في الإشتراكية العلمية ونظرية الحزب

تابعنا على:   21:51 2021-08-30

الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

أمد/ ■ وهو الخامس من سلسلة «دليل المعرفة»، يتناول في الفصلين الأول والثاني: نشأة، مسار، ومضمون الإشتراكية العلمية التي اعتمدت الفهم المادي الجدلي في قراءة التاريخ، وأسست النمط العام للتفكير النظري – النقدي في دائرة الإجتماع البشري، بواسطة ما يُعرف بـ«المادية التاريخية»، وموضوعها دراسة المسائل والقوانين العامة لتطور المجتمع، والقوى الإجتماعية المحركة لهذا التطور، ما قاد – من جهة– إلى كشف لغز نمط الإنتاج الرأسمالي القائم على قانون القيمة المولِّد لتراكم رأس المال من خلال الإستحواذ على فائض القيمة الذي تنتجه قوة العمل؛ ووضع اليد – من جهة أخرى – على جوهر الأزمة البنيوية لنمط الإنتاج الرأسمالي، الناجمة عن فيض تراكم رأس المال، الذي يقود دورياً إلى تدمير جزء مهم من رأس المال الإجتماعي.

■ بين هذين المفهومين الذي يوضح أولهما الأساس في نشوء نمط الإنتاج الرأسمالي، وثانيهما عِلَّة أزمته المستحكمة، تقع مجموعة من القوانين والقواعد والمعارف، تتناول موضوع إنتاج الخيرات المادية والروحية في المجتمعات البشرية، والتناقضات التي تنشأ في سياقها، وجميعها تنتمي إلى حقل معرفي محدد هو «الإقتصاد السياسي» الذي يقارب أهم جوانبه الفصل الثالث من الكتاب.

■ الإشتراكية العلمية كمنهج يقوم على المادية التاريخية، هي نظرية الثورة على المستوى الكوني بمضمون الثورة الإجتماعية بقيادة حركة الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية المتطورة، والثورة الوطنية الديمقراطية في البلدان النامية بقيادة جبهة وطنية عريضة تضطلع فيها الطبقة العاملة بتحالفها مع أوسع القوى الديمقراطية، بدور قيادي من أجل الإستقلال الوطني الناجز، والديمقراطية السياسية، وحل المسألة الزراعية، وإطلاق قوى الإنتاج الوطنية،... هذا ما يتوقف أمامه الفصل الرابع من الكتاب، إن كان على مستوى مهمات الثورة الوطنية الديمقراطية وقواها الإجتماعية المحركة، أو على مستوى استراتيجية وتكتيك الطبقة العاملة في هذه الثورة.

■ الفصول الآنف ذكرها، تؤسس للفصل الخامس الذي يعالج بعض أهم المفاهيم التأسيسية لنظرية الحزب، والمقصود هو حزب العمال وفقراء الفلاحين وسائر الكادحين، وشرائح واسعة من الفئات الوسطى والمرأة والشباب، الذي يسترشد بالإشتراكية العلمية، كمنهج لتحليل الواقع الإجتماعي، ودليل للعمل من أجل تغييره بوجهة تسييد الحرية والمساواة ببعديها السياسي والإجتماعي معاً.

■ ما سبق يسلط الضوء على مغزى عنوان الكتاب الذي يجمع/ يربط ما بين الإشتراكية العلمية من جهة، ونظرية الحزب بسمته الإجتماعية الطبقية من جهة أخرى، باعتبار أن ما تطرحه الإشتراكية العلمية كدليل للعمل من أجل التغيير الثوري، سواء على مستوى التحرر الوطني أو الإجتماعي، وما يترتب على ذلك من صياغة برنامجية تتحدد خطوطها الرئيسية من خلال الشروط التاريخية الملموسة في الفترة الزمنية المعطاة، إنما يستوجب خلق الواسطة القادرة، المهيئة للإضطلاع بهذا الدور التغييري، وبالتالي فهو يستدعي وجود الحزب الواضح بهويته الطبقية والفكرية في آن.

■ خلاصة القول: إن الإشتراكية العلمية لا يقتصر دورها على تفسير الواقع الإجتماعي بتناقضاته ومحصلة مساره، بل هي أساساً نظرية تضيء الطريق أمام تلك الممارسة (Praxis) التي تحدث التغيير الثوري المنشود. الإشتراكية العلمية تنبثق من الضرورة الموضوعية للإجتماع البشري في فترة محددة من تطوره العام، وبالتالي فهي لا تشق طريقها بقوة أفكارها فحسب، إنما بتحويل أفكارها إلى قوة مادية جبارة بانتقالها إلى وعي وسواعد من يعمل بشكل منهجي منظم من أجل إدراك أهدافها.

■ على هذه الخلفية يأتي الفصل السادس من الكتاب لكي يبحث – من منظور البرنامج السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين – في موضوع القوى الإجتماعية المحركة للثورة الوطنية التحررية بأبعاده المتعددة، وبالتحديد من زاويتي الجغرافيا السياسية بالقاعدة الإجتماعية التي تحتضن مجتمعات الشتات الفلسطيني، أو من زاوية دينامية القوى الإجتماعية التي يستند إليها في المناطق الفلسطينية المحتلة – 1967.

■ في هذا السياق يتوقف الفصل السادس أمام مفهوم «الديمقراطية الثورية» والحركة السياسية المنسوبة إليها، التي تعكس بتكوينها ومهامها واقع التشكيلة الإقتصادية – الإجتماعية السائدة – بشكل عام – في البلدان النامية.

وعليه، يجري تسليط الضوء على واقع الجبهة الديمقراطية كحزب يساري ديمقراطي بهوية فكرية وطبقية محددة، باعتبارها من صلب التيار الديمقراطي الثوري العريض، إنما بالشرط الفلسطيني، الذي مازالت حركته الوطنية تناضل في الحيِّز الأول للثورة الوطنية الديمقراطية، أي من أجل تحرير ترابها الوطني على طريق الإستقلال الناجز، ومن هنا سمتها الوطنية التحررية بالأساس، التي لا تتعارض مع مهام ذات طبيعة ديمقراطية أُلقيت على عاتقها بشكل خاص، بعد نشوء سلطة الحكم الذاتي في الضفة والقطاع■

المحرر

       

الفصل الأول

في الإشتراكية العلمية (1/2)

■ في الإشتراكية العلمية: النشأة والمسار

■ عناصر في الفهم المادي الجدلي للتاريخ

■ أساليب (أنماط) الإنتاج

■ قضايا ومفاهيم من منظور الإشتراكية العلمية

معهد العلوم الإجتماعية

للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

في الإشتراكية العلمية: النشأة والمسار

[■ الفقرة 2 من مقدمة النظام الداخلي (بعنوان: «1– التعريف والأهداف») الصادر عن أعمال المؤتمر الوطني العام السابع للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين- 2018، تنص على مايلي: «تسترشد الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين بالإشتراكية العلمية كمنهج لتحليل الواقع الإجتماعي، ودليل للعمل من أجل تغييره». وفيما يلي مساهمة تضيء على جوانب معيَّنة من الموضوع المطروح:]

 (1)

نشأة الفكر الإشتراكي العلمي

■ نشأ الفكر الإشتراكي في المرحلة المعاصرة، وازدهرت طروحاته مع مطلع القرن الـ 19 في مواجهة المظالم الإجتماعية الذي تسبب بها نمط الإنتاج الرأسمالي (المنطلق بكل زخمه في ذلك الحين) بفعل آليات الإستغلال والقهر والتغريب التي فُرِضَت على الطبقة العاملة الحديثة التي تكوّنت بالتلازم مع نمط الإنتاج الرأسمالي. لكن هذا الفكر نزع ـــ باتجاهه العام ـــ إلى المثالية والطوباوية والوعظية الأخلاقية.

■ الإنجاز التاريخي لماركس وإنجلز تمثل بدءاً من أربعينيات القرن الـ 19 بنقل الفكر الإشتراكي من مستواه الطوباوي المتخيَّل، إلى مستواه العلمي، أي النظري ببعد الممارسة العملية (ما يسمى بالبراكيس- Praxis)، فبتنا أمام ما يسمى بـ «الإشتراكية العلمية» التي استندت إلى اكتشافات بالغة الأهمية على مستويي الفكر السياسي الإنساني بشكل عام، وعلى الطرح الإشتراكي بخاصة، ومن بين أهمها ثلاثة:

1–■ إدخال الفهم (المنهج) المادي الجدلي على قراءة التاريخ، ما ارتقى به إلى مستوى العلم. وما يعنينا في السياق ليس علم التاريخ الملموس الذي يؤسس له هذا المنهج، بل النمط العام للتفكير النظري، وفهم العالم (بمعنى الإجتماع البشري) الذي يدشنه هذا المنهج بواسطة ما يسمى بـ «المادية التاريخية» التي تقوم على المباديء التأسيسية التالية:

أ) الوجود (الواقع) الإجتماعي يحدد الوعي الإجتماعي، مع انعكاس الثاني على الأول وتفاعلهما.

ب) التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج يشكل محرك التاريخ، أي محرك التقدم في المجتمع؛ وفي هذا السياق يندرج الصراع الطبقي الإجتماعي.

ج) وجهة التاريخ تصاعدية، تطورية، من التشكيلات الإقتصادية ـــ الإجتماعية الأدنى إلى التشكيلات الأعلى، مع التأكيد على واقع التطور المتفاوت في المجتمع الواحد، كما وبين مختلف البلدان والمجتمعات.

د) الحقيقة دائماً ملموسة، ولا توجد حقيقة مجردة.

■ من بين الأمور التي ترتبت على هذا، ما يلي: نمط (أسلوب) الإنتاج المادي هو القاعدة الحقيقية للتاريخ. محرك التاريخ يقوم على تطور قوى الإنتاج كعامل أساسي، وعلاقات الإنتاج كعامل حاسم. الوعي في حقيقته هو تعبير عن علاقة إجتماعية مادية. التمييز بين الوجود الإجتماعي والوعي ليس تمييزاً بين حقيقتين، بل بين الحقيقة الملموسة والجانب المجرد من الحقيقة ذاتها. وعليه تضحى المادية التاريخية هي التعبير الأعم للعلاقة بين الوجود الإجتماعي والوعي..

2-■ كشف لغز نمط الإنتاج الرأسمالي نفسه، القائم على قانون القيمة الذي من خلاله تتحدد قيمة السلعة (أية سلعة) بعدد الساعات الضرورية إجتماعياً (أي بمستوى معيّن من تطور قوى وعلاقات الإنتاج) لإنتاجها.

وبما أن قوة العمل سلعة يتم تبادلها في سوق العمل، فإن قيمتها تتحدد بعدد الساعات الضرورية إجتماعياً لإنتاجها وإعادة إنتاجها. وإلى جانب ما يساويها بالسلع الأخرى، فإن ميزة قوة العمل تتحدد بكونها مولِّدة لـ «فائض قيمة» يستحوذ عليه صاحب رأس المال، فيستهلك قسماً منه (أي العائد)، ويحوّل القسم الآخر إلى رأس مال يضاف إلى الأصل في سياق ما يسمى بعملية «مراكمة رأس المال».

لقد كشف قانون القيمة جوهر إستغلال رأس المال لقوة العمل (أي إستغلال الرأسمالي للعامل)، وآلية هذا الإستغلال التي تصب في الدائرة الحلزونية الصاعدة لتوسيع رأس المال.

3-■ كشف جوهر الأزمة البنيوية للرأسمالية، بما هي أزمة فيض تراكم رأس المال الناجم عن التناقض بين متطلبات تعجيل التراكم بزيادة إنتاجية العمل من جهة، وبين التدهور في معدلات الربح الذي تقود إليه هذه الزيادة من جهة أخرى؛ والأزمة في هذا السياق المحدد ليست سوى محطة إضطرارية لحل هذا التناقض، بما تنطوي عليه هذه المحطة من تدمير جزئي لرأس المال الإجتماعي (تكون الأسواق المالية أحد أهم ميادينها) وتخفيض شامل لقيمته■

(2)

الحقل (الحيّز) المعرفي والمنهجي

للإقتصاد السياسي والمادية التاريخية

■ بين قانون القيمة المولِّد لفائض القيمة (القانون المؤسس لنمط/ أسلوب الإنتاج الرأسمالي) من جهة؛ وبين جوهر الأزمة البنيوية الأهم للنظام الرأسمالي، بما هي أزمة فيض تراكم رأس المال، التي تؤسس لانحداره، من جهة أخرى؛ تقع مجموعة من القوانين والقواعد والمعارف... تتناول عملية إنتاج الخيرات المادية والروحية في المجتمعات البشرية، والتناقضات التي تنشأ في سياقها، وجميعها تنتمي إلى حقل معرفي محدد، هو الإقتصاد السياسي، بما هو علم يدرس جوانب معيّنة من حياة المجتمع البشري، أي وبمزيد من التحديد: يدرس الإقتصاد السياسي النظام الإجتماعي للإنتاج والعلاقات الإقتصادية بين الناس أثناء عملية الإنتاج؛ إذن، هو علم يدرس القوانين التي تحكم إنتاج وتبادل وتوزيع الخيرات المادية في مختلف مراحل تطور المجتمع البشري.

■ تدرس المادية التاريخية المسائل العامة لتطور المجتمع: بنية المجتمع، والتفاعل بين مختلف جوانب الحياة الإجتماعية، وقوانين التطور العامة للمجتمع الإنساني، والقوى الإجتماعية والمادية المحركة لهذا التطور.

■  إنطلاقاً من هذا التعريف، ومن هذه الزاوية بالتحديد، يقع الإقتصاد السياسي في الحقل (الحيّز) المعرفي والمنهجي للمادية التاريخية، كون الأخيرة تعبِّر عن جوهر المفهوم المادي للتاريخ، الذي يعتبر أن العامل الأساس والحاسم في تطور المجتمع البشري هو – بالتحليل الأخير – إنتاج وإعادة إنتاج الحياة الحقيقية، الفعلية، بكل جوانبها المادية إبتداءً، ومن ثم جوانبها غير المادية (الروحية). إن المادية التاريخية تضيء هذا الطريق بمنهجها، وعلى يد مبادئها التأسيسية الثلاثة الآنف ذكرها■

(3)

مسار الفكر الإشتراكي العلمي

■ على خلفية نضالات الطبقة العاملة وتَشَكُّل حركتها وانتظام صفوفها وارتقاء وعيها لذاتها، سمحت الإكتشافات النظرية التي أشرنا إلى بعض أهم عناوينها بتأسيس «الإشتراكية العلمية»، وبارتياد آفاقها النضالية الرحبة على يد الطبقة العاملة المنظمة بأحزابها ونقاباتها. وعلى هذه الخلفية التراكمية يندرج الإنجاز التاريخي بقيادة لينين والحزب البلشفي، الذي أسس، من خلال الإتحاد السوڤييتي، أول نظام سياسي رفع راية الإشتراكية العلمية في تاريخ البشرية.

■ لا تفوتنا في السياق الإشارة إلى الإنجازات بالغة الأهمية التي حققها لينين في الحقل النظري، ومن بين أهمها: قانون التطور المتفاوت الذي يحكم الرأسمالية في مرحلتها الإحتكارية (الإمبريالية)، والذي يطرح إمكانية إنتصار الثورة الإجتماعية بقيادة الطبقة العاملة في بلد رأسمالي متخلف، ما سمح ببلورة استراتيجية الثورة الروسية بأهدافها الإشتراكية، والتي قامت على تحالف بين العمال والفلاحين؛ ومن بينها أيضاً: الربط بين الثورة الإشتراكية والنضال الوطني التحرري في البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة..؛ هذا دون أن ننسى إجتراح لينين لنظرية الحزب الطليعي وعلاقته بالطبقة العاملة، والحركة النقابية..

■ الجدير بالذكر أن هذه القامات التاريخية (ماركس، إنجلز، لينين) وغيرها من الأسماء اللامعة التي يضيق المجال عن ذكرها (بليخانوف، كاوتسكي، هيلفردينغ، ليبكنشت، روزا لوكسمبورغ...)، التي جمعت بين عبقرية الفكر وإبداعه، وبين فعالية الدور القيادي في الميدان.. هذه القامات السامقة لم تنسب هذا الفكر إلى نفسها، ولم تسمِه باسمها أو باسم غيرها، بل أجملته بعنوان واحد، هو: الإشتراكية العلمية.

■ كما يجدر التذكير، أن الإشتراكية العلمية ـــ على مستويي النظرية والتطبيق ـــ واصلت، وما زالت تواصل، تطورها على يد قادة ومفكرين كبار بعد رحيل «الآباء المؤسسين» الآنف ذكرهم، ومنهم: ماوتسي تونغ، ديمتروڤ، غرامشي، لوكاش، ألتوسير، بولانتزاس، لوسيان سيڤ، سمير أمين، وغيرهم... ومن الخطأ نسب الإشتراكية العلمية إلى أي منهم، أو إلى عدد منهم، وإن جاز الكلام عن أفكار واجتهادات وتطويرات (وطروحات، وفرضيات عمل..) تقدموا بها، لم يتشكل دائماً، وليس بالضرورة، أصلاً، أن يتشكل إجماع حولها■

(4)

منهج لتحليل الواقع الإجتماعي، ودليل للعمل من أجل تغييره

■ لم يَحِّلْ مصطلح الماركسية ـــ اللينينية مكان الإشتراكية العلمية في الأدبيات السياسية إلا بعد وفاة لينين، ليس لاعتبارات متعلقة بصون نقاء «النظرية» أمام احتمالات التحريف والإجتزاء، كما قد ينزع البعض إلى اعتقاده، بل من أجل توفير مظلة تسمح بنسب التوجهات والسياسات المتعلقة ببناء الإشتراكية في الظرف العصيب، الذي كان يجتازه الإتحاد السوفييتي إلى هذه «النظرية»، أو إشتقاقاتها المباشرة، الأمر الذي فتح المجال أمام «التوظيف السياسي» للنظرية بكل ما ترتب عليه من سلبيات، لسنا بوارد الخوض بها في هذه العجالة.

■ من كل ما سبق نخلص إلى التالي: إن الإشتراكية العلمية هي النظرية التي تعبر عن فكر الطبقة العاملة ورؤيتها الثورية للواقع الإجتماعي في إطار مسيرة تطوره التاريخي، وآفاق هذه المسيرة. وهي نظرية تتميّز بأنها علمية وثورية في آن؛ إنها نظرية علمية، بمعنى أنها ليست عقيدة جامدة أو وصفة ثابتة، وليست منظومة فكرية مغلقة تنطوي – بشكل قَبْلي ومسبق – على حلول وإجابات على ما يطرحه الإجتماع البشري، بحركته وتناقضاته، من قضايا ومشكلات؛ بل هي منهج يلخص قوانين التطور الإجتماعي، لتحليل الواقع كما هو، في الحقيقة، بعيداً عن التزييف والتشويه الأيديولوجي، الذي تمارسه الطبقات المسيطرة من أجل تكريس هيمنتها الفكرية على الكادحين وتضليلهم؛ وهي نظرية ثورية، بمعنى أنها لا تكتفي بوصف الواقع وتحليله، بل تشكل دليلاً للعمل من أجل تغييره تغييراً ثورياً بوجهة التقدم، ولمصلحة العمال وعموم الكادحين بسواعدهم وأدمغتهم■

2018

عناصر في الفهم المادي الجدلي للتاريخ

[■ في إطار ما تم التقديم له فيما سبق حول «الإشتراكية العلمية»، يجدر التوقف أمام عدد من المفاهيم والمصطلحات – المفتاحية، التي تقوم عليها الإشتراكية العلمية المستمدة من الفهم المادي الجدلي للتاريخ، وبما يساعد أيضاً على توضيح عديد القضايا، التي سترد في الفصول اللاحقة:]

(1)

إنتاج الخيرات المادية هو أساس حياة المجتمع

■ إن العامل الأساس والحاسم في تطور المجتمع البشري هو – بالتحليل الأخير– إنتاج وإعادة إنتاج الحياة الحقيقية، الفعلية بكل جوانبها المادية إبتداءً، ومن ثم غير المادية (الروحية). إن إنتاج الخيرات المادية لا يقوم من خلال أفراد لا رابطة تجمعهم، بل على أساس جماعات، فهو إنتاج إجتماعي.

■ إنتاج الخيرات المادية يتألف في كل مرحلة من مراحله التاريخية من عنصرين هما: القوى المنتجة (قوة العمل البشري + وسائل الإنتاج) + علاقات الإنتاج (العلاقات التي تقوم بين الناس في سياق عملية إنتاج الخيرات المادية وتبادلها وتوزيعها واستهلاكها). أما العامل الأساس الذي يحدد طبيعة هذه العلاقات فهو ملكية وسائل الإنتاج (والتداول). إن علاقة الناس بوسائل الإنتاج تحدد مكان ووضع الأفراد في عملية الإنتاج وطرق التوزيع لمنتجات العمل. وأخيراً، فإن اتحاد القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج يقود إلى تحديد أسلوب (أو نمط) الإنتاج■

(2)

البناء التحتي والبناء الفوقي

■ البناء التحتي (الأساس، أو القاعدة) هو مجموع علاقات الإنتاج. أما البناء الفوقي، فهو عبارة عن منظومة الأفكار السياسية والحقوقية والفلسفية والدينية والسلوكية والجمالية والعلاقات الأيدولوجية... والمؤسسات المقابلة، الحاملة لها. ويضم البناء الفوقي: الدولة، والقضاء، والأحزاب السياسية، والمؤسسات الدينية، وغيرها..

■ البناء التحتي (الأساس) إذن، هو مجموع علاقات الإنتاج، إنه البنية الإقتصادية للمجتمع؛ والبناء التحتي هو بناء تحتي بالنسبة للبناء الفوقي، هما يتفاعلان ويؤثران ببعضهما البعض إنطلاقاً من هذه العلاقة الملزمة، وإن لم تساوِ بينهما، فالبناء التحتي هو الأساس بالنسبة للبناء الفوقي الذي بدوره يلعب دوراً حاسماً في عديد الأحيان في دينامية وتطور البناء التحتي، كما هو حال «الدولة» (المحتسبة على البناء الفوقي) على سبيل المثال من زاوية تأثير الدولة في دينامية وتطور علاقات الإنتاج والتبادل (والتداول)، ودور طبقات إجتماعية بعينها في كل هذا■

(3)

العلاقة بين البنائين التحتي والفوقي

■ العلاقة بين البنائين التحتي والفوقي تكون بالنسبة لبعض القضايا علاقة المتبوع بالتابع، أي أن البناء التحتي يستدعي بعض التجليات على مستوى البناء الفوقي (في القضايا الثقافية، والجمالية، وغيرها..) التي تتسق معه، ولو بعد حين.

وكذلك الأمر، بالإمكان أن تكون العلاقة بين البنائين التحتي والفوقي – في أحيان أخرى– قائمة على علاقة الأساسي بالحاسم، فمحرك التطور في المجتمع ليس البناء الفوقي، بل البناء التحتي، لكن الأخير لا يفرض نفسه ولا يكتمل شرطه إلا بتطور موازٍ أو لاحق للبناء الفوقي، وبالتحديد على مستوى السلطة السياسية؛ فالثورة الفرنسة- 1789 (التي أحدثت تغييراً جذرياً على بنية الدولة ومنظومتها القانونية، الفكرية، الخ..) تؤَّجت إنتصار البورجوازية (أي نمط الإنتاج الرأسمالي) على طبقة النبلاء المتحالفة مع الإكليروس (أي نمط الإنتاج الإقطاعي)، وثبتت صيغة الدولة التي تعكس السلطة السياسية للطبقة المسيطرة إقتصادياً (البورجوازية)، أي الطبقة الأساسية في المجتمع بحكم أسلوب الإنتاج السائد.

الثورة الفرنسية كانت ضرورية لحسم المضمون الطبقي للسلطة الحاكمة وشكلها (من خلال الدولة) المنسجم مع أسلوب الإنتاج الصاعد، أي أسلوب الإنتاج الرأسمالي.

■ البناء التحتي (الأساس، البنية التحتية) في المجتمع يضم مجمل علاقات الإنتاج بين الناس التي تنشأ وتتشكل في سياق عملية الإنتاج (والإستهلاك والتداول/ التبادل) وإعادة الإنتاج للشروط المادية لحياتهم.

في هذا السياق، يظهر البناء الفوقي في المجتمع كشكل أيديولوجي، سياسي– قانوني للمضمون الإقتصادي لحياة المجتمع (أي حياته الإجتماعية)، حيث يتمتع البناء الفوقي باستقلالية نسبية عن البناء التحتي، إنما على قاعدة وفي إطار الإرتباط العام للبناء الفوقي بالبنية التحتية.

هذه الإستقلالية النسبية هي التي تفسر بقاء بعض مظاهر البناء الفوقي (مثلاً: التقاليد، السلوك، الذائقة الجمالية والفنية..) على قديمها لفترة – قد تطول – من الزمن، حتى بعد وقوع التغيير في البناء التحتي، دون أن يلغي ذلك صحة القاعدة العامة التي تنص على لحاق مختلف مظاهر وتعبيرات البناء الفوقي، في نهاية المطاف، بالتغيير الحاصل في البناء التحتي■

(4)

التمايز في الإرتباط العام بين البنائين التحتي والفوقي

■ الإرتباط العام بين البنائين (التحتي والفوقي) لا يضع مختلف مكونات البناء الفوقي (الدولة، القانون، الدين، الفلسفة، الفن، الخ..) على نفس السوية؛ فهذه المكونات ترتبط فيما بينها ومع البنية التحتية بطريقة مختلفة: فالدولة، والقانون بمؤسساته، والمنظمات السياسية... ترتبط مباشرة بالبنية الإقتصادية (البناء التحتي) للمجتمع؛ بينما المكونات الأخرى (الفلسفة، الدين، الفن،..) تكون على مسافة أبعد من البناء التحتي الذي ترتبط به بشكل غير مباشر. وبقدر ما ترتبط مكوِّنات البناء الفوقي بشكل مباشر بالبناء التحتي، يتضح على نحوٍ جلي مدى عمق وتفاعل علاقة الأساسي بالحاسم بالنسبة لهذين البنائين (أو البنيتين).

■ الترابط بين البنائين من جهة، واستقلالية الفوقي عن التحتي نسبياً من جهة أخرى، يفتح على التأثير العكسي النشط للوعي الإجتماعي على الوجود الإجتماعي، دون أن يلغي ذلك المبدأ الأساس في المادية التاريخية الذي يُعبِّر بإيجاز عن جوهر المفهوم المادي للتاريخ، وهو: الوجود الإجتماعي يحدد الوعي الإجتماعي.

من هنا، الخلاصة المهمة بالنسبة للمناضلات والمناضلين في صفوف الحركة الجماهيرية: الوعي الإجتماعي (الطبقي) له قدر واضح من الإستقلال النسبي لتأثره بمكونات البناء الفوقي الناتجة – مثلاً – عن التعليم واكتساب المعرفة في مختلف مجالاتها، أو/ و عن الممارسة المجتمعية الملموسة، الخ..

■ أما التشكيلة الإقتصادية – الإجتماعية، فهي نتاج للبنية التحتية (أسلوب الإنتاج) والبنية الفوقية (منظومة الأفكار ومؤسساتها)، وهي مجتمع «في مرحلة معيّنة من تطوره التاريخي».

ومن هذه الزاوية ونظراً لملموسيتها، بالإمكان (وخاصة في بلدان المجتمعات النامية) أن يتعايش أكثر من أسلوب (نمط) إنتاج داخل تشكيلة إقتصادية – إجتماعية محددة.

في هذا الإطار، فإن تعدد أساليب (أنماط) الإنتاج قد يتجسد في بعض القطاعات الإقتصادية أكثر من غيرها، وفي بعض المجتمعات المحلية (الريفية، أو الحضرية..) أكثر من غيرها، لكن تعدد أساليب الإنتاج لا يلغي حقيقة هيمنة أحدها على غيره، على خلفية تفاعل هذه الأساليب فيما بينها من خلال علاقات تعاون وصراع. مثلاً: تعدد أنماط (أساليب) الإنتاج في البلدان النامية (نمط الإنتاج السلعي الصغير..) لا يلغي هيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي على التكوين الإجتماعي، الخ...■

1991

أساليب (أنماط) الانتاج

[■ قبل ظهور الرأسمالية كأسلوب إنتاج، مرت المجتمعات البشرية بعدد من التشكيلات الاجتماعية– الاقتصادية، ساد كل منها أسلوب إنتاج مختلف عن غيره. فما هي تلك التشكيلات وكيف كان أسلوب الانتاج فيها، وكيف انتهى؟ وفيما يلي عرض مختصر لأساليب الإنتاج التي – كخط عام - تعاقبت زمنياً على عدد من مجتمعات أوروبا، كنموذج توجيهي يُسترشد به لدى عرض ومراجعة تجارب المجتمعات الأخرى:]

(1)

أسلوب الانتاج المشاعي البدائي

■ المشاعية البدائية هي الشكل الأول للمجتمع البشري، وساد فيها أسلوب الانتاج البسيط  بهدف الحفاظ على الحياة واستمرارها. تعلم الناس صنع الأدوات الحجرية، ثم تطورت أدوات العمل إلى المعدن. وكان شكل وتنظيم العمل هو التعاون البسيط بين أفراد المجتمع، وكان العمل والانتاج والتملك ينطوي على طابع إجتماعي مباشر، سادته المساواة بين أفراد المجتمع. وكان الاقتصاد عينيا، أي لا يعرف الانسان فيه النقود، ولا يعرف تبادل البضائع، فما يتم إنتاجه يجري توزيعه على أفراد المجتمع. ولم يكن هناك فائض في الخيرات المادية، يمكن امتلاكه. وبعبارة أخرى، فبسبب من بدائية القوى المنتجة، كان العمل المشترك حتمياً، ولم يكن هناك تناقض بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، وبالتالي لم يكن هناك طبقات ولا استغلال.

■ مهّد تطور أدوات العمل للانتقال إلى مرحلة أكثر تعقيدا في حياة المشاعية البدائية. وتمثلت الخطوة الأولى في نشوء قبائل تُعنى بتربية الماشية، ما أدى إلى الانفصال عن فلاحة الأرض. وهو ما سمي بـ «التقسيم الإجتماعي للعمل». وهو التقسيم الإجتماعي الأول الذي عرفته البشرية، عندما بات هناك فرعان متمايزان للإنتاج المادي: تربية المواشي، وفلاحة الارض. ومن هذا التطور برزت ظاهرة المنتوج الزائد. وبرزت ظاهرة أخرى أخذت بالتكوّن التدريجي على مستوى وجهاء العشائر والقبائل ورجال الدين، كشريحة إجتماعية متمايزة، أي بدأت بالبروز والإستقرار ظاهرة ما يسمى بـ «التمايزات الإجتماعية».

■ إكتشاف أدوات الحراثة المعدنية وغيرها من أدوات العمل، وتعميق التقسيم الإجتماعي للعمل من خلال إنفصال جديد بين حراثة الأرض، وبين ظهور الحرف، هو التقسيم الإجتماعي الثاني. أدى ذلك إلى تفسخ العلاقات الانتاجية المشاعية خاصة بعد أن ظهر دور أسرى الحروب كقوة عمل. فمع  ظهور التقسيم الاجتماعي الأول  والثاني بشكل خاص،  بات زعماء القبائل يحافظون على الأسرى كعبيد، أي كقوة عمل تستخدم في الانتاج في ظل تزايد علاقات التملك الخاصة. وهكذا، إنهارت المشاعية البدائية وحلَّ مكانها تشكيلة إجتماعية – إقتصادية جديدة، وأسلوب إنتاج جديد، هو أسلوب الانتاج العبودي■

(2)

أسلوب الانتاج العبودي

■ مع تطور التقسيم الاجتماعي للعمل ظهر التبادل في العلاقات الانتاجية وتغيّر طابع التنظيم القبلي والعشائري. زعماء القبائل، القادة العسكريون، ورجال الدين الذين أصبحوا سلطة في مجتمع جديد شكل الطور الأول في نشوء الدول. وظهرت دولة مُلَّاك العبيد لأول مرة في تاريخ البشرية. في هذا المجتمع تطورت القوى المنتجة، وشهدت تلك الحقبة تطورا في استخراج المعادن وصهرها، وإنتاج أدوات عمل أكثر تعقيداً. وتطور الإنتاج الحرفي فصُنِّعَت الأواني الفخارية والآلات المعدنية. وتطور الغزل والنسيج وشيّدت القصور والمعابد والمسارح والأهرامات، وشُقَّت الطرق وأُقيمت السدود وقنوات الري. وكانت الزراعة هي الفرع الرئيسي للإنتاج، فبرزت صناعة المواد الغذائية..

■ إتسمت هذه المرحلة باشتداد التناقضات التناحرية بين من يملك وسائل الانتاج، وبين من لا يملك سوى قوة عمله؛ بين الأسياد والعبيد.. واتسمت العلاقات الانتاجية في المجتمع العبودي بأسلوب إنتاج متميز، إتحدت فيه قوة العمل مع وسائل الانتاج بشكل قسري؛ فالكادح العبد لم يكن محروما من وسائل الانتاج وحسب، بل كان هو نفسه مُلكا للسيد المسيطر، وكان يُباع ويُشترى. ولم يكن العبد يهتم بالعمل وزيادة الانتاجية في ظروف الإرغام القسري.. واتسم المجتمع العبودي بغلبة الطابع العيني للإنتاج، حيث كانت المنتجات تنتج بغرض الاستهلاك. أما التبادل البضاعي في عصر المجتمع العبودي فكان نتاج عمل المنتجين الصغار، من فلاحين وحرفيين.

■ أدى تطور العلاقات البضاعية النقدية والتجارة إلى نشوء أولى الاشكال التاريخية للرأسمالية. وجاء نشوء طبقة التجار بمثابة التقسيم الاجتماعي الكبير الثالث للعمل، إذ بدأ التجار يضطلعون بدور السماسرة والوسطاء في تبادل البضائع. وكانوا يستخدمون رساميلهم في تسليف طبقة الأسياد مقابل فائدة مئوية على قسم من الانتاج الزائد الذي ينتجه العبيد.

هذه العوامل أدت الى تدمير الاقتصاد العبودي العيني، وقادت إلى تناقضات سرَّعت في انهيار أسلوب الانتاج هذا. إضافة إلى ذلك، أسفر الطابع القسري لعمل العبيد وعدم وجود أية حوافز مادية ومعنوية لهم، أسفر في نهاية المطاف عن ركود في الانتاج العبودي، وأدى إلى بروز تناقضات بين المدينة والريف، فالمدن كانت مراكز للإنتاج الحرفي والتجاري، أما الريف فقد اتسم إنتاجه بتدهور الزراعة وتناقص السكان، حيث كان مصدر التجنيد للجيوش من الأرياف. أما في المدن فَحَلَّ الخراب بالحرفيين الصغار عندما بدأت منتجات الاستثمارات الكبيرة تنافس الصغيرة.

لقد لعبت العوامل الأربعة المشار إليها (نشوء طبقة التجار + تدني إنتاجية عمل جماهير العبيد +  تراجع الانتاج الحرفي الصغير وكساده + تدهور أوضاع الزراعة والفلاحين في الريف) دورا هاما في اشتداد التناقضات الداخلية للمجتمع العبودي بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، وأدى إلى تفسخه وانهياره أمام أسلوب إنتاج جديد هو أسلوب الانتاج الاقطاعي.

■ أدى انحطاط الانتاج العبودي وتعمق تناقضاته إلى احتدام الصراع الطبقي في المجتمع. فاندمجت ثورات العبيد في مجرى واحد مع نضال الفلاحين والحرفيين المفلسين. وهكذا سقط النظام العبودي وحَلَّ مكانه أسلوب جديد من الانتاج هو الانتاج الاقطاعي. وتجدر في هذا السياق الإشارة أن نمط الانتاج العبودي  لم يكن سائدا في كل البلدان كأوروبا الشمالية والشرقية على سبيل المثال، حيث انتقلت هذه البلدان من نمط الانتاج المشاعي إلى الاقطاعي دون أن تمر بمرحلة العبودية.

في أوروبا ساد نمط الانتاج العبودي في كل من روما القديمة وأثينا القديمة وبلدان الشرق كالهند، واليمن، ومصر، وبابل وغيرها، والأميركيتين، والشواهد على ذلك هي المعابد الهندية واليونانية والمسارح الرومانية، وسور الصين، وأهرامات مصر، وأهرامات المكسيك، وغيرها..■

(3)

أسلوب الانتاج الاقطاعي

■ عرف تطور القوى المنتجة زخماً جديداً في ظل أسلوب الإنتاج الإقطاعي، دعمته في ذلك إكتشافات تقنية. فقد تم ترويض مياه الأنهر والهواء كمصدرين للطاقة، فنشأت طواحين الماء والهواء والسفن الشراعية الضخمة، كما تم اكتشاف الورق والبارود في أوروبا، وحروف الطباعة وتطورت تقنيات التعدين، كما تطورت الآلات وخاصة آلات النسيج، وأصبح العمل الحرفي أكثر تخصصاً وازدادت الإنتاجية. وفي الزراعة تم إدخال الأسمدة وتحسين أنواع الحبوب والأغراس والإستعمال المكثف لحيوانات الجر في الفلاحة.

■ تميّز أسلوب الانتاج الاقطاعي بوجود طبقة تمتلك حيازات زراعية. وكان الاقطاعي يعطي مقابل بدل عيني، حصة صغيرة من الأرض للفلاح الذي كانت تربطه بالاقطاعي علاقة تبعية شخصية. إن السمات الاساسية لعلاقات الانتاج الاقطاعية هي إقتصاد السُخرة.

ما يميّز شكل المُلكية الاقطاعية عن الشكل العبودي، أنه في ظل الاقطاع، كان الفلاحون يملكون بيوت للسكن وأدوات عمل وحيوانات للجر ومواشي وبذور وأعلاف.. وغير ذلك من وسائل الانتاج. وكان جوهر الاستغلال الاقطاعي يكمن في أنه يستولي بوصفه صاحب الأرض، على الناتج الزائد الذي يخلقه الفلاح. واتسم الاستغلال الاقطاعي للفلاح بثلاثة أشكال:

- الريع بالسخرة، أي يعمل الفلاح عددا من أيام الأسبوع في أرض الاقطاعي، وبقية أيام الأسبوع في أرضه.  

- فرض أتاوات على الفلاح، أي إعطاء جزء من إنتاج الفلاح العيني إلى الاقطاعي، دون استخدام الإنتاج الخاص للإقطاعي من أرضه.

- حلول الريع النقدي محل الريع العيني مع تطور الانتاج البضاعي والتبادل، وأصبح الفلاح يقدم للإقطاعي بدلا نقديا، أي ينتج ويبيع ويحوِّل الانتاج إلى نقد يدفعه للإقطاعي. 

■ في ظل الفترة المبكرة للإقطاع، أخذت تنبعث المدن التي أصابها الانحطاط في أواخر العصر العبودي من جديد، حيث بدأت تنتشر الحرف والتجارة، وانتقل الدور الرئيسي في تطور القوى المنتجة من الريف إلى المدن. فبرزت فئة الاثرياء من التجار والحرفيين والمرابين. ومع دخول التقنيات الجديدة والمعدات الصناعية في الزراعة وفي الصناعة، وتطور الملاحة التي ساعدت في تطوير عمليات التبادل وتشكل الاسواق، بدأت التناقضات تشتد في المجتمع الاقطاعي، حيث تكوَّنت فئة جديدة تُعرف بالبورجوازية من التجار والحرفيين، واشتد التناقض بين الفلاحين والاقطاع في الارياف.

■ في بداية أسلوب الإنتاج الإقطاعي لعبت علاقات الإنتاج دوراً محفزاً في تطور القوى المنتجة. لقد كان الإقطاعي يملك أدوات الإنتاج التي تمثلت أساساً بالأرض، وعليها العاملين فيها، أي الأقنان المرتبطين بها، والمحظور عليهم مغادرتها. كما أصبح للمُنتِج حق إمتلاك حيازة صغيرة خاصة من الأرض يعمل بها أثناء الوقت الفائض من عمله عند الإقطاعي، ومن أجل ذلك كان يمكن أن يمتلك حيوان جر وأدوات عمل، وكذلك الحرفي كان يحق له إمتلاك أدوات عمل بسيطة والتصرف لحسابه الخاص في الفائض من وقته، أي أن المُنتِج كان صاحب مصلحة ما في عمله، وبالتالي في تطوير الإنتاج.

غير أنه مع التطور التقني الكبير، والتوسع الهائل في التجارة وتنوع السلع، تكثفت عملية إستقلال الفلاحين متمثلة بارتفاع الضرائب العينية، وكذلك فرض الضرائب النقدية لتلبية حاجة الإقطاعيين للسلع المستوردة، أو المصنعة في المدن، وازداد التناقض حدة بين الفلاحين والإقطاعيين؛ ومع ولادة المانيفكتورات وتوسعها وتعميمها ولدت طبقتان جديدتان: البورجوازية والبروليتاريا.

■ مع اكتشاف القارة الأمريكية في نهاية القرن الـ 15، وطريق الهند البحرية في بداية القرن الـ 16، عرفت التجارة تطوراً هائلاً، وتشكل السوق الدولي. ومع تطور الحرف والتجارة تطورت المدن وتحوّل بعضها إلى مراكز عالمية للتجارة. وأخذ عدد متزايد من التجار يوظف رأسماله في توسيع الورش الحرفية، وتحويلها إلى مانيفكتورات ذات إنتاجية متطورة، تلبي إحتياجات الأمراء الإقطاعيين المتزايدة، ولكن تلبي خاصة متطلبات السوق العالمية.

■ دخلت البورجوازية قطباً رئيسياً في الصراع مع الإقطاع، فالبورجوازية المالكة للمانيفكتورات كانت حاجتها تزداد إلى العمال الأحرار، أي غير المقيّدين بالعلاقة القانونية والفعلية مع الإقطاعي، وكذلك ازدادت حاجتها إلى سوق واسعة تتجاوز حدود الحيازات الإقطاعية، والتضييقات المفروضة في إطارها على انتقال السلع. وبات ضرورياً إستبدال علاقات الإنتاج الإقطاعية بعلاقات جديدة تتلاءم مع التطور النوعي الجديد للقوى المنتجة.

وهكذا شهدت البشرية إنهيار النظام الإقطاعي في صراعات عنيفة قادتها الطبقة البورجوازية الصاعدة، وكانت قوة الصدام الرئيسية فيها: الفلاحون والعمال والحرفيون■

(4)

أسلوب الإنتاج الرأسمالي

■ في أسلوب الإنتاج الرأسمالي يبرز الإنتاج الكبير كواحدة من السمات الرئيسية، حيث حَلَّت المصانع محل الورش الحرفية والمانيفكتورات وازداد تمركز العمل، وارتبطت حلقات الإنتاج ببعضها أكثر من ذي قبل، وبرزت أكثر من أي وقت مضى الصفة الإجتماعية للإنتاج.. وقد ساعدت الإكتشافات الجديدة على توسيع عملية التبادل داخل حدود الدولة البورجوازية الجديدة وخارجها، وانتشرت الملاحة البخارية، واكتشف التلغراف، الخ..

■ في ظل أسلوب الإنتاج الرأسمالي أصبح العامل حراً من الناحية القانونية، أي غير مرتبط قانونياً ببورجوازي محدد يعمل عنده على غرار ما كان عليه القن مع الإقطاعي. ولكن العامل – بالمقابل – بات مرتبطاً بالبورجوازية كطبقة، وهو أصبح كإنسان، لا يملك إلا قوة عمله المضطر لبيعها للبورجوازي؛ كما وتعمقت أكثر الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج على شكل ملكية بورجوازية (رأسمالية).

