انتفاضة عودة الوعي ووحدة الشعب

تابعنا على:   08:34 2021-05-18

هاني المصري

أمد/ أطلقت عليها "انتفاضة عودة الوعي ووحدة الشعب"، ويمكن تسميتها بـ"انتفاضة" القدس أو الأقصى أو حي الشيخ جراح، أو "انتفاضة" إعادة القضية الفلسطينية إلى الصدارة، وهي تحتمل أسماء أخرى.

تحدث "الانتفاضة" الفلسطينية في العادة عندما لا يحتمل الشعب أو قطاعات كبيرة منه استمرار العيش تحت الاحتلال والعدوان والذل والاستعمار الاستيطاني والعنصرية، وتزوير وتغيير التاريخ والجغرافيا والحقائق على الأرض، والسعي لمصادرة الحاضر والمستقبل الفلسطيني، والاعتداء على المقدسات.

تحدث الانتفاضة عندما يُكسر حاجز الخوف وتنزل الجماهير إلى الميادين من دون دعوة من أحد، وعندما يحل محل الخوف الأمل بالانتصار رغم صعوبة الوضع واختلال موازين القوى.

تأتي "الانتفاضة" مختلفة هذه المرة عن سابقاتها كونها شملت منذ أيامها الأولى مختلف أنحاء فلسطين، فأراد الاحتلال الاحتفال بـ"توحيد القدس"، فاحتفلت فلسطين بوحدة شعبها من النهر إلى البحر.

وانطلقت شرارة الانتفاضة - كما حدث مرارًا - من الأقصى والقدس، وامتدت إلى غزة والداخل الفلسطيني، ووصلت إلى الضفة، وشعاراتها واحدة دفاعًا عن الأقصى والقدس، وضد الاحتلال ومصادرة الأراضي والاستعمار الاستيطاني، والتمييز العنصري ومن أجل إنجاز الأهداف والحقوق الفلسطينية.

لقد كانت الصواريخ هذه المرة أكثر من أي مرة سابقة، ليست فئوية، بل وطنية وحدوية كونها أطلقت نصرة للأقصى والقدس، وتأكد ذلك بأن أهداف الانتفاضة تتمحور على الأقصى والقدس وحي الشيخ جراح.

ومما يميز "الانتفاضة" أنها جمعت ما بين الطابع الشعبي والصواريخ، لدرجة أن المواجهة العسكرية لم تؤد إلى تراجع الطابع الشعبي كما اعتقد الكثيرون، بل تواصل وتعاظم خصوصًا في الداخل الفلسطيني وفي الضفة المحتلة التي شهدت يوم الجمعة الماضية 250 موقع اشتباك مع قوات الاحتلال.

ولعل هذا المزج الخلّاق يعود إلى اختلاف الظروف بين كل منطقة، بين من يقع في قلب الحوت داخل الكيان، ومن يعيش تحت الاحتلال المباشر في ظل سلطة مقيدة بأغلال أوسلو، وبين من يعاني من الاحتلال غير المباشر من خلال الحصار والعدوان.

ومن خصائص هذه "الانتفاضة" أنها تجمع ما بين العفوية والشعبية التي دفعت إلى ساحات المواجهة في القدس والأقصى ومختلف الميادين أعدادًا واسعة شاركت في الانتفاضة من دون ارتباط تنظيمي، وإنما استجابة لنداء الأقصى والوطن. وهذا يفسر لماذا لا توجد قيادة ثابتة ومعروفة، ولا تقاد من الفصائل القائمة التقليدية رغم أنها تشارك فيها ولكنها ليست مسؤولة عن اندلاعها ولا تتحكم في مسارها الشعبي؟

وهذه نقطة قوة وضعف، فمن جهة عفويتها ممكن أن تمنحها آفاقًا رحبة من دون قدرة الاحتلال على القضاء عليها، ومن جهة أخرى أي انتفاضة من دون قيادة لها تضع أهدافًا قريبة قابلة للتحقيق وأهدافًا متوسطة وبعيدة المدى توضح الأفق والحلم الكبير الذي نقترب من تحقيقه لن تحقق مبتغاها، ولن تقوى على الاستمرار طويلًا، وهذا ما جعل الانتفاضة تأخذ شكل الموجات المتلاحقة ما بين مد وجزر.

