيرين من المفكرين وقادة الرأي في تلك الفترة أن «نهاية التاريخ» قد حلّت، كما نظّر فرنسيس فوكوياما.

لم تحصل تلك «النهاية» ولم تتمكن الأفكار الليبرالية الغربية من اختراق الحصن الروسي. وبرز تنافس المصالح بين القوتين الكبيرتين، يعززه من جانب موسكو حذر تاريخي حيال مخاطر الغزو القادم من الغرب، يعود إلى حقبتين صعبتين حديثتي العهد من المواجهة الروسية مع نابليون بونابرت وأدولف هتلر.

في هذا الإطار يجب فهم الموقف الحاد الذي أعلنه بوتين في خطابه الأخير الموجّه إلى قادة الدول الغربية. بوتين هو ابن مرحلة الحرب الباردة والتنافس السياسي والآيديولوجي بين المعسكرين. وعندما يحذر القادة الغربيون موسكو من «الاعتداء» على جيرانها (كما تفعل في أوكرانيا وبيلاروسيا) وعدم التعامل بخشونة مع معارضيها في الداخل، كما يحصل مع أليكسي نافالني، والتوقف عن استخدام الغازات السامة لقتل معارضيها في الخارج، فإن بوتين لا يرى في ذلك سوى استقواء الغرب على روسيا معتمداً على قدراته العسكرية وقوته الاقتصادية؛ ولذلك يهدد بوتين برد سريع وعنيف على ما يعتبره تجاوزاً لـ«الخطوط الحمر» الروسية.

يراهن الرئيس الروسي على أن التهديدات الغربية ليست أكثر من تهديدات لفظية. فحكومات الغرب لا تحتمل الغرق الطويل في الأزمات الكبرى، على عكس ما تفعل روسيا. وأمام بوتين مثال الإعلان عن الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وتركها ساحة محتملة لعودة نفوذ حركة «طالبان» التي مهّد وجودها في كابل إلى فتح الباب أمام تنظيم «القاعدة» وهجمات 11 سبتمبر (أيلول). وأمامه كذلك التخلي الأميركي عن المعارضة السورية وترك هذا البلد ساحة للنفوذين الروسي والإيراني، مضافاً إليهما الدور التركي؛ ما سمح بإنقاذ نظام بشار الأسد، ووفر لروسيا دوراً مهماً سياسياً واقتصادياً على الساحل الشرقي من البحر المتوسط. يضاف إلى ذلك سياسات غربية متناقضة حيال الأصدقاء والحلفاء تسهل لموسكو الاستفادة منها حيثما أمكن.

جو بايدن هو الرئيس الأميركي الخامس الذي يحاول التعايش مع عصر فلاديمير بوتين. دخل الرئيس الروسي قصر الكرملين في حين كان بيل كلينتون يجمع أوراقه ويستعد لمغادرة البيت الأبيض. وتعاقب أربعة رؤساء أميركيين بعده، في حين كان بوتين يتنقل بين رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة، بحسب ما تتيح له النصوص الدستورية، إلى أن انتهى به الأمر إلى وضع حد لهذه «العقبة» الدستورية. نظم استفتاءً لتعديل الدستور ليطيل مدة الولاية الرئاسية إلى ست سنوات بدلاً من أربع، وليتيح له التعديل البقاء ولايتين متتاليتين تحتسبان من تاريخ التعديل؛ ما يعني أن بوتين قادر على البقاء في الحكم إلى عام 2036؛ ما يجعل حكمه لروسيا أطول من حكم جوزيف ستالين.

بوتين يعرف جيداً أهمية الإمساك بزمام السلطة في بلد صعب ومترامي الأطراف مثل روسيا. ويعرف أن الديمقراطيات الغربية التي تتنقل سياسات حكامها بين جمهوري وديمقراطي، واشتراكي وليبرالي، وعمالي ومحافظ، لا تتيح مثل هذا الاستقرار، ولا تتيح لأي حاكم بمفرده أن يترك بصماته على تاريخ بلده. عايش دونالد ترمب وتقرّب منه، حتى قيل إنه كان مرشح بوتين المفضل في الانتخابات الأميركية، ولم يقصّر في محاولة استخدام ما تستطيعه أجهزة استخباراته لمد حملتي ترمب الانتخابيتين بجرعة من الدعم. وأخذ يتابع كيف بدأ بايدن، منذ دخوله البيت الأبيض، بإزالة ما أمكن من آثار سلفه.

ويتذكر فلاديمير بوتين، العميل السابق لأشد أجهزة الاستخبارات العالمية شراسة وتوسعاً، أن تقلب السياسات يهدد استقرار الأنظمة في بعض الأحيان. لذلك؛ لا يروق له المشروع الديمقراطي، ولا يحبذ دخول رياحه عبر نوافذ الكرملين.

شاهد فلاديمير بوتين ماذا فعل انقلاب ميخائيل غورباتشوف بالحزب الشيوعي وكيف دمرت بضاعة «الغلاسنوست» التي جلبها إلى موسكو هيكل الاتحاد السوفياتي. ومنذ عودته من مهمة التجسس في برلين الشرقية، اتخذ قراره باستعادة نفوذ روسيا وموقعها العالمي إلى ما كان عليه منذ أيام القياصرة، وصولاً إلى التمدد الشيوعي الذي سمح لروسيا بالسيطرة على نصف القارة الأوروبية.

حاولت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون الانفتاح على روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين. وفي ظل مشروع أطلق عليه «البيت الأوروبي»، جرى تداول فكرة قيام أوروبا جديدة تكون روسيا جزءاً منها، وليس خارجها، بعكس ما حصل بعد الحرب العالمية الثانية، من تقسيم لأوروبا في قمة يالطا، ما أبقى الاتحاد السوفياتي آنذاك خلف «الستار الحديدي»، رغم شراكته مع القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، في هزيمة المشروع النازي.

مياه كثيرة مرت تحت الجسر، كما يقول المثل، منذ السنوات الأخيرة من تسعينات القرن الماضي. ورغم التعاون الوثيق في مواجهة حرب البوسنة، والتعاون الأكثر فاعلية خلال الغزو الأميركي لأفغانستان في أعقاب هجمات 11 سبتمبر، عادت الحساسيات التاريخية القديمة تلعب دورها في رسم مسار السياسة الروسية. وليس من المبالغة القول إن المرحلة الحالية من انتكاس العلاقات الروسية – الغربية هي الأصعب منذ نهاية الحرب الباردة وصراع القوتين الكبيرتين. إنها تعيد هذه العلاقات إلى ما كانت عليه من مواجهة وجفاء قبل ثلاثين عاماً.

عن الشرق الأوسط اللندنية

اخر الأخبار