وقد أعطت علاقات الإنتاج الجديدة زخماً كبيراً لتطور القوى المنتجة والإنتاج عموماً، وذلك بفعل التطور العلمي وتطور تنظيم العمل وبفعل التنافس بين البورجوازيين، ولكن بشكل خاص بفعل العمل الجماعي للعمال ووتيرة الإستغلال القائمة.

■ نشأ في صلب أسلوب الإنتاج الرأسمالي، وتبلور تناقض بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج. فقد أصبح التناقض بين الصفة الإجتماعية للإنتاج، وبين الملكية الخاصة لوسائل الانتاج، تناقض تناحري بين ملايين المنتجين وأقلية من الرأسماليين الإستغلاليين. وتفاقم هذا التناقض بصورة أكثر بعدما تحوّلت الرأسمالية، إلى إمبريالية، أي عندما حلَّت الرأسمالية الإحتكارية محل رأسمالية التنافس الحر، وحصلت تطورات في بنية الرأسمالية وكانت في جوهرها دفع عملية تمركز وتركز الرأسمال إلى حدودها القصوى. وكان من نتيجة ذلك أن أصبح التناقض بين القوى المنتجة، وبين علاقات الإنتاج أكثر سطوعاً وأكثر تفجراً. إن أسلوب الإنتاج الإشتراكي هو الذي يضع حلاً لمسألة التناقض بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج من خلال إعتماد ملكية المجتمع العامة لوسائل الإنتاج بديلاً للملكية الخاصة لها■

(5)

إستدراك وتوضيح

■ أساليب الإنتاج المشار إليها والتشكيلات الإقتصادية – الإجتماعية القائمة عليها، لم تكن الوحيدة التي عرفها تطور المجتمعات البشرية، أي إن تطور هذه المجتمعات لم يجرِ على نسق واحد كحتمية تاريخية؛ فعلى سبيل المثال: مجتمعات أوروبا الشرقية والشمالية إنتقلت مباشرة إلى الإقطاع ولم تَجْتَزْ مرحلة العبودية.. كما أن مجتمعات حضارات الأنهر (الحضارات النهرية) في مصر والصين والهند وبعض البلدان الإفريقية، وبلدان أخرى في أميركا الوسطى، قد عرفت أساليب أخرى من الإنتاج تُجمل عادة بتسمية أو مفهوم «أسلوب الإنتاج الآسيوي».

■ هذه الأساليب (الأنماط) إختلفت دون شك عن أسلوب الإنتاج الإقطاعي، الذي كان الإقطاعي فيه يملك أدوات الإنتاج (الأرض أساساً) التي كان يرتبط بها القن، وهو الأسلوب الذي ساد في أوروبا أثناء القرون الوسطى بمراحلها الثلاث (المبكرة، الوسيطة، والمتأخرة) على امتداد ما يقارب الألف عام (بين العامين 500 و 1500 بشكل عام).

أما في نمط الإنتاج الآسيوي، فقد غابت عنه الملكية الخاصة للأرض، ما يجد تفسيره في ما يلي: إن خصوصية الإنتاج الزراعي في بلدان الشرق كانت مشروطة بظروف طبيعته ومناخه، وبالدور الخاص لمنشآت الري، وهي الشرط الأول للإنتاج في البلدان ذات المناخ الجاف، حيث كان الإنتاج (أي الزراعي) يتم على أيدي جماعات كبيرة من الناس، مما يساعد على رص صفوف المشاعات، ويسهِّل في الوقت نفسه عمل السلطة المركزية المستبدة (الإستبدادية) التي كانت توحد المشاعة عنوة للقيام بالأشغال العامة على نطاق البلد ككل.

■ وهكذا، ما كان يصح على الغرب (أوروبا) في تطور أساليب الإنتاج، واستتباعاً تطور التشكيلات الإقتصادية – الإجتماعية، لا يصح بالضرورة على الشرق، بما فيها بلداننا العربية والبلدان المسلمة بشكل عام، حيث ساد الأسلوب (النمط) الخراجي، وهو نمط إنتاج مشابه لنمط الإنتاج الآسيوي؛ ذلك أن الملكية الخاصة للأرض لم تكن موجودة في صدر الإسلام، فقد عارضها كل من عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب معارضة شديدة.

لم تعرف البلدان العربية والمسلمة على غرار أوروبا نمط الإنتاج الإقطاعي، أي الملكية الخاصة للأرض وما عليها. وحتى بعد أُفول نجم الدولة العباسية المركزية في عهد السلاطين، ولاحقاً في العهد العثماني، كانت الأرض ملكاً للدولة، ولم تكن الإقطاعات العقارية تعبِّر عن ملكية خاصة وثابتة للأرض، بل كانت من طبيعة أخرى، ومؤقتة، وتتغيّر بقرارات ومراسيم من السلطة المركزية في الدولة الإسلامية.

■ إن أوجه الشبه بين نمط الإنتاج الآسيوي، الذي عرفته الهند والصين مثلاً، ونمط الإنتاج الخراجي الذي عرفته البلدان العربية والمسلمة كان في غياب الملكية الخاصة للأرض؛ وبالمقابل ثمة أوجه إختلاف كبيرة في هذا المجال كذلك، خاصة وأن الوجه الأبرز للحضارة العربية الإسلامية، وفي مجال الإجتماع تحديداً، قد تحكم به بالدرجة الرئيسية تحالف المدينة مع البدو الرُحَّل، كما يؤكد عالم الإجتماع العربي المؤسس إبن خلدون في «مقدمته» المشهورة: «شكل حلف المدينة – الرُحَّل، مع حلف الفلاحين من الدولة المتحضرة الميزة الأساسية في الحضارة المغربية، كما هو الحال في الحضارة المشرقية، أي بلاد الشام». وفي هذا دليل واضح على أن نمط الإنتاج الرئيسي الذي ساد هذه البلدان لم يكن يشبه أسلوب الإنتاج الإقطاعي.

■ إن أساليب الإنتاج السابق ذكرها وبتعاقبها الزمني (مشاعية، عبودية، إقطاع، رأسمالية) والتشكيلات الإقتصادية – الاجتماعية القائمة عليها هي تلك التي عرفتها عدد من الدول الأوروبية بشكل عام، تخدم توضيح الأفكار الرئيسية التالية: ما يحدد تطور المجتمع هو أسلوب الإنتاج، وتطور المجتمع يكون – من ضمن عوامل واعتبارات رئيسية أخرى - من خلال الصراع الطبقي الإجتماعي■

1994

قضايا ومفاهيم من منظور الإشتراكية العلمية

(10 موضوعات)

(1)

مفهوم «الأيديولوجيا» في الماركسية

 [■ تميِّز النظرية الماركسية بين الـ «أيديولوجيا »، وبين «الفكر النظري العلمي». وفيما يلي توضيح لما يستند إليه هذا التمييز:]

1-■ إن كل نظرية هي، في النهاية، إنعكاس للواقع في مجال الوعي. وكل تفكير نظري هو محاولة لوعي الواقع من خلال «تجريده» (أي الإنتقال به من الملموس إلى المجرد، واستخدام وسيلة الفكر من أجل وعي الملموس). ولكن ليست كل نظرية، هي أيديولوجيا، فالأيديولوجيا، بالمعنى الماركسي، هي إنعكاس مشوَّه للواقع لا يقدمه بصورته الحقيقية، بل بصورة تُحرِّفها رؤية ومصالح طبقة (أو شريحة) إجتماعية بعينها.

■ الأيديولوجيا هي «وعي زائف» للواقع، لأنها تنبثق من الشروط الإجتماعية المحددة تاريخياً لوجود طبقة ما، وتفترض ثبات هذه الشروط، ولأنها تنطلق من مصالح طبقة ما، ورؤيتها الخاصة للعالم، وتجردها، ترفعها إلى مرتبة المبدأ المجرد، ثم تنفصل بها عن أساسها المادي، أي تموِّه على كونها تعبيراً عن مصلحة طبقة محددة، وتقدمها بصفتها تعبيراً عن مصلحة المجتمع الطبقي كله، أو البشرية كلها، تموِّه على كونها رؤية طبقة (هي جزء من الواقع الإجتماعي)، وتقدمها بصفتها الصورة الحقيقية للواقع الإجتماعي كله.

2-■ طالما أن المجتمع منقسم إلى طبقات، فإن تجريد رؤية ومصالح طبقة معينة، وتقديمها بصفتها الصورة الحقيقية للواقع، بصفتها مصلحة المجتمع كله، لا يمكن أن يكون علمياً، أي لا يمكن أن يحيط بالواقع بكل جوانبه وتناقضاته، بل لا بد أن ينطوي على تشويه له، لا بُدَّ أن ينتج وعياً زائفاً. ولذلك، فإن: «الأيديولوجيات يمكن أن تكون رجعية أو محافظة، ويمكن أن تكون ثورية أو تقدمية، ولكنها لا يمكن أن تكون علمية».

إلا أن علينا أن نلاحظ، أن هذا يبقى صحيحاً طالما أن المجتمع منقسم إلى طبقات، أي طالما يقوم النظام الإجتماعي على استغلال طبقة لطبقة أخرى. ذلك أن البشر (الجماعات، وليس بالضرورة الأفراد) يتشكل وعيهم إنطلاقاً من موقعهم الإجتماعي، ومصالحهم.

■ الطبقات التي ترتبط مصالحها بنظام الإستغلال (أي بانقسام المجتمع إلى طبقات) لا يمكن أن تبلور وعياً علمياً للواقع الإجتماعي. وحتى عندما تكون تقدمية، فإن وعيها يبقى بالضرورة «أيديولوجيا». ويكون الوعي الأيديولوجي رجعياً، عندما يعبر عن رؤية طبقة أو شريحة ترتبط مصالحها بالعودة إلى نمط سابق (مندثر) من أنماط الإستغلال؛ ويكون محافظاً، عندما يُعبِّر عن رؤية طبقة أو شريحة إجتماعية ترتبط مصالحها بالحفاظ على نمط معيِّن سائد من أنماط الإستغلال؛ ويكون على العكس ثورياً وتقدمياً، عندما يعبر عن رؤية طبقة أو شريحة ترتبط مصالحها بولادة نمط جديد من أنماط المجتمع الطبقي القائم على الإستغلال.

■ الحقيقة أن كل تغيير إجتماعي رئيسي في مسار التاريخ الإنساني، إقترن دوماً بقفزة كبرى إلى الأمام على مستوى المعرفة البشرية، في مجالات الفلسفة والعلوم الطبيعية والإجتماعية، أي أنه اقترن بتقدم جوهري في مستوى وعي البشر للعالم الذي يعيشون فيه. ولكن هذا الوعي يبقى، في جوانب رئيسية منه على الأقل، وعياً أيديولوجيا، طالما بقي يعكس رؤية ومصالح طبقات، يرتبط وجودها، ومصالحها، ببقاء المجتمع الطبقي القائم على استغلال طبقة لطبقة.

3-■ إن تجاوز مرحلة «الوعي الأيديولوجي» في تطور الفكر البشري يصبح ممكناً، تتوفر شروطه، عندما يؤدي نمو قوى الإنتاج، وارتقاء المجتمع الطبقي، إلى ولادة طبقة تستطيع أن تحرر نفسها من الإستغلال، أي تستطيع أن تتحول إلى طبقة سائدة، ولكنها لا تستطيع أن تفعل ذلك، إلا بإلغاء نظام الإستغلال كله: طبقة ترتبط مصالحها جذرياً بزوال المجتمع الطبقي، بانتهاء إنقسام المجتمع إلى طبقات. ولقد ولدت هذه الطبقة بالفعل عندما ارتقت الرأسمالية بتطور قوى الإنتاج إلى مستوى أصبح معه إلغاء نظام الإستغلال ممكناً من جهة، وأصبح ضرورياً لتقدم البشرية، من جهة أخرى.

وبذلك ظهرت إلى الوجود تلك الطبقة التي ترتبط مصالحها إرتباطاً وثيقاً بضرورة إحداث هذه النقلة الكبرى في تاريخ البشرية، بضرورة إلغاء نظام الإستغلال، إلغاء المجتمع الطبقي، إنهاء إنقسام المجتمع إلى طبقات، الطبقة التي تملك مقومات التحول إلى طبقة سائدة، ولكنها عبر هذا الفعل نفسه توفر الشروط لإلغاء نفسها كطبقة، وإلغاء المجتمع الطبقي كله.

■ وهكذا، فإن الشروط التاريخية لنهاية «عصر الأيديولوجيات» توفرت منذ أن برزت إلى الوجود الطبقة العاملة. وبدأت نهاية عصر الأيديولوجيات منذ أن بلورت الطبقة العاملة رؤيتها الطبقية الخاصة، رؤيتها العلمية إلى العالم، أي منذ أن أعلن ظهور الإشتراكية العلمية (الماركسية) إفتتاح حقبة جديدة من مراحل تطور الفكر الإنساني.

هذه الرؤية محكومة بأن تكون علمية، لا أيديولوجية، لأنها، كي تعبر بدقة عن مصالح البروليتاريا، محكومة بأن ترى بوضوح حقيقة انقسام المجتمع إلى طبقات، من جهة، وأن تدرك إمكانية وضرورة تجاوز هذا الإنقسام في الوقت نفسه، من جهة أخرى. وهي محكومة بأن تكون «طبقية» لأنها، أيضاً، كي تعبر بدقة عن مصالح البروليتاريا، محكومة بأن تدرك الموقع الخاص، المتميز، المستقل، للطبقة العاملة في إطار هذا الإنقسام الإجتماعي إلى طبقات، إذ فقط عبر هذا الإدراك تستطيع البروليتاريا أن تحرر نفسها، وتتحول إلى طبقة سائدة.

4-■ إذن، هذه الرؤية علمية لأنها طبقية، من جهة، ولأنها تعبر عن رؤية طبقة من طراز جديد، طبقة ترتبط مصالحها بإنهاء المجتمع الطبقي وإلغاء الإستغلال، من جهة أخرى. وهي بالتالي تفقد علميتها، وتنزلق مجدداً إلى مرتبة «الأيديولوجيا»، عندما تفقد أو تتخلى عن طبقيتها.

يبدو أن ثمة، في هذه الأطروحة، شيئاً من التناقض. نعم، ولكنه تناقض فقط على مستوى المنطق الشكلي، يحل نفسه عندما ينتقل إلى مستوى الجدل المادي. إنه يعكس تناقضاً في المسار الواقعي لحركة التاريخ، ويجد حله - أيضاً وأيضاً - عبر المسار الواقعي لحركة التاريخ. فالتاريخ هو الذي أنتج طبقة ضد الطبقات: طبقة لا يمكن أن تحقق مصالحها الطبقية الخاصة، إلا عبر السير نحو إلغاء المجتمع الطبقي، بما في ذلك إلغاء نفسها كطبقة. وهي لا تستطيع السير نحو إلغاء المجتمع الطبقي، لا تستطيع أن تتحرر وتتحول إلى طبقة سائدة، إلا بتأكيد ذاتها كطبقة، أي إلا إذا أدركت، بوعي، إستقلالها عن سائر طبقات المجتمع، وإلا إذا أدركت بوعي موقعها في المجتمع الطبقي. التاريخ إذن، هو الذي أنتج طبقة نقيضة للمجتمع الطبقي، وقادرة على إلغاء نقيضها فقط، إذا أدركت ذاتها – بالوعي والممارسة - كطبقة.

5-■ الطبقة العاملة لا يمكن أن تتحرر إلا بتحرير المجتمع كله من الإستغلال. ولكن هذا «التحرير للمجتمع كله»، الذي هو ضرورة تاريخية، لا يعبر عن مصالح المجتمع كله، بل هو ينسجم مع مصلحة طبقة ويتناقض مع مصلحة طبقة أخرى. وما لم تدرك الطبقة الثورية هذه الحقيقة، فإن تحررها لا يمكن أن يتحقق.

وهكذا، فإن الطبقة العاملة، لكي تتحول إلى طبقة سائدة على طريق إلغاء المجتمع الطبقي، ليست بحاجة إلى «أيديولوجيا». إنها، خلافاً لسابقاتها من الطبقات الثورية في التاريخ، ليست بحاجة إلى رؤية ترفع مصالحها الخاصة إلى مرتبة «المبدأ المجرد»، ثم تمّوه على جوهرها الطبقي وتعيد تقديمها بصفتها مصالح المجتمع كله. إنها بالعكس، بحاجة إلى نبذ كل أشكال الأيديولوجيات، بحاجة إلى بلورة رؤية علمية تشحذ وعيها لاستقلالها كطبقة، وللتناقض (أو التمايز) في المصالح بينها وبين سائر الطبقات، وهذه الرؤية علمية، لأنها تجاهر بطبقيتها في واقع طبقي: لأنها تكشف واقع المجتمع الطبقي على حقيقته، بعكس «الأيديولوجيا» التي تنتجها الطبقات المرتبطة باستمرار نظام الإستغلال، والتي لا تستطيع أن تُعبِّر عن مصالحها إلا بتمويه الواقع الطبقي، أي بإنتاج وعي مشوّه، وعي مزيَّف للواقع.

6-■ هكذا نستطيع أن نفهم لماذا تصرّ الماركسية الأصيلة على نفي كونها «أيديولوجيا»، على كونها «علمية»، وتصرّ في الوقت نفسه على كونها «طبقية»، فالماركسية الأصيلة هي التي أعلنت «نهاية عصر الأيديولوجيات»، هي التي دعت إلى، ومارست بحزم، نقد ونبذ كل الأيديولوجيات. ذلك ليس لأنها تتنصل من كونها «حكراً على طبقة بعينها»، كما يريد منظرو «إشتراكية الفئات الوسطى» المعاصرون، بل بالضبط لأنها تعلن كونها «نظرية طبقة بعينها»، كونها تعبر عن رؤية البروليتاريا إلى العالم، وهي رؤية محكومة بأن تكون علمية، أي أن ترى وتكشف واقع المجتمع الطبقي على حقيقته، بكل جوانبه وتناقضاته، لأن تحررها رهن بذلك.

7-■ إن عصر الأيديولوجيا  يرتبط بانقسام المجتمع إلى طبقات، وطالما بقي الإنقسام الطبقي قائماً، فإن التحرر الكامل من الأيديولوجيا، أي السيادة الكاملة للعلم في وعي الإنسان لواقعه الاجتماعي، لا يمكن أن يكتمل.

وهذا يعني، أولاً، أن الصراع الأيديولوجي، الصراع بين أيديولوجيات البورجوازية، وبين رؤية البروليتاريا العلمية إلى العالم، يتواصل حتى إنهاء المجتمع الطبقي.

وهو يعني، ثانياً، أن رؤية البروليتاريا العلمية تكتمل فقط عبر السير نحو إلغاء المجتمع الطبقي، بما في ذلك إلغاء نفسها كطبقة.

■ إن النظرية العلمية للطبقة العاملة ليست معطى جاهزاً مكتملاً. إنها تتبلور وتكتمل عبر الممارسة الثورية الهادفة إلى إلغاء الإستغلال، وإنهاء المجتمع الطبقي. وهكذا، فإن الإدراك العلمي لحقيقة الواقع الإجتماعي لا يمكن أن ينفصل عن الممارسة، عن النضال من أجل التغيير، من أجل إلغاء الإستغلال. إن السمة العلمية للماركسية تكمن في إدراكها الدقيق لهذه الحقيقة.

8-■ يحسب منظرو «إشتراكية الفئات الوسطى» المعاصرون أنهم يجعلون الماركسية أكثر علمية بتجريدها من «طبقيتها»، بإعلانها ملكاً للبشرية جمعاء، لا حكراً على طبقة بعينها. والحقيقة أنهم بذلك يغادرون مواقع الماركسية والعلمية في آن. وهم يقعون ضحية الخرافة الأيديولوجية القائلة بحياد العلم (علم الإجتماع، والتاريخ، الخ..)، بكونه يكتسب صفته العلمية بوقوفه خارج الصراع الطبقي وفوق الطبقات، بتجرده من مصالح الطبقات. ولقد رأينا أين يكمن الوهم الأيديولوجي في هذه المقولة. صحيح أن العلم يكتمل بسموه فوق الطبقات، ولكن هذا لا يتم على أرض الواقع إلا بزوال الطبقات. وبالتالي، فإن سيادة العلم في وعي الإنسان لواقعه الإجتماعي لا تكتمل إلا بزوال المجتمع الطبقي. وطالما بقي الإنقسام الطبقي قائماً، فإن بلورة رؤية علمية للواقع الاجتماعي لا يمكن أن تتحقق، إلا من موقع الطبقة التي ترتبط مصالحها بزوال المجتمع الطبقي، ولا يمكن أن تكتمل إلا عبر الممارسة الثورية لهذه الطبقة في نضالها من أجل إلغاء المجتمع الطبقي القائم على الإستغلال.

■ في هذا النطاق التاريخي، نقول: لا علمية بمعزل عن الطبقية، بمعزل عن تحديد موقع في الصراع الإجتماعي الدائر بين الطبقات، ولا علمية بمعزل عن الممارسة، بمعزل عن الإنخراط في نضال الطبقة الثورية من أجل مجتمع لا طبقي. في هذا النطاق التاريخي، فإن الادعاء بإمكانية بلورة نظرية علمية ترتفع فوق الطبقات، هو بحد ذاته وهم أيديولوجي يعكس الموقع الاجتماعي لشريحة إجتماعية معينة (يسميها منظروها «الفئات الوسطى»)، وهم أيديولوجي يُعبِّر عن رؤيتها ومصالحها وموقعها الوسطي إزاء الطبقتين الأساسيتين (البورجوازية، والطبقة العاملة) في المجتمع. إن هذا الادعاء، الذي يزعم التحرر من الأيديولوجيا، هو بذاته أيديولوجيا، عنصر من عناصر الرؤية الأيديولوجية للفئات الوسطى، في تمايزها عن الرؤية العلمية للطبقة العاملة■

 (2)

الإنتهازية كظاهرة إجتماعية،

تجد جذورها في قطاعات الفئات الوسطى، وتأثيراتها

1-■ إن الإنتهازية، التي تعبر عن نفسها أيديولوجيا بالنزعة «التنقيحية» والإصلاحية، هي ظاهرة إجتماعية تجد جذورها في حقيقة «أن الطبقة العاملة، في كل مجتمع رأسمالي، تبقى محاطة دوماً بقطاعات واسعة من البورجوازية الصغيرة، من الملاك الصغار، فالرأسمالية نشأت، وهي تتوالد باستمرار، من ثنايا الإنتاج الصغير. إن عدداً من «الفئات الوسطى» الجديدة يظهر حتماً إلى الوجود، مرة بعد أخرى، في ظل الرأسمالية ... وبنفس الدرجة من الحتمية يجري طرح هذه الفئات الجديدة من المنتجين الصغار، مرة أخرى، إلى صفوف البروليتاريا. ومن الطبيعي تماماً أن تجد عقلية البورجوازية الصغيرة (رؤيتها للعالم) طريقها للتعامل والظهور، مرة بعد أخرى، في صفوف الحركة العمالية.»
 [ لينين: «الماركسية والنزعة التنقيحية»، الأعمال الكاملة باللغة الإنجليزية/ دار التقدم/ موسكو/ المجلد 15، ص 39.]

2-■ إن الفئات الوسطى التي يقود التوسع الرأسمالي (أو احتدام الأزمة الرأسمالية) إلى تدمير وسحق مصالحها ويؤدي بها إلى الخراب، تنخرط في حركة الطبقة العاملة وتتبنى الرؤية العلمية للبروليتاريا، ليس لأن هذه الرؤية تعبر عن واقعها الإجتماعي الفعلي والمصالح المنبثقة منه، بل لأنها تعبر عن «صيرورتها»، عن «مصالحها المستقبلية»، إذا جاز التعبير:

«إن الطبقة المتوسطة الدنيا، أرباب المشاغل والورش، وأصحاب الدكاكين، والحرفيين، وملاكي الأرض الصغار، يناضلون ضد البورجوازية بهدف إنقاذ وجودهم، كشرائح من الطبقة الوسطى، من الدمار والزوال. إن موقفهم هو في الجوهر محافظ، لأنه يحاول إيقاف عجلة التاريخ، أو إدارتها إلى الوراء. وعندما يصبحون ثوريين، فإن ذلك فقط بسبب تحولهم الوشيك إلى صفوف البروليتاريا. وبهذا، فهم يدافعون ليس عن مصالحهم الراهنة، بل عن مصالحهم المستقبلية. إنهم يغادرون رؤيتهم الطبقية.» الخاصة وينتقلون إلى تبني رؤية البروليتاريا.» [ماركس: «البيان الشيوعي».]

3-■ إن ظروف الانتعاش الرأسمالي المؤقت التي تتيح مجالاً لانبعاث شرائح من الطبقة الوسطى، أو ظروف تراجع الحركة العمالية وأزمتها، تعيد بعض عناصر هذه الفئات إلى موقعها الإجتماعي الوسيط، وتنعش الأوهام الأيديولوجية التي تتولد عنه. وفي هذا يكمن سبب تأرجحها.

إذن، تنتعش الظاهرة الانتهازية، وتعابيرها التنقيحية والإصلاحية، بشكل خاص في ظروف الإنتعاش الرأسمالي، أو في ظروف تراجع الحركة العمالية أو أزمتها، ذلك أن عناصر الفئات الوسطى (وبخاصة مثقفيها) التي انخرطت في الحركة إبان صعودها، تبدأ - في ظروف أزمة الحركة أو تراجعها - بالإنفصال عن المجرى العام للحركة، أو بمحاولة إخضاعها، كلها أو أقسام منها، لهيمنة أيديولوجيا  الفئات الوسطى، التي هي في جوهرها تبدو في الظاهر واقعية ومجدية، إذا كان النظام الرأسمالي يمرّ بمرحلة إنتعاش. وحينئذٍ تكتسب الانتهازية نفوذها، ليس وحسب، من تأثيرها على عناصر الفئات الوسطى المنخرطة في الحركة، بل أيضاً على شرائح عمالية عليا ذات إمتيازات، وكذلك من نجاحها أحياناً في التضليل الأيديولوجي لقطاعات من العمال والشغيلة (وهي تنجح في ذلك إذا لم يبلور الإتجاه الثوري في الحركة استراتيجية فعّالة لمواجهتها).

4-■ غير أن هذه المحاولات الإصلاحية سرعان ما يتضح عقمها، وتنفضح طبيعتها الطوباوية القائمة على الوهم الأيديولوجي، عندما يعود النظام الرأسمالي للدخول في طور إحتدام أزمته. ولكن، غنيّ عن التوضيح، أن تراجع الأوهام الإصلاحية، في ظروف إحتدام الأزمة الرأسمالية، لا يترتب عليه تلقائياً إنتعاش الاتجاه الثوري في الحركة، بل قد يؤدي إلى تفتت الحركة وتفسخها وخيبة أمل الجماهير الواسعة فيها. ويتوقف الأمر، إلى حدٍ كبير، على مدى نجاح الإتجاه الثوري للحركة في بلورة استراتيجية فعّالة للعمل، بما في ذلك استراتيجية فعّالة لإدارة الصراع الأيديولوجي، وخصوصاً في حالة تراجع الحركة وأزمتها.

■ أول مستلزمات هذه الإستراتيجية هو إدراك الأزمة: الإعتراف بوجودها ووعي عناصرها، وأسبابها، وبلورة الحلول الملموسة - الحلول التجديدية - للقضايا والحاجات الموضوعية الجديدة التي تُبرزها، والتي تمثل متطلبات موضوعية لتطور الحركة ونموها. ولكن من أبرز هذه المستلزمات، أيضاً، ضرورة رسم الخط الفاصل بوضوح بين التجديد الحقيقي، الذي ينسجم مع متطلبات نمو الحركة، وبين الأوهام الأيديولوجية الإصلاحية التي تتخذ مظهر التجديد، وترفع راياته■

 (3)

الوعي، دوره، وعلاقته بالواقع الإجتماعي

[■ إن الحقيقة الأساسية التي ينطلق منها المفهوم المادي الجدلي للتاريخ، هي أن الوجود الإجتماعي للبشر هو الذي يحدد وعيهم الإجتماعي. إن الوعي هو انعكاس للواقع الإجتماعي، ولكنه ليس انعكاساً ساكناً ومنفصلاً عن موضوعه، بل هو انعكاس جدلي، أي إنه صائر إلى التطور عبر تناقضاته، مرتبط بموضوعه، وفاعل ومؤثر في موضوعه عبر توجيهه لنشاط الإنسان الفاعل في الواقع الإجتماعي:]

1-■ إن البشر هم الذين يصنعون تاريخهم بأنفسهم وبنشاطهم الواعي، ولكنهم لا يصنعونه وفقاً لرغباتهم وأهوائهم، بل وفقاً لقوانين موضوعية تحدد إرادتهم وتوجه نشاطهم. والقوانين الموضوعية للتطور التاريخي، خلافاً لقوانين الطبيعة، لا تمارس مفعولها بمعزل عن وعي البشر، بل من خلال تحديدها لوعي البشر وممارستهم.

إن مفعول قوانين المجتمع والتاريخ لا يتخذ صفة جبرية (عمياء) كقوانين الطبيعة، إلا بقدر ما يتخلف وعي البشر عن إدراكها. إن هذه القوانين تطرح نفسها بصورة ضرورات موضوعية لتطور المجتمع والتاريخ. ولا تفرض هذه الضرورات نفسها على وعي البشر بصورة عمياء، ولا تبدو كأنها من فعل قوانين طبيعية، إلا عندما يكون الوعي عاجزاً عن إدراك هذه القوانين؛ إذ حيث أن الوعي هو إنعكاس جدلي للواقع الاجتماعي، فإنه لا يعكسه دوماً بصورة صافية، بصورة علمية، بل أحياناً بصورة مشوهة وزائفة، بصورة «أيديولوجية». ويعود هذا التشويه إلى سببين: أساسي وثانوي.

2-■ السبب الأساسي هو إنقسام المجتمع، في حقبة معيَّنة من حقبات التطور إلى طبقات؛ فالبشر، في سياق إنتاجهم للخيرات التي تُشبع حاجاتهم المادية والروحية، يدخلون في علاقات إجتماعية محددة بين بعضهم البعض، وبينهم وبين الوسائل التي يستخدمونها في عملية الإنتاج. وهذه العلاقات لا تتوقف على إرادتهم، بل على مستوى تطور قُدرتهم على الإنتاج، مستوى تطور قواهم المنتجة. ومنذ أن تطورت قوى الإنتاج إلى المستوى الذي سمح للإنسان بأن ينتج فائضاً يزيد عن حاجته الضرورية للبقاء، بدأ انقسام المجتمع إلى مجموعات من البشر تتباين مواقعها في العلاقة بالوسائل التي تُستخدم في الإنتاج، وفي العلاقة المتبادلة بين بعضها البعض في سياق عملية الإنتاج، وتتباين بالتالي في أسلوب حياتها ونصيبها من الفائض الإجتماعي.

هنا، بدأ إنقسام المجتمع إلى قوى إجتماعية متصارعة، إلى طبقات - أو شرائح من طبقات - تتصارع، وتستغل بعضها بعضاً، من أجل التحكم بفائض الإنتاج الإجتماعي. والقوى الإجتماعية المتصارعة يتشكل وعيها الجماعي إنطلاقاً من موقعها في إطار علاقات الإنتاج، وبالتالي من مصالحها. وهي إذن، لا ترى الواقع الإجتماعي، بالضرورة كما هو في حقيقته، بل هي تراه من خلال مصفاة مصالحها ونمط حياتها وموقعها في عملية الإنتاج، موقعها في إطار علاقات الإنتاج الإجتماعية السائدة. فالطبقات والقوى الإجتماعية التي يرتبط وجودها ومصالحها بنمط معين من الإستغلال، تنتج بالضرورة وعياً مشوهاً ومزيفاً للواقع الإجتماعي، والطبقة التي ترتبط مصالحها بإلغاء نظام الإستغلال كله، هي التي تستطيع أن تنتج وعياً علمياً للواقع الإجتماعي.

3-■ أما السبب الثانوي لتشوه وعي الإنسان لواقعه الإجتماعي، فهو أن الوعي، بعلاقته الجدلية مع الواقع، يكتسب - بعد نشوئه إنعكاساً لواقع معين - إستقلالاً نسبياً عن حركة الواقع الذي انبثق منه. إن تغير الواقع لا يؤدي تلقائياً إلى تغيير الوعي. فالوعي، مثل كل ظاهرة إجتماعية، يتطور ويرتقي عبر تناقضاته، ووفق قوانينه الجدلية الخاصة. وحركة تطور الوعي ليست مستقلة تماماً عن حركة تغير الواقع الإجتماعي، بل هي جزء منها وانعكاس لها. ولكنها ليست إنعكاساً ساكناً ومنفصلاً عن موضوعه، بل هي إنعكاس جدلي مرتبط بموضوعه، متأثر وفاعل فيه بنفس الوقت. وبهذا المعنى، فإنه يكتسب إستقلالاً نسبياً عن موضوعه. إن ظواهر الوعي (أي ما ينتسب إلى البنى الفوقية للمجتمع: معايير الأخلاق والسلوك الإجتماعي، والمعتقدات الدينية والفلسفية، والتنظيم السياسي والقانوني والحضاري، الخ..) تبقى قائمة حتى بعد زوال أو تغير الأساس الاجتماعي الذي انبثقت منه؛ فهي تكتسب مضامين جديدة، ثم تبدأ تذوي وتضمحل تدريجياً، ولكنها في سياق هذه العملية، تترك أثرها في صوغ الأشكال والقوالب التي تتجلى من خلالها الظواهر الإجتماعية الجديدة.

4-■ إن الضرورة الموضوعية تفرض نفسها على وعي الناس، تشكل وعيهم لواقعهم الإجتماعي، بصورة عمياء، بصورة تبدو وكأنها من فعل قوانين طبيعية، فقط عندما يعجز الناس عن إدراكها. «الضرورة عمياء فقط بقدر ما نعجز عن فهمها» (إنجلز). ويعجز الناس عن وعي الضرورة بحكم واقعهم الطبقي. ولكن الضرورة تفقد صفتها كضرورة عمياء بقدر ما يتطور وعي الناس لواقعهم الإجتماعي. إن الوعي لا يملك إعادة تشكيل الضرورة الموضوعية، ولكنه يملك القدرة على إدراكها، ويملك التأثير في مسار التاريخ عبر إدراكها. إذن، يمتلك الناس حريتهم ويسيطرون على مصيرهم الإجتماعي، عندما يرتقي وعيهم إلى مستوى إدراك القوانين الموضوعية للتطور وتوجيه فعلهم وممارستهم وفقها. «الحرية هي إدراك الضرورة» (إنجلز).

■ إن هذه السيطرة، هذه الحرية التي أسميناها السيادة الكاملة للعلم في وعي الإنسان لواقعه الإجتماعي، لا تصبح ممكنة إلا بزوال المجتمع الطبقي القائم على الإستغلال، وإنها تبدأ بالتبلور بتوفر الشروط التاريخية لإلغاء نظام الإستغلال وبظهور الطبقة التي ترتبط مصالحها بإلغاء المجتمع الطبقي القائم على الإستغلال. بهذا، تبدأ عملية الإنتقال من الأيديولوجيا  إلى السيادة الكاملة للعلم في وعي الإنسان لواقعه الاجتماعي. إن رؤية هذه الطبقة للعالم هي رؤية علمية متحررة من الأيديولوجيا في وعيها للواقع الاجتماعي، ولكن علميتها لا تكتمل، إلا عبر السير نحو إلغاء المجتمع الطبقي، إلا عبر الممارسة الثورية الهادفة إلى التغيير. إن هذه الطبقة هي الطبقة العاملة.

5-■ في ضوء هذا المفهوم، حللت الإشتراكية العلمية تطور المجتمع الرأسمالي، واستخلصت القوانين التي تحكم مساره، وأن التطور الهائل لقوى الإنتاج الذي يجري في إطار علاقات الإنتاج الرأسمالية، سرعان ما يدخل في تناقض وصدام مع هذه العلاقات نفسها. وبذلك، يدخل العالم حقبة من التحول التاريخي. وتتميز هذه الحقبة عن سابقاتها في تاريخ البشرية، تتميز في حقيقة أن نمط الإنتاج الرأسمالي يملي طابعاً إجتماعياً متزايداً لقوى الإنتاج، طابعاً يتناقض مع الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. من جهة، أصبحت قوى الإنتاج على مستوى من التطور يسمح، موضوعياً، بإلغاء علاقات الملكية الخاصة. ومن جهة أخرى، أصبح هذا التغيير ضرورة موضوعية لتطور قوى الإنتاج، ولتطور المجتمع البشري. وبذلك، توفرت للمرة الأولى في التاريخ، الشروط الموضوعية لإلغاء نظام الإستغلال، وإنهاء إنقسام المجتمع إلى طبقات. أصبح هذا التحول ممكناً موضوعياً، وأصبح أيضاً ضرورة موضوعية لتطور المجتمع.

6-■ إن التناقض الأساسي في نمط الإنتاج الرأسمالي (التناقض بين الطابع الإجتماعي المتزايد للقوى المنتجة، وبين علاقات الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج) يترجم نفسه تناقضاً بين العمل المأجور ورأس المال، ويتجلى – على مستوى العلاقة بين الطبقات - صراعاً إجتماعياً بين الطبقتين الأساسيتين في المجتمع الرأسمالي: البورجوازية والطبقة العاملة. وبتحول الرأسمالية - في مرحلتها الإمبريالية المتطورة - إلى نمط إنتاج سائد عالمياً، يتخذ هذا التناقض والصراع بعداً عالمياً أيضاً. إن هذا التناقض هو المحور الذي يتكثف فيه الصراع الإجتماعي، والذي تتمحور حوله سائر التناقضات والصراعات الأخرى. وبسبب من ذلك، فهو لا يتخذ دائماً شكلاً طبقوياً صافياً، بل هو يتجلى، يتمظهر، أحياناً على شكل صراعات طائفية، ومذهبية، وقومية...، إلى جانب أشكاله الإجتماعية الصريحة، التي تتزايد وضوحاً وبروزاً كلما كان المجتمع الرأسمالي أكثر تطوراً.

7-■ إن تطور هذا الصراع يجعل من الثورة الإشتراكية (أو بعبارة أدق، طالما نحن نتكلم عن العالم بأسره: يجعل من الثورة التي تضطلع فيها الطبقة العاملة بدور قيادي حاسم) ضرورة تاريخية، ضرورة يتطلبها موضوعياً تطور المجتمع وانتقاله إلى طور أرقى. عبر هذه الثورة تتحول الطبقة العاملة إلى طبقة ذات دور حاسم في المجتمع، بتولي حركتها موقعاً قيادياً في سلطة الدولة، وتبدأ بذلك مسيرة الإنتقال التاريخية إلى الإشتراكية.

إن نجاح الثورة، بالدور القيادي المذكور للطبقة العاملة، لا يعني تلقائياً قيام مجتمع إشتراكي. إنه يعني فقط بدء العملية التاريخية لولادة المجتمع الإشتراكي. فالطبقة العاملة، من خلال موقعها القيادي في السلطة السياسية، تتخذ إجراءات متوالية (متدرجة بالضرورة، وبما ينسجم مع درجة ومسار تطور القوى المنتجة في المجتمع، والبلد المعني) لتغيير علاقات الإنتاج الرأسمالية: لنزع الملكية الرأسمالية الخاصة لوسائل الإنتاج، بقدر ما تشكل هذه الملكية قيداً يحدّ من تطور قوى الإنتاج، ولتعزيز الملكية العامة لوسائل الإنتاج، أيضاً بقدر ما تشكل هذه إطاراً مناسباً لتسريع نمو قوى الإنتاج، وإجراءات لتنظيم القوى المنتجة على نحو يسمح بإطلاق تطورها المتسارع، وصولاً إلى مستوى من وفرة الإنتاج تلغي بالتدريج ضرورة الصراع الإجتماعي على الفائض، وتسمح بقيام المجتمع الإشتراكي الذي تنتفي فيه أشكال إستغلال الإنسان للإنسان، ويزول تدريجياً إنقسام المجتمع إلى طبقات.

8-■ إن الصراع بين العمل المأجور ورأس المال يجعل من هذا التحول ضرورة تاريخية، ضرورة موضوعية يتطلبها تطور التاريخ، تطور المجتمع البشري وارتقاؤه. بيد أنه لا يجعل منه حتمياً بالمعنى الجبري. فهذا التناقض، إذا لم يجد حلاً له، قد يؤدي إلى قفزات كبيرة إلى الوراء في مسار التاريخ. إن الضرورة الموضوعية، للثورة وللتحوّل الإشتراكي تترجم نفسها في المسار الواقعي لحركة التاريخ، تصبح حتمية فقط، من خلال اقترانها بوعي الطبقة العاملة لها.

■ هذا يعني وعي الطبقة العاملة لذاتها كطبقة، وعيها لدورها في مسار حركة التاريخ، ووعيها للسبل (الاستراتيجيات، والتكتيكات: وحدة أشكال النضال والتعبئة والتنظيم) التي تكفل توجيه هذا المسار، بما ينسجم مع الضرورة الموضوعية ويستجيب لها. وفي هذا السياق، ترى الإشتراكية العلمية (الماركسية) دورها، موقعها ووظيفتها، كنظرية علمية، ودليل للعمل من أجل التغيير. إنها انعكاس لواقع الطبقة العاملة وموقعها في التاريخ من جهة، ولحاجة الطبقة العاملة إلى وعي ذاتها وموقعها ودورها، من جهة أخرى. إنها انعكاس في مجال الوعي لعملية تحول الطبقة العاملة من «طبقة بذاتها» إلى «طبقة لذاتها». وهي – ككل العمليات التاريخية – تجري، تتطور، ترتقي، وتكتمل عبر الصراع والتناقض.

9-■ هنا، يتحدد موقع الإشتراكية العلمية (الماركسية)، بكونها نظرية تعكس رؤية الطبقة العاملة لنفسها وللعالم، نظرية تعبر عن وعي البروليتاريا لذاتها، وللعالم المحيط بها، ومسار تغيره، ولموقعها في هذا العالم في مسار تغيره. وهو «وعي» ما كان له أن ينشأ لولا نشوء الطبقة العاملة نفسها كظاهرة إجتماعية مادية، ولا يمكن بالتالي فصله عن هذه الظاهرة؛ فالماركسية هنا، هي تعبير «في مجال الوعي» عن حقائق مادية: عن موقع الطبقة في عملية الإنتاج وعلاقاته، موقعها في المجتمع، نمط وشروط حياتها الاجتماعية، وعن مصالحها التي منها تنبثق إرادتها للنضال من أجل التغيير، وليس من أية أيديولوجية، أو فكرة مسبقة.

■ لقد أوضحنا سابقاً كيف أن هذا الوعي محكوم بأن يكون علمياً وطبقياً في آن معاً. هنا أيضاً تتحدد وظيفة الإشتراكية العلمية، التي لا انفصام لها عن موقعها: بكونها دليل عمل للطبقة العاملة في نضالها من أجل التغيير. إنها تكشف للطبقة عن تمكنها من وعي الضرورة الموضوعية للتغيير، تعبيء قواها وقوى حلفائها في الصراع من أجل التغيير، تجابه وتدحض التأثيرات الأيديولوجية الغريبة التي تمارسها الطبقات الأخرى داخل صفوف الطبقة العاملة، والتي تعطل وتشل قدراتها الكفاحية، وأخيراً ترشدها إلى السُبل والاستراتيجيات الأجدى، والأكثر فعالية في النضال من أجل التغيير، بما ينسجم مع إدراكها لقوانين التغيير الموضوعية.