القيادة مطلوبة لتنظيم الصفوف، وتحديد الأهداف وضبط الوتيرة، وإقرار مدى ومتى التقدم، ومتى يجب التراجع أو التوقف، فمن دروس الانتفاضات السابقة أنها تبدأ ولا أحد يعرف متى تنتهي، ما يجعلها تطول أكثر مما ينبغي، وتستنزف طاقات كان يمكن الاحتفاظ بها للانتفاضات القادمة، ويخطئ من يتصور أن الشعب الفلسطيني سينتصر في جولة واحدة أو انتفاضة واحدة، بل عبر جولات وانتفاضات تأخذ شكل الموجات الانتفاضية، بحيث تحقق كل واحدة منها هدفًا أو أهدافًا، وتواصل التي بعدها الطريق لتحقيق بقية الأهداف. الانتفاضة من دون رؤية وقيادة وأهداف محددة وتنظيم معرضة للتوقف من دون استثمار. والانتفاضة ليست من أجل الانتفاضة، وإنما وسيلة لتحقيق أهداف، أما الاستثمار فليس بالمعنى التجاري ووفق حساب الربح والخسارة، وإنما بالمعنى الوطني والإستراتيجي.

ويفاقم من مسألة غياب القيادة الواحدة أن الانتفاضة اندلعت وسط تفاقم الانقسام السياسي والجغرافي على خلفية تأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى، ودلالات ذلك على انفراد القيادة المتنفذة بالمؤسسة والقرار الفلسطيني وخشيتها من الخسارة، الأمر الذي يفقدها الشرعية الشعبية الانتخابية، من دون أن تتبنى المقاومة لتحصل على شرعية المقاومة، وهذا يفتح الطريق لتناقضات وصراعات لا حصر لها.

ومن هذه التناقضات أن الطرف الفلسطيني المعترف به عربيًا ودوليًا يتم التفاوض معه، وهو بعيد عن ميادين المعركة  العسكرية ولا يريدها، ويخشى منها أكثر مما يعول عليها، أي أنه ليس هو القائد الفعلي للمعركة، وبالتالي هناك تفاوت في صفوف المفاوضين، وتعارض بين من يقاوم بالسلاح والمقاومة الشعبية، ومن يفاوض ويقاوم شعبيًا كردة فعل. والمطلوب الوحدة في المعركة ميدانيًا وتفاوضيًا تمهيدًا للوحدة السياسية والقيادية والمؤسسية، إضافة إلى استيعاب وتمثيل الظواهر الجديدة التي تمثلت في مشاركة أعداد كبيرة من الشباب "غير المنتمي"، الذي تميز بالشجاعة والوعي والإقدام والابتسام، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي وأساليب جديدة ليس للهرب من الواقع، وإنما للاشتباك معه بشكل جديد أكثر عمقًا وإبداعًا.

لقد بلغ السيل الزبا وحرّك الأقصى والقدس ما لم يتحرك سابقًا، وما لم يتوقع أحد أن يتحرك، وهذا وقع نتيجة أسباب كثيرة أهمها التطرف والقهر والتمييز العنصري الإسرائيلي، الذي بلغ ذروته في إحياء خطة إقامة "إسرائيل الكبرى"، كما ظهر واضحًا في تبني "صفقة ترامب" التي هي خطة نتنياهو واليمين الإسرائيلي، وبإقرار "قانون القومية" الذي جعل العنصرية دستورًا في إسرائيل، وبتغذية العنف الداخلي والجريمة والمخدرات في صفوف شعبنا في الداخل.

