الثأر لماكرون من خائنيه اللبنانيين

تابعنا على:   10:44 2021-05-08

علي شندب

أمد/ غادر وزير خارجية فرنسا لبنان بمثل ما مهّد به لزيارته لهذا البلد المنكوب بساسته.

فالتجهم لم يفارق وجه جان ايف لودريان. فقد أسقط بيد الرجل محاولة استنقاذ ماء وجه رئيسه ماكرون الذي تعرض لحفلة خيانة جماعية من الطبقة السياسية اياها. خيانة متمادية بالزمن مع عمر المبادرة الفرنسية التي دفنها دهاقنة الفساد في لبنان قبل أن ينعيها لودريان.

فالغموض والتكتم الذي ميّز زيارة الزائر الفرنسي، لم يفض الا لمزيد من الفشل للدبلوماسية والسياسة الفرنسية، بل ولمكانة فرنسا وقدرتها على التأثير في الموزاييك اللبناني، رغم أن باريس شكلت حواضن رعاية لغالبية المتنفذين في لبنان، وحاولت أن تشكل مظلة أمان اوروبية لحزب الله عندما التقى ماكرون رموز من الاجتماع السياسي اللبناني بهدف ضمان موافقتهم على مبادرته لتشكيل حكومة مهمة لانقاذ لبنان من التداعي الاقتصادي والمالي، والمرجح أن يتوّج بهبوب عواصف الفوضى الأمنية الأهلية، لحظة "الارتطام الكبير" الذي ضرب موعده خلال الشهر الحالي مع سريان رفع الدعم عن الكهرباء والبنزين والغذاء والدواء.

استنفد لودريان كل أدبيات التقريع والاهانات غير الدبلوماسية للطبقة السياسية اللبنانية برمتها، دون أن يرف لهذه الطبقة جفن. ويبدو أن غالبية ساسة لبنان قد اكتسبوا مناعة قوية من ذلك الزمن الذي كان فيه غازي كنعان وخلفه رستم غزالي يرسمون المشهد السياسي ويصيغون مكونات السلطة والجالسين على كراسيها باتصال هاتفي وعند اللزوم بما يلزم من الاساليب التي يفهمها جيدا المعرقلون في لبنان.

محنة فرنسا، وأزمة المبادرة الماكرونية، أن باريس تختار التوقيت الخاطىء لاشهار سلاح العقوبات. فلطالما اعتبر ماكرون ووزير خارجيته لودريان ان العقوبات الاميركية زمن الرئيس السابق دونالد ترامب التي استهدفت وزيري حركة أمل علي حسن خليل وغازي زعيتر ووزير تيار المرده يوسف فنيانوس بالاضافة لرئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل المصنف فاسدا بحسب مندرجات قانون ماغنيتسكي من شأنها تعقيد الامور بدل المساهمة في حلها.

لكن فرنسا اليوم تجد نفسها ونتيجة مقارباتها الخاطئة ولعدم استئناسها بالخبرة السورية تقف على يمين ترامب وليس على يساره وهي ترفع العقوبات سلاحا. ففرنسا الماكرونية تلجأ الى تصعيد العقوبات في لحظة رفعت فيها ادارة بايدن الحوثيين عن لوائح الارهاب، وربما ترفع قريبا جدا الحرس الثوري وأذرعه في المنطقة عن لوائح الارهاب اياها في سياق مفاوضات فيينا الهادفة لعودة واشنطن وطهران الى الاتفاق النووي بنسخته الموقعة عام 2015.

عدا عن التهديد بالعقوبات، لعل ما تمخّضت عنه زيارة لودريان هي اجتماعه ببعض قادة الاحزاب ومجموعات من 17 تشرين. إنهم حجر الرحى الذي ستدور عليه السياسة الفرنسية الجديدة في لبنان. فلودريان أعلن بأن على هذه المجموعات الاستعداد للانتخابات المقبلة. فمنهم ستنبثق قيادة لبنان البديلة للطبقة السياسية اللبنانية التي مارست الخيانة الجماعية بحق ماكرون.