10-■ في ضوء هذا المفهوم لدور الوعي وعلاقته بالواقع الإجتماعي المادي، يتضح كم هو منافٍ للعلم وللجدلية، ذلك المنهج الذي يحاول تفسير المنحى الواقعي لمسار عملية الإنتقال إلى الإشتراكية، بالبحث عن أسبابه ودوافعه بشكل رئيسي في ظواهر تنتمي إلى عالم الوعي: في النظرية، أو في الأخطاء والإنحرافات عنها، وذلك لسببين:

– أولاً- يتجاهل هذا المنهج المثالي أن ذلك الجزء من النظرية (الماركسية الأصيلة) الذي يعالج قوانين عملية الانتقال إلى الإشتراكية، هو أكثر أجزائها فقراً وعمومية وتجريداً. ولا مناص من أن يكون كذلك بسبب من حدوده التاريخية، الحدود التاريخية لأي فكر علمي. وتوفّر التجربة التاريخية الآن، الإمكانية لتصويب هذا الجزء من النظرية الماركسية، ولتدقيقه وإغنائه، لجعله أكثر ملموسية وأكثر اكتمالاً من الزاوية العلمية.

– ثانياً- يؤدي هذا المنهج المثالي إلى نتائج لا عقلانية ومتناقضة منطقياً. إن نشوء البيروقراطية، التي هي ظاهرة إجتماعية مادية، يجري مثلاً تفسيره، في آن واحد، بكونه نتيجة إنحراف عن نظرية ماركس حول الدولة في مرحلة الإنتقال (الإضمحلال التدريجي)، وبكونه نتيجة لتطبيق هذه النظرية (سلطة البروليتاريا) في الوقت نفسه.

وبالطريقة إياها؛ فإن نظام الحزب الواحد، إذا ما نُظر إليه بمعزل عن مضمونه الإجتماعي كتعبير عن احتكار البيروقراطية للسلطة (نيابة عن الطبقة العاملة، ثم بديلاً عنها)، يمكن تفسيره بكونه نتيجة إنحراف، أو تطبيق خاطيء لنظرية لينين حول الحزب الطليعي، وكذلك بكونه نتيجة منطقية لهذه النظرية نفسها في آن معاً.

أية قيمة علمية لمثل هكذا منهج؟ إنه مأزق لا مخرج منه سوى بالعودة إلى منهج الجدل المادي، أي بإدراك حقيقة أن الظواهر التي تنتمي إلى عالم الوعي لا يمكن تفسيرها، إلا بتحليل أساسها الإجتماعي والشروط التاريخية لنشوئها، وليس العكس، وهنا، فإن «الأخطاء والإنحرافات» المنسوبة إلى التجربة، هي بذاتها خيارات سياسية وأيديولوجية، تعكس رؤية وموقع ومصالح قوى إجتماعية معينة في ظرف تاريخي محدد، ولا يمكن فهمها إلا على هذا النحو■

 (4)

السمة النسبية والمحددة تاريخياً للماركسية

[■ إذا كانت علوم الإجتماع قادرة على إدراك حقائق الماضي والحاضر، فمن الطبيعي تماماً أنها قادرة فقط على استشفاف الاتجاه العام، المعالم الرئيسية، لمسيرة التاريخ نحو المستقبل. وإذا لم تدرك حدودها التاريخية هذه، فإنها ترتد من دائرة العلم إلى دائرة التنجيم. لذلك تُصرّ الماركسية على السمة النسبية والتاريخية للمعرفة، وعلى كونها لا تقدم وصفات جاهزة، ونهائية مكتملة، بل هي تكتمل عبر الممارسة الثورية للطبقة العاملة، عبر السير نحو إلغاء المجتمع الطبقي:]

1-■ لقد كانت هذه واحدة من الموضوعات الرئيسية للإشتراكية العلمية في سجالها مع الإشتراكية الطوباوية، التي كانت تنهمك في صوغ المخططات الخيالية لمجتمع المستقبل، وتبرير هذه المخططات باشتقاقها من منطوق «القيم المجردة» و«المثل العليا» الأزلية للإنسانية، بدل الإنهماك في تحليل علمي للماضي والحاضر، ومنه إكتشاف القوانين الموضوعية والسُبُل العملية لدفع مسار التاريخ نحو المستقبل.

ولعل حُمَّى هذا السجال ساهمت في إنتاج التبسيط المبالغ فيه، الذي يعالج به ماركس وإنجلز أحياناً عملية الإنتقال إلى الإشتراكية بعد النجاح في إطاحة سلطة الرأسمالية:

فالمسألة الرئيسية، بالنسبة لهما، كانت إرساء الأسس العلمية لبناء حركة الطبقة العاملة، وإنارة سبيلها نحو الإطاحة بالرأسمالية، وتحديد المهمات المباشرة التي تطرح نفسها فور إنجاز هذه العملية، وليس رسم المخططات لتنظيم المجتمع الإشتراكي، الذي كانا يعتبرانه، بحق، إغراقاً في الخيال الطوباوي. ولذلك، فإن نظريتهما حول مرحلة الإنتقال كانت تقتصر على تحديد، لا يخلو من التجريد بحكم حدوده التاريخية، للقوانين العامة التي تحكم المرحلة الإنتقالية على الصعيدين الإقتصادي والسياسي.

2-■ فوق ذلك، فقد بُنيت هذه النظرية حول مرحلة الإنتقال، على افتراض انتصار الثورة العمالية في عدد من أبرز البلدان الرأسمالية وأكثرها تطوراً، وفي زمن متقارب، الأمر الذي يتيح لعملية الإنتقال أن تنطلق من مستوى متقدم من التطور الإقتصادي والحضاري، وفي شروط دولية مؤاتية علماً أن هذا الإفتراض لم يكن مبرراً من الزاوية الموضوعية، أي لم ينل تزكية المسار الواقعي لحركة التاريخ. ولكنه كان مبرراً ومشروعاً من زاوية الوظيفة التي تحددها الماركسية لنفسها في تعبئة قوى الطبقة الثورية وتنظيمها لخوض الصراع.

3-■ هذه العمومية والتجريد اللذان تتسم بهما نظرية ماركس وإنجلز، حول عملية الانتقال إلى الإشتراكية، يراها البعض من نقاد الماركسية ثغرة في بنيانها الفكري، وخللاً ينتقص من سمته العلمية، ودلالة على عدم تماسكه. ولكن، إذا وضعنا جانباً فرضية العمل التي انطلقت منها هذه النظرية، فإن تفحصاً أكثر تمعنا في المسألة يكشف لنا أن هذا الخلل – هذه المساحة الناقصة في البناء الفكري– هو في الحقيقة شاهد على سمته العلمية، وليس العكس. فهو نتيجة منطقية للمفهوم الماركسي بشأن الحدود التاريخية لعلوم الإجتماع.

وعلى قاعدة هذا المفهوم، فإن الماركسية لا تدَّعي أبداً أنها مذهب متكامل، بل تُدرك أنها تتكامل فقط عبر الممارسة، وهي ترفض منهجياً تحويلها إلى وصفة جاهزة ونهائية لتنظيم مجتمع المستقبل، بل ترى وظيفتها الرئيسية في تحليل الواقع، واكتشاف قوانين تطوره، وصوغ إتجاهات العمل من أجل تغييره، واستخلاص خبرة الممارسة لتغتني بها النظرية وتتكامل وتتطور■

(5)

موقعية موضوعة «التغيير» في الماركسية

[■ من بين موضوعاته النقدية لمادية فويرباخ (Feuerbach) الفلسفية، لعل أبرزها، في فهم منهج ماركس، تلك الموضوعة القائلة: «لقد كان همّ الفلاسفة حتى الآن هو تفسير(تبرير) العالم، ولكن المسألة هي تغييره.»

لا يمكن إدراك منطق الماركسية ومنهجها إلا من مدخل هذه الموضوعة، ومن خلال إبقائها دوماً حيَّة في الذهن. ذلك أن العلم، في منهج ماركس، لا يمكن فصله عن الممارسة (Praxis) الهادفة إلى «تغيير العالم». إن هذه النظرة الثورية تَحْكُم وتَنْظُمْ مجمل تحليل ماركس لنمط الإنتاج والمجتمع الرأسمالي:]

1-■ لم يكن ماركس يهمل قدرة الرأسمالية على استنباط الوسائل للسيطرة على تناقضاتها وإيجاد المخارج من أزماتها، بل بالعكس حلل بدقة في المجلد الثالث من رأس المال، العديد من هذه الوسائل والمخارج، سواء تلك القائمة في عصره، أو تلك التي قدَّر بإمكانيتها في المستقبل، ومن بينها التوسع الرأسمالي في المستعمرات (أو البلدان التابعة)، وتشكيل السوق العالمية، الخ..

ولو كان ماركس فيلسوفاً تأملياً يرى مهمته في «تفسير العالم»، أو إقتصادياً همه تبرير النظام الرأسمالي، واستنباط الوسائل لإدارته بكفاءة، لكان استخلاصه أن على الطبقة العاملة أن تنتظر حتى تستكمل الرأسمالية استنفاذ الوسائل والمخارج الممكنة من أزماتها، قبل أن تنتقل إلى الفعل الثوري.

2-■ لم يكن ماركس فيلسوفاً متأملاً، ولا إقتصادياً في خدمة النظام الرأسمالي. لقد كان في الجوهر ثورياً. ولأنه لا يحلل النظام القائم من زاوية تبريره، ولا من زاوية «تفسيره» فحسب، بل من زاوية النضال من أجل تغييره، فإنه لم يستخلص أن علينا أن ننتظر حتى تستنفذ الرأسمالية مخارجها وإمكاناتها للتوسع، بل لقد إنصبَّ اهتمامه على بلورة البرنامج النضالي للبروليتاريا، وبلورة استراتيجيتها الثورية، في البلدان التي تطورت فيها الرأسمالية إلى حدّ النضج، من أجل الإطاحة بسلطتها.

3-■ يستطيع الإصلاحيون الجدد أن يدينوا ماركس على هذا الحماس غير العلمي، وأن ينعتوه بالنزعة الإرادوية أو الطبقوية أو ما شاؤوا من التهم. ولكن الحقيقة أن ماركس كان ماركسياً، أي منظراً ثورياً للبروليتاريا، وليس داعية لتبرير الرأسمالية. ومن هذا الموقع كان يرى واجبه، أي وظيفة نظريته، إنما تكمن في اكتشاف السُبُل الموضوعية للثورة البروليتارية، إنطلاقاً من التحليل الملموس للواقع الملموس للمجتمعات الرأسمالية في عصره. من هنا تنشأ الفكرة الشائعة بأن ماركس كان «يتوقع» نشوب الثورة أولاً في البلدان الرأسمالية المتقدمة، وأن توقعه هذا كان خاطئاً.

■ الحقيقة أن ماركس يرى الثورة الإشتراكية إستجابة لحاجة المجتمع الموضوعية إلى تجاوز الرأسمالية، يراها تنبثق من صلب تناقضات الرأسمالية التي كانت، في عصره، تتجلى – على نحو أكثر حدّة – في مجتمعاتها الأكثر تطوراً ونضجاً. وكان من الطبيعي أن تكون إستخلاصاته، بشأن برنامج الطبقة العاملة للنضال من أجل التغيير، منسجمة مع الواقع الملموس للنظام الرأسمالي في عصره، ومنبثقة من هذا الواقع.

ولذلك فإن ما يبدو وكأنه «توقع خاطيء»، أو «إفتراض لم ينل تزكية التاريخ»، هو في الحقيقة ليس سوى فرضية عمل منسجمة تماماً مع منهجه الثوري. وفرضيات العمل، في كل منهج علمي، هي أمر مشروع، بل لا غنى عنه، ولا ينبغي الحكم عليها من زاوية صحتها المطلقة، أو خطأها المطلق، بل فقط من زاوية مدى صلاحية فرضية العمل، كأداة للمعرفة والممارسة، في حدود الشروط الملوسة التي يجري تطبيق الفرضية في نطاقها.

4-■ وهكذا، فإن الخلاصات الإستراتيجية (النضالية) التي انتهى إليها ماركس من تحليل الواقع الملموس لرأسمالية عصره، بما فيها نظريته حول مرحلة الإنتقال (من الرأسمالية إلى الإشتراكية) وفرضيات العمل التي تنطلق منها، لا ينبغي الحكم عليها من زاوية صحتها أو خطأها بشكل مطلق، بل فقط من زاوية إدراك حدودها التاريخية، والطبيعة النسبية التي تمليها عليها حدودها التاريخية، من زاوية مدى صلاحيتها كأدوات معرفة وممارسة في الوضع القائم آنذاك، منظوراً إليه من خلال متطلبات نضال الطبقة العاملة من أجل تغييره■

(6)

الماركسية.. قوانين ومفاهيم جوهرية

1-■ نضع في خانة القوانين والمفاهيم الجوهرية للنظرية الماركسية التي طبقت المنهج المادي الجدلي على التاريخ، فأضحى علماً؛ أي على الواقع الإجتماعي بمختلف مراحل تطوره؛ نضع في هذه الخانة العناصر التالية:

أ) قوانين التطور الرأسمالي كما اكتشفها ماركس، وكما طورها لينين بتحليله للرأسمالية في مرحلتها الإمبريالية، وكما هي قابلة للتطوير في ضوء تحليل علمي للطور الجديد – الإمبريالي المتقدم – من مراحل التطور الرأسمالي.

ب) الدور الطليعي للطبقة العاملة في إطار نظرية الصراع الطبقي.

ج) نظرية الثورة الإشتراكية والدور القيادي للطبقة العاملة في مرحلة الإنتقال إلى الإشتراكية، أيضاً كما طورها لينين، وكما هي قابلة للتطوير في ضوء تحليل علمي لخبرة الممارسة ولواقع الرأسمالية المعاصرة.

د) قانون التطور المتفاوت الذي يحكم الرأسمالية في مرحلتها الإمبريالية، حيث أضحت علاقات الإنتاج الرأسمالية قيداً يكبح تطور قوى الإنتاج، ليس في مراكزها المتطورة فحسب، بل أيضاً في أطرافها الأقل تطوراً.

ه) نظرية الحزب الطليعي ومبدأه التنظيمي (المركزية الديمقراطية) وعلاقته بالطبقة وحلفائها.

و) المباديء العامة الأساسية لعملية الإنتقال إلى الإشتراكية وأسس المجتمع الإشتراكي، شرط إغنائها وتصويبها في ضوء حصيلة ودروس الممارسة.

2-■ نحن لا ننفي أن هذه المفاهيم الأساسية تبقى مفتوحة للتدقيق النقدي والتصويب في ضوء الحقائق التي تكشفها الممارسة، فمنذ أواخر القرن الـ 19، إعترف بعض أبرز علماء الإقتصاد البورجوازيين، وأكثرهم رصانة واستقامة، أن التحليل النقدي لمذهب ماركس لا يتمثل بدحضه، بل بتطويره وفق منطقه (أي منهجه). إن القول بأن التحليل الذي قدمته الماركسية لمرحلة معينة، وواقع معين، لا يمكن أن يبقى هو التحليل ذاته لمرحلة أخرى وواقع جديد، هو قول صحيح تماماً. وهو ينطبق بدقة على ما أسميناه بالإستخلاصات وفرضيات العمل المشروطة بزمانها ومكانها. ولكن هذا القول الصحيح، لا يُستنتج منه أن الثابت الوحيد في الماركسية هو منهجها الجدلي. فهذه النقلة المفاجئة في الإستنتاج تنطوي على التلاعب بكلمات «المرحلة»، و«الواقع»، واستخدامها بمعانٍ مختلفة، وهي تفتح الباب على مصراعيه للتنقيح الإنتقائي.

■ لنأخذ على سبيل المثال قانون القيمة. إن هذا القانون، كما صاغه ماركس، ينطبق مفعوله – كما أوضح ماركس– على جميع أشكال ومراحل الإنتاج البضاعي، وينتفي مفعوله بزوال الإنتاج البضاعي. إنه قانون مشتق من تحليل الإنتاج البضاعي كمرحلة من مراحل تطور قوى الإنتاج. ولكن مفعول هذا القانون ينطبق على مراحل ما قبل الرأسمالية، بقدر ما ينشأ فيها إنتاج وتبادل بضاعي، وينطبق على مرحلة الرأسمالية، ويبقى يحتفظ بدرجة معيّنة من مفعوله طيلة مرحلة الإنتقال إلى الإشتراكية.

هل يصحّ إذن أن نقول أن مفهوم ماركس للقيمة ليس ثابتاً، لأنه ينبثق من «تحليل مرحلة» معينة؟ بالتأكيد لا يصح ذلك. فالصحيح أنه ثابت، بمعنى صالح كأداة للمعرفة، طالما – وبقدر ما – يستمر الإنتاج البضاعي. وكذلك الأمر، عند فحص قانون فائض القيمة الذي يبقى ثابتاً طالما استمرت «مرحلة» نمط الإنتاج الرأسمالي.

3-■ وهكذا نستطيع أن نكتشف في الماركسية الكثير من «الأشياء» التي تبقى ثابتة (مرة أخرى: بمعنى كونها صالحة كأدوات معرفية) إلى أن يقوم المجتمع اللاطبقي، أي إلى أن ينتهي إنقسام المجتمع إلى طبقات بصفته مرحلة من مراحل تطور التاريخ الإنساني.

إن تطوير هذه القوانين والمفاهيم الأساسية لا ينفي عنها صفة «الثبات»، لا ينفي صلاحيتها كأدوات معرفة. فعلى سبيل المثال، لم يكن بإمكان لينين أن يطور مفهوم الإمبريالية وقانون التطور المتفاوت لو أنه لم يستخدم، كأدوات معرفية صالحة، القوانين والمفاهيم الأساسية التي صاغها ماركس حول التطور الرأسمالي. وكونه استخدمها يعني أنه افترض ثباتها وصحتها، (بل وبرهن أن دخول الرأسمالية مرحلتها الإمبريالية هو تأكيد لصحتها لا نفي لها)، ولم يضعها جانباً ببساطة بحجة أنها تنبثق من تحليل مرحلة سابقة، أو بحجة أن الثابت الوحيد في الماركسية هو منهجها الجدلي■

 (7)

الإنفتاح الأيديولوجي..

إرتداد من دائرة العلم إلى دائرة الأيديولوجيا

1-■ إن الدعوة إلى «الانفتاح الأيديولوجي» تنطلق من تشويه مبتذل للفكرة القائلة بأن المنهج المادي الجدلي هو «استيعاب لكل ما هو قيِّم وإيجابي» في الفلسفة. ومصدر الإبتذال يكمن في إهمال ما هو جوهري في الفكرة،  وهو أن «الاستيعاب» ينطوي هنا على عملية نفي جدلي للفلسفة، أي على نقد منهجي لها، لا يستبقي منها سوى استخلاصها لقوانين التفكير الإنساني، قوانين الوعي وعلاقته بالواقع المادي، أي لا يستبقي منها سوى المنهج الذي ينبغي أن يَتَّبِعه الوعي من أجل إدراك الحقيقة.

■ لقد أنجزت الماركسية هذا النفي – هذا الاستيعاب لكل ما هو قيِّم وإيجابي في الفلسفة – ببلورتها لمنهج الجدل المادي. إن الالتفاف على هذا الإنجاز بتكرار الدعوة إلى «إعادة استيعاب ما هو قيِّم وإيجابي» في التيارات الفكرية البورجوازية السائدة هو ارتداد من دائرة العلم إلى دائرة الأيديولوجيا . وهو نمط من التملق الفكري لأشكال الوعي الأيديولوجي السائدة، ودعوة للمصالحة معها بدلاً من النقد المنهجي لها. وهو تملق يفتح الباب لشتى وأسوأ أشكال الإنتقائية والميوعة الفكرية. ذلك أنه يُبقي الباب مشرعاً على مصراعيه أمام السؤال: ما هو القيِّم والإيجابي الذي ينبغي استيعابه؟ وكيف يتم تحديد هذا القيِّم والإيجابي عبر استخدام منهج الجدل المادي؟ ولكن هنا بالضبط تكمن المسألة.

2-■ إن التيارات الفكرية الأخرى تتكون من منهج فلسفي، يُستخدم لتبرير منظومة من الأطروحات التي تعكس واقع ومصالح طبقة أو شريحة إجتماعية معينة. لا شك أن هذه الأطروحات تنطوي على قسط من الحقيقة، ولكنها حقيقة مجزأة وحيدة الجانب وموظفة لتبرير رؤية ومصالح طبقة أخرى. كيف يمكن لفكر الطبقة العاملة أن يستوعب هذه الأطروحات؟ كيف يستوعب الحقيقة فيها؟ علماً أن هذه الحقيقة، وفقاً لمنهج الجدل المادي، وحتى «تُستوعب» يجب أن تكون معروفة من خلال تحليل الواقع، وليس من خلال «استيعاب» الأفكار التي تزيف الواقع.

يبقى إذن المنهج الفلسفي لهذه التيارات الفكرية. وهل ثمة من يستطيع بجدية أن يدعو منهج الجدل المادي إلى استيعاب عناصر من المنهج الفلسفي لهذه التيارات، بعد أن أسس نفسه على نفي جدلي لذروتها، لقممها العملاقة، على غرار ما مثلته فلسفة هيجل (Hegel) على سبيل المثال.

 3-■ ينطبق الحكم نفسه على الدعوة إلى «استلهام التراث واستيعاب ما هو قيِّم وإيجابي فيه». فهذه الدعوة هي أيضاً ليست سوى دعوة إلى البلبلة والميوعة الفكرية. لا شك أن تراثنا العربي والإسلامي ينطوي على ثروة غنية من المعرفة، التي ما تزال مدفونة وسط غَمامات من الضباب، والوهم الأيديولوجي، والأحكام المسبقة.

لا شك أن دراسة علمية جادة لهذا التراث هي مسألة تطرح نفسها بإلحاح على جدول أعمال الفكر الماركسي العربي. ولكن الدعوة المتملقة إلى «استلهام التراث»، لا تُسهم في الحثّ على هذه الدراسة، بل تقطع الطريق عليها. فالمسألة تكمن بالتحديد في الإجابة على السؤال: ما هو الإيجابي والتقدمي في التراث، والذي ينبغي استلهامه؟

■ هذا السؤال لا يمكن الإجابة عليه سوى بتحليل علمي للمسار الواقعي لحركة الفكر في التاريخ العربي والإسلامي، يجري في سياقه تحديد الدور الذي لعبته الأفكار المهمة التي ينطوي عليها التراث في مسيرة هذا التاريخ. وتتوقف علمية هذا التحليل في النهاية على المنهج الذي يُستخدم فيه. فمن زاوية المنهج الإشتراكي الطوباوي قد تبدو الدعوة القرمطية، مثلاً، بصفتها دعوة إشتراكية تعبر عن «حلم البشرية الأزلي في المساواة». ولكن تحليلاً تاريخياً يستند إلى منهج الجدل المادي قد يترتب عليه إكتشاف حقيقة أن هذه الدعوة، هي دعوة إلى المساواة بين الأحرار على حساب الاستغلال الجماعي لعمل العبيد.

■ وهكذا نعود إلى نقطة البدء. فما هي قيمة الدعوة إلى اعتماد التراث كمرجعية فكرية، إذا تم التسليم بأن تحديد «ما هو إيجابي وتقدمي» في التراث هو بذاته بحاجة إلى مرجعية فكرية لا يوفرها التراث؟ ليس هذا النمط من التملق والمداورة الفكرية سوى إهانة للتراث وللعلم معاً. فالعلم يتطلب الصراحة والوضوح الفكري، ولا صلة له بالشطارة والمداورة وتعمد الغموض؛ بل إن احترام التراث يتطلب أيضاً الصراحة والشفافية، لا التملق والفهلوة■

(8)

الفارق بين شكل النظام السياسي،

وبين المضمون الطبقي لسلطة الدولة

1-■ يوضح «البيان الشيوعي» أن الخطوة الأولى للعملية الثورية (المؤدية إلى ولادة المجتمع الإشتراكي)، تبدأ «بأن ترتقي البروليتاريا إلى موقع الطبقة الحاكمة، بأن تربح معركة الديمقراطية. إن البروليتاريا (الظافرة) تستخدم سيادتها (هيمنتها) السياسية من أجل انتزاع كامل رأس المال، بخطوات متدرجة، من أيدي البورجوازية، من أجل مركزة جميع أدوات الإنتاج بأيدي الدولة، أي بأيدي البروليتاريا التي نظمت نفسها كطبقة حاكمة، ومن أجل الارتقاء بتطور القوى المنتجة بأسرع وتيرة ممكنة».

وفي «نقد برنامج غوتا» (Gotha) يوضح ماركس أن عملية ولادة المجتمع الإشتراكي من رحم المجتمع الرأسمالي تمر بفترة «مخاض عسير» طويلة، إذ أنه «بين المجتمع الرأسمالي والمجتمع الشيوعي تقع فترة التحويل الثوري للأول إلى الأخير. وتتطابق مع هذه أيضاً فترة انتقال سياسية، حيث الدولة لا يمكن أن تكون سوى الدكتاتورية الثورية للبروليتاريا».

2-■ ينبغي قراءة هذين الإقتباسين في ضوء الملاحظتين التاليتين:

– الأولى، هي أن ماركس، في «نقد برنامج غوتا» يتحدث عن «المجتمع الشيوعي» بصفته يتكون من  مرحلتين: المرحلة الأولى وهي المرحلة التي اصطلح على تسميتها فيما بعد بمرحلة «المجتمع الإشتراكي»؛ والمرحلة العليا والأخيرة، وهي التي تسمى الآن المرحلة الشيوعية. وبالتالي، فإن «فترة الإنتقال» التي يتحدث عنها هنا، والتي يحدد البيان الشيوعي مهماتها الرئيسية بدقة، هي مرحلة الإنتقال من الرأسمالية إلى الإشتراكية، أي المرحلة التي تفصل بين الإطاحة بالرأسمالية وبين اكتمال ولادة المجتمع الإشتراكي، وليست هي مرحلة المجتمع الإشتراكي نفسها،كما يحسب بعض الذين يقرؤون ماركس قراءة سريعة. إن قراءة مدققة لكراس «نقد برنامج غوتا» تؤكد هذا الاستنتاج.

– والملاحظة الثانية، هي أن مفهوم «الدكتاتورية الثورية» هنا، لا علاقة له بالتعارض الشائع بين الديمقراطية والدكتاتورية. فهو لا يتحدث عن شكل النظام السياسي السائد، بل عن المضمون الطبقي لسلطة الدولة. وهو ينبثق من التحليل الماركسي لظاهرة الدولة (السلطة السياسية) بصفتها جهازاً خاصاً (جهازاً محترفاً و«منفصلاً» عن المجتمع، بالمعنى النسبي بالطبع)، وظيفته فرض القانون السائد بالقوة. وبما أن القانون السائد، في أي مجتمع طبقي، هو القانون الذي يعبر عن، ويحمي، مصالح الطبقة السائدة، فإن كل شكل من أشكال الدولة بصرف النظر عن النظام السياسي، هو في الجوهر دكتاتورية طبقة، أو تحالف طبقات ضد طبقة، أو ضد تحالف طبقات.

3-■ هكذا، فإن الدولة الديمقراطية البورجوازية – بفعل وظيفتها في حماية وفرض سيادة القانون الذي يحمي الملكية الخاصة، سواء فعلت ذلك باللجوء إلى القوة السافرة، أو بأية وسيلة أخرى – هي في الواقع دكتاتورية الأقلية من مالكي وسائل الإنتاج على الأغلبية من المجردين (المحرومين) من مُلكية وسائل الإنتاج. وينجم عن ذلك، أن مفهوم دكتاتورية البروليتاريا لا يحدد، بالنسبة لماركس، شكل ممارسة السلطة السياسية (أو شكل النظام السياسي السائد)، بل هو يتعلق حصراً بمضمونها الطبقي. إنه مجرد تعبير آخر، بصياغة مختلفة، عن موضوعة «فوز البروليتاريا بمعركة الديمقراطية، وانتقالها إلى موقع الطبقة الحاكمة»، حيث تستخدم سلطة الدولة لفرض سيادة قانونها الذي يسمح بنزع «ملكية غاصبي الملكية»، والذي يحمي الملكية العامة لوسائل الإنتاج.

■ إن ماركس، في تحليله لتجربة كومونة باريس- 1871، يعتبر أن هذه الدولة الجديدة، رغم وصفها الصريح بأنها دكتاتورية طبقة ضد طبقة أخرى، يمكن – بل ويجب – أن تمارس سلطتها عبر أشكال من الديمقراطية السياسية، هي أوسع وأغنى وأكثر عمقاً وشمولاً من أكثر أشكال الديمقراطية البورجوازية تطوراً؛ بل يذهب إنجلز، في نقده لـ «برنامج إيرفورت» (Erfurt)، إلى حدّ القول، إن الجمهورية الديمقراطية، بعد إنهاء الهيمنة الإقتصادية للبورجوازية، تصبح هي الشكل المحدد الملموس الذي تمارس من خلاله الطبقة العاملة سلطتها.

■ لذلك، يقول إنجلز عن هذه الدولة الجديدة، إنها بمجرد أن تستكمل مهمتها في إعادة وسائل الإنتاج إلى أيدي المجتمع، تفقد صفتها كدولة بالمعنى الحرفي للكلمة، أي كجهاز خاص لفرض القانون بالقوة، وتبدأ بالإضمحلال التدريجي: «إن الإجراء الأول الذي تؤكد من خلاله الدولة حقاً صفتها كممثل للمجتمع ككل، أعني الاستيلاء على وسائل الإنتاج باسم المجتمع، هو في الوقت نفسه الفعل المستقل الأخير الذي تقوم به كدولة». [ إنجلز في كتاب: «ضد دوهرنغ» (Anti - Duehring)]. ولكن هذه العملية تبدأ، طبعاً، فقط بعد استكمال ولادة المجتمع الإشتراكي■]

 (9)

حول نظرية الدولة

1-■ في كراسه «الدولة والثورة»، يقدم لينين تلخيصاً عن نظرية ماركس وإنجلز حول الدولة من خلال السجال مع المذاهب الفوضوية، بما هي شكل من أشكال الإشتراكية الطوباوية، الذي كان يتركز على نقد ودحض موضوعتها المركزية التي تنسب كل شرور الرأسمالية إلى الدولة، وترفع شعار «إلغاء الدولة» كمهمة مباشرة، وهي موضوعة يترتب عليها في الممارسة شتى أشكال السياسات المغامرة.

برهن ماركس وإنجلز، بدقة علمية، على أن ظاهرة الدولة ليست سبباً، بل نتيجة لمستوى معين من مستويات تطور المجتمع بقواه المنتجة، وأن الحاجة الموضوعية إليها تنتفي فقط، عندما تحقق القوى المنتجة درجة من النمو تسمح، ليس بإلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج فحسب، بل أيضاً بضمان المساواة الكاملة بين أفراد المجتمع في التمتع بثمار العمل الإجتماعي.

■ إن الدولة لا تُلغى، بل هي تضمحل، تزول تدريجياً. وزوالها نهائياً يرتبط بالمرحلة العليا، والأخيرة، من تطور المجتمع الإشتراكي، المرحلة الشيوعية. وأوضح ماركس، أن الطبقة العاملة تبقى بحاجة إلى الدولة ليس خلال فترة الإنتقال فحسب، بل أيضاً خلال مرحلة المجتمع الإشتراكي؛ ولكنه شكل إنتقالي من أشكال الدولة، شكل يفقد وظائفه تدريجياً ويبدأ بالإضمحلال ببلوغ المجتمع الإشتراكي ذروته الشيوعية.

2-■ حول هذه النقطة: الطبيعة الإنتقالية للدولة الجديدة، خاض ماركس وإنجلز سجالهما مع أنصار مذاهب «إشتراكية الدولة» التي كانت تتحدث عن «الدولة بشكل عام»، وعن إشتراكية يجري تحقيقها عبر «تدخل الدولة بشكل عام»، متجاهلة المسألة الجوهرية المتعلقة بالمضمون الطبقي لسلطة الدولة.

هذه المذاهب (أو النزعة) كان يترتب عليها شتى أشكال الممارسات الإنتهازية والإصلاحية في السعي إلى صفقات مع البورجوازيات الحاكمة. وأوضح ماركس أن «الدولة المعاصرة» أو «الدولة بشكل عام» هي وهم لا وجود له. وأبرز ماركس أهمية وضرورة النضال من أجل أوسع درجة ممكنة من الحريات الديمقراطية، حتى ضمن نطاق الدولة البورجوازية، ولكن دون نشر الأوهام حول طبيعتها الطبقية، كونها – بفعل علاقات الملكية السائدة – دكتاتورية الأقلية المالكة لوسائل الإنتاج ضد الأغلبية المحرومة منها. وأوضح، أنه لا يمكن الإنتقال إلى الإشتراكية إلّا عبر تغيير جوهري في المضمون الطبقي للدولة.

3-■ إن الطبقة العاملة، عندما تربح معركة الديمقراطية وتتحول إلى طبقة سائدة، لا يمكن أن ترث جهاز الدولة القديم وتسخره ببساطة لمصلحتها، بل عليها أن تتخلص من آلة القمع والمراتبية البيروقراطية القديمة، وأن تبني دولتها الجديدة الخاصة التي هي ما تزال بعد، في المرحلة الإنتقالية، بحاجة إلى جهاز خاص لفرض القانون، قانون «نزع ملكية رأس المال من أيدي البورجوازية، والتغلب على مقاومتها وتعزيز وحماية الملكية العامة لوسائل الإنتاج»، ولكنه جهاز من نوع مختلف. ذلك أن فرض إرادة الأقلية المستغِلة على الأغلبية المستغَلة بحاجة، كما يوضح لينين لاحقاً، إلى آلة قمعية معقدة ومنفصلة عن المجتمع، أما فرض إرادة الأغلبية على الأقلية فهو بحاجة فقط إلى آلة بسيطة ووثيقة الصلة بالمجتمع، آلة تنبثق من المجتمع، تخضع لرقابته الديمقراطية الواسعة، وتتجدد (أي يتغير أفرادها والقائمون عليها) وفقاً لإرادته.

4-■ ويحدد ماركس، إستناداً إلى تحليله لتجربة كومونة باريس، مواصفات هذه «الآلة البسيطة»، أي مواصفات دولة الطبقة العاملة التي فازت بمعركة الديمقراطية ونظمت نفسها كطبقة حاكمة، مواصفات دولة فترة الإنتقال التي يسميها بالدكتاتورية الثورية للبروليتاريا، يحددها بكونها تستند إلى أوسع ديمقراطية سياسية لجماهير الشغيلة تكفل مشاركتهم المباشرة في إدارة شؤون الدولة، بما في ذلك حق إنتخاب واسترجاع تفويض المندوبين والموظفين في أي لحظة، وتحديد رواتب الموظفين عند مستوى متوسط أجر العامل الماهر، الخ...

■ إن تأكيد ماركس وإنجلز على السمة الديمقراطية العميقة لدولة مرحلة الإنتقال تبلغ بإنجلز حد القول، إنها هي الجمهورية الديمقراطية بعد تجريدها من الهيمنة الإقتصادية للبورجوازية: «إن الجمهورية الديمقراطية هي الشكل الذي تتولى به الطبقة العاملة سلطة الدولة. ولقد أوضحت تجربة الكومونة أن هذه (الجمهورية الديمقراطية) هي بالفعل الشكل المعين (الملموس) لديكتاتورية البروليتاريا بعد التخلص من هيمنة البورجوازية» [ أنظر إنجلز: «نقد مسودة البرنامج الإشتراكي الديمقراطي لعام 1891».]

■ إن الحاجة إلى «جهاز خاص لفرض القانون» تنتفي، موضوعياً، عند انتهاء المرحلة الإنتقالية، عندما تكتمل ولادة المجتمع الإشتراكي من رحم الرأسمالية، عندها فقط تنتفي الحاجة إلى الدولة بصفتها أداة لفرض سيطرة طبقة على طبقة أخرى. ولكنها لا تختفي، بعد، من الوجود. إنها تفقد وظيفتها الرئيسية كأداة للسيطرة الطبقية، ولكنها تبقى تحتفظ بوظائف أخرى. وهي تبدأ تفقد هذه الوظائف تدريجياً، تبدأ في الاضمحلال والزوال، بقدر ما يقترب المجتمع من الوفرة الحقيقية في مرحلته الشيوعية، حيث يُمكن للمجتمع أن يقدم لكل فرد بقدر حاجته■

(10)

ماذا يعني أن الثورة باتت على جدول أعمال التاريخ؟

1-■ ماذا نعني بهذا العنوان على وجه الدقة؟

برهنت الماركسية أن الإشتراكية تنبثق من تناقضات الرأسمالية نفسها، وأنها حصيلة الفعل الواعي للطبقة العاملة التي هي قوة إجتماعية يولِّدها تطور المجتمع الرأسمالي ويجعل منها نقيضاً له. وحددت الماركسية لنفسها وظيفة محددة: أن تكون دليل عمل للطبقة العاملة في نضالها من أجل التغيير الثوري الذي سيحوِّل المجتمع الرأسمالي إلى مجتمع إشتراكي.

■ ماذا يعني دليل عمل؟ كيف يمكن للماركسية أن تقوم بوظيفتها كدليل عمل؟

إنه يعني رسم برنامج عمل للطبقة العاملة يتضمن توجهاتها للثورة الإجتماعية المستحقة. ولا يمكن لهذا البرنامج أن يصاغ، بشكل علمي، إلا من خلال تحليل الشروط التاريخية الملموسة المعطاة في الفترة الزمنية التي تتم فيها صياغته. بمعنى آخر، لا يمكن لهذا البرنامج أن يُصاغ، إلا إذا انطلق من فرضية عمل مؤداها أن الثورة سوف تنطلق من الشروط التاريخية الملموسة المعطاة والقائمة، إنما على قاعدة التمييز بين مسألتين: بين إدراك حقيقة أن الثورة الإجتماعية قد أصبحت مدرجة على جدول أعمال التاريخ، أصبحت ضرورة موضوعية للتطور، وبين الإعتقاد أن شروط اندلاع الثورة وانتصارها قد أصبحت ناضجة ومتوفرة في كل زمان ومكان. وهذا الإستدراك ضروري لقطع الطريق أمام احتمال التلاعب بقضية الثورة.

2-■ إن التناقض بين علاقات الإنتاج الرأسمالية وبين درجة ومتطلبات تطور القوى المنتجة، هذا التناقض يعني أن الرأسمالية قد استنفذت دورها التاريخي التقدمي، وأن الثورة الإجتماعية التي تقودها الطبقة العاملة قد أصبحت مدرجة على جدول أعمال التاريخ، أصبحت ضرورة موضوعية للتطور. وهذا يعني أن المجتمع قد دخل حقبة تاريخية من التحول الثوري، حقبة من الصراع المتفاقم بين النقيضين. ولكنه لا يعني بالضرورة أن شروط إندلاع الثورة قد أصبحت جاهزة في كل أوان. فالصراع قد يتخذ أشكالاً عدة، ويمر عبر منعطفات متنوعة، وينطوي أحياناً على فترات قد تكون مديدة من التطور السلمي، وأحياناً على فترات من الإنفجارات الثورية، والإنتفاضات، والحروب الأهلية، الخ...

3-■ تتوقف هذه المنعطفات على التغيرات التي لا مفرّ منها في نسبة القوى بين الطبقات المتصارعة، وهي تغيُّرات لا تشكل إنعكاساً تلقائياً لدرجة احتدام التناقض بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج، بل تؤثر فيها أيضاً العديد من العوامل الأخرى، التي من بينها درجة الوعي والتنظيم للطبقات المتصارعة، وخصوصاً للطبقة الثورية وحلفائها. وهذا يعني، أن أساليب النضال وأشكاله ومطالبه المباشرة، هي مسألة متغيرة ينبغي أن تشتقها حركة الطبقة العاملة من تقدير واقعي سليم لنسبة القوى الطبقية القائمة، مع إدراك كونها تتغير، وأنها قابلة للتغيير.

■ ولذلك، يحذر ماركس من نزعات المغامرة واللعب المتهور بقضية الثورة، ومن الإعتقاد أن شروطها أصبحت متوفرة في كل زمان ومكان. وكان هذا بارزاً في سجاله ضد النزعات البلانكية (الإنقلابية) والباكونينية (الفوضوية/ الأناركية)، وفي تحذيره للعمال الفرنسيين من الاندفاع نحو الثورة التي لا تتوفر شروط انتصارها، وذلك قبيل اندلاعها فعلاً عام 1871، وقيام الكومونة. ولكن ذلك لم يكن يدفعه إلى القول بأن الرأسمالية لم تستنفذ بعد دورها التاريخي في تطوير قوى الإنتاج، بل بالعكس: لقد أكد أن الثورة قد أصبحت على جدول أعمال التاريخ، وإذا كانت شروط إندلاعها وانتصارها لم تنضج بعد في وقت معين، أو بلد معيَّن، فإن هذه الشروط لا بُدَّ ستتوفر في ظرف قادم، وأن على الطبقة العاملة أن تعدّ نفسها، فكرياً وتنظيمياً، لهذا الظرف.

4-■ ما هو المطلوب لإعداد الطبقة العاملة فكرياً وتنظيمياً؟

مطلوب أولاً، برنامج عمل يُعبيء قواها، ويوضح لها المهمات المستحقة للإعداد للثورة، والمهمات المطلوبة لدفع مسيرة الثورة عند اندلاعها. وهذا البرنامج لا يمكن له سوى أن يفترض إنطلاق الثورة من الشروط التاريخية الملموسة المعطاة، وأن يحدد مهماتها إنطلاقاً من هذه الشروط. ولذلك، فإن افتراض ماركس بشأن وقوع الثورة في عدد من البلدان الرأسمالية المتقدمة هو ليس نبوءة يحكم عليها من زاوية كونها تحققت أم لا، بل هو فرضية عمل لا غنى عنها، تنبثق من صميم المنهج العلمي.

■ والحقيقة أن فرضيات العمل، هي حلقة من حلقات المنطق العلمي لا يمكن الإستغناء عنها في أي علم، بما في ذلك العلوم الصلبة، العلوم الطبيعية، فما بالكم بالعلوم الإجتماعية. ذلك، أن منهج العلم، أي علم، هو مقاربة الحقيقة عبر الممارسة وعبر تحليل دروس التجربة والممارسة. وبعد التحليل النظري للظاهرة، فإن فرضيات العمل المشتقة من هذا التحليل، هي المدخل للممارسة والتجربة، التي تقوم بدورها بتصويب أو تطوير النظرية، وهكذا... هذا ضروري في علوم الطبيعة، وهو أكثر ضرورة في علوم المجتمع. فالفرق بين العلوم الطبيعية وبين العلوم الإجتماعية، أن الأخيرة، لا تستطيع أن تعزل الظواهر وتمتحنها في مختبر.