نقطة أخيرة أريد التوقف عندها، وهي وقوع "الانتفاضة" الحالية بين وجهات نظر متعارضة، بل أحيانًا متناقضة، بين من يُحمّلها أكثر بكثير مما تحتمل، بحيث يرى ويدعو إلى أن تتواصل حتى إزالة إسرائيل التي وفق ما يرى بأنها باتت ممكنة وقريبة، ويمكن جدًا أن تحصل العام القادم، وبين من يرى أن دحر الاحتلال وإنجاز الاستقلال بات قاب قوسين أو أدنى، وبين من يرى أنها دمرتنا، وأعادتنا إلى الوراء كما فعلت الانتفاضة الثانية، وأنها اختطفت انتصار القدس، وحرفت الصراع عما يجب بتحويله إلى صراع عسكري تتفوق فيه إسرائيل، ولا تكون محل إدانة، بل يتساوى الجانبان في المسؤولية عنه، وبين من يرى أن طرفًا انتهى تمامًا وحلّ محله طرف آخر، وبين وجهة نظر واقعية ترى الأهمية البالغة والعظيمة لما يجري والتغيير الملموس الذي حدث ويمكن أن يحدث بفضل الانتفاضة، بلا مبالغة أو نقصان، فهي قرّبتنا من تحقيق أهدافنا بالحرية والعودة والاستقلال والمساواة على طريق الحل الديمقراطي الجذري.

من دروس التجربة الفلسطينية أن هناك من يسارع دائمًا إلى استثمار المقاومة أو الثورة أو الانتفاضة قبل أن تنضج الثمار فسيقع في المحظور والأخطاء، وبين من لا يريد أي استثمار بحجة أنه يتصور إمكانية استمرار المقاومة والثورة والانتفاضة إلى الأبد وعلى خط واحد ووتيرة واحدة حتى الانتصار الكبير، ويضيع الفرص والتراكم المطلوب.

لقد أخذت الانتفاضة الثالثة شكل الموجات الانتفاضية كما نلاحظ منذ نهاية الانتفاضة الثانية في العام 2004 وحتى الآن، وأعتقد أنها ستواصل هذا الشكل إلى أن يكتمل التغيير الإيجابي إلى الأمام في القيادة والنهج والسياسات والأشخاص الذي بدأ يطل برأسه بقوة في فلسطين، وسيتبلور في الفترة القادمة، ويقطع الطريق على التغيير السلبي الذي يسير بنا إلى الوراء عن طريق الدفع بدولة غزة، وتعميم الانقسام إلى "إمارات" فلسطينية تحارب بعضها وتكسب ودّ الاحتلال، أو إعادة إنتاج المفاوضات العبثية بسقف سياسي منخفض عن سقف أوسلو، وتغيير القيادة بقيادة عميلة كليًا.

نعم، أظهرت المقاومة أنها طورت سلاحها وقدراتها وصواريخها كمًا ونوعًا، ولكن من الخطأ عدم رؤية أن ميزان القوى لا يزال مختلًا بشدة لصالح إسرائيل وحلفائها، ما يفرض مع عوامل أخرى التركيز على المقاومة الشعبية والمقاطعة، والتعامل مع سلاح المقاومة للدفاع والردع وليس للهجوم والحسم، وذلك حتى يتم تغيير موازين القوى والبيئة الإستراتيجية العربية والإقليمية والدولية خطوة خطوة وموجة انتفاضية وراء أخرى.

وأخيرًا وليس آخرًا، هل ستنتصر الانتفاضة؟ نعم، بكل تأكيد، فيكفي أنها كسرت نظرية الردع الإسرائيلية كما لم تُكسر من قبل. وكما يقال دائمًا عبر التاريخ الضعيف ينتصر عندما لا يهزم، والقوي يهزم عندما لا ينتصر.

وإذا تم التوصل إلى تهدئة بشكل متزامن، والمقاومة لا تزال تضرب في عمق إسرائيل، فهذا نصر واضح لها؛ لذلك يبحث نتنياهو عن صورة نصر من خلال وقف القدرة الفلسطينية على إطلاق الصواريخ واغتيال قادة أو قائد من الصف الأول حتى لا يُقضى على مستقبله السياسي.

اللهم ارحم الشهداء واشف الجرحى وصبّر أهلهم، وعوّض كل الذين تدمرت بيوتهم وخسروا أعمالهم وممتلكاتهم، وعزاؤهم أنهم ضحوا من أجل إنجاز كبير ... استعادة وحدة الشعب والأرض والقضية وتمريغ نظرية الردع الإسرائيلية في الوحل. 

اخر الأخبار