ولعلّ اللغط حول تحديد موعد للرئيس المكلف سعد الحريري الذي بدا كمن يتسوّل لقاء مع لودريان يشكل البداية في سياسات فرنسا الانفعالية والمأزومة تجاه ساسة لبنان خصوصا اولئك الذين ساهمت باريس في تخصيبهم ورعايتهم فيما شرائح لبنانية واسعة تتهمهم بالمسؤولية عن مآلات لبنان الكارثية.

وكما كان استنقاذ العماد ميشال عون عام 1990 من قصف الطيران السوري الذي دمر القصر الجمهوري، وإجلائه على متن فرقاطة فرنسية الى باريس مسألة شرف بالنسبة لفرنسا كما أعلن يومها فرنسوا ميتران. فطبيعي أن يكون الثأر من مفتعلي الخيانة الجماعية بحق ماكرون الذين هم للمفارقة أنفسهم معرقلي تشكيل حكومة هو أكثر من مسألة شرف بالنسبة لفرنسا.

فالصدمة التي استشعرتها الادارة الفرنسية ليست ناجمة عن ادارة الظهر لمبادرتها بقدر ما هي اكتشاف ساسة فرنسا أن نفوذهم التقليدي في لبنان بات محل اعادة تقييم حقيقي، خصوصا وأن الكلمة والقدم العليا في لبنان هي اولا لموازين القوى الداخلية، كما هي اولا للجغرافيا اللصيقة بلبنان وهي سوريا التي الكلمة ما فوق العليا فيها هي للكرملين أكثر من قصر المهاجرين.

وفي هذا السياق الاستراتيجي يمكننا قراءة التحولات الجيوسياسية انطلاقا من سوريا والمنطقة وانعكاساتها الاكيدة على المشهد اللبناني. انها التحولات التي تحاول فرنسا استباق بروز ملامحها الكاملة في المنطقة بمحاولة استعادة وتثبيت نفوذ لها حتى لو كان من ورق.

فلبنان ومنذ سبعينات القرن الماضي لم يكن محل نفوذ فرنسي صرف، نفوذ فرنسا كان جزءا من نفوذ عربي غربي أكثر ما تبلور في اتفاق الطائف الذي استُولد برعاية سعودية، سورية، فرنسية واميركية. ومشكلة فرنسا اليوم تكمن في انقلاب من استنقذتهم بالأمس من قصف الطيران السوري على اتفاق الطائف سعيا لدستور جديد يعيد عقارب التاريخ الى ما قبل اقرار اتفاق الطائف الذي اعتبره سفير السعودية في بيروت وليد بخاري ومن منصة قصر بعبدا "الضامن الوحيد لأمن واستقرار لبنان وسلامه الاهلي".

مع هذا، ربما يحتاج لبنان لطائف جديد، يستوعب تحولات المنطقة، تماما كما يستوعب المتغيرات في ميزان القوى داخل لبنان، لكن مثل هذا الاتفاق متعثر لفقدان النسق السياسي الجديد الذي من شأنه ان يشكل صمام أمان المنطقة في لحظة تحولاتها المستجدة حيث يأتي الحوار السعودي الايراني في بغداد اذا ما وصل الى خواتيمه المرتجاة في ضوء اعلان ولي العهد السعودي محمد بن سلمان عن رغبة بلاده في اقامة علاقات طيبة مع ايران. كما ويأتي في ظل اندفاعة عربية باتجاه سوريا لاستعادة موقعها في الجامعة العربية كما وفي اعادة فتح السفارة السعودية في دمشق، واعتبار السفير السوري في بيروت السعودية بلد عربي شقيق وعزيز، فضلا عن مبادرات الامارات المتواصلة تجاه الدولة السورية.

الجغرافيا نعمة أم لعنة.. السؤال ليس برسم لودريان الخارجية الفرنسية، انما برسم بعض المراهنين على تحولات اقليمية ودولية تستجيب لاحلامهم وطموحاتهم، علما أن الواقعية السياسية تتحدث عن لغة المصالح وليس العداوات الدائمة. ولعل على هذا البعض اللبناني أن يقرأ جيدا انحناءات الرئيس التركي رجب طيب اردوغان وتوقه لاستعادة بلاده أفضل العلاقات مع مصر مع جهوزيته الكاملة لدفع ديّة الصلح، اغلاقا لفضائيات الاخوان وترجيحا لتسليم بعض الرموز التي تصنفها القاهرة ارهابية.

كلمات دلالية

اخر الأخبار