5-■ إن الخلل في الفرضيات الذي تكشفه تجربة الممارسة هنا، قد يقود إلى تطوير النظرية وتدقيقها، ولكن ليس بالضرورة إلى دحضها. دعونا نتذكر أنه في فترة الإنبهار بالقوة المتعاظمة للإتحاد السوڤييتي في سبعينيات ق 20، كانت النبرة السائدة في بعض الأوساط، أن ماركس أخطأ في افتراض إنتصار الثورة الإشتراكية في البلدان الرأسمالية الأكثر تطوراً، وأن لينين قد صحح هذا الخطأ. أما الآن فتسود في الأوساط نفسها النبرة القائلة أن انهيار الإتحاد السوڤييتي يثبت أن لينين قد أخطأ، وأن ماركس كان مصيباً في افتراضه أن الإشتراكية لا يمكن بناؤها إلا في البلدان الأكثر تطوراً. والحقيقة أن لا هذا صحيح، ولا ذاك. فالخلل يكمن في الخلط الذي تقع فيه هذه الأوساط بين مفهومين: بين انتصار الثورة الإشتراكية بالتغيير الذي تحدثه على مستوى السلطة السياسية واستتباعاً الدولة، وبين قيام مجتمع إشتراكي. والخلل يكمن في عجز هذه الأوساط نفسها عن فهم الدور الذي تلعبه النظرية في المسار الواقعي لحركة التاريخ، إنه يكمن في منهجها المثالي الذي يحكم على النظرية، بمعزل عن المسار الواقعي لحركة الطبقة الثورية، وما يطرحه من مهمات■

1994

       

الفصل الثاني

في الإشتراكية العلمية (2/2)

■ ماركسية القرن الـ 19، ونظرية الإنتقال إلى الإشتراكية

■ النظرية اللينينية حول الإمبريالية

■ المسألة القومية والمفهوم اللينيني لحق تقرير المصير

معهد العلوم الإجتماعية

الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

ماركسية القرن الـ 19،

ونظرية الإنتقال إلى الإشتراكية

(1)

التمييز بين مرحلة الإنتقال إلى الإشتراكية،

وبين «قيام المجتمع الإشتراكي»

1-■ ينبغي التمييز بوضوح بين مرحلة «الإنتقال إلى الإشتراكية» وبين «قيام المجتمع الإشتراكي». إن هذا التمييز هو عنصر رئيسي من عناصر الإشتراكية العلمية. ولقد بدأ يعبر عن نفسه، بدرجات متباينة ومتقدمة من الوضوح، منذ أن تشكلت الإشتراكية العلمية كتيار فكري مستقل، وميَّزت نفسها عن المذاهب الإشتراكية الطوباوية. ويمكن تلخيص نظرية ماركس وإنجلز بهذا الشأن، وباختزال، على النحو التالي:

إن فترة إنتقالية تقع (تفصل) بين الإطاحة بالرأسمالية وبين ولادة المجتمع الإشتراكي، هي فترة التحويل الثوري للمجتمع الرأسمالي (المجتمع الموروث عن الرأسمالية) إلى مجتمع إشتراكي. إن مرحلة الإنتقال هي فترة المخاض العسيرة التي تمر بها عملية ولادة المجتمع الإشتراكي من رحم المجتمع الرأسمالي القديم. وهي تبدأ عندما تنجح الطبقة العاملة في «كسب معركة الديمقراطية» وتتحول إلى طبقة سائدة، وتشرع في اتخاذ إجراءات متوالية ومتدرجة من أجل «نزع ملكية غاصبي الملكية»، أي من أجل إلغاء الملكية الرأسمالية الخاصة لوسائل الإنتاج، وتعزيز الملكية للأرض وأدوات الإنتاج والتي تتخذ في البداية بالضرورة شكل ملكية الدولة، ولكن أية دولة؟ دولة الطبقة العاملة التي تنظم نفسها كطبقة حاكمة. [ راجع الموضوعة 8، في القسم بعنوان «قضايا ومفاهيم من منظور الإشتراكية العلمية» في الفصل الأول من هذا الكتاب، بعنوان: «الفارق بين شكل النظام السياسي، وبين المضمون الطبقي لسلطة الدولة».]

2-■ إن تراث ماركسية القرن الـ 19 يركز اهتمامه، في معالجته للفترة الإنتقالية، على أبرز السمات المميزة للدولة التي ستقوم خلال مرحلة الإنتقال، وعلى الاجراءات والمطالب السياسية المباشرة التي تكفل قيامها. ويجري التشديد هنا على المضمون الطبقي (البروليتاري) لهذه الدولة التي توصف بأنها أوسع ديمقراطية للأغلبية الساحقة (التي تتشكل من الشغيلة ضحايا الاستغلال، والمحرومين من ملكية وسائل الإنتاج)، والتي تستخدم السلطة السياسية للتغلب على مقاومة الأقلية المالكة لوسائل الإنتاج.

■ هذا التركيز على الجانب السياسي من مرحلة الإنتقال كان طبيعياً ومفهوماً؛ أولاً، بسبب من أولوية النضال من أجل مزيد من الديمقراطية السياسية، وكسر القيود التي فرضتها رأسمالية القرن الـ 19، في مختلف بلدانها، على حقوق الطبقة العاملة وحرياتها؛ وثانياً، في سياق السجال الذي أدارته الماركسية، وهي بعد ماتزال بصدد إرساء الأسس العلمية لاشتراكية الطبقة العاملة مع الاتجاهات الفوضوية من جهة، ومع المذاهب الانتهازية لأنصار «إشتراكية الدولة»، من جهة أخرى.

■ إن الأولوية التي احتلها هذا السجال، بمحوره الدائر حول نظرية الدولة، لم تكن تنبثق فحسب، من أهمية هذه المسألة كقضية نظرية تشكل دعامة رئيسية من دعائم الرؤية العلمية للطبقة العاملة إلى العالم، ولا من كونها مجرد مسألة علمية تتعلق بمواصفات دولة المستقبل، بل أيضاً من كونها القاعدة النظرية لبلورة موقف سليم من العديد من القضايا العملية المباشرة التي كانت تعكس نفسها على الممارسة السياسية الملموسة للأحزاب والحركات العمالية حينذاك. [ راجع الموضوعة9، في القسم بعنوان «قضايا ومفاهيم من منظور الإشتراكية العلمية» في الفصل الأول من هذا الكتاب، بعنوان: «حول نظرية الدولة».]

3-■ بقدر ما ينطوي عليه تراث ماركس وإنجلز من دقة ووضوح في معالجته للمعالم السياسية لمرحلة الإنتقال إلى الإشتراكية، بقدر ما تقتصر معالجته للقضايا والمهمات الإقتصادية – الإجتماعية لهذه المرحلة على الملامح العامة: النزع التدريجي لملكية رأس المال من أيدي البورجوازية، تحويل وسائل الإنتاج إلى ملكية عامة عبر الدولة، إطلاق العنان للتطور المتسارع لقوى الإنتاج.

وتتسم هذه المعالجة عند تناولها أحياناً للمعضلات المحددة التي تنطوي عليها هذه العملية، تتسم بدرجة من الغموض والعمومية، تصل إلى حد التبسيط، وتبدو أحياناً وكأنها تخلط – على هذا الصعيد – بين مرحلة الإنتقال إلى الإشتراكية، وبين مرحلة المجتمع الإشتراكي نفسها. ويعود هذا – جزئياً –، وعلى الرغم من إشارة ماركس العابرة إلى كونها عملية مخاض عسيرة وطويلة، إلى الافتراض السائد حينذاك، أن عملية الإنتقال إلى الإشتراكية سوف تستغرق فترة زمنية وجيزة نسبياً، بالمعنى التاريخي.

4-■ إن السمة العمومية، والحذر الشديد، اللذين يعالج بهما ماركس وإنجلز المعضلات الإقتصادية لعملية الإنتقال إلى الإشتراكية، تعود بشكل رئيسي إلى مفهومهما للطبيعة العلمية للمنهج الذي يصوغانه، وامتناعهما المتعمد عن تقديم مخططات جاهزة صالحة لكل زمان ومكان، بخاصة في الشأن الإقتصادي، الذي كانا يدركان جيداً أن الإجراءات المحددة التي ستقدم عليها سلطة الطبقة العاملة لمعالجة هذا الشأن، تتوقف تماماً على الشروط الملموسة والمستوى المُعطى لنمو القوى المنتجة، وتتطور بتطورها.

إن ماركس، وكذلك إنجلز، لا يَمِلِّان من التكرار، مرة بعد أخرى، أنهما ليسا معنيين برسم مخططات طوباوية جاهزة لتنظيم مجتمع المستقبل. ويكاد يكتسب هذا الإصرار سمة المبالغة في سياق السجال مع المذاهب الإشتراكية الطوباوية، والذي كان له أثر محوري في تطوير وبلورة نظريتهما.

5-■ لقد تركز هذا السجال على نقد ودحض تلك المذاهب التي كانت تشتق إشتراكيتها من المباديء المجردة، والقيم العليا للعدالة والمساواة، وتنهمك في صوغ المخططات الجاهزة لتنظيم مجتمع المستقبل على قاعدة هذه المباديء بدل معالجة القضايا الملموسة لنضال الطبقة العاملة من أجل التغيير. ويشدد ماركس، بالمقابل، أن الإشتراكية تنبثق من تناقضات الرأسمالية نفسها، وأنها تصبح ممكنة، تاريخياً، بفضل تطور الرأسمالية، وتصبح ضرورة موضوعية عندما تبدأ علاقات الإنتاج الرأسمالية تدخل في تناقض مع تطور القوى المنتجة وتكبحه، وتعرقله.

■ إن الإشتراكية هي حصيلة الفعل الواعي لقوة إجتماعية بعينها تولدها الرأسمالية نقيضاً لها، وهي الطبقة العاملة. هذه هي الحقائق العلمية التي كان يمكن الإنطلاق منها، حينذاك، في معالجة إتجاه التطور لمجتمع المستقبل. وفيما عدا ذلك، كما يقول لينين، « ليس ثمة ذرة من المحاولة من جانب ماركس للإغراق في تخمينات عقيمة حول ما لا يمكن معرفته»، أي ما لا تسمح الحدود التاريخية للمعرفة بالتكهن به. فحتى النظرية الماركسية حول الدولة في مرحلة الإنتقال لم تكتسب ملموسيتها، إلَّا من تحليل الخبرة التاريخية لثورات 1848 التي اجتاحت أوروبا، ولكومونة باريس - 1871■

(2)

منهج لمعالجة معضلات الإنتقال إلى الإشتراكية،

وليس معالجة ملموسة لهذه المعضلات

1-■ إن ما تقدمه ماركسية القرن الـ 19 إذن، هو ليس معالجة ملموسة للمعضلات الإقتصادية التي تنطوي عليها عملية الإنتقال إلى الاشتراكية، بل هو بشكل رئيسي منهج للمعالجة، أسلوب، طريقة يُهتدى بها لمعالجة هذه المعضلات. وهو منهج شديد الحساسية في تركيزه على نقطة جوهرية: إن الإجراءات الإقتصادية التي تتخذها سلطة البروليتاريا الظافرة في مرحلة الإنتقال يجب أن تنبثق من الشروط الملموسة والمستوى المُعطى لتطور القوى المنتجة، وأن تتطور بتطورها، وأن تكون هادفة، ومناسبة لضرورات ومتطلبات إطلاق العنان للتطور المضطرد لقوى الإنتاج بوتائر متسارعة. إنه منهج مُحكم في إدراكه لحدود ما هو ممكن لأية سلطة سياسية، مهما كانت تقدمية وثورية؛ ولأية إجراءات قانونية – سياسية، مهما كانت جذرية، أن تنجزه في ظل مستوى معين مُعطى من التطور الإقتصادي – الإجتماعي.

■ من هنا، الإصرار على الاكتفاء بتحديد الملامح العامة للمهمات المطروحة على هذا الصعيد، والتأكيد على ضرورة التدرج في الخطوات المتخذة بهذا الشأن، بما في ذلك في إنجاز مهمة « نزع ملكية غاصبي الملكية».

إن معالجة إنجلز، مثلاً، لمشكلة السكن، أو لمسألة كيفية التعاطي مع ملكية الفلاحين الصغيرة للأرض، ورغم ما يبدو عليها ظاهرياً من نزعة تبسيطية، تقدم – من الزاوية المنهجية – نموذجاً للأسلوب الماركسي في كيفية معالجة هذه المعضلات.

[■ في بحثه حول «مشكلة السكن» يتساءل إنجلز: «كيف يمكن لثورة إجتماعية أن تحل هذه المشكلة؟ إن هذا يتوقف ليس على الظروف المحيطة بكل حالة محددة فحسب، بل يرتبط كذلك بمسائل ذات آفاق أبعد بكثير، من بين أكثرها أساسية مسألة إلغاء التعارض بين المدينة والريف. وبما أنه ليس من مهمتنا أن نرسم مخططات طوباوية لتنظيم مجتمع المستقبل، فإن من العبث أن ندخل في بحث المسألة هنا. ولكن ثمة شيء واحد مؤكد، وهو أنه تتوفر الآن بالفعل كمية كافية من المنازل في المدن الكبرى لتقديم علاج فوري لكل نقص في المساكن، شرط أن يتم استخدامها بصورة حكيمة. (وهذا يمكن أن يتحقق) باستيلاء الدولة على المنازل الخالية، وإسكان العمال الذين يفتقرون إلى المأوى فيها. وإذا ما ظفرت البروليتاريا بالسلطة السياسية، فإن إجراء كهذا يحدوه الحرص على المصلحة العامة، سيكون من السهل اتخاذه تماماً كسائر عمليات المصادرة والاستملاك لأغراض المنفعة العامة التي تقوم بها الدول (البورجوازية) في أيامنا».

■ ويضيف إنجلز: «إن الشغيلة (الذين أصبحوا) المالك الجماعي للمساكن والمصانع وأدوات العمل، من الصعب أن يسمحوا باستخدامها، من قبل الأفراد والجماعات، بدون تعويض عن الكلفة، على الأقل في الفترة الإنتقالية. وكما أن إلغاء الملكية (الخاصة) للأرض لا يعني إلغاء الريع العقاري، بل فقط تحويله إلى المجتمع، ولو بصورة معدلة، فإن الاستيلاء الفعلي من قبل الشغيلة على أدوات العمل لا يستبعد إطلاقاً بقاء علاقات الريع والإيجار.» [ ماركس وإنجلز/ الأعمال المختارة/ طبعة دار التقدم 1962 بالإنجليزية/ المجلد الأول/ ص 570، 629.]

■ أما بشأن الملكية الفلاحية للأرض فيقول إنجلز: «عندما نتولى سلطة الدولة لن نجد ضرورة حتى لمجرد التفكير بالنزع القسري للملكية الفلاحية الصغيرة ... إن مهمتنا، فيما يتعلق بالفلاح الصغير، تتمثل بالدرجة الأولى في تحويل إستثماراته الفردية وملكيته الفردية إلى استثمارات وملكيات تعاونية، ليس بصورة قسرية، بل بفعل قوة المثال، وعرض المساعدة الإجتماعية لهذا الغرض. وستكون بحوزتنا حينذاك بالطبع، وسائل عديدة كي نجعل الفلاح الصغير يرى الأفضليات والفوائد المتوقعة، والتي ينبغي أن تكون واضحة له حتى في الوقت الحاضر» [ إنجلز: «المسألة الفلاحية في فرنسا وألمانيا»/ الأعمال المختارة/ طبعة دار التقدم 1962 بالإنجليزية/ المجلد الثاني/ ص 433.]

 إن النزعة التبسيطية الظاهرة في هذه المعالجة تنبثق من فرضية إنجاز إنتقال سريع إلى الإشتراكية، عبر فترة وجيزة نسبياً، بفضل إنتصار متزامن للثورة في عدد من أكثر البلدان الرأسمالية تقدماً.]

2-■ إلتزم الفكر الماركسي للقرن الـ 19، إلتزاماً صارماً حدود هذا المنهج. والحقيقة أن المحاولة الوحيدة، على حد علمنا، لتقديم معالجة أكثر ملموسية للمعضلات الإقتصادية لمرحلة الإنتقال، قبل انتصار ثورة أكتوبر، كانت محاولة كاوتسكي (Kautsky) في كراسه «اليوم الذي يعقب الثورة»، وهي محاولة ماركسية قيِّمة، رغم ما تنطوي عليه من ثغرات، ولكنها أيضاً مشروطة بحدودها التاريخية، وتنطلق من الإفتراض نفسه، الذي انطلق منه ماركس وإنجلز.

[■ يلاحظ روبين بلاكبورن أن كاوتسكي، في الكراس المذكور، يسجل المعضلات الجمّة التي ستواجهها السلطة العمالية في عملية التحويل الإشتراكي للإقتصاد، ويُبرز الصعوبات التنظيمية التي سوف تنشأ «إذا ما تولَّت الدولة، في ألمانيا، إدارة الإنتاج في حوالي مليوني منشأة إنتاجية، وإذا ما أصبحت كذلك الوسيط لتداول منتجاتها، التي ستعود إليها جزئياً على شكل وسائل إنتاجية، وجزئياً على شكل مواد إستهلاكية ينبغي توزيعها على ستين مليون مستهلك، كل منهم له حاجاته الخاصة والمتغيرة».

وإذا كان كاوتسكي لا يستبعد إمكانية إيجاد الوسائل للنهوض بهذا العمل الخارق، بيد أنه يرفض أية خطة «للتحكم بالضرورات الإنسانية من أعلى، بحيث تخصص لكل فرد حصته كما في الثكنات»، ويعتبر أن هذا الحل سيرتد بالحضارة إلى «مرحلة أدنى»، ويرى من المستحيل، غداة الثورة، الاستغناء عن النقود، والأجور، وأسعار السوق. إن التحكم الإشتراكي بالإقتصاد سوف يتم، بشكل رئيسي، من خلال المنشآت الكبيرة، التي يبلغ عددها حوالي 18 ألفاً، وسوف يصبح أكثر سهولة لأن أنماط الاستهلاك ووتائر الإنتاج تتسم بدرجة معينة من الديمومة والانتظام الإحصائي. ويخلص كاوتسكي إلى التأكيد على أن لا حاجة لمحاولة القيام بكل شيء دفعة واحدة. (روبن بلاكبورن: الإشتراكية بعد الانهيار/ نيو لفت رڤيو(New Left Review)/ كانون الثاني (يناير)- شباط (فبراير) 1991/ ص 17)■]

(3)

تغيير المضمون الطبقي للدولة، هو الرئيسي في مرحلة الإنتقال

1-■ إن الدراسة المدققة للأدبيات الماركسية لتلك الفترة، في تناولها لمعضلات مرحلة الإنتقال، تكاد توصل إلى استنتاج أن ما يُميِّز هذه المرحلة هو بشكل رئيسي التغير في المضمون الطبقي للدولة، وأن التكوين الإقتصادي – الإجتماعي سيبقى يحتفظ بعناصر لا يستهان بها من الموروث الرأسمالي، إلى أن تكتمل ولادة المجتمع الإشتراكي.

■ إن النزعة التبسيطية الظاهرة في تناول هذه الأدبيات للشأن الإقتصادي للمرحلة الإنتقالية، وما يبدو أحياناً، وكأنه خلط أو تداخل على هذا الصعيد بينها، وبين مرحلة المجتمع الإشتراكي، يعودان إلى افتراض إمكانية إنجاز إنتقال سريع نسبياً إلى الإشتراكية بفضل انتصار متزامن للثورة في عدد من البلدان الرأسمالية الأكثر تطوراً. لذلك لم يتم تناول هذه المرحلة، في تحليل قوانين التطور الإقتصادي خلالها، من منطلق كونها يمكن أن تستغرق حقبة تاريخية متميزة بكاملها.

2-■ إن هذا الافتراض كان مشروطاً بحدوده التاريخية، ومنبثقاً منها. وقد لعبت تجربة الثورات التي اجتاحت معظم بلدان غرب ووسط أوروبا في آن واحد عام 1848، وهي ثورات ذات طابع بورجوازي ديمقراطي، ولكنها تميزت ببروز الطبقة العاملة فيها للمرة الأولى كقوة إجتماعية مستقلة، لعبت هذه التجربة دورها في تشكيل هذا الافتراض. ولكن منبعه الرئيسي كان تصور الماركسية لدورها ووظيفتها في الحركة الثورية للطبقة العاملة.

■ إن هذا الإفتراض ينبغي أن يحاكم ليس فحسب، من زاوية كون مسار التاريخ الواقعي قد أثبت صحته أو خطأه بالمعنى التجريبي، بل من زاوية كونه فرضية عمل تنبثق من الوظيفة التي يحددها المنهج الماركسي لنفسه كدليل عمل للطبقة العاملة في نضالها من أجل التغيير، وهو نضال لا يمكن تصوره إلا في سياق شروط تاريخية ملموسة ومعطاة، وبالتالي، فإن برنامجه لا بد أن ينطوي على افتراض هذه الشروط المعطاة بصفتها نقطة الإنطلاق نحو التغيير. [ راجع الموضوعة 10، في القسم بعنوان «قضايا ومفاهيم من منظور الإشتراكية العلمية» في الفصل الأول من هذا الكتاب، بعنوان: «ماذا يعني أن الثورة باتت على جدول أعمال التاريخ؟».]

3-■ لكن، رغم ما يبدو لأول وهلة وكأنه خلط بين مرحلتين، فإن الدراسة المدققة لتراث ماركسية القرن الـ 19، تشير بوضوح إلى نقطة التمايز التي تقيمها الماركسية – نظرياً – بين مرحلة (فترة) الإنتقال إلى الإشتراكية، بصرف النظر عن مداها الزمني، وبين المرحلة التي تبدأ باكتمال ولادة المجتمع الإشتراكي. إن نقطة التمايز هذه، العلامة التي تعلن إجتياز هذا المنعطف التاريخي، تتحدد باكتمال عملية تحويل جميع وسائل الإنتاج إلى مُلكية عامة مشتركة للمجتمع بأسره، وبسيطرة المجتمع الجماعية الكاملة على استخدام هذه الوسائل والتصرف بها، وبالتالي على تخصيص الفائض المتولد عن العمل الإجتماعي؛ فالمجتمع الإشتراكي يوصف بكونه يقوم على قاعدة المساواة بين جميع أفراد المجتمع، فيما يخص علاقتهم بوسائل الإنتاج. ولكن ماركس يحذر من أن هذا لا يعني، بعد، المساواة الكاملة بينهم في ميدان توزيع الحصة المخصصة للإستهلاك من مجموع ناتج العمل الإجتماعي■

(4)

المساواة هي في العلاقة حيال وسائل الإنتاج،

وليس في نصيب الفرد من مجموع الثروة الإجتماعية

1-■ إن المجتمع الإشتراكي ينفي الفوارق بين الطبقات في العلاقة إزاء وسائل الإنتاج (ما يؤدي إلى زوال وإنهاء استغلال الإنسان للإنسان)، ولكنه لا ينفي الفوارق بين الأفراد فيما يخص النصيب الذي يناله كل منهم من مجموع الثروة الإجتماعية.

إن المساواة الكاملة بين أفراد المجتمع في درجة تمتع كل منهم بثمار العمل الإجتماعي، هذه المساواة تتحقق فقط في ظل الشيوعية التي هي المرحلة العليا والأخيرة من مراحل تطور المجتمع الإشتراكي.

[■ أُنظر: «نقد برنامج غوتا»، حيث ينتقد ماركس بشدة الشعار المخادع الذي يعد بأن الإشتراكية سوف تحقق المساواة الكاملة، وتُمكن العامل من التمتع بكامل ثمار عمله.

يوضح ماركس، أولاً، أن المجتمع – حتى بعد استكمال سيطرته الجماعية على وسائل الإنتاج، وسيطرته بالتالي على عملية تخصيص الفائض – سوف يبقى بحاجة إلى اقتطاع حصة معينة من ناتج العمل الإجتماعي، وتخصيصها لأغراض الاحتياط للطواريء، ولأغراض توسيع الإنتاج، وللتعويض عن اهتلاك أدوات الإنتاج، وحتى من الحصة المخصصة للإستهلاك، فإن نسبة معينة يجب أن تقتطع للإنفاق على خدمات التعليم والصحة وإعالة العجزة والمتقاعدين، الخ...

■ ويوضح ماركس، ثانياً، أن سيطرة المجتمع على عملية تخصيص الفائض، لا تكفل للمجتمع قدراً متساوياً من الحصة المخصصة للإستهلاك الفردي من مجموع الثروة الإجتماعية. وهي لا تلغي استمرار مفعول «القانون البورجوازي» في ميدان التوزيع، القانون الذي يعطي للجميع حقاً متساوياً، ولكنه لا يكفل للجميع قدرة متساوية على التمتع بهذا الحق.

■ ويوضح ماركس ما يعنيه بهذه الفكرة بقوله: إن المجتمع الإشتراكي يعطي لكل فرد، من الحصة المخصصة للإستهلاك الفردي (من مجموع ناتج العمل الإجتماعي)، نصيباً يتناسب مع درجة مساهمة هذا الفرد في العمل الإجتماعي، أي نصيباً يتناسب مع حصته من مجموع العمل الإجتماعي المبذول لإنتاج ثروة المجتمع: من كل حسب قدرته، ولكل حسب عمله.

وبما أن الأفراد ليسوا متساوين في قدراتهم، فإن المساواة بينهم في العلاقة مع وسائل الإنتاج، لا تكفل المساواة بينهم في توزيع الثروة المخصصة للإستهلاك، فبعضهم يحصل على درجة أكبر من هذه الثروة، والآخر على حصة أقل. وبما أن الأفراد ليسوا أيضاً متساوين في حاجاتهم، فإن بعضهم يحصل على نصيب يفيض عن حاجته الملحة بنسبة أكبر من البعض الآخر.

■ ولكن المساواة في العلاقة إزاء وسائل الإنتاج – أي ملكية المجتمع العامة والمشتركة لوسائل الإنتاج وسيطرته الجماعية الكاملة على عملية تخصيص الفائض – تصوغ علاقات الإنتاج الإجتماعية في إطار يتناسب مع، ويكفل الاستجابة لمتطلبات تحقيق وتائر عالية ومتسارعة من التطور والنمو للقوى المنتجة. وهذا النمو يكفل الإقتراب تدريجياً من تلك الدرجة من الوفرة في الثروة الإجتماعية، الضرورية من أجل زوال الفوارق (إلغاء التعارض) بين الريف والمدينة، وزوال الفوارق (إلغاء التعارض) بين العمل الذهني والعمل العضلي، وبالتالي زوال الفوارق بين أفراد المجتمع وتحقيق المساواة الكاملة بينهم في درجة التمتع بثمار العمل الإجتماعي: من كل حسب قدرته، ولكل حسب حاجته.

هذا هو المبدأ الذي يحكم ويميّز المجتمع الشيوعي، الذي هو المرحلة العليا والأخيرة من مراحل تطور المجتمع الإشتراكي.]

2-■ إن التمعن في نظرية ماركس وإنجلز حول التحول الإشتراكي، فضلاً عن كونه يشكل مدخلاً لتفحص نقاط ضعفها – الناجمة عن حدودها التاريخية – ولتدقيقها، وإغنائها في ضوء حصيلة التجربة، يساعد في تدقيق وتوضيح المفاهيم التي ينبغي استخدامها كأدوات معرفية لتحليل التجربة، وفي جلاء الكثير من الخلط والتشويش الذي أشاعته الطبعات الدارجة من الماركسية – اللينينية والتي قدمت النموذج السوڤييتي مرة بصفته «إشتراكية متطورة»، ومرة بصفته «إشتراكية قائمة بالفعل»، أو «إشتراكية محققة».

■ إن التمييز النظري الصارم في المفاهيم الذي يقيمه منهج ماركس بين مرحلة الإنتقال إلى الإشتراكية، بصرف النظر عن تصوره المفترض لمدتها الزمنية، وبين مرحلة المجتمع الإشتراكي بطوريها الأدنى والأعلى، وتحليله العلمي للقانون الأساسي الذي يحكم ويميِّز المجتمع الإشتراكي، في طوره الأول والأدنى، يمليان إعادة النظر في هذه الصيغ الشائعة والمضللة في توصيف الإشتراكية (متطورة، قائمة بالفعل، محققة)، والتي لم يكن لها من وظيفة سوى تبرير وتزيين هيمنة البيروقراطية كشريحة إجتماعية.

[■ نعني بالتمييز الصارم في المفاهيم بين المرحلتين، أيضاً، مايلي: إن مرحلة الإنتقال إلى الإشتراكية، التي لم تكتمل فيها بعد عملية تحويل جميع وسائل الإنتاج إلى ملكية جماعية للمجتمع بأسره، وتحقيق سيطرة المجتمع الكاملة على استخدامها، وعلى تخصيص ناتج العمل الإجتماعي، هذه المرحلة تتضمن بالضرورة عناصر موروثة عن المجتمع الرأسمالي، واستمراراً بهذا القدر أو ذاك لفعل قوانينه، بما في ذلك التناقضات والصراعات الطبقية والإجتماعية المتولدة عن هذه القوانين، بدرجة ومستوى يزيدان عن مجرد سيادة «القانون البورجوازي» في التوزيع الذي يؤدي إلى اللامساواة بين أفراد المجتمع، فيما يخصّ نصيب كل منهم في الحصة المخصصة للإستهلاك.

■ إنها تتضمن أيضاً، بدرجة أو بأخرى، إستمرار اللامساواة بين طبقات المجتمع وشرائحه في موقعها إزاء وسائل الإنتاج، وفي علاقاتها بوسائل الإنتاج، سواء فيما يخص علاقات التملك (الملكية التعاونية، أو الملكية الفردية الصغيرة في الزراعة والخدمات مثلاً)، أو حتى فيما يخصّ سلطة التصرف بوسائل الإنتاج والسيطرة عليها والتحكم باستخدامها (بصرف النظر عن كونها ملكية للدولة)، وما يترتب على ذلك من قدرة على التحكم والتصرف بفائض العمل الإجتماعي■]

(5)

الثورة الإجتماعية تعلن بدء المرحلة الإنتقالية

1-■ يُبيِّن تحليل واقع المجتمع السوڤييتي أنه لم يكن، في الحقيقة قد اجتاز مرحلة الإنتقال إلى الإشتراكية، بل كان يقف موضوعياً أمام استحقاقات الدخول في طور جديد، طور متقدم، من المرحلة الإنتقالية، وأن أزمته تفاقمت وانفجرت بالضبط عند هذا المنعطف بسبب من التناقض بين مصالح القوة الإجتماعية المهيمنة عليه، والمحتكرة للسلطة فيه، نعني البيروقراطية، وبين الإستحقاقات التي بات يمليها ويتطلبها ولوج هذا الطور الجديد واجتياز المنعطف المفضي إليه.

[■ راجع بهذا الخصوص كتاب «حول النموذج السوڤييتي لعملية الإنتقال إلى الإشتراكية»، الكتاب الرقم 16 من سلسلة «من الفكر السياسي الفلسطيني المعاصر»، حيث ترد بالتفصيل العناوين الرئيسية والفرعية في «ثبت المراجع» في نهاية هذا الكتاب.]

■ إن هذا الفهم، الذي نعتقد أنه أكثر انسجاماً مع منهج ماركس، يوفر برهاناً إضافياً لدحض الموضوعة المخادعة حول تفوق الرأسمالية على الإشتراكية، ويساعد في حل اللغز الذي يحار فيه كثيرون في محاولة تفسير كيف يمكن لنظام إجتماعي أدنى أن يتفوق على نظام إجتماعي أرقى وأكثر تطوراً؟ فاللغز كله يصبح خارج الموضوع، ويتبين أنه مفتعل عمداً لوظائف أيديولوجية محددة، إذا ما اتضح أن «النظام الإجتماعي الأرقى» - أي النظام الإشتراكي - لم تكن ولادته قد اكتملت بعد في الواقع.

2-■ التمييز الماركسي في المفاهيم بين المرحلتين، مدعماً بوقائع التجربة، يساعد أيضاً في الحكم على بعض النزعات «التطورية» التي راجت مؤخراً، والتي تنطلق من الموضوعة القائلة بأن الإشتراكية لا يمكن أن تقوم، إلا على قاعدة درجة من التطور المادي والحضاري يفوق ما حققته أكثر المجتمعات الرأسمالية تطوراً. تنطلق هذه الموضوعة (الصحيحة عموماً) ليُستخلص منها، أن الثورة الإجتماعية بقيادة الطبقة العاملة لم تعد مدرجة على جدول أعمال التاريخ، وهو قول يترتب عليه، منطقياً، أن ثورة أكتوبر كانت خطأ تاريخياً.

3-■ هذه الموضوعة تخلط بين مفهومين، وتتجاهل أن الثورة الإجتماعية بقيادة الطبقة العاملة هي منعطف يتميز عن «قيام المجتمع الإشتراكي»، وأن عواملها الموضوعية هي شأن مختلف عن العوامل التي تسمح بقيام مجتمع إشتراكي.

إن الثورة الإجتماعية بقيادة الطبقة العاملة تعلن بدء مرحلة الإنتقال إلى الإشتراكية، وقد أكدت وقائع التاريخ، حتى الآن، أنه بدونها لا يمكن مباشرة عملية الإنتقال إلى الإشتراكية، لا يمكن أن تبدأ عملية ولادة المجتمع الإشتراكي، التي أثبت التاريخ فعلاً، أنها عملية مخاض عسيرة وطويلة، طويلة إلى حد أنها تمتد على مدى حقبة تاريخية بكاملها؛ وأنه فقط في سياق هذه العملية، لا خارجها، يمكن توفير تلك الدرجة من التطور في قوى الإنتاج ومن التقدم الإجتماعي والحضاري، التي تفوق أقصى ما حققته الرأسمالية، والتي تسمح بالتالي باكتمال ولادة المجتمع الإشتراكي. وبدون مرحلة الإنتقال، التي تفتتحها الثورة الإجتماعية بقيادة الطبقة العاملة، لا سبيل إلى إقامة الإشتراكية.

■ بعد هذا، يبقى من الضروري أن نتبيَّن لماذا أصبحت الثورة الإجتماعية بالدور القيادي للطبقة العاملة، وبغض النظر عن طبيعة مهماتها الإجتماعية المباشرة، تطرح نفسها كضرورة موضوعية للتقدم في مجتمعات رأسمالية متأخرة (أو حتى متخلفة) في درجة تطورها، وهذا يقودنا إلى لينين■

1994

النظرية اللينينية حول الإمبريالية،

والاستراتيجيات المستخلصة منها

(1)

قانون «التطور المتفاوت»

1-■ المساهمة الرئيسية التي قدمها لينين في تطور النظرية الماركسية حول تطور الرأسمالية، كانت تتمثل في اكتشافه لـ «قانون التطور المتفاوت»، الذي يحكم الرأسمالية في مرحلتها الإحتكارية (الإمبريالية) :

– إن قانون التراكم، وتمركز رأس المال، يقود رأسمالية المنافسة الحرة إلى التحول إلى نقيضها، إلى رأسمالية إحتكارية، إلى نشوء رأس المال المالي وتصديره المتزايد إلى الخارج، وإلى تفاقم الصراع والتنافس بين البلدان الإمبريالية، وبين الإحتكارات من أجل اقتسام، وإعادة تقسيم العالم.

– إن ظهور الإحتكارات لا يُخلِّص نمط الإنتاج الرأسمالي من عوامل الفوضى الكامنة فيه، بل إن تفاقم المنافسة بينها يؤدي إلى تفاوت حاد في التطور بين قطاعات الاقتصاد داخل البلد الرأسمالي المتطور، وبين البلدان التابعة. إذ بينما تتمركز الثروة في عدد قليل من البلدان الرأسمالية المتقدمة بفضل الأرباح الخارقة التي تجبيها الإحتكارات، تغرق البلدان المتأخرة أكثر فأكثر في هوة التبعية والتخلف.

– ويترتب على ذلك، أن تناقضات الرأسمالية تزداد حدة، وأن رأس المال قد أصبح قيداً يحتجز تطور البشرية كلها. وهذا يجعل الثورة الإشتراكية مطروحة على جدول الأعمال، ويجعل منها المخرج للبشرية من المأزق الذي تضعها فيه الإمبريالية. ويترتب على هذا التحليل الإستخلاص القائل بإمكانية، إنتصار الثورة الإشتراكية في بلد رأسمالي متخلف.

[■ أُنظر، على سبيل المثال، «مسودة برنامج الحزب الشيوعي الروسي (البلشفي)» التي صاغها لينين، ونشرت للمرة الأولى في البراڤدا بتاريخ 25/2/1919 (لينين/ الأعمال الكاملة/ طبعة دار التقدم 1965 بالإنجليزية/ المجلد 29/ ص 122-123).

والجدير بالذكر، أن الموضوعة القائلة بأن الثورة الإشتراكية البروليتارية هي المخرج الوحيد للبشرية من مأزق الإمبريالية، لم تكن حكراً على لينين ورفاقه البلاشفة، بل لقد تبناها معظم منظري الإتجاه الثوري الأممي في الحركة العمالية العالمية إبان الحرب الأولى، أبرزهم على سبيل المثال روزا لوكسمبورغ (Rosa Luxemburg)، التي اتخذت مع ذلك، مواقف متباينة مع لينين بشأن بعض النتائج المستخلصة من هذه الموضوعة، وهي (بالإضافة إلى الخلاف حول مفهوم الحزب الطليعي) مواقف كانت تذهب بتلك الموضوعة إلى أبعاد واستنتاجات متطرفة، دوغمائية بنظرنا، تتجاوز المدى الذي ذهب إليه لينين؛ إستنتاجات تصل إلى حدّ إنكار الدور التقدمي لحركات التحرر الوطني التي تقودها البورجوازية، وإلى حدّ الإعلان بأن شعار «حق الأمم في تقرير مصيرها» بات وهماً طوباوياً في عصر الإمبريالية.

■ كذلك يمكن أن ندرج من بين الاستخلاصات المتطرفة والدوغمائية المشتقة من تلك الموضوعة، نظرية تروتسكي (Trotzki) حول «الثورة الدائمة» التي ترفض من حيث المبدأ فكرة مرحلية الثورة، وتبدي استخفافاً أكبر بقوانين مرحلة الإنتقال إلى الإشتراكية، وتجاهلاً يكاد يكون تاماً لمتطلباتها ومعضلاتها، وتهرب منها باتجاه طرح مهمة نشر الثورة العالمية، وخصوصاً في الغرب، وتعجيل قيام مجتمع إشتراكي على نطاق عالمي باعتبارها المهمة الاستراتيجية الملحة للبروليتاريا الظافرة. ولاحقاً، صار هذا الشعار هو المهمة المقترحة لمجموع حركة الطبقة العاملة العالمية، والمبدأ المجرد الذي منه تشتق الحلول لكافة المعضلات الملموسة المطروحة على جدول أعمالها في مختلف بلدان العالم.]

2-■ إذا كان انتصار ثورة أكتوبر، واندلاع الثورات العمالية التي اجتاحت معظم بلدان أوروبا غداة الحرب العالمية الأولى، قد جاء ليزكي هذا الاستخلاص، فإن التطورات اللاحقة كشفت عن الحاجة إلى تدقيقه.

والحقيقة أن لينين نفسه عمل على تدقيقه في كتاباته اللاحقة في مطلع عشرينيات ق 20، وخصوصاً في معالجاته لقضايا الثورة في بلدان الشرق. فإذا كان الجوهري والصحيح في هذا الاستخلاص هو أن قيادة الطبقة العاملة للثورة قد أصبحت تطرح نفسها كضرورة موضوعية للتقدم في مجتمعات الرأسمالية المتخلفة، فإن هذه الضرورة لا يمكن تحقيقها، إلا على قاعدة تحالف متين بين العمال والفلاحين (وشرائح أخرى من البورجوازية الصغيرة التي تعاني من الاستغلال على يد رأس المال الإحتكاري).

ويترتب على ذلك، أن الثورة المنتصرة بقيادة الطبقة العاملة، إذ تطيح بسلطة رأس المال وتفتتح مرحلة الإنتقال إلى الإشتراكية، لا تواجه في البداية مهمات إجتماعية ذات طبيعة إشتراكية محضة، بل يترتب عليها أولاً، أن تضطلع بمهمات التطوير الإقتصادي- الحضاري للمجتمع، والتي تأخرت البورجوازية في البلدان المتخلفة عن إنجازها، أي بالمهام الإجتماعية التي اضطلعت بها الثورة البورجوازية – الديمقراطية في بلدان الغرب المتقدمة (التصنيع، تحرير الفلاحين، إلخ...)■

(2)

موضوعة إنتصار الثورة الإجتماعية

في بلد رأسمالي متخلف

1-■ إن إمكانية إنتقال الطبقة العاملة إلى موقع الطبقة الحاكمة في مجتمع رأسمالي متخلف، والمشتقة من قانون التطور المتفاوت، تملي إذن تطويراً جوهرياً في نظرية ماركس حول الإنتقال إلى الإشتراكية، والتي تنطلق من افتراض إنتصار الثورة العمالية في بلد، أو عدد من البلدان المتطورة: سياسياً، ينبغي هنا، في حالة الرأسمالية المتخلفة، إيلاء إهتمام إستثنائي لمسألة التحالفات الطبقية، وبخاصة التحالف مع الفلاحين، وانعكاساتها على نمط السلطة السياسية لمرحلة الإنتقال؛ إقتصادياً، تملي الحاجة إلى الخروج من دائرة التخلف، ضرورة إقتطاع نسبة أكبر من فائض العمل الإجتماعي، وتخصيصها لأغراض تطوير البنية الأساسية لقوى الإنتاج، وإحراز درجة من التراكم (في رأس المال المتجسد كأدوات للعمل)، التي أنجزتها الرأسمالية في مراكزها المتطورة.

■ وإذا كان الخروج من دائرة الإندماج من موقع التبعية في السوق الرأسمالية العالمية التي تهيمن عليها الإحتكارات من جهة، وسيطرة الدولة العمالية على رأس المال المتراكم فعلاً (على وسائل الإنتاج الرئيسية)، من جهة أخرى، يتيحان الإطار الملائم للنهوض السريع بوتيرة تطور القوى المنتجة، فإن ذلك يتطلب أيضاً وعي البروليتاريا الظافرة لطبيعة المهام المزدوجة والمتداخلة التي تواجهها سلطتها، مهام الثورة الديمقراطية المتأخرة، من جهة، (إقتصادياً وإجتماعياً بشكل خاص، ولكن أيضاً سياسياً)، ومهام الإنتقال إلى الإشتراكية، من جهة أخرى.

وإذا أضيفت الضرورات المترتبة على مجابهة الحصار والعدوان الإمبريالي، يتضح إذن، كم تصبح عملية الإنتقال إلى الإشتراكية هنا أكثر تعقيداً، كم تنطوي على صعوبات وتعرجات أكبر، وتحتاج إلى مديات زمنية أطول، من تلك التي تفترضها نظرية ماركس بهذا الشأن.

2-■ ولكن لينين الذي صاغ قانون التطور المتفاوت، واشتق منه اشتقاقاً صحيحاً في جوهره، بشأن إمكانية انتصار الثورة بقيادة الطبقة العاملة في بلد رأسمالي متخلف، لم يستكمل إشتقاق ما ينبغي استخلاصه من ذلك على صعيد تطوير المفهوم الماركسي لمرحلة الإنتقال. إنه يبدو، في كراسه «الدولة والثورة» الذي كُتب عشية ثورة أكتوبر مثلاً، وكأنه يستعيد عناصر التحليل الماركسي لمراحل التحول الإشتراكي دون أن يعير إهتماماً خاصاً، وكافياً، لظروف الرأسمالية المتخلفة. وكذلك هو الأمر في «مسودة برنامج الحزب الشيوعي الروسي (البلشفي)»، التي صيغت في مطلع 1919، وفي العديد من كتاباته لتلك الفترة■

(3)

الحدود التاريخية للنظرية اللينينية

1-■ إن المسائل المعقدة التي تنطوي عليها وتثيرها عملية الإنتقال إلى الإشتراكية في هذه الحالة، لم يبدأ التعامل معها، بما تتطلبه من دقة وحذر، إلا بعد أن فرضتها الضرورة الموضوعية القاهرة في مطلع عشرينيات ق 20. ومرة أخرى، فإن هذه الثغرة تبين الحدود التاريخية للنظرية اللينينية، وتعكس – إلى حد ما – حداثة بنية الطبقة العاملة الروسية، وغلبة العناصر الريفية وشبه البروليتارية المفقرة على تكوينها، وتخلف محيطها الفلاحي الذي شكل، منذ زمن وجيز، واستمر يشكل منبتها الإجتماعي.

■ هنا أيضاً، يتبيّن أن نزعة التبسيط للمعضلات الأكثر تعقيداً التي تواجهها عملية الإنتقال تنبثق من آلية السجال المحتدم مع الإتجاهات الانتهازية في الحركة العمالية العالمية، التي اصطفت وراء بورجوزاياتها الإمبريالية في الحرب الكونية الأولى، وساعدتها في استعادة توازن نظامها بعد الحرب. وبصرف النظر عن هذه الثغرة، فإن علينا أن نرى، من جهة أخرى، أن النظرية اللينينية المنسجمة حول الإمبريالية، وحول إمكانية انتصار الثورة  العمالية في بلد رأسمالي متخلف، لعبت دوراً محورياً في بلورة التماسك الحازم والجاهزية العالية التي جابه بها حزب البلاشفة، والفصائل المتقدمة للبروليتاريا الروسية، الأزمة العنيفة والتصدع الجدي، اللذين عانى منهما النظام الرأسمالي العالمي غداة الحرب، وفي نجاحه باستثمارها لدفع قضية الإشتراكية إلى الأمام، وهو نجاح غيَّر وجه العالم في ق 20.

2-■ إن الثغرة التي تنطوي عليها النظرية اللينينية، والتي تتحدد في نطاق نمط معالجتها لمعضلات الإنتقال إلى الإشتراكية في بلد رأسمالي متخلف، ينبغي أن لا تقلل من جوانبها الإيجابية، التي يتضح كم لعبت دوراً تقدمياً في دفع مسيرة التاريخ عندما نقارنها بالمصير المأسوي الذي انتهت إليه الثورات الأخرى في أوروبا، غداة الحرب، بسبب حالة عدم الاستعداد والتردد التي سادت حركة الطبقة العاملة وأحزابها.

■ وفي المقابل، لا ينبغي أيضاً الإفراط في المبالغة في تقدير مسؤولية هذه الثغرة عن المشكلات التي واجهتها ثورة أكتوبر في سنواتها الأولى. فالحقيقة، أن الإجراءات التي أقدمت عليها السلطة السوڤييتية إبَّان ما عرف بحقبة «شيوعية الحرب» كانت تجد مبرراً في الضرورات القاهرة المتولدة عن الحرب الأهلية، والحصار، والتدخل الإمبريالي، أكثر مما هي تعود إلى أي تصور نظري مسبق. بل أن بعض هذه الإجراءات التي اتخذت بمبادرة من لينين، كانت تتعارض مع مفاهيم لينين نفسه حول الديمقراطية العمالية (السوڤييتية)، مما يشير إلى أنها كانت تدابير إضطرارية أملتها الظروف الموضوعية القاهرة، وينبغي البحث عن أسبابها في تحليل الظروف التي أحاطتها، وليس بإعادتها إلى أي خلل في النظرية.

3-■ علينا أن نرى، أيضاً، أن نقاد اللينينية من منظري الانتهازية واليمين الإشتراكي الديمقراطي، داخل روسيا وخارجها، لم يكن ينصب نقدهم على معالجة هذه «الثغرة»، بل  كان يتركز على محاولة دحض ما هو صحيح وعلمي في النظرية اللينينية حول الإمبريالية، وما يشتق منها من استخلاصات استراتيجية: أي على الموضوعة القائلة بإمكانية وضرورة قيادة الطبقة العاملة للثورة في بلد رأسمالي متخلف في مرحلة الإمبريالية، بما يترتب على ذلك من إمكانية موضوعية لتولي الطبقة العاملة قيادة سلطة الدولة، وبدء مسيرة الإنتقال إلى الإشتراكية.

■ إن تهمة «الإرادوية» التي يوجهها هؤلاء النقاد اليمينيون إلى لينين ورفاقه لا تتناول رؤية البلاشفة للمعضلات التي تنطوي عليها عملية الإنتقال إلى الإشتراكية، بل إن هذه التهمة تلصق، أساساً، بنظرية لينين حول إمكانية بدء مسيرة الإنتقال إلى الإشتراكية في بلد رأسمالي متخلف، وتوظف في محاولات دحضها وتفنيدها - من حيث المبدأ- إستناداً إلى كاريكاتير «تطوري» دوغمائي لنظرية ماركس حول التحول الإشتراكي.

إن الصعوبات والمعضلات التي تنطوي عليها عملية الإنتقال إلى الإشتراكية من وضع الرأسمالية المتخلفة، كانت بالنسبة لهؤلاء النقاد مبرراً، ليس للدعوة إلى معالجتها برصانة علمية وتطوير نظرية ماركس بشأنها، بل كانت مبرراً للدعوة إلى التخلي عن مواصلة طريق الإنتقال إلى الإشتراكية، الدعوة إلى قرار إرادوي ذاتي بتأجيل المسيرة التي فرضتها حركة التاريخ، وإلى الإرتداد عن طريق الثورة التي برهن التاريخ نفسه، كم كانت تعبر فعلاً عن ضرورة موضوعية للتقدم، وكم كانت شروطها الموضوعية ناضجة.

4-■ وهكذا، فإن الخيار الذي كان يستخلصه هؤلاء النقاد اليمينيون هو خيار التقنين الذاتي لتطور الثورة، والضبط القسري لحركتها وإبقائها ضمن الحدود البورجوازية الديمقراطية. إنه خيار إعادة تسليم السلطة إلى البورجوازية حتى تستكمل دورها التاريخي المزعوم في تطوير قوى الإنتاج. ولنا أن نتصور ما الذي كانت ستنتهي إليه روسيا، بل وعالم ق 20 بأكمله، لو أن الطبقة العاملة الروسية أخذت بهذه النصيحة. ذلك أن التاريخ لا يضع البشر أمام خيارات مفتوحة ينتقون منها حسب أهوائهم. إنه يضعهم أمام ضرورات موضوعية محددة. والإرادوية لا تتجلى فحسب، بمحاولة إستباق حركة التاريخ، بل أيضاً، بمحاولة ضبطها وتقنينها ضمن حدود تصورات نظرية مفترضة سلفاً.

5-■ لقد أوضح لينين ورفاقه، بحق، أن الارتداد عن طريق الثورة البروليتارية، طريق الإنتقال إلى الإشتراكية، لم يكن سيقود روسيا إلى ديمقراطية بورجوازية تفتح أمام المجتمع سُبُل الإرتقاء المادي والحضاري، بل كان سيؤدي إلى سقوطها أكثر فأكثر فريسة التبعية والتخلف، وإلى تقييدها بأغلال الدكتاتورية البورجوازية العميلة لرأس المال الإحتكاري الدولي، وربما إلى تفككها.

■ إن الانهيار والتفكك الذي أصاب الإتحاد السوڤييتي بعد انتصار الرِدَّة، لا يقلل من شأن قيمة الإنجازات العظيمة التي حققتها الشعوب السوڤييتية، إبَّان مسيرة الإنتقال إلى الإشتراكية، في جميع مجالات التطور المادي والحضاري. ولا ننسى أن الإنجاز التاريخي العظيم الذي حققته ثورة أكتوبر، ومسيرة الإنتقال إلى الإشتراكية التي جاءت الثورة لتعلن إفتتاحها، لم يقتصر مغزاه على أبعاده الروسية، بل لقد كانت له أيضاً أبعاد عالمية.

ومن يستطيع أن يتجاهل المساهمة السوڤييتية الحاسمة في دحر النازية، والدعم الهائل الذي قدمه السوڤييت لحركات التحرر الوطني، أو أن يتجاهل أن مجرد وجود الإتحاد السوڤييتي قد ساهم في إرغام البورجوازيات الاحتكارية الحاكمة في بلدان المركز الرأسمالية المتطورة على تقديم تنازلات هامة، على الصعيدين السياسي والإقتصادي، لصالح الحركات العمالية في بلدانها.

هذه الحقائق، هي التي تشكل حكم التاريخ الإجمالي على نظرية لينين بشأن إمكانية – وليس حتمية – إنتصار الثورة التي تقودها الطبقة العاملة في بلد رأسمالي متخلف■

1994

المسألة القومية والمفهوم اللينيني لحق تقرير المصير

(1)

نشوء الأمم والمسألة القومية في عصر نشوء الرأسمالية

[■ عند معالجة هذا الموضوع، علينا أولاً أن نحدد ما الذي نعنيه بكلمة الأمة: ما هي الأمة، كيف نشأت، وما هي العوامل والعناصر التي دفعت إلى نشوء مثل هذه الظاهرة؟ نشوء الأمم إرتبط مع عملية الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية. فالبورجوازية الناشئة كانت بحاجة من أجل أن تتطور إلى أن تفتتح لنفسها سوقاً واسعة تستطيع أن تستوعب السلع التي يجري إنتاجها بالأسلوب الرأسمالي الجديد، وكما هو معروف فإن النظام الاقتصادي الإقطاعي كان يقوم على قاعدة الاقتصاد المغلق للإمارة الإقطاعية، بمعنى أن كل أمارة، بل كل قرية في بعض الأحيان، كانت تنتج ما هو ضروري من أجل استهلاكها المباشر، وكان التبادل مع القرى والإمارات الأخرى ضيقاً ومحدوداً وهامشياً. كان الاقتصاد يقوم على قاعدة الاكتفاء الذاتي، وعملية التبادل كانت في معظمها تتم في إطار القرية أو إقتصاد الإمارة. أما التبادل ما بين الإمارات والقرى المختلفة، فكان ضيِّق النطاق لدرجة أنه لم يكن يشكل الظاهرة الأساسية في الإقتصاد.

■ أما أسلوب الإنتاج الرأسمالي، فكان يقوم على قاعدة توسيع الإنتاج البضاعي. والإنتاج البضاعي يعني إنتاج السلع من أجل التبادل بها في السوق. إذن، الاقتصاد يقوم على قاعدة إنتاج السلع لغرض التبادل مع الآخرين، وليس لغرض الاستهلاك المباشر من قبل المنتجين، أو التبادل المباشر بينهم على نطاق ضيق، ولذلك، فإن اتساع السوق كان مسألة رئيسية تتوقف عليها حياة أو موت الرأسمالية. وموت الرأسمالية باعتبارها ظاهرة ثورية في ذلك العصر لم يكن ممكناً، ولذلك كان لا بد لهذه البورجوازية الناشئة القوية المتطورة أن تسحق وتزيل كل العوائق التي كانت تعترض نموها، ومن هذه العوائق: إفتقارها إلى السوق الموحد التي تستطيع من خلالها أن تعرض منتجاتها من السلع:]

أولاً- المسألة القومية = الوحدة

■ إن المجال الأول لنشوء الرأسمالية كان السوق القومية، أي السوق التي تتكون من أبناء أمة واحدة، والمقصود هو: كل عمليات التبادل التي تجري في اقتصاد مُعيَّن، فالسوق القومية هي مجموع عمليات التبادل التي تجري في إطار أمة واحدة، ما بين أبناء الأمة الواحدة.

لقد وجدت الرأسمالية في السوق القومية المجال الأول لنموها ونشوئها في العصر الذي كانت مازالت فيه الرأسمالية في مرحلة المنافسة الحرة، أي تلك المرحلة التي سبقت مرحلة الإحتكار والإمبريالية؛ نقول، لقد وجدت الرأسمالية في مرحلتها الأولى في السوق القومية، المجال الطبيعي الأفضل والأرحب لنموها نمواً متسارعاً دون عقبات، ودون حواجز، للأسباب الرئيسية التالية:

1-■ لأن السوق القومية بكونها تتكون من أبناء الأمة الواحدة، فهذا يعني أن هؤلاء جميعاً توحد ما بينهم لغة واحدة. واللغة كانت في المراحل الأولى من نشوء الرأسمالية وسيلة تبادل على درجة عالية جداً من الأهمية، لأن الطبقة الرأسمالية في المرحلة الأولى من مراحل نشوئها كانت تتكون، في كل أمة من الأمم، من مئات الألوف من المنتجين الرأسماليين الصغار، مئات الألوف من أصحاب المعامل الحرفية، مئات الألوف من أصحاب (المانيفكتورات)، ومئات الألوف من المنتجين المستقلين، جميعهم يشكلون جزئيات هذه السوق المسماة بالسوق القومية.

■ هؤلاء المنتجون الصغار والكثر في آن – إذا ما قارناهم مثلاً بالشركات الإحتكارية العملاقة القائمة الآن في عصر العولمة والاحتكار والإمبريالية - لم تكن هناك إمكانية لكي يجروا عملية التبادل فيما بينهم إلا بتوفير وسيلة تبادل سهلة، قابلة لأن تستخدم من قبلهم جميعاً وهي اللغة، لأن التبادل يعني عقد مجموعة من الصفقات بين الأفراد، وبين المنتجين بعضهم ببعض، وبين المنتجين والمستهلكين.

■ لم تكن للمنتجين الرأسماليين الصغار في ذلك الحين القدرة على توفير مترجمين أو أجهزة خاصة لدراسة العقود ونقلها من لغة إلى أخرى، كما هو الآن؛ لم تكن هذه الإمكانية قائمة بالنسبة للأغلبية الساحقة من الرأسماليين، الذين كانت تتكون من حرفيين وسعوا نسبياً مجال إنتاجهم، وسعوا معاملهم بتوسيع إستخدام العمل المأجور. ولذلك لم يكن بالإمكان أن تتم عملية التبادل بسهولة في إطار هذه السوق إلا من خلال توفر وسيلة من وسائل التبادل الأساسية هي اللغة المشتركة التي يستخدمها جميع هؤلاء الرأسماليين لتسهيل عقد الصفقات فيما بينهم ... ولذلك، فالسوق التي كانت تتكون من مجموعة من الناس يتكلمون لغة واحدة، هي التي كانت تشكل الإطار والمجال الأسهل لنمو وتطور الرأسمالية في المرحلة الأولى من مراحل نموها.

2-■ أما العامل الثاني، فهو الرقعة الجغرافية الموحدة أو الأرض الموحدة التي لا تفصل بين أجزائها عوائق طبيعية يستحيل، أو يصعب تجاوزها. لماذا؟ أيضاً لأن إمكانية نقل البضائع من أطراف هذه السوق إلى أطرافها الأخرى، من مراكز الإنتاج إلى مواقع التصريف والاستهلاك، كانت صعبة على خلفية تعقيدات الجغرافيا، وبدائية وسائل النقل.

في ذلك الحين لم تكن وسائل النقل القائمة الآن متوفرة، فلا العربات ولا سكك الحديد كانت قادرة على اجتياز سلاسل الجبال أو الأنهار الواسعة أو المحيطات، ولذلك كان توفر إمكانية نقل السلع من مراكز الإنتاج إلى أطراف السوق هو أحد العوامل الرئيسية لتشكيل السوق الموحدة، ولتسهيل عملية إنتشار وتصريف البضائع فيها. إذن، كانت وحدة الرقعة الجغرافية التي لا تقوم بين أجزائها أية عوائق طبيعية يصعب تجاوزها، كانت هذه أحد العوامل التي تساعد في تشكيل السوق القومية المشتركة.

3-■ إنطلاقاً من هذين العاملين: توفر اللغة المشتركة + توفر الرقعة الجغرافية الموحدة التي لا تفصل بين أجزائها عوائق طبيعية كبرى، أمكن للرأسمالية الناشئة أن تبني سوقها القومية بمعنى أن تشكل سوقاً تضم كل أبناء الأمة الواحدة، أي أن تشكل حياة إقتصادية مشتركة لهذه الأمة. وعلى قاعدة هذه الحياة الإقتصادية المشتركة بنيت وتطورت سريعاً الحياة الثقافية والسياسية المشتركة، بكل ما تعنيه من معنى.

هكذا إذن، نشأت الأمم في سياق عملية تكون الرأسمالية ونشوئها، بحيث كان العنصر الرئيسي من عناصر التكون القومي – هو حاجة هذه الرأسمالية الناشئة إلى سوق تستطيع من خلالها أن تواصل نموها، وكون السوق القومية التي تتكون من أبناء الأمة الواحدة، هي المجال الأرحب والأسهل في المراحل الأولى من نشوء الرأسمالية لتلبية هذه الحاجة الإقتصادية.

■ لذلك، فإن الحركات أو الثورات البورجوازية التي شهدناها في أوروبا، حيث نشأت الرأسمالية لأول مرة، كانت ترفع دوماً شعار الوحدة القومية والاستقلال القومي، بمعنى أنها كانت تسعى دوماً إلى تشكيل الدولة القومية المستقلة الموحدة. فحيث كانت الأمة الواحدة مجزأة إلى مجموعة من الإمارات الإقطاعية التي تقوم الحواجز السياسية والاقتصادية فيما بين أجزائها المختلفة، كانت الحركة القومية البورجوازية تناضل من أجل الوحدة، من أجل إزالة العقبات والحواجز الإقطاعية القائمة فيما بين أجزاء الأمة الواحدة، كما كان الحال في فرنسا مثلاً، وكما كان الحال في ألمانيا.

■ ففرنسا على سبيل المثال، كانت مجزأة إلى عدد كبير من الأمارات الإقطاعية. صحيح أن هذه الأمارات كانت جميعها تحت سلطة ملك واحد. ولكن كل أمارة منها كانت تقريباً مستقلة في شؤونها الإقتصادية على الأقل. فعندما كانت تنتقل البضاعة مثلاً من بلدة معينة في فرنسا إلى بلدة أخرى على الطرف الآخر من البلد، كانت تُضطر للمرور على العشرات من الحواجز باعتبار أن كل إمارة إقطاعية كان عندها جمركها وسلطتها، الخ.. وبالتالي عندما تصل البضاعة إلى مركز استهلاكها تكون قد فرضت عليها من الضرائب والرسوم، ما من شأنه أن يرفع كلفتها.

4-■ لم يكن بالإمكان أن تستمر عملية الإنتاج والتبادل الرأسمالي بمثل هذه الوضعية، وكان لا بد من إزالة هذه الحواجز التي تعترض طريق نمو الرأسمالية. ولذلك بدأت البورجوازية الفرنسية نشاطها السياسي بعملية الإسهام في تقوية للدولة المركزية ممثلة بالملك على حساب سلطة الإقطاع، فدعمت البورجوازية في البداية الملك باعتباره ممثلاً للدولة المركزية، ولكن الدولة كانت ملكاً للطبقة الإقطاعية. وبالتالي كان بإمكانها أن تضعف من صلاحيات الإقطاعيين، ولكن لم يكن بإمكانها أن تقضي على موقعهم الإقتصادي - الإجتماعي قضاءً كاملاً، لذلك إنتقلت البورجوازية في مرحلة لاحقة إلى تبني شعار إسقاط الملكية، وإقامة جمهورية ديمقراطية تتوحد في إطارها الأمة الفرنسية بكاملها، بمعنى الإزالة الكاملة لسلطة الأمارات الإقطاعية، وبالتالي إزالة الحواجز ما بين أطراف الأمة الواحدة، ليستجاب بذلك إلى الحاجة الرأسمالية إلى السوق القومية الواحدة التي تستطيع أن تستوعب إنتاجها البضاعي المتنامي.

■ الوضع نفسه كان قائماً بالنسبة لألمانيا وإنما على شكل آخر. ففي ألمانيا لم تكن هناك دولة مركزية موحدة لعموم ألمانيا. كان هناك العديد من الدول والعديد من الإمارات الإقطاعية، وكل دولة من هذه الدول كانت مقسمة بدورها إلى عدد من الإمارات الإقطاعية في داخلها. لذلك (ولاعتبارات مهمة أخرى، تندرج في سياق آخر)، فإن عملية التوحيد إستغرقت في ألمانيا فترة أطول، لأنها كانت أكثر تعقيداً مما كان عليه الحال في فرنسا، ولذلك أيضاً كان نمو الرأسمالية في ألمانيا متأخراً عما كان عليه في فرنسا.

■ أما في بريطانيا، فقد استطاعت البورجوازية منذ ق 16، أن تجعل من الملكية أداتها لتوحيد الأمة ولإزالة الحواجز الإقطاعية ما بين أطرافها. منذ أواخر ق 16 وبداية ق 17، كانت بريطانيا الملكية دولة مركزية موحدة، لا يفصل بين أجزائها أية حواجز. ومن هنا، كانت الرأسمالية في بريطانيا أسرع نمواً منها في فرنسا. في ألمانيا تأخر نمو الرأسمالية أكثر من قرن بسبب من صعوبة وتعقد عملية إقامة الوحدة القومية ما بين أطراف الأمة الواحدة، فحتى تستطيع الرأسمالية الألمانية، أن تجد لنفسها سوقاً قومية تمكنها من تسهيل عملية نموها، وتسريع هذا النمو، كان لا بد من توحيد الأمة الألمانية بكاملها في دولة قومية موحدة ومستقلة، وهذه الأمة التي لم يتم إنجازها إلا في الثلث الأخير من ق 19.

ثانياً- المسألة القومية = الاستقلال

■ في الجانب الآخر، المسألة القومية كانت بالنسبة لبعض الأمم تعني ليس الوحدة فحسب، وإنما أيضاً الاستقلال، بمعنى الاستقلال عن أمة أخرى، كما كان الحال مثلاً في هنغاريا والنمسا. كانت النمسا – هنغاريا تشكل إمبراطورية متعددة القوميات، أو الأمم (نمساوية، هنغارية، إيطالية، صربية، الخ..)، ومنها الأمة النمساوية (التي هي جزء من الأمة الألمانية) والأمة الهنغارية، أو الشعب الهنغاري التي تشكل لاحقاً – بعد الحرب العالمية الأولى- في دولته المستقلة. في ذلك الحين كانت النمسا قد جعلت من هنغاريا جزءاً من إمبراطورية واحدة، وكذلك كان الوضع مثلاً بالنسبة للسويد التي كانت تضم النرويج، وبالنسبة للعديد من الأمم التي كانت في إطار الإمبراطورية الروسية، في حينها، مثل الأمة البولندية، أو الأمة الأوكرانية، أو العديد من الأمم الأخرى في أوروبا وغيرها.

■ إذن، وحتى تستطيع الرأسمالية، الناشئة في هذه البلدان أن توفر مجالاً سهلاً وملائماً لنموها كان لا بد من أن تحقق استقلالها عن الأمة الأخرى المسيطرة عليها. لماذا؟ مرة أخرى، لأن السوق القومية بمعنى السوق التي تتكون من أبناء الأمة الواحدة، كانت هي المجال الأسهل لنمو الرأسمالية المتسارع دون عقبات، ودون عوائق تعترض هذا النمو. وحيث نجحت الرأسمالية في أن تقيم دولتها القومية المستقلة، استطاعت أن تنمو فعلاً بسرعة متزايدة ودون عقبات. وحين فشلت طبقة بورجوازية ما في أن تقيم دولتها القومية المستقلة الموحدة، فإن نمو الرأسمالية في هذه الأمة أتى متأخراً واستغرق طويلاً، وأضحى معقداً بالمقارنة مع غيرها من الأمم.

ثالثاً- علاقة نشوء الأمم بنشوء النظام الرأسمالي

■ نستخلص من ذلك أن نشوء الأمم كان مترافقاً مع نشوء البورجوازية ونظامها الرأسمالي في مراحل نموها الأولى، حيث كانت الرأسمالية بحاجة إلى سوق متسعة لاستيعاب النمو في إنتاجها البضاعي والمجال الأرحب والأسهل لإنشاء مثل هذه السوق كان الأمة الواحدة، الناطقة بلغة واحدة، لأن اللغة كانت تشكل وسيلة تبادل أساسية لا غنى عنها في المراحل الأولى من نشوء الرأسمالية، والتي كانت تتوفر لها رقعة جغرافية موحدة، لأن سهولة التنقل في الرقعة الجغرافية الواحدة التي لا يفصل بين أجزائها عقبات طبيعية كبرى، كانت أيضاً أحد العناصر الرئيسية التي تمكن الرأسمالية من تصريف إنتاجها في عموم هذه السوق في الوقت الذي كانت وسائل النقل فيه لا تزال بدائية متواضعة.

■ على قاعدة هذه العوامل ناضلت الحركات القومية البورجوازية من أجل وحدة الأمة، أو من أجل وحدة الأمة واستقلالها حسب طبيعة المسألة القومية، ووضع هذه الأمة أو تلك في العلاقة مع غيرها من الأمم. فكانت وحدة الأمة تعني إزالة كافة الحواجز التي تعيق توحيد السوق القومية، وتفصل ما بين أطراف الأمة الواحدة وأجزائها. وكان الاستقلال يعني تمكين هذه الطبقة البورجوازية من أجل أن تجد سوقها القومية الخاصة بها، بدلاً من أن تبقى ملحقة بالطبقة البورجوازية للأمة المسيطرة.

■ وهكذا، فإن الدولة القومية المستقلة الموحدة كانت إحدى الشعارات الرئيسية التي رفعتها الحركات القومية البورجوازية في المراحل الأولى من نمو الرأسمالية، باعتبارها حاجة لا غنى عنها لتميكن الرأسمالية من النمو السريع وبدون عقبات. وحيث استطاعت البورجوازية النامية أن تحقق هذا الهدف بإقامة دولتها القومية المستقلة الموحدة، فقد استطاعت الرأسمالية في تلك الأمة أن تنمو بسرعة وبدون عقبات، وأن تحقق قفزات هامة إلى الأمام، وحيث تأخر إنجاز هذا الهدف فإن النمو الرأسمالي في تلك الأمة قد تأخر هو أيضاً بدوره، وتخلفت تلك الأمة في السباق الذي كان جارياً ما بين الدولة الرأسمالية في ذلك الحين■

 (2)

المسألة القومية وحق تقرير المصير في عصرنا الراهن

■ نشأت الأمة كظاهرة إجتماعية إستجابة لإحدى الحاجات الرئيسية للرأسمالية الناشئة في أن تشكل سوقها القومية الخاصة التي كانت المجال الأفضل والأسهل والأرحب للنمو المتواتر للرأسمالية دون حواجز. ولذلك فالمسألة القومية في عصر بداية نشوء الرأسمالية كانت تتلخص في مسألة توحيد الأمة واستقلالها: توحيد الأمة، بما يعني النضال ضد الإقطاع والتجزئة الإقطاعية للأمة الواحدة، واستقلالها بما يعني أن تشكل كل أمة دولتها القومية الخاصة بها. هكذا كانت المسألة القومية تطرح نفسها في المراحل الأولى من تكون الرأسمالية.

■ وفي مرحلة لاحقة من تطور الرأسمالية، تحوَّلت من رأسمالية المزاحمة (المنافسة) الحرّة، إلى رأسمالية إحتكارية، ودخلت نتيجة لذلك مرحلة جديدة هي مرحلة الإمبريالية. فالإمبريالية هي المرحلة التي دخلتها الرأسمالية المتطورة في البلدان التي سبقت غيرها في التطور الرأسمالي، وهنا تحديداً بلدان غرب أوروبا وشمال أمريكا، ثم لحقت بها اليابان.

هذه البلدان التي تمكنت من حل مشكلاتها القومية، وأقامت دولها القومية الموحدة المستقلة، وتمكنت بالتالي من أن تنمي إقتصادها الرأسمالي بسرعة وسهولة أكثر من غيرها، تطورت فيها الرأسمالية إلى درجة لم تعد فيها السوق القومية تكفي لاستيعاب إنتاجها الكبير والمتوسع باستمرار. فأصبحت الرأسمالية في هذه البلدان بحاجة إلى تجاوز حدود السوق القومية، ما أدى إلى افتتاح أسواق جديدة، وكانت هذه الأسواق الجديدة التي افتتحتها هي أسواق البلدان التي كانت تخضع لهيمنتها الاستعمارية.

■ إن الرأسمالية التي تطورت إلى رأسمالية إحتكارية، وبالتالي إلى إمبريالية، نقلت أيضاً التطور الرأسمالي من بلدانها إلى هذه البلدان المستعمرة. وبالتالي أخذت المسألة القومية في هذه البلدان المستعمرة تنشأ، ولكن في ظل ظروف جديدة، تجعلها تتميز نسبياً عن المسألة القومية كما عرفتها أوروبا وأمريكا، أي كما عرفتها البلدان التي شهدت تطور الرأسمالية للمرة الأولى في العالم.

فالدول الإمبريالية الكبرى أنجزت عملية إقتسام العالم، وأعادت تقسيمه عدة مرات على امتداد ق 19، فلم يعد هناك شبر واحد من أراضي أو بحار المعمورة، إلا وأصبح جزءاً من السوق الرأسمالية العالمية التي تهيمن عليها الإمبريالية. إن هذه الهيمنة الإمبريالية على العالم وضعت المسألة القومية في إطار جديد يختلف نسبياً عما كان عليه الحال في أوروبا وأمريكا.

لكن هل المسألة القومية أصبحت تختلف جوهرياً عما كانت عليه في أوروبا وأمريكا؟ بمعنى آخر، هل شَذَّت المسألة القومية عن أن تكون مسألة إزالة الحواجز التي تعترض سبل تطور قوى الإنتاج الرأسمالي المحلية؟

■ إن جوهر المسألة القومية لم يتغير، فقد بقيت المسألة القومية هي مسألة التعبير عن حاجة هذه الأمة إلى أن تزيل كافة الحواجز التي تعترض طريق نموها الرأسمالي، أي نمو قوى الإنتاج الرأسمالي فيها. إذن، لا زالت المسألة القومية، في جوهرها، في هذه البلدان المستعمرة أو التابعة، هي مسألة إزالة الحواجز التي تعترض نمو قوى الإنتاج في مرحلتها الرأسمالية، بمعنى تعترض نمو قوى الإنتاج الرأسمالي فيها، أي رأس المال المحلي + العمل المأجور المحلي (الطبقة العاملة المحلية)، ولكن إذا كانت هذه الحواجز في بلدان أوروبا التي نشأت فيها الرأسمالية للمرة الأولى تمثلت بالدرجة الرئيسية في الإقطاع، فإن الحاجز الرئيسي الذي يُعرقل ويعوِّق تطور قوى الإنتاج المحلية في مرحلتها الإمبريالية هو عامل الاستعمار، أي السيطرة الإمبريالية سواء كانت سياسية عسكرية إقتصادية، أو اقتصرت على الجانب الإقتصادي فحسب.

■ إن الإمبريالية هي العائق الرئيسي الذي يقف حاجزاً أو عقبة في وجه تطور الأمة المستعمرة، لذلك لم يعد هنالك إمكانية لتطور قوى الإنتاج المحلية في هذه البلدان، ولتطور الأمة، إلا من خلال التخلص من النير الإمبريالي. فلكي تستطيع هذه الأمة المستعمرة أن تبني نفسها كأمة كان لا بد لها بالدرجة الأولى أن تتخلص من هذه السيطرة الإمبريالية الواقعة عليها. أي أن هذه الأمة كان لا بد لها، أن تحقق أولاً حقها في تقرير مصيرها، حقها في أن تبني نفسها كأمة، حقها في أن تقيم دولتها المستقلة الموحدة.

■ المسألة القومية – إذن - هي إحدى المسائل الأساسية التي كان لا بد من حلها من أجل توفير الإطار الملائم لتنمية قوى الإنتاج المحلية. لكن المسألة القومية أصبحت تطرح نفسها بإطار جديد لأن العقبة الرئيسية الآن أمام تطور الأمة لم تعد هي الهيمنة الإقطاعية كما كان الوضع سابقاً، وإنما أصبحت هي الهيمنة الإمبريالية بالدرجة الأولى. ولذلك أصبحت المسألة القومية تطرح نفسها باعتبارها مسألة التحرر من السيطرة الإمبريالية، أصبحت تطرح نفسها كمسألة حق هذه الأمة أن تقرر مصيرها بنفسها سياسياً واقتصادياً. ومن هنا، أصبحت المسألة القومية في المرحلة الإمبريالية مسألة محورها ما يسمى بحق تقرير المصير، حق الأمم في تقرير مصيرها.

■ حق تقرير المصير بالنسبة للإشتراكية العلمية ليس مجرد مسألة قانونية، أي ليس حقاً قانونياً فحسب، إنه بالدرجة الأولى شعار للنضال ضد الهيمنة الإمبريالية على هذه الأمة أو تلك، وهو شعار يعبر عن حاجة هذه الأمة إلى أن تزيل كل شكل من أشكال الاضطهاد القومي الواقع عليها من قبل أمة أخرى. فحق تقرير المصير إذن، هو التعبير عن نضال الأمم المضطَهَدة من أجل إزالة كل شكل من أشكال الإضطهاد القومي الواقع عليها من قبل أمة أخرى، وهذا هو جوهر المفهوم اللينيني لحق تقرير المصير.

■ في هذا العصر، بعد أن تحوَّلت الرأسمالية إلى إمبريالية على مستوى عالمي، أصبحت المسائل القومية أكثر تعقيداً من أي وقت مضى. سابقاً كانت المسألة القومية إلى حد بعيد بسيطة ومحدودة وملموسة (هناك بورجوازية وإقطاع، البورجوازية تريد إزالة الإقطاع من أجل أن تشكل دولة قومية موحدة ومستقلة عن غيرها من الدول القومية). لكن مع الإمبريالية، نشأت أوضاع شديدة التعقيد، طاولت مسألة الدولة القومية على مستوى عديد الدول في «العالم الثالث»، ومنها تلك التي تعرضت لظاهرة الاستعمار الاستيطاني، والتي يُعد بلدنا فلسطين من أبرز ضحاياها.

■ في عصر الإمبريالية كذلك، برزت ظاهرة التقسيم الإمبريالي للأمة الواحدة إلى مناطق نفوذ تخضع لدول إمبريالية متعددة كما حصل مثلاً في منطقتنا عندما جرى تقسيمها بعد الحرب العالمية الأولى وبموجب إتفاقية سايكس – بيكو بين دولتين إمبرياليتين، هما بريطانيا وفرنسا، علماً أن منطقتنا لم تكن الوحيدة التي جرى تقسيمها من قبل الإمبريالية بين عدة دول، أو مناطق نفوذ إمبريالية متعددة.

■ إن المبدأ العام الذي يحكم الحل الثوري للمسألة القومية، هو المبدأ القائل بحق الأمم بتقرير مصيرها وفقاً للمفهوم اللينيني باعتباره يتمحور أساساً، حول النضال ضد الإمبريالية، والكفاح من أجل بناء الدولة القومية المستقلة والموحدة في إطار، وفي سياق النضال العام ضد الإمبريالية.

وفي ضوء مصلحة هذا النضال أصبح يتقرر الموقف إزاء هذه المسألة القومية أو تلك، وهذا ما نعنيه بأن حق تقرير المصير ليس حقاً مطلقاً، ولا هو قضية محض قانونية، إنما هو قضية تُقاس، وبالتالي يجري الحكم عليها، بميزان ما يخدم العملية النضالية ضد الإمبريالية، أي النضال من أجل التقدم والتطور، ومن أجل تمكين الأمم من أن تبني دولتها المستقلة، التعددية، الموحدة، لكي تستطيع أن تنهض بتنمية أوضاعها المحلية (إقتصادياً، علمياً، ثقافياً، دفاعياً،..) بمعزل عن السيطرة الإمبريالية، وبالإستقلال عنها.

■ هكذا إذن، أصبحت المسألة القومية تطرح نفسها في عالمنا اليوم، وعلى ضوء هذه القاعدة نستطيع أن نقرر موقفنا الثوري حيالها، فمن حيث المبدأ حق تقرير المصير يعني أن كل أمة لها الحق في أن تشكل دولتها المستقلة الموحدة، دولتها القومية. لكن هذا الحق يتوقف استخدامه على موقع القضية القومية المطروحة في مجرى النضال ضد الإمبريالية، أي النضال العام لكل شعوب العالم ضد الإمبريالية، وعلى ضوء هذه المسألة يتقرر الموقف الثوري من حق تقرير المصير■

1985

       

الفصل الثالث

في الإقتصاد السياسي

■ في إطار الفهم المادي الجدلي للتاريخ، مدخل

   إلى الإقتصاد السياسي

■ الإقتصاد السياسي لأسلوب الإنتاج الرأسمالي

■ الإقتصاد السياسي.. مقولات ومفاهيم

معهد العلوم الإجتماعية

الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

في إطار الفهم المادي الجدلي للتاريخ،

مدخل إلى الإقتصاد السياسي

 [■ الإقتصاد السياسي علم يدرس جوانب معيّنة من حياة المجتمع البشري، هو علم يدرس النظام الاجتماعي للإنتاج والعلاقات الاقتصادية بين الناس أثناء عملية الإنتاج، هو علم يدرس القوانين التي تحكم إنتاج وتبادل وتوزيع الخيرات المادية في مختلف مراحل تطور المجتمع البشري.

■ المادية التاريخية تدرس المسائل العامة لتطور المجتمع: بنية المجتمع، والتفاعل بين مختلف جوانب الحياة الإجتماعية، وقوانين التطور العامة للمجتمع الإنساني، والقوى الإجتماعية والمادية والروحية المحركة لهذا التطور.

■ إنطلاقاً من هذا التعريف، ومن هذه الزاوية بالتحديد، يقع الإقتصاد السياسي في الحقل (الحيّز) المعرفي والمنهجي للمادية التاريخية، كون الأخيرة تعبّر عن جوهر المفهوم المادي للتاريخ الذي يعتبر أن العامل الأساس في تطور المجتمع البشري هو – بالتحليل الإخير – إنتاج وإعادة إنتاج الحياة الحقيقية، الفعلية بكل جوانبها المادية إبتداءً، ومن ثم غير المادية (الروحية).

■ إن المادية التاريخية تضيء هذا الطريق بمنهجها وعلى يد مبادئها التأسيسية: الوجود الإجتماعي يحدد الوعي الإجتماعي مع إنعكاس الثاني على الأول وتفاعلهما؛ التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج هو محرك التقدم في المجتمع، وفي سياقه يندرج الصراع الطبقي الإجتماعي؛ وجهة التاريخ بالمحصلة تصاعدية، تطورية مع التأكيد على التطور المتفاوت بين مختلف المجتمعات؛ والحقيقة هي دائماً ملموسة..]

(1)

إنتاج الخيرات المادية هو أساس حياة المجتمع

■ كي يعيش الناس ينبغي عليهم إمتلاك الغذاء والكساء والسكن وغير ذلك من الخيرات المادية. ولكن هل يجد الناس هذه الخيرات المادية الضرورية من أجل العيش بصورة جاهزة في الطبيعة، أم لا بد لهم من أجل امتلاكها أن ينتجوها أولا؟

منذ بداية تكوّن المجتمعات البشرية كان الإنسان ينتج هذه الخيرات، فقد كان يصطاد الحيوانات ويشويها لتأمين طعامه، ويصنع الادوات البدائية التي تسمح له بإنتاج الخيرات المادية، وتملكها. وكان يبني لنفسه المسكن بغية النوم والحماية له من الحيوانات المفترسة، أو إتقاء برودة الطبيعة.. وإنتاج الخيرات المادية لا يقوم من خلال أفراد لا رابطه تجمعهم، بل على أساس جماعات، فهو إنتاج إجتماعي. وكان العمل يُعتبر نشاط الانسان الاجتماعي، وهو نشاط واعٍ بالضرورة. وعليه، فإن إنتاج الخيرات المادية هو أساس وجود وتطور المجتمعات البشرية، ما يتطلب توفر عناصر ثلاثة، هي:

أ) العمل: وهو الجهد العقلاني الواعي الذي يبذله الانسان لانتاج الخيرات المادية، والإنسان إذ يعمل، فهو يؤثر في الطبيعة ويكيّفها وفق حاجاته. وهو نشاط واعٍ، وكفاءة يتميَّز بها الانسان وحده، وبدون العمل يستحيل إنتاج خيرات مادية، ويستحيل وجود حياة بشرية. العمل بالذات هو الذي أدى إلى فصل الإنسان عن ملكوت الحيوان. وفي سياق العمل ظهرت الحاجة إلى المخاطبة، وظهرت اللغة.

ب) أدوات (وسائل) العمل: في محاولاته للتأثير على الطبيعة وتكييفها وفقا لحاجاته، يصنع الإنسان أدوات العمل، وهي جميع الوسائل المادية التي يحوّل بها الانسان موجودات الطبيعة ويدخل في عدادها، إلى جانب أدوات العمل بالمعنى المباشر للكلمة (كالآلات والتجهيزات الضرورية)، مايلي: المنشآت والمباني الإنتاجية + وسائل النقل والاتصالات + الأوعية الضرورية لحفظ مواضيع العمل (كالمخازن، المستودعات، الصهاريج، الخ..).

إن صنع أدوات العمل هو سمة مميزة للعمل البشري، وقد إتسم العمل البشري منذ البداية، بصنع أدوات العمل من الحجر والخشب.

ج) مواضيع العمل: بواسطة وسائل العمل، وتحديدا أدوات العمل يؤثر الانسان في مواضيع العمل التي تتواجد في الطبيعة المحيطة به. وتعتبر الارض والثروات الباطنية: التربة، المعادن، الغابات، النفط، الثروة المائية، وغيرها، مواضيع العمل. ما تحتويه الطبيعة إذن يشكل مواضيع العمل.

■ إن وسائل العمل (المعدات والآلات وغيرها) إذا ارتبطت مع مواضيع العمل (أي الموارد الطبيعية) لا تكوّن وحدها إنتاجا، بل بالضرورة يجب إرتباطها مع الجهد البشري الواعي ليتحول كل هذا الى إنتاج. إذن، المعادلة تقوم على ما يلي: العمل + وسائل العمل + مواضيع العمل = القوى المنتجة■

(2)

القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج

■ إنتاج الخيرات المادية يتألف في كل مرحلة من مراحله من عنصرين هما: القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج. 

أما القوى المنتجة فهي قوة العمل متحدة مع وسائل الإنتاج (وسائل العمل+ مواضيع العمل). وبدون قوة العمل، أي عمل البشر، حتى لو توفرت وسائل العمل ومواضيع العمل، فلا يمكن إنتاج خيرات مادية.

في إطار تطور القوى المنتجة تتشكل علاقات بين الناس، وتطور القوى المنتجة يعتبر مؤشرا على مدى تحكم الناس بقوى الطبيعة، فاكتشاف النار كان خطوة إلى الامام في تطور القوى المنتجة، وكذلك اكتشاف المحراث الخشبي، ومن ثم المعدني، ولاحقاً المحراث الآلي.. لقد أثر ذلك بشكل فعال في إنتاج الخيرات المادية في المجتمع. في مراحل التطور الأولى للمجتمعات البشرية كان الإنسان يعتمد على قوته الجسدية. ثم بدأ يعتمد على الآلة التي هي من صنعه. واليوم يتراجع الاعتماد على القدرات الجسدية، ويزداد دور العمل الذهني للناس في إنتاج الخيرات المادية. 

■ في سياق عملية الإنتاج، يدخل الناس فيما بينهم بصلات وعلاقات إقتصادية متبادلة، هي علاقات الإنتاج. ولتوضيح ذلك نأخذ المثال التالي: هناك آلاف الناس يشتغلون في مصانع تنتج ملابس. ولكن هناك آلاف آخرون يعملون في إنتاج القطن. وآخرون في إنتاج آلات الحياكة والغزل. وآخرون في إنتاج الخيوط. وعلى هذا الأساس وبغية الوصول إلى إنتاج الملابس، يدخل كل هؤلاء في علاقات وصلات على أساس موضوعي مع بعضهم البعض، وهذه الصلات والعلاقات يسميها علم الاقتصاد السياسي علاقات الإنتاج. إذن: العلاقات التي تقوم بين الناس في سياق عملية إنتاج الخيرات المادية، وتبادلها، وتوزيعها، واستهلاكها، هي علاقات الإنتاج.

■ إن علاقات الإنتاج، إما أن تكون علاقات تعاون وتعاضد بين أفراد أحرار متحررون من قيود الاستغلال، وإما أن تكون علاقات تقوم على استغلال الانسان للإنسان. والعامل الأساس الذي يحدد طبيعة هذه العلاقات هو ملكية وسائل الإنتاج، فإذا كانت ملكية وسائل الإنتاج جماعية (أي ملك المجتمع بأسره)، إنتفى طابع الاستغلال عن علاقات الإنتاج. أما إذا كانت ملكية وسائل الإنتاج خاصة، أي تخص أفراد دون غيرهم في المجتمع، فهي تقوم على قاعدة الاستغلال، أي عناصر السيطرة، من جهة، تقابلها عناصر الخضوع، من جهة أخرى.

إن علاقة الناس بوسائل الإنتاج، تحدد مكان ووضع الافراد في عملية الإنتاج، وطرق التوزيع لمنتجات العمل؛ إتحاد القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج يؤلفان أسلوب الإنتاج (أو نمط الإنتاج) ■ 

(3)

البناء التحتي والبناء الفوقي والعلاقة بينهما

■ بشكل عام، أي إذا وضعنا جانباً خصوصيات التطور في كل مجتمع وبلد، الخ..، نستطيع أن نقول، إن التاريخ البشري بمثال معظم مناطق القارة الأوروبية، عرف أربعة نماذج من أساليب (أنماط) الإنتاج، هي:

 1- المشاعي البدائي؛ 2- العبودي؛ 3- الإقطاعي؛ 4- الرأسمالي.

إن بواعث التغيير التي حصلت على مر التاريخ البشري هي نتاج تطور القوى المنتجة وتخلف علاقات الإنتاج عن مواكبتها، مما يولِّد وعيا ثوريا باتجاه التقدم نحو أسلوب الإنتاج الأرقى، باعتبار كل نموذج من أساليب الإنتاج الوارد أعلاه، أرقى من سابقه.

■ البناء التحتي (الأساس، أو القاعدة)، هو مجموع علاقات الإنتاج. أما البناء الفوقي، فهو عبارة عن منظومة الأفكار السياسية والحقوقية والفلسفية والدينية والسلوكية والجمالية، والعلاقات الأيديولوجية..، والمؤسسات الحاملة، المقابلة لها. ويضم البناء الفوقي: الدولة، والقضاء، والاحزاب السياسية، والمؤسسات الدينية، وغيرها..

البناء التحتي (الأساس) إذن، هو مجموع علاقات الإنتاج، إنه البنية الإقتصادية للمجتمع؛ والبناء التحتي هو بناء تحتي بالنسبة للبناء الفوقي، هما يتفاعلان ويؤثران ببعضهما البعض إنطلاقاً من هذه العلاقة الملزمة، وإن لم تساوي بينهما، فالبناء التحتي هو الأساس بالنسبة للبناء الفوقي الذي بدوره يلعب دوراً حاسماً في عديد الأحيان في دينامية وتطور البناء التحتي، كما هو حال «الدولة» (المحتسبة على البناء الفوقي) على سبيل المثال، من زاوية تأثير الدولة في دينامية وتطور علاقات الإنتاج والتبادل (والتداول)، ودور طبقات إجتماعية بعينها في كل هذا.

[■ لتقريب الفكرة، وتوضيح العلاقة بين مفهومي الأساسي والحاسم، نستعين بمثال مستمد من الواقع الحسي، الملموس للمبنى الحزبي، لحزب كحزبنا: كما يؤكد النظام الداخلي، تشكل القاعدة الحزبية، أي الخلايا، الأساس، المستوى الأساسي الذي يقوم عليه هيكل الحزب ومبناه. لكن، وحتى يضطلع هذا المستوى بدوره كاملاً، ومن أجل تفعيله، فهو يحتاج إلى إقامة علاقة مع المستوى الأعلى في هيكل الحزب، وهو اللجان المحلية، حتى يضمن الربط والتواصل والتفاعل بين القاعدة الحزبية وسائر المحطات القيادية في الحزب بالإتجاهين، الذي بدونه لا تسري على الحزب (بمختلف هيئاته) المركزية الديمقراطية في العلاقات الداخلية، ومع الحركة الجماهيرية.

هذه العلاقة بين القاعدة الحزبية (البناء التحتي) ومحطات الربط والتواصل والتفاعل، أي اللجان المحلية، هي، من هذه الزاوية، علاقة المستوى الأساسي بالمستوى اللازم كي يُفعَّل دور الأول ويتفاعل مع البناء الفوقي (القيادي) للحزب، ومن هنا الدور الحاسم الذي يضطلع به هذا المستوى، مستوى اللجان المحلية.]

■ العلاقة بين البنائين التحتي والفوقي تكون – في عديد الأحيان – قائمة على علاقة الأساسي بالحاسم، فمحرك التطور في المجتمع ليس البناء الفوقي بل البناء التحتي، لكن الأخير لا يفرض نفسه ولا يكتمل شرطه إلا بتطور موازٍ، أو لاحق للبناء الفوقي؛ فالثورة الفرنسية 1789 (التي أحدثت تغييراً جذرياً على بنية الدولة ومنظومتها القانونية، الفكرية، الخ..) توّجت إنتصار البورجوازية (أي نمط الإنتاج الرأسمالي) على طبقة النبلاء (أي نمط الإنتاج الإقطاعي)، وثبتت صيغة الدولة التي تعكس السلطة السياسية للطبقة المسيطرة إقتصادياً (البورجوازية)، أي الطبقة الأساسية في المجتمع بحكم أسلوب الإنتاج السائد. الثورة الفرنسية كانت ضرورية لحسم المضمون الطبقي للسلطة الحاكمة وشكلها (من خلال الدولة) المنسجم مع أسلوب الإنتاج الصاعد، اي أسلوب الإنتاج الرأسمالي.

■ البناء التحتي (الأساس، البنية التحتية) في المجتمع يضم مجمل علاقات الإنتاج بين الناس التي تنشأ وتتشكل في سياق عملية الإنتاج (والإستهلاك والتداول/ التبادل) وإعادة الإنتاج للشروط المادية لحياتهم.

في هذا السياق، يظهر البناء الفوقي في المجتمع كشكل أيديولوجي، سياسي – قانوني للمضمون الإقتصادي لحياة المجتمع (وحياته الإجتماعية)، حيث يتمتع البناء الفوقي باستقلالية نسبية عن البناء التحتي، إنما على قاعدة وفي إطار الإرتباط العام للبناء الفوقي بالبنية التحتية.

هذه الإستقلالية النسبية هي التي تفسر بقاء بعض مظاهر البناء الفوقي (مثلاً: التقاليد، السلوك، الذائقة الجمالية والفنية..) على قديمها لفترة – قد تطول– من الزمن، حتى بعد وقوع التغيير في البناء التحتي، دون أن يلغي ذلك صحة القاعدة العامة التي تنص على لحاق مختلف مظاهر وتعبيرات البناء الفوقي في نهاية المطاف، بالتغيير الحاصل في البناء التحتي.

■ الإرتباط العام بين البنائين (التحتي والفوقي) لا يضع مختلف مكونات البناء الفوقي (الدولة، القانون، الدين، الفلسفة، الفن، الخ..) على نفس السوية؛ فهذه المكونات ترتبط فيما بينها، ومع البنية التحتية بطرق مختلفة: فالدولة، والقانون بمؤسساته، والمنظمات السياسية.. ترتبط مباشرة بالبنية الإقتصادية (البناء التحتي) للمجتمع؛ بينما المكونات الأخرى (منظومة الأفكار السائدة بشكل عام، التقاليد، بعض مظاهر السلوك الإجتماعي، الخ..) تكون على مسافة أبعد من البناء التحتي الذي ترتبط به بشكل غير مباشر. وبقدر ما ترتبط مكوّنات البناء الفوقي بشكل مباشر بالبناء التحتي، يتضح على نحوٍ جلي مدى عمق وتفاعل علاقة الأساسي بالحاسم بالنسبة لهذين البنائين (أو البنيتين).

[■ تماماً كما ترتبط اللجنة المحلية (كجزء من البناء الفوقي) بشكل مباشر بالقاعدة الحزبية (البناء التحتي) لقربها منها، وهو ما يعكسه النظام الداخلي بمسمى «المنظمة المحلية» التي تشمل المحلية مع الخلايا العاملة في نطاق مسئولياتها. وبقدر ما ترتفع الهيئات عن سوية القاعدة الحزبية في الهرمية الحزبية، يستبين إرتباطها غير المباشر بها، الأمر الذي يجري عادة تجاوزه (لجهة استعادة الإرتباط المباشر والعلاقة المباشرة) في المحطات المؤتمرية، والإجتماعات الموسعة، الخ.. أي عندما يتجمع، يلتقي رأس الهرم بقاعدته في اجتماع واحد، بجدول أعمال معتمد وبحقوق متساوية في التصويت والترشيح والإنتخاب، الخ..]

■ الترابط بين البنائين، من جهة، واستقلالية البناء الفوقي عن التحتي نسبياً، من جهة أخرى، يفتح على التأثير العكسي النشط للوعي الإجتماعي على الوجود الإجتماعي، دون أن يلغي ذلك المبدأ الأساس في المادية التاريخية الذي يُعبّر بإيجاز عن جوهر المفهوم المادي للتاريخ، وهو: الوجود الإجتماعي يحدد الوعي الإجتماعي. ومن هنا الخلاصة المهمة بالنسبة للمناضلين والمناضلات في صفوف الحركة الجماهيرية: الوعي الإجتماعي (الطبقي) له قدر واضح من الاستقلال النسبي لتأثره بمكونات البناء الفوقي الناتجة – مثلاً - عن التعليم، واكتساب المعرفة في مختلف مجالاتها، أو/ و عن الممارسة المجتمعية الملموسة، الخ..

■ أما التشكيلة الإقتصادية – الإجتماعية، فهي نتاج للبنية التحتية (أسلوب الإنتاج) والبنية الفوقية (منظومة الأفكار ومؤسساتها). التشكيلة الإقتصادية - الإجتماعية هي مجتمع «في درجة معيّنة من التطور التاريخي».

ومن هذه الزاوية ونظراً لملموسيتها، بالإمكان (وخاصة في مجتمعات البلدان النامية) أن يتعايش أكثر من أسلوب (نمط) إنتاج داخل تشكيلة إقتصادية – إجتماعية محددة. وفي هذا الإطار، فإن تعدد أساليب (أنماط) الإنتاج قد يتجسد في بعض القطاعات الإقتصادية أكثر من غيرها، وفي بعض المجتمعات المحلية (الريفية أو الحضرية..) أكثر من غيرها، لكن: تعدد أساليب الإنتاج لا يلغي حقيقة هيمنة أحدها على غيره على خلفية تفاعل هذه الأساليب فيما بينها من خلال علاقات تعاون وصراع. مثلاً: تعدد أنماط (أساليب) الإنتاج في البلدان النامية (نمط الإنتاج السلعي الصغير..) لا يلغي هيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي على التكوين الإجتماعي، الخ..■

(4)

الطبقات الإجتماعية

■ الطبقات الإجتماعية هي جماعات كبيرة من الناس، تتمايز (تختلف) فيما بينها، من حيث:

- علاقتها بوسائل الإنتاج (واستتباعاً وسائل التداول...)، التي تكون غالباً مثبتة ومصاغة بقوانين؛

- مكانتها في نمط (أسلوب) معيّن للإنتاج الإجتماعي؛

- دورها في التنظيم (أو التقسيم) الإجتماعي للعمل؛

- وبالتالي، من حيث طرق حصولها على حصة من الثروة الإجتماعية، وحجم تلك الحصة.

من بين هذه السمات، تعتبر علاقة الناس المتباينة (القانونية وغيرها) بوسائل الإنتاج (أو التداول) هي السمة الأساس في تحديد الموقع الطبقي موضوعياً.

■ تعريف الطبقات إنطلاقاً من الموقع في عملية الإنتاج (والتداول)، أي ضمن الدائرة الإقتصادية والدور الإقتصادي كأساس وأولوية، لا يكفي لتعريف الطبقات وتحديد موقعها، فثمة دور رئيسي تلعبه في هذا الإطار المنظومة الفكرية والسياسية والثقافية، الخ.. أي باختصار البنية الفوقية.

وبالتالي، فإن التحليل الطبقي لا يقتصر على المعيار الإقتصادي (الذي يبقى هو الأساس)، بل يشمل أيضاً معايير أخرى سياسية وفكرية، الخ.. كما أنه يأخذ بالاعتبار واقع التداخل والتعايش والصراع في مجتمع يتجاور فيه، ويتداخل أكثر من نمط إنتاجي (رأسمالي وما قبل رأسمالي).

■ ثمة طبقات أساسية و طبقات غير أساسية في المجتمع المعني، فالأولى يخلقها ويحددها أسلوب الإنتاج القائم، وفي المجتمع (المنقسم إلى طبقات) تكون هي الطبقة التي تعود لها ملكية وسائل الإنتاج الأساسية، أي الطبقة المستغِلة التي تقف بالتضاد، والتناقض مع الطبقة المستغَلة، مثلاً:

- في المجتمع العبودي: ملاك العبيد # العبيد، هما الطبقتان الأساسيتان.

- في المجتمع الإقطاعي: الإقطاعيين # الفلاحون، هما الطبقتان الأساسيتان.

- في المجتمع الرأسمالي: البورجوازية # البروليتاريا، هما الطبقتان الأساسيتان، حيث التناقض الأساسي يكمن في التناقض بين الصفة الإجتماعية للإنتاج، وبين الصفة الخاصة لملكية وسائل الإنتاج. ويعبر هذا التناقض عن نفسه – من حيث العلاقات الطبقية – في التناقض بين البورجوازية والبروليتاريا.

■ الطبقات غير الإساسية، بالمقابل، ليست ناجمة عن أسلوب الإنتاج السائد، بل تكون إما:

أ) موروثة من أسلوب الإنتاج السابق، وعندها تُسمى طبقات ثانوية، كما هو حال: كبار الملاك في المجتمعات الرأسمالية، أو بما يُطلق عليه مسمى البورجوازية الصغيرة التقليدية (الفلاحون الصغار، أصحاب الورش أو المتاجر الصغيرة، الخ..)، والقاعدة المادية لوجودهم هي الإنتاج البضاعي البسيط؛

أو تكون: ب) أنوية لأسلوب (نمط) إنتاج جديد قيد التشكل، وعندها تُسمى طبقات إنتقالية، كما هو حال: الفلاحين الأحرار، والمهنيين في المجتمعات العبودية؛ أو المهنيين المنتظمين في ورش (تضم المُستغِل: المعلم، والمُستغَل: المهني المختص أو المتدرب)، والتجار، والصيارفة في مجتمعات الإقطاع.

■ إن هذا التصنيف بين طبقة أساسية وأخرى غير أساسية لا يمس بدور الأخيرة وفاعليتها وحركتها في المجتمع في حالتي الصراع المجتمعي المحتدم أو الهاديء؛ فأي عاقل يمكن أن يفكر بتجاهل أهمية دور وفاعلية الفلاحين في عديد مجتمعات أسلوب الإنتاج الرأسمالي (!)..

إنه تصنيف يسلط الضوء – ليس إلا - على موقع الطبقتين الأساسيتين في كل نمط إنتاج، اللتين تجسدان أو يجسد التناقض بينهما التناقض الأساس في التشكيلة الإقتصادية الإجتماعية (بين الرأسمال والعمل المأجور، أي بين الصفة الإجتماعية للإنتاج والصفة الخاصة للملكية، كما يُعبِّر هذا التناقض عن نفسه، من حيث العلاقات الطبقية، بين الطبقتين الأساسيتين: البورجوازية والبروليتاريا، مثلاً، في مجتمع نمط الإنتاج الرأسمالي)■

 (5)

الإشتراكية والطبقات الإجتماعية

■ الإشتراكية هي النظام، الذي: 1- تسود فيه ملكية المجتمع العامة لوسائل الإنتاج؛ و 2- يسيطر فيه المنتجون، المنظمون ديمقراطياً، سيطرة جماعية على سلطة التصرف بوسائل الإنتاج؛ و 3- بنتاج العمل الإجتماعي.

الإشتراكية تحقق المساواة بين أفراد المجتمع، فيما يخص علاقاتهم بوسائل الإنتاج من الناحية القانونية، ما يعني إنهاء الإستغلال لقوة العمل لجهة إستحواذ مالك وسائل الإنتاج على فائض القيمة، ما يمثل – تالياً – خطوة رئيسية – إنما ليست كاملة - على طريق إلغاء إنقسام المجتمع إلى طبقات.

■ هل هذا يعني زوال الطبقات؟ لا، كلا، فالطبقات لا تزول فقط عندما تتنقل الملكية القانونية لوسائل الإنتاج من الملكية الخاصة إلى ملكية المجتمع العامة، التي تطرح بدورها مسألة من هو الوسيط، أو المكلف، الذي تنتقل إليه هذه الملكية، فإذا كانت هي الدولة، فما هو المضمون الطبقي لهذه الدولة، وكيف يتم تحديد آلية اتخاذ القرار والتصرف بثمرة العمل الإجتماعي، وما هي علاقة المنتجين بكل هذا، وما هي الصيغة التي تَنْظُم مشاركتهم في اتخاذ القرار المتعلق بالإنتاج، وتحديد الحصة من الثروة الإجتماعية التي يتم توزيعها، وكيف توزع، الخ..

■ على أهمية تغيير الطابع القانوني لملكية وسائل الإنتاج (والتداول)، التي هي الأساس في تحديد الموقع الطبقي، فإنها ليست الأساس الوحيد، فإلى جانبها تندرج المعايير الأخرى التي ذُكرت آنفاً، أي المكانة التي تحتلها مجموعة من الناس في نظام معيّن للإنتاج الإجتماعي؛ والدور الذي تضطلع به في التنظيم (أو التقسيم) الإجتماعي للعمل، بما فيه سلطة التصرف والتقرير الناجمة عن علاقتها  بوسائل الإنتاج (واستتباعاً التداول) والمثبتة بقوانين ولوائح، حتى لو لم تكن قائمة على التملك، فسلطة التصرف في غياب الملكية الخاصة بالمعنى القانوني، وفي ظل غياب الرقابة الديمقراطية، يترتب عليها الحصول على مكاسب مادية ومعنوية، تُعيد إنتاج إمتيازات الطبقة المالكة المخلوعة، أوجُلَّها؛ كما يترتب عليها، أيضاً،  التأثير الحاسم  على أسلوب الحصول على حصة من الثروة الإجتماعية، بما فيه تقرير حجم تلك الحصة...

■ الإشتراكية كنظام سياسي – إقتصادي – إجتماعي، إذ تقيم المساواة بين المنتجين (واستتباعاً بين أفراد المجتمع) على مستوى العلاقة مع وسائل الإنتاج (والتداول)، فإنها لا تضمن بعد، المساواة التامة بينهم، أي في نصيب كل منهم من ثمار العمل الإجتماعي، حيث تسود قاعدة «لكل حسب عمله»، وليس «لكل حسب حاجته». ففي المجتمع الإشتراكي ينال الفرد حصة من ناتج العمل الإجتماعي تتناسب مع عمله، أي مع درجة مساهمته في عملية الإنتاج الإجتماعي.

وبالمقابل، فإن المرحلة العليا من مراحل تطور المجتمع الإشتراكي، التي تتأمن فيها الوفرة في الخيرات المادية والروحية، وسيطرة المنتجين الديمقراطية التامة على مصادر هذه الخيرات في المجتمع، هي التي توفر شروط معادلة أخرى، يعطي الفرد فيها للمجتمع بقدر طاقته، وينال منه بقدر حاجته■

2000

الاقتصاد السياسي لأسلوب الإنتاج الرأسمالي

[■ يبدأ مؤسس الإشتراكية العلمية كارل ماركس تحليل الرأسمالية بدراسة البضاعة، فكل شيء في ظل الرأسمالية، من الدبوس إلى المصنع، وحتى قوة عمل الانسان، يُباع ويُشترى، ويأخذ شكل بضاعة.

واعتبر ماركس أن البضاعة هي خلية المجتمع البورجوازي الاقتصادية، فهي تعكس جميع التناقضات الأساسية الخاصة بالرأسمالية، وهناك شرطان يجب أن يتوفرا حتى يتحول الإقتصاد إلى اقتصاد بضاعي: التقسيم الاجتماعي للعمل + نشوء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج:]

(1)

الإنتاج البضاعي

■ تاريخيا كان يوجد نوعان للإنتاج البضاعي: الإنتاج البضاعي البسيط لدى الفلاحين، حيث تعود وسائل الإنتاج وناتج العمل الى المنتج نفسه. إما في الإنتاج البضاعي الرأسمالي، فإن المنتج المباشر ينفصل عن وسائل الإنتاج وناتج العمل لا يعود له، بل يعود إلى صاحب الإنتاج، أي الرأسمالي صاحب الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج.

في الإنتاج الرأسمالي يجري إنتاج القسم الأعظم من المنتجات (السلع، أو البضائع) من أجل البيع، حيث يباع ويُشترى كل شيء، ومن أجل أن يصبح الناتج بضاعة، ينبغي لهذا الناتج أن يلبي ليس حاجة الذي أنتجه فحسب، بل حاجات إناسا آخرين، وهذا يعني أن ناتج العمل لا يتحول إلى بضاعة، إلَّا عندما يجري إنتاجه في سياق عملية التداول، من أجل التبادل (أي البيع والشراء).

■ قيمة البضاعة: كل بضاعة لها قيمة إستعمالية وقيمة تبادلية..

القيمة الاستعمالية تقاس بمدى الحاجة لها، كالخبز من أجل الغذاء..

القيمة التبادلية تقاس بعلاقتها مع بضاعة أخرى، مثلا ربطة الخبز تعادل في قيمة المبادلة كيلو من السكر، أو غيرها، وثمة ترابط بين هاتين الخاصيتين، وفي حال غياب أي منهما، لن تكون هنالك بضاعة..

■ السؤال المهم في هذا الصدد هو: بِمَ يتحدد التناسب الكمي للبضاعة عند إجراء تبادل البضائع؟

يعتقد البعض أن التناسب يتحدد من خلال العرض والطلب، فإذا كان عرض البضاعة زائدا، والطلب عليها قليل، ينخفض سعرها، وبالعكس إذا كان المعروض قليل والطلب كثير إرتفع سعرها.

في حياتنا اليومية يبدو هذا منطقيا، ولكنه لا يحل المشكلة. ولا يجيب على السؤال الآخر، بم يتحدد سعر البضاعة في حال تطابق العرض والطلب على السلع، فهل هذا يعني أن كيلوغراماً من السكر يتساوى مع كيلوغرام من الملح. بالتأكيد لا.. من هنا نستنتج بأن العرض والطلب لا يلعبان الدور الأساسي في تحديد قيمة البضاعة.

■ قد يتبادر إلى الذهن أن القيمة الاستعمالية للبضاعة، أي مقدار حاجة الانسان لها، هو الذي يحدد سعرها. هذا الافتراض خاطيء. فالقمح على سبيل المثال حاجة أساسية من حاجات الانسان الغذائية، فهل يمكن أن يكون القمح أغلى ثمنا من الالماس، رغم أن حاجة الالماس محدودة لدى الغالبية العظمى من البشر.

إن قيمة البضاعة كما حددها ماركس لا تكمن في مقدار نفعها، ولا في علاقتها التبادلية، ولا في ندرتها، أو وفرتها، بل في شيء آخر هو العمل، أو كمية العمل الإجتماعي المبذول في سبيل إنتاجها.

■ جميع البضائع هي نتيجة العمل البشري. فالبضائع تقارن بعضها ببعض حسب كمية العمل المجسد في إنتاجها، إذن كمية العمل الإجتماعي هو أساس القيمة وجوهرها.

فالذهب أغلى بكثير من الفحم الحجري، لأن كلفة العمل المتجسد فيه أكبر بكثير مما يتطلبه إستخراج الفحم الحجري.

إذن، كمية العمل المبذول في إنتاج البضاعة هو الأساس والجوهر في تحديد القيمة، فما الذي يحدد القيمة التبادلية للبضاعة، وسعرها في السوق؟ عند احتساب قيمة البضاعة يُستوعب التالي: المواد الأولية المستخدمة في البضاعة، ونسبة وسطية من قيمة الأصول تسمى نسبة إهتلاك الأصول (المعدات، الأبنية)، وقيمة قوة العمل المتجسد فيها، لانتاجها..

■ كيف تتجسد كمية العمل الاجتماعي الضروري لإنتاج بضاعة؟

إن قوة العمل في المجتمع الرأسمالي بضاعة. من أجل أن يتمكن العامل من العيش ويوفر مقومات حياته وحياة أسرته يحتاج إلى الطعام والشراب واللباس والطبابة والسكن والمدارس من أجل الأولاد... من أجل هذا يشتري الرأسمالي قوة عمل العامل الذي يتلقى، بالمقابل، أجراً يساوي قيمة ما يسمح له (وعائلته) بالعيش، وبتجديد قدرته على العمل، أي تجديد قوة عمله. إن قوة عمل العامل بضاعة تتحدد قيمتها بتوفير وسائل العيش، الضرورية له ولعائلته، من أجل بقاء وإعادة إنتاج قوة العمل، وبما يضمن إستمراريتها■

(2)

قانون القيمة

■ قانون القيمة، هو القانون الاقتصادي لحركة تطور الإنتاج البضاعي القائم على أساس الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. إنتاج البضائع يجري بصورة عفوية، غير منسقة وغير منظمة بين مالكي وسائل الإنتاج؛ ومن هنا الصراع فيما بينهم القائم على المنافسة والمزاحمة بغية الحصول على أكبر حصة من السوق، وبالتالي على أعلى درجات الربح، في ظل وجود أكثر من طرف ينتج نفس البضاعة. ولو كان الإنتاج محصورا بشخص، لكان بإمكانه أن يتحكم بسعر تسويق إنتاجه كون بضاعته غير معرضة للمنافسة.

■ لكن في ظل تعدد المنتجين لنوعية السلع المتشابهة، تبدأ الأسواق بالتأرجح، ومن تكون كلفة إنتاجه أقل، هو الذي يأخذ الحصة الأكبر من السوق. وهذا ما يتم غالباً من خلال استخدام التكنولوجيا المتقدمة (أي تطوير قوى الإنتاج لزيادة إنتاجية العمل وخفض قيمة الوحدة الواحدة من البضاعة)، كما يتم – إنما بشكل أقل – من خلال إستغلال أكثر شدة لقوة العمل، أو – في الحالات الإستثنائية - بتمديد ساعات العمل.

■ القيمة بحاجة إلى مقياس (النقد)

في السابق، كان تبادل البضاعة يأخذ طابعا عينيا، أي بضاعة مقابل بضاعة، ولكن مع ظهور الإنتاج البضاعي السابق للرأسمالية كانت عملية التبادل في السوق تقاس مقارنة بالذهب، والفضة، والقطع المعدنية. لكن مع تطور الإنتاج البضاعي، وتطور عمليات التبادل، وتشكل الاسواق، ظهر النقد كمقياس للقيمة، وأخذت الدول تطبع نقودها لتسهيل عمليات التبادل. إن وظيفة النقد هي قياس القيمة، فالنقد هو معيار القيمة ومقياسها. إن قياس قيمة البضاعة بالنقد يحدد سعر، أو ثمن البضاعة.

■ النقد هو وسيلة للتداول، ففي الإنتاج البضاعي البسيط كان التداول بضاعة مقابل بضاعة. لكن مع تطور الإنتاج البضاعي أصبحت عملية التبادل بضاعة مقابل نقد، ومبادلة النقد ببضاعة جديدة، أي: بضاعة – نقد- بضاعة. وعليه بات النقد يلعب دورا مهماً في عمليات التبادل البضاعي ومحوريا في الحياة الاقتصادية، وتحوّل النقد الى وسيلة للإثراء، فأخذ الرأسمالي يوظف أمواله من أجل زيادة ثروته ومراكمتها. وبرزت معادلة جديدة في تداول الرأسمال: نقد- بضاعة- نقد*. ومعروف في هذه الحالة أن كمية النقد قبل بيع البضاعة تكون أقل من كميته بعد بيعها، حيث يضاف الربح إليه (ما تمت الإشارة إليه أعلاه بإضافة النجمة).

■ إنتاج القيمة الزائدة (ق. ز)، أو فائض القيمة (فق)

 مع تطور الإنتاج البضاعي توفرت الشروط الضرورية لنشوء الرأسمالية، ومع نشوء الرأسمالية نشأ جمهور من الفقراء: البروليتاريا، أي العمال المحرومين من ملكية وسائل الإنتاج، والذين لا يملكون سوى قوة عملهم يبيعونها لصاحب العمل. وتتميز هذه الحقبة بمراكمة الثروات النقدية، وامتلاك وسائل الإنتاج لدى البورجوازية، وهي طبقة قليلة العدد واسعة النفوذ والسلطة. وفي هذه الحقبة توحدت الأسواق القومية (الوطنية) للدول الرأسمالية، ونشأت فيما بعد الأسواق العالمية لرأس المال.

إن مصطلح الرأسمالي يطلق على الشخص الذي يوظف أمواله في استثمار ما، بهدف أن يعود عليه بعد فترة زمنية معينة بأموال تفوق ما وظفه في بداية الاستثمار.

إن أي رأسمالي يبدأ في العمل بمشروع ما (على سبيل المثال إقامة مصنع لانتاج ملابس) يقوم أولا بشراء (أو إستئجار) المكان وإقامة الإنشاءات اللازمة عليه. ثم يقوم بشراء الآلات وتأمين المواد الأولية. إن إنجاز هذه الخطوات غير كافٍ لتوليد ثروة إضافية، الأمر الذي لا يتحقق إلا بشراء قوة العمل المحركة لهذا الإنتاج. إن قوة عمل العمال هي الشرط اللازم الذي لا غنى عنه حتى يبدأ المصنع في الإنتاج، وحتى يبدأ الرأسمالي بالحصول على أرباح تصب بجانب منها في توسيع رأسماله.

■ ينقسم الرأسمال إلى قسمين: رأسمال ثابت (ث) يعادل قيمة ما وظفه الرأسمالي في تجهيز المصنع، البناء، الآلات، التجهيزات. وهذا لا يستهلك مرة واحدة في سياق عملية الإنتاج، بل يحتاج إلى سنوات لاستهلاكه. ويدخل في عداد الرأسمال الثابت المواد الأولية التي تنخرط في دورة الإنتاج كالطاقة، والوقود، وغيرها.

اما الرأسمال الآخر فهو الرأسمال المتغير (م)، وهو يعادل ما ينفقه الرأسمالي في شراء قوة العمل، ويعتبرها كما أسلفنا بضاعة.. وهذا الرأسمال يتغير في سياق عملية الإنتاج، ويولِّد قيمة إضافية تسمى القيمة الزائدة (ق.ز)؛ أي أن قسماً من ثروة الرأسمالي تنتج قيمة مضافة (زائدة) عبر الرأسمال المتغير، أي (قوة العمل).

■ لفهم هذا الموضوع نورد المثال التالي: 

قام صاحب مصنع بإنشاء مصنع: المباني، الآلات، التجهيزات، المواد الأولية واستخدم قوة عمل.. وأنفق على إنتاج بضاعة ما يوازي عشرة آلاف دولار(10.000$)، تتوزع كالتالي:

قيمة المواد الخام          5000$    (قماش وخلافه)

وقود، طاقة               1500$

معدل إستهلاك الآلات    1500$

أجور عمال              2000$ 

      المجموع                10.000$

أي أن إنتاج البضاعة في فترة زمنية محددة بلغت كلفتها 10.000$، فيبيعها الرأسمالي بـ 12.000$، فيتحقق لديه فارق بين سعري (قيمتي) الكلفة والبيع قدره 2000$.

■ السؤال الجوهري هو، من أين يأتي هذا الفارق بين قيمة المدفوع وعائد البيع. لقد سبق وأشير أن لكل بضاعة قيمة، وقيمتها تتحدد بكمية العمل الاجتماعي المتجسد فيها. ولما كان الرأسمال الثابت لا ينتج قيمة زائدة، لا بد أن الرأسمال المتغير هو مصدر إنتاج القيمة الزائدة، أي أن الفارق هو نتيجة قوة عمل العامل بالقيمة الزائدة التي ينتجها.

■ كيف يمكن أن تكون القيمة الزائدة جزء من قيمة قوة العمل؟ وقد تقاضى العامل أجره من الرأسمالي. إذن لا بد أن قيمة قوة العمل للعامل شيء، والأجر الذي تقاضاه شيء آخر، أي أقل. ولتوضيح ذلك نشير إلى التالي:

ينقسم يوم العامل إلى وقتين: الأول يُسمى وقت العمل الضروري، والثاني هو وقت العمل الزائد (الفائض). أما وقت العمل الضروري، فهو ذلك القسم من العمل اللازم لكي يجدد فيه العامل قوة عمله. في هذا الوقت تحديدا يبيع العامل قوة عمله للرأسمالي، مقابل أجر يؤمن له (ولعائلته طبعاً) وسائل المعيشة الضرورية للاستمرار.

أما وقت العمل الزائد فهو ذاك القسم من يوم العمل الذي ينتج فيه العامل ولا يتقاضى مقابله بدلا، بل يستولي عليه الرأسمالي. فمثلا إذا كان يوم العمل مكون من 8 ساعات؛ فإن هذه الساعات يتم تقسيمها إلى قسم يتلقى فيه العامل أجره لإنتاج وتجديد قوة عمله، والقسم الآخر ينتج فيها العامل ولا يتقاضى عليه أجراً، وخلاله يتم خلق قيمة يستأثر بها (يستحوذ عليها) الرأسمالي، وتسمى القيمة الزائدة، أو فائض القيمة.

■ من الذي يستحوذ على القيمة الزائدة؟

يشترك في الاستحواذ على القيمة الزائدة، الرأسمالي الصناعي، ومن ثم الرأسمالي التجاري. فالبضاعة بعد إنتاجها تنقل إلى السوق بغية بيعها، وهذا من مسؤولية الرأسمالي التجاري، فهو الأقدر على معرفة حركة السوق (العرض والطلب). وهو يقوم بهذا النشاط مقابل مردود مالي، أي المشاركة في قسم من الأرباح المتولدة من «القيمة الزائدة». وكذلك الرأسمالي البنكي الذي يعطي أموالا للرأسمالي الصناعي لإقامة مشروعاته بغية الحصول على «الفائدة»، أي على نسبة مالية إضافية كعائد على الرأسمال المسلف. إن هذا القطب الثلاثي (رأسمالي: صناعي، تجاري، وبنكي) المشارك في عملية الاستغلال للعمال، هو الذي يشكل الطبقة الرأسمالية في المجتمع■

(3)

التناقض الأساسي في أسلوب الإنتاج الرأسمالي

■ خلافا للتشكيلات الاجتماعية – الاقتصادية ما قبل الرأسمالية، تتميز الرأسمالية بتجديد طرق الإنتاج، وتوسيع دائرته من خلال استخدام قسم من القيمة الزائدة لزيادة الرأسمال المستثمر: في البداية كان التجميع الرأسمالي البسيط لإنماء إنتاجية العمل، حيث يحشد الرأسمالي في مشغل واحد عدد كبير من العمال يؤدون عملاً واحداً. وكان يجبر العمال على تسريع وتيرة العمل. لكن في سياق تطور وتراكم الثروة كان لا بد من تقسيم العمل. وهكذا نشأت المانيفكتورة، فكانت المرحلة الانتقالية إلى الإنتاج الصناعي الأوسع، وإلى الصناعة الآلية الكبيرة، التي حلَّت مكان العمل اليدوي، وتعمقت أكثر تبعية العامل للآلة..

■ في المرحلة اللاحقة من مراحل تطور الرأسمالية، أصبح للعمل وللإنتاج صفة إجتماعية خصوصا بعد أن تطورت المصانع الكبيرة، التي تضم المئات والآلاف من العمال من مختلف الإختصاصات. وارتبطت الفروع الصناعية بعضها ببعض مثال إرتباط الإنشاءات الميكانيكية مع الصناعات التعدينية، وهذه بدورها مع الصناعات الاستخراجية، كالفحم الحجري وغيره. وبهذا، إكتسب الإنتاج طابعا إجتماعيا.

وفي هذا السياق جرى تحطيم للعلاقات الاجتماعية التي كانت تسود المدن والأرياف. وسيطر الإنتاج  الرأسمالي على كافة الفروع الصناعية، فوجه ضربة واسعة للإنتاج الحرفي، وتحول قسم واسع من الفلاحين المهاجرين للمدن إلى عمال، وكذا الأمر بالنسبة للحرفيين المفلسين. وأدى ذلك إلى فائض في العمالة نجمت عنه ظاهرة البطالة. كما نشأت هوة بين العمل الذهني والعمل الجسدي، حيث أصبحت قوة العمل الذهني ذاتها موضوعا للاستغلال، ومصدراً لتوليد القيمة الزائدة.

■ لقد ولدَّ كل هذا تمركزاً للثروة في أيدي طبقة تملك وسائل الإنتاج، وإلى نمو هائل في حجم الطبقة العاملة، وإلى تطور كبير في مزاياها الاجتماعية والاقتصادية، فانقسم المجتمع الرأسمالي إلى طبقة عاملة، وطبقة بورجوازية بمختلف أقسامها، وظهر بشكل فاقع التناقض بين الطابع الاجتماعي للإنتاج، وبين الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وهي سمة متأصلة في النظام الرأسمالي. إن تطور القوى المنتجة (بمعنى تأكيد الطابع الإجتماعي الجماعي للإنتاج)، وتخلف علاقات الإنتاج (بمعنى الإستحواذ الفردي)  تشكل، كظاهرة موضوعية، عقبة في طريق تطور القوى المنتجة، الأمر الذي يتطلب إزالة هذه العقبة■

(4)

مفاهيم تأسيسية

■ ينقسم الرأسمال الى رأسمال ثابت ورأسمال متغير: الرأسمال الثابت (ث) هو جزء من قيمة الأبنية والمعدات والمواد الأولية والوقود..، والرأسمال المتغير (م) هو أجور العمال؛ وهذا يعبر عنه بتكاليف الإنتاج.

■ التركيب العضوي للرأسمال هو نسبة الرأسمال الثابت إلى الرأسمال المتغير (ث ÷ م)، فكلما ازداد الرأسمال الثابت، يتعاظم التركيب العضوي للرأسمال. وكلما انخفض الرأسمال المتغيّر، يتعاظم أيضاً هذا التركيب.

■ معدل فائض القيمة، أو معدل القيمة الزائدة هو النسبة بين القيمة الزائدة والرأسمال المتغيّر (ق. ز÷ م)، وهو مؤشر على درجة إستغلال العمل من قبل الرأسمال الذي يستطيع أن يزيد معدل القيمة الزائدة بتشديد درجة إستغلال العمل، إما بإطالة يوم العمل أو بتكثيف شدة العمل. ولكن ثمة حدوداً طبيعية لإمكانية إطالة يوم العمل، كما أن ثمة حدوداً طبيعية لتكثيف شدة العمل، ما لم تقترن بزيادة إنتاجية العمل من خلال تطوير الشروط التقنية والتنظيمية للإنتاج.

■ زيادة إنتاجية العمل تعني توفير الشروط التي تمكِّن كمية محددة من العمل من تشغيل كمية أكبر (وبالتالي قيمة أكبر) من وسائل الإنتاج (آلات + خامات + ...) وتحويلها إلى بضائع بكمية أكبر نسبياً من السابق. زيادة إنتاجية العمل تعني إذن رفع نسبة التكوين العضوي للرأسمال (ث ÷ م).

■ معدل الربح هو النسبة بين القيمة الزائدة وإجمالي الرأسمال بقسميه الثابت والمتغير [(ق.ز) ÷ (ث+م)]، وهذا المعدل على خلفية زيادة الإنتاجية يميل إلى الإنخفاض، لأن الرأسمال الثابت يتعاظم بوتائر أعلى من القيمة الزائدة، ومن الرأسمال المتغير.

■ إن فيض تراكم الرأسمال المحكوم بخلفية زيادة الإنتاجية لتعظيم القيمة الزائدة، إذ يقود إلى انخفاض معدل الربح، يؤدي في ذات الوقت إلى إبطال معدل التراكم، أي معدل التوسع الذاتي للرأسمال الكلي رغم نموه الكمي. إن هذا المنحى يؤدي إلى إفقاد الرأسمال غايته المتمثلة بالتراكم والتوسع الذاتي، من جهة، وتعظيم معدل الربح، من جهة أخرى■

(5)

ميل معدل الربح للهبوط

■ مع تطور الرأسمالية تزداد نسبة الرأسمال الثابت في التركيب العضوي للرأسمال. وهذا يعني أن كمية المواد الأولية تزداد، وكذلك عدد الآلات والاجهزة في المؤسسات،  بينما يزداد عدد العمال بنسبة أقل، أي أن نفقات الأجور تزداد بشكل محدود مقارنة بالزيادة في الرأسمال الثابت. إن الزيادة في التركيب العضوي للرأسمال تؤدي إلى ميل معدل الربح للهبوط. وهذا ما سنبينه من خلال ما يلي: 

أ) هِبْ أن رأسمالياً وظف في مشروعه 10.000.000$ (10 مليون دولار)، بالتوزيع التالي:

7.000.000 (7 مليون دولار) رأسمال ثابت    (ث).

3.000.000 (3 مليون دولار) رأسمال متغير   (م).           

واذا كان معدل القيمة الزائدة (ق.ز) المحصلة بعد بيع الإنتاج 3 مليون$، أي إستغلال قوة العمل 100%، يكون معدل ربحه في هذه الحالة كالتالي:

[(ق.ز) ÷ (ث+م)] × 100% = [3 مليون ÷ (7+3) مليون] ×100 = %30.

ب) في ظل المنافسة الرأسمالية ومع مرور الزمن يضطر الرأسمالي لرفع إنتاجية العمل من خلال تطوير التقنية بزيادة رأسماله الموظف؛ فلو افترضنا أنه رفع رأسماله من 10 إلى 20 مليون، وأدخل تطويرات في الآلات والمعدات والمواد الاولية بلغت 16 من أصل الـ 20 مليون، والباقي 4 مليون إستخدمها كأجور للعمال، ولو كان نسبة القيمة الزائدة المحصلة 100%. يكون معدل الربحية مائل للإنخفاض وفق المعادلة التالية: [(ق.ز) ÷ (ث+م)] × 100% = [4 مليون÷20 مليون] × 100 = %20؛

وعليه يكون معدل الربح قد إنخفض من 30 إلى 20%■

 (6)

أزمة نمط الإنتاج الرأسمالي

1- أزمة «فيض تراكم الرأسمال»

■ كشف ماركس عن التناقض الأساسي المتأصل في نمط الإنتاج الرأسمالي، والقوانين التي تحكم تطوره. يكمن هذا التناقض في أن تعجيل تراكم الرأسمال الذي هو بمثابة الحافز للإنتاج الرأسمالي وهدفه، إنما يتطلب زيادة مضطردة في إنتاجية العمل الاجتماعي. ولكن هذه الزيادة بما تنطوي عليه من ارتفاع في نسبة التكوين العضوي للرأسمال تقود في الأجل الطويل إلى الميل في  انخفاض معدل الربح.

■ أما التناقض الآخر، فهو ناجم عن النزوع لزيادة الإنتاج لتحقيق الحد الأقصى من الربح الذي يصطدم بحاجز الإستهلاك (الطلب المقتدر) المحدود، المتمثل بحدود القدرة الشرائية للمجتمع.

إن هذا التناقض يقود إلى «فيض تراكم الرأسمال»، أي تعاظم كتل الرأسمال المكدسة والتي تحجم عن القيام بوظائفها كرأسمال بسبب انخفاض معدل الربحية. هذا يدفع إلى البحث عن آفاق توسع جديدة للرأسمال (بعد أن يكون قد أجهز على المنتجين الصغار وجردَّهم من ملكياتهم) لا يجدها في الإقتصاد الحقيقي القائم على الإنتاج والخدمات، بل في الأسواق المالية القائمة على المضاربات.

2- أزمة «فيض الإنتاج»

■ هي أزمة ناجمة عن فيض كمية البضائع المنتجة (العرض)، بالمقارنة مع قدرة المجتمع الفعلية على الإستهلاك (الطلب)، وتتجلى هذه الأزمة من خلال ما يلي: تقلص التجارة، أي التصدير + بضائع مكدسة في الاسواق وغير مباعة + المصانع والمعامل متوقفة عن العمل + بطالة واسعة في صفوف العمال.

■ إن أزمة فيض الإنتاج التي تعبر عن التناقض بين عملية إنتاج القيمة الزائدة (المتجسدة مادياً بالبضاعة)، وبين عملية تحقيق القيمة الزائدة (أي تحويلها مجدداً إلى رأسمال نقدي من خلال بيع البضائع)، تجري في نطاق التبادل، أي في نطاق تداول (دوران Circulation) الرأسمال، وليس في نطاق إنتاج الرأسمال.

وعليه، فإن أزمة فيض الإنتاج هي عنصر مهم من عناصر أزمة أسلوب الإنتاج الرأسمالي، ولكن ليس المنبع الأصلي، وليس التناقض – الأساس الذي تنبثق منه الأزمة، والذي ينشأ أولاً في نطاق عملية إعادة الإنتاج الرأسمالية نفسها، ثم يتعزز بتداخلها مع عملية تداول الرأسمال.

أزمة الرأسمالية بالدرجة الأولى هي أزمة فيض في تراكم الرأسمال في دائرة الإنتاج (Production)، وهي تتعزز بما يؤدي إليه هذا الفيض، من فيض آخر في إنتاج بضائع الإستهلاك في دائرة التداول (Circulation). 

■ إن التاريخ حافل بأزمات فيض الإنتاج .. المرحلة التي تمتد بين أزمتين، تسمى الدورة (Cycle)، وتمر بأربعة أطوار: الأزمة، الركود، الإنتعاش، النهوض:

- الأزمة.. تتسم بفيض الإنتاج من البضائع، وهبوط الأسعار بشكل متسارع، وخلالها تكثر الإفلاسات، ويتقلص الإنتاج، وتستشرى البطالة. وتتسم هذه المرحلة بفائض الإنتاج المعروض، وشحة في الطلب الاستهلاكي عليها.

- الركود.. هو الطور الثاني في الحلقة. وتتسم مرحلة الركود بمحدودية الإنتاج الصناعي، وانخفاض في أسعار البضائع، وكساد في التجارة، وانخفاض معدل الربح، ودمار في مخزونات البضائع جزئيا..، والصراع في سبيل تأمين أسواق للتصريف ومصادر المواد الأولية. وخلال هذه الفترة يتم السعي لإعادة تركيب الرأسمال الثابت وتجديده من أجل خفض كلفة الإنتاج، وتبدأ ملامح الحلقة تنتقل إلى الطور الثالث، وهو الانتعاش.

- الإنتعاش.. إن المؤسسات التي صمدت إبان مرحلة الأزمة تبدأ دورة الإنتاج مجددا، وترتفع تدريجيا أسعار البضائع نتيجة الانخفاض الجزئي للبطالة، وازدياد الطلب، وتنتعش التجارة.

- النهوض .. هو الطور الأخير في الحلقة، وفيه يتجلى كليا الميل لزيادة الإنتاج إلى حدوده القصوى؛ فمن جديد يوسع الرأسماليون مؤسساتهم، وتبدأ دورة الإنتاج بالصعود. وبسبب فوضى الإنتاج تعود الأحوال إلى دورة من الأزمات الجديدة نتيجة وفرة المعروض، وضعف الطلب■ 

(7)

الرأسمالية الإحتكارية .. الإمبريالية

■ في الثلث الأخير من القرن الـ 19 تطورت الرأسمالية نحو مرحلتها العليا، وهي الإمبريالية. وسمة هذه المرحلة حلول سيطرة الاحتكارات مكان حرية المنافسة. وقد شهدت هذه المرحلة تطوراً كبيراً في القوى المنتجة بفضل التقدم التكنولوجي وتقنيات تنظيم العمل. وأمام تطور القوى المنتجة وارتفاع وتيرة الإنتاج، باتت الأزمات الاقتصادية أكثر دورية وتقاربا. في مرحلة تطور الرأسمالية وانتقالها إلى مرحلتها الإمبريالية، يتمركز الإنتاج ويفضي إلى الاحتكار.

■ إلى جانب تمركز (Centralisation) الرأسمال، أي عملية التغيير في نسب توزيع الرأسمال الإجتماعي بين المراكز (أو الأفراد) بدون أية زيادة، وحتى أحياناً تناقص في حجمه الكلي، يستمر الحصر أو التركيز له (Concentration). ويقصد بالتركيز زيادة الرأسمال إثر دمج عدة رساميل في رأسمال واحد، بمعنى زيادة حجوم الرأسمال الذي يُدار من مركز واحد، ما يفترض تزايد الحجم المطلق للرأسمال الإجتماعي.

من جراء تمركز الرأسمال وتركيزه، تبرز أمام الرأسمالية إمكانية وضرورة الاتفاق على تقاسم الاسواق بغية تصريف الإنتاج، والحصول على المواد الأولية الرخيصة. وهذا مايسمى بالاحتكار.

■ الإحتكار: هو تفاهم، أو تكتل لرأسماليين يتمركز بين أيديهم الإنتاج، ويتقاسموا السوق من خلال تصريف القسم الأكبر من بضاعتهم. وهذه التكتلات، أيا كانت أشكالها، هدفها بالأساس تعظيم الربح.

■ الرأسمال المالي يتكوّن من خلال إقتران الرأسمال البنكي مع الرأسمال الصناعي. فالبنوك تشتري أسهما للإحتكارات الصناعية والتجارية، وتصبح شريكا لهذه الصناعات. ومن جهتها، تتملك الاحتكارات الصناعية أيضا أسهما في البنوك الشريكة لها، ما يؤدي إلى تشابك واندماج للرساميل الصناعية والبنكية، وعلى هذا الأساس يبرز شكل جديد للرأسمال مُعرَّف عنه بالرأسمال المالي.

■ الطغمة المالية (Oligarchie): من جراء تطور الاحتكار الرأسمالي يؤلف أكبر الصناعيين وأصحاب البنوك والتجار وأكثرهم إقتداراً، فريقا صغيرا يشرف على مجمل الحياة الاقتصادية والسياسية في البلاد. وهكذا تظهر الطغمة المالية، أي سيطرة حفنة قليلة من البشر أصحاب رؤوس الأموال الضخمة الممسكة بالاحتكار في البلاد الرأسمالية. كذلك تسيطر الطغمة المالية في الميدان السياسي. فهي تسعى لتعظيم نفوذها في جهاز الدولة، وترتبط بمصالح مشتركة بين بيروقراطية الدولة والرأسماليين. وهذا ما يؤدي إلى نشوء ظاهرة رأسمالية الدولة الاحتكارية.. إن اندماج الطغمة المالية مع بيروقراطية الدولة أدى إلى بروز ظاهرة رأسمالية الدولة الاحتكارية، التي جعلت من الدولة حَكَما بين الاحتكارات، وأداة توازن لضمان الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي للنظم الحاكمة.

■ قانون التطور المتفاوت الذي يحكم الرأسمالية في مرحلتها الإمبريالية: إن قوانين المنافسة الاحتكارية تقود إلى تعميق التفاوت في النمو والتطور بين قطاعات الإنتاج، داخل البلد الواحد، وكذلك بين مختلف البلدان. وهي (أي قوانين المنافسة) تحكم على البلدان المتأخرة والتابعة بمزيد من التخلف والتبعية. ويقود هذا إلى استقطاب الثروة وتراكمها في عدد قليل من الدول الغنية والمتطورة، كما يقود إلى تغيير في نسبة القوى بين هذه الدول الامبريالية، وإلى تعاقب فترات التوافق، أو الصراع فيما بينهما.

■ قبل الاستعمار كان الشكل الرئيسي للعلاقات الاقتصادية بين الدول ينحصر في التجارة الخارجية من خلال تصدير البضائع، وفي ظل الاستعمار تتسع التجارة العالمية أكثر فأكثر، ولكن تصدير الرساميل هو الذي يحتل مركز الصدارة، ويتم تصدير الرساميل بشكلين:

- الأول: رساميل تسليف – تتم من خلال إقراض الحكومات أو الرأسماليين في بلدان أخرى. وعلى البلد المدين أن يدفع فوائد على المبالغ التي اقترضها، وبهذا تعود القيمة الزائدة التي ينتجها عمال تلك البلدان لتسديد الفوائد المتوجبة على دولها لصالح المراكز الرأسمالية المتطورة، بدلا من استخدامها لصالح تطوير البنية الاقتصادية في مجتمعاتها.. وتثقل هذه المجتمعات بمديونة تفوق ناتجها القومي أحيانا.

- الشكل الثاني هو، الرأسمال الإنتاجي، حيث تضطلع الاحتكارات الرأسمالية بإقامة مؤسسات صناعية، أو غيرها في البلدان النامية، وتقوم هذه المؤسسات بإصدار أسهم تباع إلى المؤسسات والشركات الرأسمالية. والأرباح الناجمة عن بيع الأسهم في هذه الشركات تعود إلى حملة الأسهم، أي بالأساس للشركات الرأسمالية المتطورة.. إن إقامة مؤسسات صناعية في البلدان المتخلفة إقتصاديا تهدف إلى تخفيض كلفة الإنتاج بسبب رخص المواد الأولية، وتدني أجور الأيدي العاملة.

■ من خلال إقامة أسواق جديدة وعن طريق تصدير الرساميل بوجهيها المالي والإنتاجي، تسعى الدول الاحتكارية إلى بسط رقابتها وسلطتها على اقتصادات البلدان المستوردة، من خلال جملة من القوانين والإجراءات التي تعرف بسياسة التكييف الهيكلي التي ترمي إلى فرض تبعية إقتصادية لسلطة الرأسمال العالمي، وتغدو - من ثم - إلى تبعية سياسية وعسكرية..■

(8)

الإمبريالية المتطورة

■ إن كان مطلع ق 20، قد شهد بداية التحول من رأسمالية المنافسة الحرة إلى الرأسمالية الاحتكارية، فإن أواخر ق 20 شهد اكتمال هذا التحول من خلال بلوغ الرأسمالية الاحتكارية ذروة تطورها وهيمنتها الحاسمة على عملية الإنتاج والتبادل الدولي. وهذا المنعطف يسمى بالامبريالية المتطورة وأبرز ما يميّز هذه المرحلة هو: العولمة المتزايدة لنمط الإنتاج الرأسمالي، والتدويل المتسارع لعملية الإنتاج، وتداول رأس المال وتمركزه الاحتكاري الذي يتخطى الحواجز القومية، ويتجاوز الحدود بين الدول.

■ إن عملية العولمة والتدويل هذه، تنطوي على: 

أ) نشوء وعملقة الاحتكارات المتخطية للقوميات (الإحتكارات فوق القومية) الصناعية والمالية، وتمركزها المضطرد، وهيمنتها الكاملة على الأسواق الوطنية لبلدانها، كما وسيطرتها على حصص رئيسية من الاقتصاد العالمي في مختلف مجالات الإنتاج والتمويل والتبادل، واستكمال تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ خاضعة لهيمنة عدد من الاحتكارات العملاقة التي باتت تحتل الموقع المقرر في عمليات إعادة توزيع فائض القيمة على نطاق دولي.

ب) تعاظم ظاهرة تصدير رأس المال إلى خارج بلدانه الأصلية في سياق إتساع نطاق النشاط الدولي للاحتكارات فوق القومية.

ج) التقدم بخطى متسارعة على طريق تصفية الصيغ القائمة لنمط الإنتاج ما قبل الرأسمالي، وسيادة نمط الإنتاج الرأسمالي في البلدان النامية، والتحول الرأسمالي لطبقاتها الحاكمة، وطغيان سمة الكومبرادورية على رأسمالها المحلي، بما يعزز التشابك والتداخل في المصالح بينه، وبين الرأسمال الاحتكاري الدولي. 

د) تكثيف النهب الامبريالي للبلدان التابعة بوسائل وآليات جديدة أكثر تطورا وفعالية يكرس حالة التخلف في هذه البلدان، ويعمق تبعيتها، ويفاقم عملية إستقطاب وتراكم الثروة لصالح المراكز المتطورة على حساب الأطراف.

هـ) التوسع الهائل للسوق العالمية، واتساع نطاق امتدادها على حساب دورة الإنتاج والتبادل الداخلية في كل بلد. وبالتالي تعاظم نطاق التداخل والتكافل والاعتماد المتبادل بين بلدان العالم الرأسمالي. في نفس الوقت يتعمق التفاوت في النمو والتطور فيما بينها، وتتعاظم التناقضات بين المراكز الامبريالية المتطورة وتندلع الحروب الاقتصادية، وتشتد حدة المنافسة بين الاحتكارات..■ 

2000

الإقتصاد السياسي .. مقولات ومفاهيم

(6 موضوعات)

(1)

في التعريف

1-■ البضاعة: في تحليله لنمط الإنتاج الرأسمالي، ينطلق ماركس من تفحص سمات البضاعة (السلعة)، وكنه الإنتاج البضاعي (أو الإنتاج السلعي)، ويتوصل إلى مايلي: البضاعة هي المادة التي تجتمع فيها الصفات الثلاث التالية:

– أن تكون ذات قيمة إستعمالية، أي أن تلبي وتشبع حاجة إنسانية معينة، مادية كانت أم روحية؛

– أن تكون حصيلة عمل إنساني، أي أن يكون قد بُذل جهد بشري من أجل إنتاجها؛

– أن تكون قد أُنتجت بهدف طرحها للتبادل مع بضائع أخرى، لا من أجل الإستهلاك الشخصي لمنتجها.

 البضاعة إذن تكتسب صفتها كبضاعة فقط من خلال التبادل.

■ الإنتاج البضاعي: هو بذل جهد بشري من أجل إنتاج المواد التي تُشبع حاجات إنسانية معينة، وبهدف طرحها للتبادل مع بضائع أخرى. إن نشوء ظاهرة الإنتاج البضاعي يفترض بروز وتطور التقسيم الإجتماعي للعمل، ونشوء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، إثر انحلال مجتمعات المشاعية البدائية.

برز تقسيم العمل الإجتماعي عندما أخذت طائفة من الناس تتخصص في فلاحة الأرض وزراعتها؛ وأخرى، بتربية الحيوانات؛ وثالثة، باستخراج المعادن ومعالجتها؛ ورابعة، بنسج المنسوجات، أو معالجة الجلود، وصنع الأحذية، الخ ... ونشأت بذلك الحاجة لدى كل طائفة من هؤلاء إلى أن تبادل قسماً من ناتجها بالمواد التي ينتجها الآخرون من أجل استكمال إشباع حاجاتها. وبذلك نشأ الإنتاج البضاعي البسيط، الإنتاج البضاعي بمراحله البدائية.

2-■ القيمة: عملية التبادل تنطوي بالضرورة على نشوء علاقة محددة بين البضائع التي يتم تبادلها. ما هي كمية القمح، مثلاً، التي يتم تبادلها لقاء كمية معينة من الأبقار؟ أو بعبارة أخرى: كم كيلوغراماً من القمح تساوي البقرة الواحدة؟ أو: ما هي قيمة البقرة بالمقارنة مع القمح؟ إن هذه العلاقة التي تقوم بين البضائع في سياق عملية تبادلها، هي ما يسمى بالقيمة.

■ من أين، وكيف، تكتسب البضائع قيمتها؟ لماذا تساوي البقرة طناً من القمح على سبيل المثال؟ لا يمكن أن تستمد البضائع قيمتها مما تنطوي عليه من قيمة إستعمالية، أي من المنفعة، أو الفائدة التي يحصل عليها حائزها بفعل حيازته لها، فهذه المنفعة تتراوح من شخص لآخر، أولاً. وثمة، ثانياً، العديد من الأشياء التي تنطوي على قيمة إستعمالية عالية دون أن تكون لها قيمة في التبادل. الهواء الذي نتنفسه مثلاً، أو خشب الأشجار في الغابات البكر (الغابات المشاع). يكتسب الخشب قيمة تبادلية عندما يبذل جهد بشري من أجل قطعه، ونشره، ونقله إلى حيث يمكن الاستفادة منه، أي أن يكتسب قيمته من العمل البشري المبذول في إنتاجه.

■ إن القيمة الاستعمالية للبضاعة هي سمة مفترضة فيها سلفاً، فالبضاعة لا تصبح بضاعة ما لم تكن لها قيمة إستعمالية، ما لم تكن تلبي حاجة إنسانية معينة، وتشبعها. ولكن هذه السمة ليست هي التي تضفي على البضاعة قيمتها في التبادل. إن ما يمنح البضاعة قيمتها التبادلية هو العمل المبذول في إنتاجها. إن الصخور الموجودة في الجبال لا قيمة لها. ولكنها تكتسب قيمة عندما يتم قلعها، وتقطيعها، بحيث تصبح صالحة للإستعمال في البناء.

مصدر قيمة البضاعة إذن، هو العمل الإنساني المبذول في إنتاجها. وما يحدد قيمة البضاعة هو كمية العمل المبذول في إنتاجها، أو وقت العمل اللازم لصنعها. فإذا كان إنتاج طن من أحجار البناء يتطلب 10 ساعات عمل، على سبيل المثال، بينما إنتاج طن من الخشب يتطلب 30 ساعة عمل، فإن طن الخشب يمكن إذن مبادلته بـ 3 أطنان من الحجر، أي أن طن الخشب يساوي 3 أطنان من حجر البناء، أو أن قيمة طن الخشب تساوي 3 أمثال قيمة طن الحجر.

3-■ وقت العمل الضروري إجتماعياً: ولكن هل تكتسب البضاعة قيمة أكبر إذا ما استغرق العامل، بسبب كسله أو قلة خبرته، وقتاً أطول في عملية إنتاجها؟ كلا بالطبع. فعملية التبادل هي بالضرورة عملية إجتماعية. وتتحدد قيمة البضاعة في سياق هذه العملية، ليس وفقاً لوقت العمل المبذول في إنتاجها فعلاً، أي ليس وفقاً لكمية العمل المتجسدة فيها بالفعل، بل وفقاً لوقت العمل الضروري إجتماعياً اللازم من أجل إنتاجها. فإذا كانت المهارات المتوفرة في مجتمع ما تسمح بإنتاج طن الخشب خلال 30 ساعة من العمل في المتوسط، فإن طن الخشب يساوي إذن ما قيمته 30 ساعة عمل، وحتى لو بذل حَطَّاب معين – مثلاً - ساعة واحدة فقط ، في إنتاج هذا الطن من الخشب بالذات، فهو لا يستطيع أن يبادله إلا ببضاعة توازي في قيمتها 30 ساعة عمل. قيمة البضاعة، إذن، توازي وقت العمل الضروري إجتماعياً اللازم من أجل إنتاجها.

4-■ عمل حي، وعمل ميت: ينقسم العمل المبذول في إنتاج البضائع إلى صنفين: عمل حي (مباشر)، وعمل ميت (غير مباشر). العمل الميت (غير المباشر)، هو ذلك العمل الذي بذل في فترة سابقة من أجل إنتاج الأدوات والوسائل التي يستخدمها المنتج في عملية صنع بضاعة معينة. الوسائل المستخدمة في الإنتاج، (أو: وسائل الإنتاج)، من أدوات وآلات ومواد أولية ووقود ومواد وسيطة ومساعدة أخرى، هي تجسيد لعمل إنساني بذل في إنتاجها في السابق. وهي تدخل في تحديد قيمة البضاعة فقط بإضافة قيمتها هي بالذات، دون زيادة، أو نقصان. وعليه، فإن:

 أدوات العمل (الآلات، الخ ...) تفقد فعاليتها بالتدريج في سياق عملية الإنتاج، أي أنها تفقد تدريجياً جزءاً من قيمتها، وهذا الجزء من القيمة الذي تفقده أدوات العمل أثناء العملية الإنتاجية يضاف إلى قيمة البضاعة، ويصبح جزءً مكوناً منها. ويُعَرَّف هذا الجزء بما يسمى قيمة إهتلاك الآلات وأدوات العمل التي تشكل عنصراً من عناصر تكوين قيمة البضاعة.

 أما المواد الأولية والمساعدة، فإن القيمة التي اكتسبتها بفعل العمل المبذول سابقاً في إنتاجها، هذه القيمة يتم ترحيلها، نقلها، إلى البضاعة الجديدة دون زيادة أو نقصان.

■ من أين، إذن، تأتي القيمة الجديدة المضافة إلى البضاعة؟ لماذا تصبح قيمة متر مربع من القماش القطني، مثلاً، أكبر من قيمة الغزول القطنية اللازمة لإنتاج هذا المتر من القماش؟

إن القيمة المضافة الجديدة تأتي من العمل الحي (المباشر) الذي يبذله الإنسان لتغيير الغزول إلى قماش، أي من العمل الحي (المباشر) المبذول لتحويل موضوع العمل (المواد الأولية، الخ..) إلى منتجات جديدة ذات قيم إستعمالية جديدة.

إن وسائل الإنتاج ترحّل قيمتها إلى البضاعة كما هي، دون زيادة، أو نقصان، والعمل الحي (المباشر) هو وحده مصدر الزيادة في القيمة، هو وحده الذي يضيف قيمة جديدة إلى البضاعة.

5-■ النقود: تبادل البضائع كان في البداية يتم بالمقايضة. ومع تطور الإنتاج البضاعي نشأت الحاجة إلى مقياس محدد للقيمة يُسهِّل التبادل غير المباشر بين البضائع ذات القيم المتكافئة. وبذلك ظهرت النقود كوحدات لقياس القيمة. والنقود كانت في البداية بضاعة مثلها مثل سائر البضائع، ولكنها بضاعة ثمينة تمتلك صفة المقياس النموذجي للقيمة. وشيئاً فشيئاً أصبحت المعادن الثمينة تلعب دور النقود، بالنظر لمواصفاتها التي تُسَهِّل قيامها بدور المقياس النموذجي للقيمة. فإذا كان وزن معين من الذهب (درهم مثلاً) بحاجة إلى 30 ساعة عمل لإنتاجه، فإن درهم الذهب يساوي إذن طناً من الخشب، و3 أطنان من حجر البناء. وبهذا يصبح درهم الذهب وحدة قياسية للقيمة تُسهل عملية التبادل بين المنتجين. إذ يمكن لمنتج طن الخشب أن يقبل الدرهم بديلاً لبضاعته، ثم يستخدمه لاحقاً لشراء 3 أطنان من الحجر.

6-■ النقود، بما هي مستودعاً للقيمة: هكذا إذن، تكتسب النقود تدريجياً وظيفة أخرى، هي كونها «مخزناً للقيمة»، أو «مستودعاً للقيمة». وبظهور هذه الوظيفة للنقود يصبح ممكناً ظهور رأس المال بأشكاله البدائية، التجارية والربوية. وبظهور رأس المال تزداد عملية التبادل البضاعي بين المنتجين تعقيداً، إذ يصبح رأس المال وسيطاً بين المنتجين أنفسهم. فالمنتج يبيع بضاعته مقابل نقود ليستخدم هذه النقود في شراء بضاعة أخرى (بضاعة - نقود - بضاعة). أما مالك رأس المال (مالك النقود)، فهو يستخدم النقود لشراء بضاعة بهدف بيعها للحصول على مزيد من النقود (نقود - بضاعة - نقود*).

7-■ رأس المال، له دور محوري في إنتاج البضائع، وليس في عملية تبادلها، فحسب: ظهور رأس المال التجاري يشكل شرطاً مسبقاً لظهور نمط الإنتاج الرأسمالي، ولكنه ليس شرطاً كافياً، بل لا بد من استكماله بشروط أخرى. إذ أن نمط الإنتاج الرأسمالي هو النظام الإقتصادي الذي يتطور فيه الإنتاج البضاعي، ويتسع نطاقه، ويزداد تعقيداً إلى الدرجة التي يصبح فيها الظاهرة الرئيسية السائدة، الغالبة على النشاط الإقتصادي لمجتمع ما:

ففي المجتمعات ما قبل الرأسمالية، يلعب رأس المال التجاري دور التوسط بين جماعات المنتجين المكتفية ذاتياً والتي يشكل التبادل البضاعي حيِّزاً هامشياً، ويلعب دوراً ثانوياً مكملاً، في نشاطها الإقتصادي الإنتاجي.

أما في المجتمع الرأسمالي، فإن إنتاج البضائع بهدف تبادلها في السوق يصبح هو الشكل الرئيسي الطاغي للنشاط الإقتصادي، ويبدأ رأس المال يلعب دوراً محورياً في عملية إنتاج البضائع، وليس في عملية تبادلها فحسب.

8-■ نمط الإنتاج الرأسمالي: كيف يظهر نمط الإنتاج الرأسمالي هذا، وما هو الشرط الرئيسي لبروزه وسيادته؟ داخل نطاق مجتمع معين، فإن البضائع عادة يجري تبادلها وفقاً لقيمتها بشكل عام، أي وفقاً لوقت العمل الضروري إجتماعياً اللازم لإنتاجها. وما يربحه شخص ما بحصوله على ثمن لبضاعته أعلى من قيمتها، يخسره شخص آخر ببيعه لبضاعته بثمن أدنى من قيمتها. ولكن القيمة الإجمالية لمجموع البضائع التي ينتجها هذا المجتمع لا يمكن أن تزداد من خلال عملية التبادل بحد ذاتها.

■ التاجر في هذه الحال، يكسب زيادة على رأسماله بتوسطه بين مجتمعات منغلقة من المنتجين ذات مستويات متباينة من إنتاجية العمل، وبفضل ذلك يستطيع – من خلال عملية التبادل المحضة – أن يحقق هذه المعادلة من خلال عملية الإنتاج إذا كانت البضائع يجري تبادلها (عموماً وفي العادة) وفقاً لقيمتها؟ بعبارة أخرى: كيف يمكن لمجموع الرأسماليين في مجتمع معين أن يزيدوا رأسمالهم إذا كانوا يشترون البضائع عموماً وفقاً لقيمتها، ويبيعونها وفقاً لقيمتها (وما يربحه أحدهم باحتياله على الآخر، يخسره الثاني بالضرورة، دون أن يؤدي ذلك إلى زيادة مجموع رأس المال في المجتمع المعني؟).

■ إن هذه الزيادة في رأس المال لا تصبح ممكنة، إلا إذا كان ثمة في السوق بضاعة تؤدي حيازتها واستهلاكها إلى إنتاج قيمة أكبر من قيمتها الأصلية. وهذه البضاعة موجودة بالفعل، وهي قوة العمل، ولقد أصبحت متوفرة بفعل إنحلال المجتمع الإقطاعي، وتحرير الفلاحين من قيود القنانة، أي «تحريرهم» من ارتباطهم بالأرض، وتجريدهم من حقوقهم في ملكية الأرض، وفصلهم بالتالي عن وسائل إنتاجهم.

■ إن وجود هذا العدد الكبير من الأشخاص الأحرار المجردين من ملكية وسائل الإنتاج، القادرين بحرية على بيع قوة عملهم، من جهة، والمضطرين، من جهة أخرى، إلى بيع قوة العمل هذه للآخرين بفعل حرمانهم من ملكية وسائل الإنتاج، هو الشرط الرئيسي لانتشار وسيادة نمط الإنتاج الرأسمالي. فالرأسمالي يشتري برأسماله وسائل الإنتاج (أدوات العمل، والمباني، والمواد الأولية، الخ..)، ولكنه لا يستطيع أن يحقق قيمة إضافية، لا يستطيع أن يحقق زيادة على رأسماله، ببيعها كما هي، بل فقط عندما يخصص جزء من رأسماله لشراء قوة العمل (لاستئجار العمال)، وتسخيرها لإضفاء قيمة جديدة على وسائل الإنتاج.

9-■ قوة العمل تنتج فائض القيمة: إن قوة العمل، بصفتها بضاعة، تمتلك خاصية مميزة لها عن سائر البضائع، وهي أنها باستخدامها بصورة منتجة تستطيع أن تخلق قيمة جديدة تزيد على قيمتها الأصلية. إن قيمة قوة العمل، مثلها مثل أية بضاعة أخرى، تساوي وقت العمل الضروري إجتماعياً اللازم لإنتاجها، أي تساوي قيمة البضائع والخدمات الضرورية من أجل إنتاج قوة العمل، وإعادة إنتاجها، من أجل ضمان إعالة العامل (بدرجة معينة من القدرة على تجديد طاقته للعمل)، وإعالة عائلته (بما يضمن إعادة إنتاج قوة العمل).

■ يتلقى العامل (إذا نظرنا إليه ليس كفرد، بل كطبقة) أجراً يوازي، بدرجة أو بأخرى، قيمة هذه البضائع والخدمات الضرورية لإنتاج وإعادة إنتاج قوة عمله. الرأسمالي (أيضاً كطبقة، لا كفرد) يشتري إذن قوة العمل مقابل قيمتها، ولكنه يسخرها، يستخدمها، لتحويل وسائل الإنتاج، وإضفاء قيمة جديدة عليها، لإنتاج بضائع تزيد قيمتها على مجموع قيمة وسائل الإنتاج، وقيمة إنتاج وإعادة إنتاج قوة العمل. هذه الزيادة في القيمة، هذه القيمة الإضافية التي تخلقها قوة العمل، يسميها ماركس «فائض القيمة»، أو «القيمة الزائدة».

10-■ وقت العمل الضروري – وقت العمل الفائض (وقت العمل الزائد): إن الرأسمالي يستأجر قوة العمل لفترة زمنية معينة محددة، يوم عمل مثلاً، وهو حر في تشغيلها واستخدامها خلال هذه الفترة. وخلال جزء من هذه الفترة (3 ساعات مثلاً) ينتج العامل كمية من البضائع توازي بقيمتها قيمة قوة العمل، أي قيمة السلع والخدمات الضرورية من أجل إعاشته وعائلته ليوم واحد. هذا الجزء من يوم العمل يسميه ماركس وقت العمل الضروري، والبضائع التي تنتج خلاله توازي بقيمتها ما يمثله الأجر الذي يتلقاه العامل من قيمة. ولذلك، فإن ماركس يسميه أيضاً، وقت العمل مدفوع الثمن (أو: العمل المدفوع).

■ لكن العامل لا يشتغل فقط لهذا الجزء من يوم العمل الذي يغطي كلفة أجره، بل هو يشتغل يوم عمل كامل يتراوح عدد ساعاته وفقاً لعوامل عديدة لسنا بصدد تناولها هنا. هذا الجزء الإضافي من يوم العمل، الجزء الذي يشتغله العامل بعد إنهاء «وقت العمل الضروري» اللازم لإنتاج ما يوازي أجره، يسميه ماركس وقت العمل الفائض (وقت العمل الزائد)، أو «فائض العمل».

■ البضائع التي ينتجها العامل خلال وقت العمل الفائض يستحوذ عليها الرأسمالي دون مقابل. وقيمة هذه البضائع تساوي «فائض القيمة» الذي يستولي عليه الرأسمالي ويضيفه (أو القسم الأكبر منه) إلى رأسماله. فالعامل إذن، يعمل جزء من الوقت لإنتاج ما يوازي أجره (ما يوازي قيمة قوة عمله)، ويعمل الجزء الآخر من الوقت مجاناً لإنتاج قيمة فائضة يستولي عليها الرأسمالي دون مقابل. ولذلك، فإن ماركس يسمي الجزء الثاني من يوم العمل بوقت العمل غير مدفوع الثمن (أو: العمل غير المدفوع).

11-■ فائض القيمة المطلق: من الطبيعي أن يسعى الرأسمالي إلى زيادة مقدار فائض القيمة الذي يستخلصه من العامل إلى أقصى حد مستطاع. ويمكن للرأسمالي أن يزيد مقدار فائض القيمة من خلال إطالة يوم العمل، أي من خلال تمديد وقت العمل الفائض بشكل مطلق. يسمى فائض القيمة الذي يحصل عليه الرأسمالي من خلال تمديد وقت العمل الفائض «فائض القيمة المطلق».

12-■ فائض القيمة النسبي: لكن ثمة حدوداً فيزيائية، وكذلك إجتماعية – سياسية، لإمكانية إطالة يوم العمل، حيث تشكل مدة يوم العمل أحد أبرز محاور الصراع الإجتماعي بين العمل المأجور ورأس المال. ولذلك، يبحث الرأسمالي عن وسائل أخرى لزيادة فائض القيمة المستخلص. ويمكنه تحقيق ذلك من خلال تغيير العلاقة النسبية بين وقت العمل الضروري، وبين وقت العمل الفائض لصالح الأخير، وذلك بتكثيف شدة العمل، أو بزيادة إنتاجية العمل عبر تطوير الشروط التكنولوجية للإنتاج.

■ إن زيادة إنتاجية العمل تعني أن العامل يصبح قادراً خلال ساعتين، مثلاً، على إنتاج ما كان ينتجه سابقاً خلال 3 ساعات. وهذا يعني تقصير وقت العمل الضروري. وفي حال ثبات مدة يوم العمل، فإن هذا يعني زيادة وقت العمل الفائض، وبالتالي زيادة فائض القيمة. إن فائض القيمة الذي يستخلصه الرأسمالي من خلال تغيير العلاقة النسبية بين وقت العمل الضروري ووقت العمل الفائض، يسميه ماركس «فائض القيمة النسبي».

13-■ إعادة إنتاج رأس المال البسيط ، وعلى نطاق متسع: يبدأ الرأسمالي دوره في عملية الإنتاج بتوظيف رأسماله للحصول على وسائل الإنتاج (أدوات ومستلزمات العمل + المواد الأولية والمساعدة)، وعلى قوة العمل. ومن خلال مزج عناصر الإنتاج هذه يحصل الرأسمالي في نهاية العملية على كمية من البضائع توازي بقيمتها قيمة وسائل الإنتاج الموظفة + قيمة قوة العمل مضافاً إليها قيمة جديدة زائدة هي «فائض القيمة»، أو «القيمة الزائدة».

■ يسمي ماركس هذه العملية بعملية «إعادة إنتاج رأس المال». وإذا كان فائض القيمة قليلاً، بحيث لا يكفي سوى لتأمين إيراد، أو دخل للرأسمالي ينفقه في تغطية نفقاته الخاصة، ولا يبقى منه شيء يضاف إلى رأسماله الأصلي، فإن عملية إعادة الإنتاج هنا تسمى عملية «إعادة الإنتاج البسيط لرأس المال». فالفائض يستهلك من قبل الرأسمالي، ورأس المال الذي يعاد توظيفه في نهاية العملية هو نفسه الذي بدأت به العملية، بقيمته ذاتها.

ولكن عندما يبلغ رأس المال درجة من التطور، فإن فائض القيمة يصبح كافياً، ليس لتأمين دخل للرأسمالي فحسب، بل أيضاً لتأمين رأسمال إضافي تتم إضافته إلى رأس المال الأصلي لشراء المزيد من وسائل الإنتاج وقوة العمل وتوظيفها في عملية الإنتاج. ورأس المال الإضافي ينتج بدوره مزيداً من فائض القيمة، وهكذا تتوسع قيمة رأس المال باضطراد. ويسمي ماركس هذه العملية بعملية «إعادة إنتاج رأس المال على نطاق متسع باضطراد». ومن خلال ذلك تجري عملية «تراكم رأس المال»■

(2)

علاقة إنتاجية العمل بمقدار القيمة

1-■ إن كمية محددة من العمل تنتج دوماً المقدار نفسه من القيمة. ولكن زيادة إنتاجية العمل تعني أن مقدار القيمة نفسه يصبح مجسداً في كمية أكبر من البضائع، وبذلك تنخفض قيمة وحدة البضاعة الواحدة، ولكن المقدار الإجمالي لقيمة مجموع البضائع المنتجة يبقى هو ذاته.

■ ولكن، بما أن الرأسمالي لا يبيع بضاعته وفقاً للقيمة المتجسدة فيها فعلاً، بل وفقاً لقيمتها السائدة إجتماعياً (والتي تتحدد على أساس وقت العمل الضروري إجتماعياً اللازم لإنتاجها، لا على أساس وقت العمل المبذول في إنتاجها فعلاً)، فإن الرأسمالي الذي يبادر لإدخال أساليب جديدة تطور إنتاجية العمل يصبح بحوزته في نهاية العملية الإنتاجية كمية أكبر من البضائع التي تزيد قيمتها (السائدة إجتماعياً) على قيمة البضاعة المنتجة من الآخرين، وبالتالي، فإن الحصة التي توازي رأس المال المتغير(الموظف في شراء قوة العمل) من قيمة تلك البضائع تصبح أقل نسبياً.

2-■ فيما يلي توضيح العملية على نحو أكثر تفصيلاً:

لنفترض أن القيمة التي تنتجها ساعة عمل واحدة تساوي، مُقَيَّمة بالنقود، ديناراً واحداً. وبالتالي، فإن القيمة التي يمكن إنتاجها بيوم عمل من 10 ساعات تساوي 10 دنانير. لنفترض أنه، في المستوى المعطى من إنتاجية العمل، يمكن خلال الساعات العشر أن يتم إنتاج 10 وحدات من بضاعة معينة. وإذا كانت وسائل الإنتاج المستخدمة في صنع وحدة البضاعة الواحد تساوي ديناراً واحداً أيضاً، فإن كل وحدة من البضاعة، في هذه الحال، تكون قيمتها دينارين.

■ الآن: إذا حاول أحد الرأسماليين أن يضاعف إنتاجية العمل في مشروعه بحيث يمكن – خلال يوم العمل من 10 ساعات – أن يتم إنتاج 20 وحدة من البضاعة بدلاً من 10 وحدات، وإذا بقيت قيمة وسائل الإنتاج المستخدمة كما هي سابقاً، فإن القيمة المجسدة في كل وحدة من البضاعة تنخفض إلى 1,5 دينار، منها دينار قيمة وسائل الإنتاج، ونصف دينار يوازي القيمة الجديدة المضافة بالعمل المبذول. ذلك أنه رغم مضاعفة إنتاجية العمل، فإن 10 ساعات عمل تبقى تخلق، كما كان الحال في السابق، قيمة جديدة لا تزيد على 10 دنانير لا أكثر. ولكن هذه القيمة الجديدة تصبح، في هذه الحالة، موزعة على 20 وحدة من البضاعة بدلاً من 10، بحيث يصبح نصيب الوحدة الواحدة منها نصف دينار من القيمة بدلاً من دينار واحد.

■ بعبارة أخرى: إن القيمة التي تخلقها نصف ساعة عمل، بدلاً من ساعة كاملة، تصبح في هذه الحالة مضافة إلى القيمة الأصلية لوسائل الإنتاج في سياق عملية تحويلها إلى وحدة واحدة من البضاعة. إن القيمة المجسدة في كل وحدة بضاعة تصبح، هنا، أدنى من قيمتها الإجتماعية. فالعمل الضروري إجتماعياً اللازم لإنتاج وحدة البضاعة من نفس النوع يوازي ساعتين إثنتين من العمل، بينما في ظل أسلوب الإنتاج الجديد، الأعلى إنتاجية، يتطلب إنتاج الوحدة الواحدة من البضاعة ساعة ونصف الساعة من العمل. ولكن القيمة الحقيقية للبضاعة هي ليست القيمة المجسدة فيها فعلاً، بل هي قيمتها الإجتماعية، أي أن القيمة الحقيقية للبضاعة لا تقاس بما يتطلبه إنتاجها من عمل في كل حالة على انفراد، بل بمتوسط وقت العمل الضروري إجتماعياً اللازم لإنتاجها.

■ إذن: إذا ما قام الرأسمالي، الذي يطبق أسلوب الإنتاج الجديد المتقدم، ببيع بضاعته بقيمتها الإجتماعية التي تساوي دينارين إثنين، فهو إذن يبيعها بما يزيد على قيمتها «الفردية» بنصف دينار، وهو بهذا يحقق فائض قيمة إضافي يساوي نصف دينار. إن إنتاج فائض القيمة الإضافي هذا، ينبع من تقليص وقت العمل الضروري (وقت العمل الذي يستغرقه العامل في إنتاج قيمة توازي قيمة قوة عمله)، ومن التمديد المناظر لوقت العمل الفائض.

3-■ كيف يتم ذلك؟ لننظر إلى المثال التالي: لنفترض أن قيمة ضروريات الحياة اللازمة لإعاشة العامل وعائلته خلال يوم واحد تساوي 6 دنانير (أي أن قيمة قوة العمل = 6 دنانير، أي أن الرأسمالي بحاجة إلى رأسمال متغير قدره 6 دنانير لاستئجار عامل واحد). الآن:

أ)■ في الحالة الأولى، كما في المثال أعلاه، إفترضنا أن أسلوب الإنتاج السائد إجتماعياً يمكن من إنتاج 10 وحدات من البضاعة خلال 10 ساعات عمل، بينما قيمة وسائل الإنتاج، التي تدخل في صنع البضاعة الواحدة تساوي ديناراً واحداً، أي أن قيمة وسائل الإنتاج لعشرة وحدات من البضاعة تساوي 10 دنانير. وبما أن قيمة وحدة البضاعة الواحدة هي في هذه الحال ديناران إثنان، فإن قيمة وسائل الإنتاج المستخدمة تصبح إذن مجسدة في 5 وحدات من البضاعة المنتجة.

■ تبقى لدينا إذن الوحدات الخمس الأخرى من البضاعة المنتجة وهي التي توازي القيمة الإضافية الجديدة التي تم إضفاؤها على الناتج خلال يوم العمل الواحد المكون من 10 ساعات. وإذا كانت قيمة قوة العمل (قيمة ضروريات الحياة اللازمة لإعاشة العامل) تساوي 6 دنانير، كما افترضنا أعلاه، فإنها إذن تساوي قيمة 3 وحدات من البضاعة المنتجة. تبقى لدينا، إذن، وحدتان إثنتان من البضاعة المنتجة هي التي توازي فائض القيمة، وتساوي قيمة هاتين الوحدتين 4 دنانير. وهذا يعني أن العامل يقضي 3/5 (ثلاثة أخماس) يوم العمل في إنتاج ما يوازي قيمة ضروريات الحياة اللازمة لإعاشته (أي: ما يوازي قيمة قوة عمله المدفوعة إليه على شكل أجر، أي – بعبارة أخرى – ما يوازي رأس المال المتغير الموظف في شراء قوة عمله)، بينما يقضي 2/5 من يوم العمل في إنتاج فائض القيمة.

■ هذا يعني: إن وقت العمل الضروري (أو: وقت العمل المدفوع الثمن) يوازي 3/5 يوم العمل (أي 6 ساعات)، أما وقت العمل الفائض (أو: وقت العمل غير المدفوع الثمن)، فيوازي 2/5 من يوم العمل (أي 4 ساعات). وفي هذه الحالة (الأولى) تكون النسبة بين وقت العمل الضروري (المدفوع)، وبين وقت العمل الفائض (غير المدفوع) هي نسبة 2:3.

[■ في هذه الحالة أيضاً، فإن:

معدل فائض القيمة = فائض القيمة ÷ رأس المال المتغير = 4 دينار÷ 6 دينار = 2/3؛

أو، وقت العمل الفائض÷ وقت العمل الضروري = 4 ساعات÷ 6 ساعات = 2/3؛

أو، العمل غير المدفوع ÷ العمل المدفوع = 2/3.]

ب)■ في الحالة الثانية، ماذا يحدث إذا بادر الرأسمالي إلى إدخال أسلوب إنتاجي جديد يُمَكِّن عماله من إنتاج 20 وحدة من البضاعة خلال 10 ساعات؟

إن الرأسمالي، في هذه الحالة، يبيع بضاعته أيضاً وفقاً لقيمتها السائدة إجتماعياً (دينارين إثنين لوحدة البضاعة الواحدة) فيحصل على (20×2=40) 40 ديناراً لقاء البضائع التي ينتجها العامل خلال يوم العمل الواحد المكون من 10 ساعات. وإذا بقيت قيمة وسائل الإنتاج اللازمة لصنع وحدة البضاعة الواحدة كما هي (دينار واحد لكل وحدة بضاعة)، فإن كلفة وسائل الإنتاج اللازمة لصنع العشرين وحدة من البضاعة تساوي (20×1=20) 20 ديناراً. وهي توازي قيمة 10 وحدات من البضاعة المنتجة. نستثني هذه الوحدات الـ 10 من مجموع الناتج، فيتبقى لدينا إذن (20-10=10) 10 وحدات من البضاعة توازي القيمة الإضافية الجديدة التي تم إضفاؤها على الناتج خلال يوم العمل الواحد من 10 ساعات. قيمة قوة العمل (قيمة ضروريات الحياة اللازمة لإعاشة العامل) سوف تبقى، في هذه الحالة أيضاً كما افترضنا أعلاه، تساوي 6 دنانير، أي توازي قيمة 3 وحدات من البضاعة المنتجة (تماماً كما في الحالة الأولى).

■ إذن: تبقى لدينا الآن، في هذه الحالة (الثانية) 7 وحدات من البضاعة المنتجة هي التي توازي فائض القيمة، وهذه الوحدات الـ 7 تساوي بقيمتها 14 ديناراً. هذا يعني أنه، في هذه الحالة الثانية (بعد إدخال أسلوب الإنتاج الجديد) سوف يكون العامل بحاجة إلى قضاء فقط 3/10 (ثلاثة أعشار) يوم العمل من أجل إنتاج ما يوازي قيمة ضروريات الحياة اللازمة لإعاشته (أي: ما يوازي قيمة قوة عمله المدفوعة إليه على شكل أجر، أو – بعبارة أخرى– ما يوازي قيمة رأس المال المتغير الموظف في شراء قوة عمله)، بينما يقضي بالمقابل 7/10 (سبعة أعشار) يوم العمل في إنتاج فائض القيمة.

في هذه الحالة، إذن، يصبح وقت العمل الضروري (المدفوع) يوازي فقط 3/10 يوم العمل (أي 3 ساعات بدلاً من 6 كما في الحالة الأولى)، أما وقت العمل الفائض (غير المدفوع) فيصبح يوازي 7/10 يوم العمل (أي 7 ساعات بدلاً من 4 كما في الحالة الأولى).

■ وفي هذه الحالة (الثانية) فإن النسبة بين وقت العمل الضروري (المدفوع) وبين وقت العمل الفائض (غير المدفوع) تصبح نسبة 7:3، بينما هي كانت في الحالة الأولى = 2:3.

[■ في الحالة الثانية، أيضاً، يصبح لدينا:

معدل فائض القيمة = فائض القيمة ÷ رأس المال المتغير = 14 دينار ÷ 6 دينار = 7/3؛

أو، وقت العمل الفائض ÷ وقت العمل الضروري = 7 ساعات ÷ 3 ساعات = 7/3؛

أو، العمل غير المدفوع÷ وقت العمل المدفوع = 7/3؛

بينما كان معدل فائض القيمة في الحالة الأولى = 2/3.]

4-■ إذن؛ الرأسمالي الذي يبادر إلى تطوير الأساليب والشروط التقنية للإنتاج يستطيع أن يستحوذ لصالح العمل الفائض على حصة أكبر من يوم العمل على حساب العمل الضروري. إنه يتمكن إذن، وفق تعبير ماركس، من زيادة فائض القيمة النسبي. فهو يستحوذ على حصة أكبر من قيمة بضائعه المنتجة بالمقارنة مع ما يدفعه على شكل رأسمال متغير لقاء شرائه قوة العمل. وبذلك فهو يتمكن من زيادة معدل فائض القيمة الخاص به فوق مستوى معدل فائض القيمة السائد إجتماعياً. [«رأس المال»، المجلد الأول، ص 300-302.]

■ بهذا الشأن يقول ماركس: «إن حقيقة كون كمية متناقصة باضطراد من العمل الحي الإضافي تتجسد في البضائع (التي بمجموعها تشكل ناتج رأس المال)، لأن إنتاجها يتطلب عملاً أقل بفعل تطور إنتاجية العمل الإجتماعي. هذه الحقيقة لا تؤثر في النسبة التي ينقسم بموجبها العمل الحي الإضافي المتجسد في البضائع إلى عمل مدفوع الثمن، وعمل مجاني غير مدفوع. تماماً على العكس: رغم أن الكمية الإجمالية للعمل الحي المجسد في البضائع تتناقص، فإن الجزء غير المدفوع الثمن يتزايد بالمقارنة مع الجزء المدفوع بسبب تراجع هذا الأخير، إما بشكل مطلق، أو بشكل نسبي.

إن ميل معدل الربح إلى الإنخفاض يقترن بميل معدل فائض القيمة إلى الإرتفاع، وبالتالي يقترن بالميل إلى زيادة درجة إستغلال العمل. ليس ثمة، إذن، ما هو أكثر مجافاة للمنطق من محاولة تفسير الإنخفاض في معدل الربح بارتفاع نسبة الأجور، رغم أن هذا يمكن أن يحدث على سبيل الإستثناء». [«رأس المال»، المجلد الثالث، ص 293 ■]

(3)

العلاقة بين «معدل فائض القيمة»، وبين «معدل الربح»

1-■ يحذر ماركس من الخلط بين «معدل فائض القيمة»، وبين «معدل الربح»؛ ويؤكد أن هاتين المقولتين متمايزتان عن بعضهما بشكل كامل، وأن العلاقة بينهما هي العلاقة بين مظهر الظاهرة (الربح)، وبين جوهرها (فائض القيمة). ذلك أن معدل فائض القيمة هو النسبة بين مقدار (كمية) فائض القيمة، وبين رأس المال المتغير (فق ÷ رم)، بينما معدل الربح [فق ÷ (رث + رم)]، هو النسبة بين كمية الربح (أي: كمية فائض القيمة)، وبين رأس المال الكلي (رث + رم) الموظف في الإنتاج، الذي هو حصيلة جمع رأس المال الثابت مع رأس المال المتغير.

■ إن قيمة البضاعة تساوي حاصل جمع قيمة وسائل الإنتاج المستخدمة في صنعها + قيمة قوة العمل التي يسددها الرأسمالي للعامل على شكل أجور + القيمة المضافة، أو فائض القيمة التي يستحوذ عليها الرأسمالي بدون مقابل.

إن قيمة وسائل الإنتاج المستخدمة في صنع البضاعة هي ما يطلق عليه ماركس تعبير: رأس المال الثابت. ورأس المال الثابت، هو رأس المال الموظف في تأمين وسائل الإنتاج اللازمة لعملية صنع البضاعة.

 2- تتكون وسائل الإنتاج من:

أ)■ أصول إنتاجية ثابتة، تنقل قيمتها إلى البضاعة بالتدريج عبر اهتلاكها، وهذه تشمل: أدوات العمل والمعدات اللازمة للإنتاج من الآلات ولوازم العمل الأخرى، والمباني المستخدمة في العملية الإنتاجية، والأرض التي تقوم عليها. هذه الأدوات والمعدات لا تُستهلك في صنع البضاعة دفعة واحدة، بل هي تُستهلك بالتدريج، وهي بالتالي تنقل إلى البضاعة جزء من قيمتها تساوي قيمة إهتلاكها وليس قيمتها الإجمالية.

ب)■ مواد خام ومواد مساعدة (وقود، زيوت، ألوان، الخ...)، وهذه تنقل كامل قيمتها إلى البضاعة في سياق عملية الإنتاج.

■ ينبغي هنا التمييز بين مقولة «رأس المال الثابت» (Constant Capital- CC) - كما يُعَرِّفها ماركس أعلاه – وبين مقولة «رأس المال المستثمر في أصول الإنتاج الثابتة» (Fixed Capital-FC). ذلك أن رأس المال المستثمر في أصول الإنتاج الثابتة (أدوات العمل، والمباني، والأرض المستخدمة للإنتاج) هو جزء من رأس المال الثابت، وليس كله. فبالإضافة إلى هذا  يشمل رأس المال الثابت أيضاً قيمة المواد الخام، والمواد المساعدة المستخدمة في الإنتاج (FC < CC).

3-■ أما قيمة قوة العمل، التي يسميها ماركس «رأس المال المتغير» (Variable Capital-VC)، فهي رأس المال الموظف في شراء قوة العمل، والذي يجد تعبيره النقدي في الكمية الإجمالية للأجور المدفوعة للعمال، وهي توازي كلفة إنتاج وإعادة إنتاج قوة العمل، أي قيمة ضروريات الحياة اللازمة من أجل إعاشة العامل وعائلته ضمن مستوى الحياة المعطى (مستوى المعيشة) في مجتمع معين، أي قيمة البضائع والخدمات التي يحتاجها العامل من أجل حفظ وتجديد قوة عمله، وإعادة إنتاجها. إذن: قيمة البضاعة = رأس المال الثابت + رأس المال المتغير + فائض القيمة.

■ ولكن بالنسبة للرأسمالي، في سياق إدارته لعملية الإنتاج، فإن «قيمة البضاعة» لا تهمه بقدر ما يهمه سعر الكلفة للبضاعة، أي مقدار ما أنفق عليها من رأسمال. إن كلفة البضاعة، بالنسبة للرأسمالي، تقاس بقيمة رأس المال الذي أنفق في إنتاجها، وهي تبدو له ظاهرياً، كما لو كانت قيمتها الحقيقية. ولكن الكلفة الحقيقية للبضاعة، أي قيمتها، تقاس بكمية العمل (الضروري إجتماعياً) الذي أنفق في إنتاجها.

■ إذن بالنسبة للرأسمالي: سعر الكلفة للبضاعة = إهتلاك أصول الإنتاج الثابتة + قيمة الخامات والمواد الوسيطة والمساعدة + رأس المال المتغير. ولتسهيل ضبط حساباته في إدارة عملية الإنتاج فإن الرأسمالي يُمَيِّز بين «رأس المال الموظف في أصول الإنتاج الثابتة» (Fixed Capital) والذي يجري استهلاكه بالتدريج عبر فترة زمنية طويلة نسبياً، وبين رأس المال الذي يجري استهلاكه فوراً في عملية الإنتاج، أي «رأس المال المتداول» (رد) (Circulating Capital-CIRC)، وهو يساوي كلفة المواد الخام والوسيطة مضافاً إليها كلفة قوة العمل (الأجور، أو ما يسميه ماركس برأس المال المتغير). إذن بالنسبة للرأسمالي، فإن سعر الكلفة = قيمة تعويض إهتلاك أصول الإنتاج الثابتة + رأس المال المتداول.

4-■ من وجهة نظره، يقدم الرأسمالي في بداية عملية الإنتاج (يوظف في الإنتاج) رأسمالاً كلياً يساوي قيمة الأصول الثابتة مضافاً إليها رأس المال المتداول. ويصبح في حوزته، كحصيلة لعملية الإنتاج، رأسمال يساوي قيمة الأصول الثابتة، ناقصاً إهتلاكها، مضافاً إليه رأسمال مجسد في بضاعة كلفتها بالنسبة إليه تساوي: قيمة الخامات والمواد الوسيطة + قيمة الإهتلاك + قيمة قوة العمل؛ ولكن كلفتها الحقيقية (أي، قيمتها الحقيقية) تحتوي فوق ذلك إضافة هي: فائض القيمة. وتبدو هذه الإضافة، بالنسبة له، بصفتها فرقاً بين سعر الكلفة وسعر البيع (أي السعر الذي يمكن أن تباع به البضاعة في السوق)، أي أنها تتمظهر بصفتها ربحاً يولده (ينتجه) رأس المال. وهكذا، يتخذ فائض القيمة صورة متقمصة بصفته وليداً لرأس المال الكلي المستثمر، ويتمظهر على شكل «ربح».

■ وهكذا، فإن معادلة القيمة، تقوم على مايلي:

قيمة البضاعة = رأس المال الثابت + رأس المال المتغير +  فائض القيمة؛

أو ما يوازي الشيء نفسه: قيمة البضاعة = سعر الكلفة +  فائض القيمة؛

هذه المعادلة تتخذ شكلاً متحولاً بحيث تصبح: قيمة البضاعة = سعر الكلفة + الربح.

5-■ إن معدل الربح هو نسبة الربح إلى رأس المال الكلي المستهلك في إنتاج البضاعة. وبالنسبة للرأسمالي فإن رأس المال الكلي المستهلك في إنتاج البضاعة يساوي سعر الكلفة، أي يساوي رأس المال المتداول مضافاً إليه قيمة إهتلاك الأصول الثابتة، أي أن:

رأس المال الكلي (رك) = سعر الكلفة (س ك) = رأس المال المتداول (الذي سنرمز له بالرمز: رد) + قيمة الإهتلاك.

ولكن، بما أن (رد) = قيمة الخامات والمواد الوسيطة + قيمة قوة العمل؛

إذن معدل الربح الذي هو = الربح (ر) ÷ رأس المال الكلي (رك)، يساوي أيضاً:

= الربح (ر) ÷ [ قيمة الإهتلاك + قيمة الخامات والمواد الوسيطة + قيمة قوة العمل]

إذن، معدل الربح = الربح (ر) الذي هو نفسه: فق ÷ (رث + رم)

وبذلك، فهو يتميز عن معدل فائض القيمة الذي هو = فق ÷ رم (فائض القيمة منسوباً إلى رأس المال المتغير).

ولكن، لنلاحظ أن معدل الربح = [ فق ÷ (رث + رم)] × (رم ÷ رم)

إذن، معادلة معدل الربح يمكن أن تكتب أيضاً على النحو التالي:

معدل الربح = (فق ÷ رم) × [ رم ÷ (رث + رم)] = (فق ÷ رم) × (رم ÷ رك)

أي: معدل الربح، يساوي معدل فائض القيمة مضروباً في نسبة رأس المال المتغير إلى رأس المال الكلي.

■ وهكذا، فإن معدل فائض القيمة (أي درجة إستغلال العمل) يشكل عنصراً من عناصر تحديد معدل الربح، ولكنه لا يتساوى معه. إن زيادة معدل فائض القيمة، كما هو واضح من المعادلة، تؤدي إلى زيادة معدل الربح طالما تبقى ثابتة نسبة رأس المال المتغير إلى رأس المال الكلي (أو، ما يوازي الشيء نفسه: طالما تبقى ثابتة نسبة رأس المال المتغير إلى رأس المال الثابت). وكذلك، فإن زيادة رأس المال المتغير بالنسبة إلى الثابت (مع بقاء معدل فائض القيمة على حاله) تؤدي إلى زيادة معدل الربح.

■ ولكن، بالمقابل، فإن انخفاض معدل فائض القيمة لا يؤدي بالضرورة إلى انخفاض معدل الربح، إذا ما اقترن بزيادة نسبة رأس المال المتغير إلى الثابت. بيد أن انخفاض نسبة رأس المال المتغير إلى الثابت [أي: إرتفاع نسبة التكوين العضوي (رث ÷ رم) لرأس المال] تؤدي إلى تخفيض معدل الربح، إذا بقي معدل فائض القيمة (فق ÷ رم) ثابتاً.

■ وهكذا، فإن زيادة الإنتاجية [ التي تعني إرتفاع نسبة التكوين العضوي لرأس المال، أي (رث ÷ رم)] تؤدي في البداية إلى زيادة معدل الربح من خلال زيادتها لمعدل فائض القيمة؛ ولكن زيادة الإنتاجية نفسها، ما تلبث أن تميل إلى خفض معدل الربح من خلال تخفيضها نسبة رأس المال المتغير بالمقارنة مع الثابت. «إن الاتجاه المضطرد لانخفاض معدل الربح العام، هو إذن ليس سوى تعبير عن التطور المضطرد لإنتاجية العمل الإجتماعي في ظل الشروط المميزة لنمط الإنتاج الرأسمالي». [«رأس المال»، المجلد الثالث/ ص 213■]

(4)

الفيض المطلق، المزمن والدائم، في تراكم رأس المال

1-■ في المجلد الثالث من «رأس المال» (ص 252)، يشرح ماركس فكرة فيض التراكم المطلق على النحو التالي: «لكي يقدر المرء ما الذي يعنيه فيض التراكم في رأس المال، عليه فقط أن يفترض كونه مطلقاً. متى يصبح فيض تراكم رأس المال مطلقاً؟ متى يصبح حالة تمس ليس فقط واحداً من فروع الإنتاج، أو عدداً قليلاً منها، بل حالة مطلقة، تأخذ مداها الكامل، وتمتد بالتالي إلى جميع ميادين الإنتاج؟ يكون ثمة فيض مطلق في تراكم رأس المال في اللحظة التي يصبح فيها رأس المال الإضافي المسخر لأغراض الإنتاج مساوياً إلى الصفر».

بكلام آخر: في اللحظة التي يبدأ فيها رأس المال، بسبب تدني معدلات الربح، يفضل الإحجام عن الإستثمار في تطوير عملية الإنتاج، يفضل الكف عن القيام بوظيفته كرأسمال، وظيفته في استغلال العمل من أجل إنتاج فائض قيمة، حيث انخفاض معدل الربح يجعل فائض القيمة المتوقع إنتاجه باستغلال العمل أقل في مقداره، مما كان ينتجه رأس المال العامل (رأس المال الموظف فعلاً في الإنتاج) قبل توسعه، قبل زيادته بالتراكم.

■ يتابع ماركس: «ولكن هدف الإنتاج الرأسمالي هو التوسع الذاتي لرأس المال: الاستحواذ على فائض العمل، إنتاج فائض القيمة، تحقيق الربح. وفي اللحظة التي ينتج فيها رأس المال المتزايد (بفعل توسعه الذاتي) مقداراً من فائض القيمة يساوي، أو يقل عن، المقدار الذي كان ينتجه قبل زيادته، يصبح ثمة فيض مطلق في تراكم رأس المال»، حيث يكف رأس المال الجديد (المتكون عبر التوسع الذاتي لرأس المال العامل) عن توظيف نفسه في الإنتاج.

■ يضيف ماركس: «ستكون هذه الحالة حصيلة، وسبباً، لهبوط مفاجيء وعميق في المعدل العام للربح. ولكن الهبوط هذه المرة سيكون نتيجة تغيير في تكوين رأس المال لا يجد سببه في تطور قوى الإنتاج والإنتاجية، بل يجد سببه – على الأرجح – في ارتفاع نسبي للقيمة النقدية لرأس المال المتغير (بسبب زيادة الأجور) وفي التقليص المناظر لنسبة العمل الفائض إلى العمل الضروري».

2-■ إن معدل الربح يميل إلى الإنخفاض، في المدى الطويل، بسبب من ارتفاع نسبة التكوين العضوي لرأس المال الناجم عن تطور إنتاجية العمل.

 [■ إن تطور إنتاجية العمل يعني أن كمية أقل من العمل الحي تصبح ضرورية لتشغيل كمية أكبر من وسائل الإنتاج (من «العمل الميت») ولإنتاج كمية أكبر من البضائع. أي: إن تطور إنتاجية العمل تعني زيادة نسبة لرأس المال الثابت بالمقارنة مع رأس المال المتغير. وبالعودة إلى معادلة معدل الربح (راجع   الفقرة 3) سنرى أن هذا التغيير يقود حكماً إلى انخفاض تدريجي في معدل الربح.]

■ عند نقطة معينة، يؤدي هذا الإنخفاض التدريجي في معدل الربح إلى تآكل الحافز الذي يدفع رأس المال المتراكم إلى توظيف نفسه في الإنتاج، يقود إلى إحباط  - تثبيط – عملية الإستثمار في الإنتاج، وتبدأ في الظهور – بالتالي – حالة فيض التراكم.

إحجام رأس المال المتراكم (إمتناعه) عن الإستثمار يعني لجم عملية زيادة رأس المال الثابت (أي: تباطؤ ما يسمى بعملية تكوين رأس المال)، وبالتالي إلى جمود الكمية الإجمالية (والقيمة الإجمالية) لرأس المال الثابت الموظف في الإنتاج، في نفس الوقت الذي يتواصل فيه (بفعل الإنتعاش النسبي) التزايد النسبي في الطلب على قوة العمل ويقود إلى زيادة الأجور، أي إلى الإرتفاع النسبي (والمؤقت) في القيمة النقدية لرأس المال المتغير، أي في كمية رأس المال النقدي الذي ينفقه الرأسماليون لشراء قوة العمل، دون أن ينطوي ذلك بالضرورة على زيادة فعلية في كمية العمل التي يجري تشغيلها (عدد العمال الذين يتم استخدامهم).

■ وبما أن القيمة (وبالتالي القيمة الزائدة) التي تنتجها قوة العمل تتوقف على كمية العمل المبذول في الإنتاج، لا على القيمة النقدية لقوة العمل، فإن زيادة هذه القيمة النقدية لا تترتب عليه زيادة في القيمة المنتجة، ولا في فائض القيمة الذي يجري إنتاجه. ومع جمود الزيادة في فائض القيمة المنتج، وجمود، أو تباطؤ الزيادة في رأس المال الثابت، وتزايد القيمة النقدية لرأس المال المتغير، فإن معدل الربح، كما يتضح من معادلته [فق ÷ (رث + رم)]، يشهد هبوطاً إنحدارياً مفاجئاً وعميقاً في جميع، أو معظم، فروع الإنتاج، ويزيد بالتالي من تثبيط ميل رأس المال المتراكم إلى توظيف نفسه في العملية الإنتاجية، ويتحول بالتالي فيض تراكم رأس المال إلى فيض مطلق. إن المسار الواقعي للدورة الإقتصادية للنظام الرأسمالي يتبع هذا النموذج ويتطابق، بصورة تكاد تكون حرفية، مع هذا التحليل.

■ إن تمركز رأس المال، وتزايد هيمنة الإحتكارات، بتركيزه لعملية تكوين رأس المال في أيدي «قلة من رؤوس الأموال الكبيرة الراسخة» (على حد تعبير ماركس)، يميل (يتجه، ينحو) باتجاه جعل هذا الفيض المطلق في تراكم رأس المال حالة مزمنة، باتجاه الاقتراب به تدريجياً من حالة الفيض المطلق، المزمن والدائم في تراكم رأس المال، أي ينحو باتجاه الاقتراب من النقطة التي يصبح فيها نمط الإنتاج الرأسمالي عقيماً، النقطة التي «تنطفيء فيها جذوة الإنتاج الحية»■

(5)

التخفيض الفعلي للقيمة الحقيقية لرأس المال العامل

1-■ في الواقع العملي، فإن تحول «قسم من رأس المال» إلى حالة العطل الجزئي أو الكلي، يعبر عن نفسه بحالات الإفلاس وإغلاق المرافق الإنتاجية، بعمليات الإستيلاء وإعادة الهيكلة حيث تستولي رؤوس الأموال الكبيرة على رؤوس الأموال الأضعف، وتعيد «هيكلتها» بشطب (تدمير) قسم من موجوداتها وابتلاع (ضم) القسم الآخر؛ كما يعبر عن نفسه كذلك، بحالة التعطيل المزمن لنسبة متفاوتة من القدرة الإنتاجية للمصانع.

■ إن إغلاق المصانع، بفعل إفلاسها، أو توقفها عن العمل نتيجة عجزه عن تحقيق نسبة مجزية من الربح، يعني أن قسماً من رأس المال الكلي (رأس المال الإجتماعي) الموظف في عملية الإنتاج قد تم شطبه، قد جرى استثناؤه – بشكل مؤقت أو دائم – من الإنخراط والمساهمة في العملية الإنتاجية.

وهذا يعني تخفيض الكمية الإجمالية (وبالتالي: تخفيض القيمة الإجمالية) لرأس المال الكلي الموظف في الإنتاج. وعمليات إعادة الهيكلة، بما تنطوي عليه من شطب لقسم من أصول الإنتاج، وكذلك حالة التعطيل لنسبة من القدرة الإنتاجية للمصانع، تعني أيضاً بدورها تخفيضاً للقيمة الإجمالية لرأس المال الكلي المنخرط فعلاً في عملية الإنتاج.

2-■ من زاوية أخرى، فإن تعطيل قسم من الطاقة الإنتاجية لرأس المال يعني تخفيض كمية العمل المستخدمة في الإنتاج (تسريح العمال)، مما يعني بدوره تخفيض فائض القيمة الذي يجري إنتاجه فعلاً، أي تخفيض كمية الربح. وبالتالي، فإن هبوط معدل الربح يؤدي إلى تناقص في مقدار الربح، في كميته المطلقة.

■ يترتب على هذا، كما يوضح ماركس: «إن التوسع الذاتي لرأس المال العامل (أي المشغل فعلاً) سوف يتناقص. وبالتالي فإن رأسمالاً بقيمة معينة سوف يعطي في هذه الظروف ربحاً لا يزيد عن ذلك الذي كان يعطيه سابقاً رأسمال يساوي جزءاً من قيمته».

■ لنفترض أن رأسمالاً قيمته (س) يعطي في الظروف العادية ربحاً مقداره (ر). إن انخفاض مقدار الربح إلى (ر _ ▲ر)، يعني أن الرأسمال الذي قيمته (س) أصبح يولد ربحاً يوازي ما كان يولده – في الظروف العادية – رأسمال قيمته (س _ ▲س). وبالتالي، فإن الرأسمال (س) تنخفض في الواقع قيمته لتصبح مساوية لقيمة (س _ ▲س). وهذا يعني مزيداً من التخفيض الفعلي للقيمة الحقيقية لرأس المال العامل (أي المشغل فعلاً في الإنتاج)■

(6)

تخلي رأس المال عن سمته المميزة،

فيما يتعلق بإنتاج القيمة

1-■ يكون إنخفاض معدل الربح نتيجة للصراع التنافسي الذي يسببه فيض إنتاج رأس المال، عندما يؤدي التوسع الذاتي (التراكم) لرأس المال العامل إلى تشجيع المستثمرين على توظيف الزيادة في رأسمالهم (الزيادة المتولدة عن التراكم) في إدخال وسائل وأساليب إنتاجية جديدة مبتكرة تزيد من إنتاجية العمل في منشآتهم، وتمكنهم بالتالي من خفض كلفة إنتاجهم دون مستوى الكلفة السائدة إجتماعياً، أي من تخفيض قيمة بضائعهم، بحيث يمكنهم طرحها للتبادل بسعر أدنى من قيمتها السائدة إجتماعياً.

■ إن هذا يدفع الرأسماليين الآخرين بدورهم، كي يحافظوا على حصتهم من السوق، إلى أن يحذوا حذوهم بإدخال وسائل جديدة تمكنهم من خفض قيمة بضائعهم. ويقود ذلك إلى إنخفاض معين في معدل الربح. وهذا يعني أن رأس المال الإضافي الذي يتحقق بالتراكم لن يكون بالإمكان توظيفه، بأرباح مجزية، إلا إذا استثمر بطريقة تمكن من خفض إضافي في كلفة (وبالتالي: قيمة) البضائع التي ينتجها. وبهذه الحالة يستمر الصراع التنافسي ويقود إلى مزيد من التخفيض في معدل الربح. في هذه الحالة، إذن، يكون إنخفاض معدل الربح نتيجة للصراع التنافسي بين الرأسماليين.

2-■ أما في حالة فيض التراكم المطلق، فإن الشروط التي تؤدي إلى هذه الحالة، أي الشروط التي تقود، من جهة، إلى انخفاض تدريجي لمعدل الربح بسبب من إرتفاع نسبة التكوين العضوي لرأس المال، كما تقود، من جهة أخرى، إلى الإفراط في إنتاج رأس المال الذي يحجم عن القيام بوظائفه بسبب تدني معدل الربح، هذه الشروط هي التي تؤدي نشوب واحتدام الصراع التنافسي.

■ ففي هذه الحالة، كما يوضح ماركس، سنرى أن: «ذلك القسم من رأس المال الإضافي (المتحقق عبر التوسع الذاتي والتراكم) والذي يقع بأيدي رأسماليين عاملين (قدماء) سوف يتم إبقاؤه عاطلاً، كلياً أو جزئياً، للحيلولة دون خفض قيمة رأسمالهم الأصلي ولمنع تقليص الحيِّز الذي يحتله في ساحة الإنتاج، أو ربما سوف يتم إستخدامه – ولو بخسارة مؤقتة – من أجل إلقاء عبء الحاجة إلى إبقاء رأس المال الإضافي عاطلاً، إلقاء هذا العبء على كاهل منافسيهم، بشكل عام.

■ أما ذلك القسم من رأس المال الإضافي الذي يقع بأيد جديدة، فسوف يسعى إلى احتلال حيِّز لنفسه على حساب رأس المال القديم (العامل فعلاً)، وهو يستطيع أن يحقق ذلك جزئياً فقط، عبر إجبار قسم من رأس المال القديم على البقاء عاطلاً. عندئذ سوف يُضطر رأس المال القديم إلى التخلي عن مواقعه، وإلى الإنسحاب للإنضمام كلياً أو جزئياً إلى رأس المال الإضافي العاطل.

وفي جميع الحالات، فإن قسماً من رأس المال القديم سوف يبقى بدون استخدام، أي سيكون عليه أن يتخلى عن سمته المميزة كرأسمال، بقدر ما يتعلق الأمر بإنتاج القيمة. والصراع التنافسي هو الذي سيقرر أي قسم منه سوف يتأثر بشكل خاص». [ ماركس: «رأس المال»، المجلد الثالث/ ص254■]

1994

       

الفصل الرابع

حول الثورة الوطنية الديمقراطية

 

مقدمة

■ الثورة الوطنية الديمقراطية: مهماتها وقواها الاجتماعية

   المحركة

■ استراتيجية وتكتيك الطبقة العاملة، في الثورة الوطنية

   الديمقراطية

معهد العلوم الإجتماعية

الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

مقدمة

■ تطرح هذه الدراسة بقسميها، المدخل النظري لمسألة الثورة الوطنية الديمقراطية، وتستحضر رسالتها التاريخية الرئيسية بكونها تطلق تطور قوى إنتاج الرأسمال الوطني، وتزيل العقبات أمام نموها وتطورها. وهي الرسالة التي لا تختلف بجوهرها عن تلك التي أنجزتها البورجوازية الأوروبية في فترة تطور وصعود الرأسمالية، وتمثلت في الثورة البورجوازية الديمقراطية.

وإذا كانت البورجوازية الأوروبية قد أنجزت مسألة الوحدة القومية وبناء الدولة القومية من خلال ومع تصفية أشكال الإنتاج السابقة للرأسمالية، وتحرير الفلاحين، وصياغة القوانين والتشريعات المعبرة عن الواقع الجديد، والحامية له في آن، فإن الثورة الوطنية الديمقراطية في البلدان النامية عموماً، والعربية بالتخصيص، إنما تتصدى لنفس المهمات، ولكن في سياق تاريخي آخر، تحوَّلت فيه الرأسمالية إلى إمبريالية، أي قوة هيمنة إقتصادية وسياسية وعسكرية تعترض بشتَّى الوسائل سبل إنجاز الشعوب التابعة لثوراتها الوطنية الديمقراطية.

■ تتوقف هذه الدراسة أمام مسألة عجز البورجوزيات الوطنية المحلية في بلداننا بشكل عام، عن إنجاز مهمات هذه الثورة نتيجة ضعفها البنيوي الذي يُحوِّلها إلى شريك ضعيف، وبالنهاية إلى ملحق للرأسمال العالمي، ويدفعها إلى المساومة والشراكة مع الطبقات والشرائح الطبقية الرجعية المحلية التي تناقضت معها في البداية، وينقلها – بالمقابل - إلى مواقع الارتياب والحذر في التعاطي مع الطبقة العاملة وحركتها، ومن ثم العداء لها ولسائر الفئات الكادحة صاحبة المصلحة الحقيقية والأصلية في إنجاز كافة مهام الثورة الوطنية الديمقراطية.

■ إن الطبقة العاملة ليست صاحبة المصلحة الأصلية وحسب، بل أنها وعلى ضوء التوازن الطبقي الجديد الذي يتولد في سياق التحولات الوطنية الديمقراطية، وبتحالفها الديمقراطي الوطيد مع فقراء الفلاحين والفئات الوسطى وسائر الكادحين فضلاً عن أوسع قطاعات الشباب والمرأة، هي الطبقة المؤهلة موضوعياً للإضطلاع بدور قيادي نافذ في نضال عموم طبقات الشعب الوطنية لإنجاز مهمات الثورة الوطنية الديمقراطية.

■ إنطلاقاً من هذا التوازن الطبقي الجديد لصالح الطبقة العاملة، ومن أن الدور القيادي للطبقة العاملة وحلفائها للثورة الوطنية الديمقراطية شرط حاسم من أجل انتصارها، وانطلاقاً من كون التناقض الرئيسي في هذه المرحلة هو مع الإمبريالية والصهيونية وحلفائهما من القوى الإجتماعية الرجعية، تركز الدراسة على توضيح العديد من الإلتباسات، فتؤكد على أن انتهاء الدور القيادي للبورجوازية الوطنية لا يعني إستنفاذ دورها الوطني.

وعليه، يجري التأكيد على أن الطبقة العاملة تمارس دورها القيادي من خلال توحيد كافة طبقات الشعب الوطنية في جبهة وطنية متحدة، وأن هذه الجبهة لا تتعارض مع ضرورة صيانة استقلال الطبقة العاملة الأيديولوجي والسياسي والتنظيمي، وفي هذا الإطار يجري توضيح الأسس التي يقوم عليها التحالف بين الطبقة العاملة والبورجوازية الوطنية.

■ وأخيراً، تشير الدراسة إلى مسألة الثورة الوطنية الديمقراطية على المستوى العربي، لجهة إخفاقات البورجوازيات العربية في إنجاز مهام هذه الثورة، وارتداد بعضها إلى مواقع تجديد الإرتباط بالإمبريالية. وإذا كانت البورجوازية الوطنية قاصرة عن إنجاز هذه المهام، بينما الطبقة العاملة صاحبة مصلحة أكيدة في الثورة، ومالكة القدرة على الإضطلاع بدور قيادي ملموس، كما ثبت في عدد من بلدان «العالم الثالث»، فما الذي منع الطبقة العاملة في البلدان العربية بشكل عام، من أن تضطلع بهذا الدور؟

هل هو ضعفها البنيوي، أم إنحرافاتها اليمينية أو اليسارية في علاقاتها مع بورجوازيتها الوطنية؟

هل هو عجزها عن صياغة استراتيجية بديلة للثورة الوطنية الديمقراطية، متقاطعة مع استراتيجية البورجوازية الوطنية ومتجاوزة لها في آن، أم ضعف في القدرة على بلورة تكتيكات تحالفية وتعبوية من أجل تكتيل أوسع الجماهير الكادحة لإنجاز مهمات هذه الثورة؟

هل المعضلات التي عانتها أحزاب الطبقة العاملة العربية والأحزاب الديمقراطية الثورية كانت لاعتبارات موضوعية فحسب، أم تعود أيضاً إلى إشكالات ذاتية في القدرة على تحليل الواقع الإقتصادي - الإجتماعي ورسم السياسات الصائبة؟

هذا ما تحاول أن تجيب عليه الصفحات التالية■

المحرر

الثورة الوطنية الديمقراطية..

مهماتها وقواها الإجتماعية المحركة

[■ ما هي طبيعة الثورة الوطنية الديمقراطية وما هي مهماتها وقواها المحركة؟ ومن هي القوى الإجتماعية المؤهلة لقيادة هذه الثورة حتى تحقيق أهدافها النهائية؟ ولماذا لا يمكن للطبقة العاملة أن تحقق هدفها النهائي، ألا وهو قيام الاشتراكية وإلغاء استغلال الإنسان للإنسان، بدون إنجاز مهمات الثورة الوطنية الديمقراطية، وليس بالقفز عنها؟

 فيما يلي مساهمة للإجابة على هذه الأسئلة بالاستناد إلى التجربة الملموسة للثورات الوطنية الديمقراطية، سواء منها تلك التي عرفتها البلدان الأوروبية (لا سيما الأوروبية الغربية) التي شهدت إنبثاق الرأسمالية لأول مرة وقبل غيرها، أو تلك الثورات الديمقراطية الجديدة التي عرفتها البلدان المستعمرة والتابعة منذ مطلع ق 20.

■ إن للثورات الديمقراطية محتوى رئيسياً ثابتاً ورسالة تاريخية واحدة من حيث الجوهر. هذه الرسالة هي: إطلاق تطور قوى الإنتاج الرأسمالية الوطنية وإزالة العقبات والقيود التي تعيق نموها ونهوضها. لكن، بما أن العقبات والمعيقات التي تحول دون تطور قوى الإنتاج الرأسمالية الوطنية قد اختلفت بين العصر الذي شهد الثورات الوطنية الديمقراطية المبكرة (أي الثورات البورجوازية الديمقراطية)، وبين الثورات الوطنية الديمقراطية المعاصرة؛ كما اختلفت الظروف التاريخية التي تجري في إطارها هذه الثورات عالمياً وفي إطار البلدان التابعة ذاتها؛ فقد باتت الثورات الوطنية الديمقراطية الجديدة تتصدى لمهمات إضافية ذات طبيعة مباشرة هي مهمات التحرر الوطني من التبعية للإمبريالية وتحقيق الاستقلال، ليس الاستقلال السياسي فحسب، بل أيضاً الاستقلال الاقتصادي الواسع عن السوق الرأسمالية العالمية الخاضعة للهيمنة الإمبريالية.

■ كذلك الأمر، فقد بات إنجاز المهمات الرئيسية للثورات الوطنية الديمقراطية إنجازاً حاسماً ومتكاملاً مرهوناً بتوفير قيادة طبقية ثورية لها مصلحة ثابتة وكاملة في إنجاز هذه المهمات، قيادة تقوم على تحالف قوى إجتماعية (ما يطلق عليه أحياناً «الكتلة التاريخية»)، تضطلع من خلالها الطبقة العاملة بدور قيادي نافذ، وذلك بعكس الثورات الوطنية الديمقراطية المبكرة في بلدان أوروبا الغربية بخاصة، أي تلك الثورات التي سبقت تحول الرأسمالية إلى إمبريالية، حيث كانت الطبقة البورجوازية هي الطبقة القائدة لمجموع الشعب.

■ ولتبيان المضمون الرئيسي للثورات الوطنية الديمقراطية، سوف نتطرق أولاً إلى مهمات الثورات البورجوازية الديمقراطية المبكرة، أي تلك التي عرفتها شعوب أوروبا الغربية في عهد نهوض وانطلاقة الرأسمالية، ثم نتناول الثورة الوطنية الديمقراطية الجديدة التي مازالت تعيشها شعوبنا من حيث المهمات الجديدة والمباشرة التي باتت مطروحة عليها، والتي باتت تملي على الطبقة العاملة – موضوعياً - مهمات قيادية للثورات الوطنية الديمقراطية، كشرط لتحقيق مهماتها الرئيسية:]

(1)

الثورة البورجوازية الديمقراطية، محتواها ومهماتها الأساسية

■ قلنا إن المحتوى الرئيسي والوظيفة التاريخية للثورات الوطنية الديمقراطية المبكرة كانت تتحدد في إزالة العقبات التي كانت تعرقل تطور قوى الإنتاج الرأسمالية (رأس المال + العمل المأجور) وتعيق نموها وانتشارها، فما هي هذه العقبات؟

إنها الإقطاع، أي الأنظمة الإجتماعية القائمة على علاقات الإنتاج الإقطاعية التي كانت تكرس ملكية الإقطاعي على الأرض والفلاح، وتكبله بقيود ملزمة إلى الأرض، وتنتزع منه ثمار عمله وكدحه على شكل ريع وأتاوات وفرائض عديدة.

كذلك، كانت علاقات الإنتاج الإقطاعية تُقيد تطور الحرف والصناعات بسبب الاقتصاد المغلق الملازم للإمارات والمقاطعات الإقطاعية، ففي الممالك الإقطاعية الأوروبية كانت البلد الواحدة مجزأة إلى عشرات وربما مئات الوحدات الإقطاعية المعزولة عن بعضها البعض بالحدود والحواجز الجمركية التي يفرضها الإقطاعيون.

وكانت هذه الحواجز تعرقل من ناحية، سيولة إنتقال البضائع بين أطراف البلد الواحد، وترهق الطبقة الرأسمالية النامية بما تفرضه على انتقال بضائعها من أتاوات ورسوم جمركية، كما كانت كل إمارة إقطاعية تشكل من الناحية الأخرى، إقتصاداً طبيعياً مغلقاً مكتفياً بذاته إلى حد كبير، فالاستنزاف الإقطاعي للفلاحين كان يحد من استهلاكهم ويفرض عليهم تلبية إحتياجاتهم الأساسية بما يحافظ على معيشتهم ليس إلا، ما كان يعيق تطور التبادل البضاعي الواسع، ويعرقل بالتالي نمو الإنتاج البضاعي.

والأهم من ذلك كله أن البورجوازية الناهضة، مع توسعها الصناعي، كانت بحاجة إلى أيدي عاملة حرة لاستخدامها كأجراء في المصانع والمعامل. لكن الامتيازات الإقطاعية كانت تعرقل تحول الفلاح إلى عامل مأجور حر التصرف بقوة عمله، بل وكانت تمنعه من حرية الحركة بدون إذن الاقطاعي.

■ لقد نهضت الثورات البورجوازية الديمقراطية لإزالة جميع هذه العقبات التي تعيق تطور مصالح البورجوازية الناهضة، أي تطور قوى الإنتاج الجديدة، قوى الإنتاج الرأسمالية ممثلة في رأس المال وقوة العمل المأجور. لقد رفعت البورجوازية الصاعدة شعارات الحرية الفردية والمساواة أمام القانون، مستهدفة بذلك تحرير الفلاحين والحرفيين الصغار من العلاقات الإقطاعية من أجل إفساح المجال لاستخدامهم كأجراء، فبدونهم ما كان يمكن لقوى الإنتاج الرأسمالية أن تنمو وتتطور.

 إن الحرية الفردية، في جوهرها البورجوازي، هي حرية الفلاح في أن يبيع قوة عمله، أي أن يتحول إلى عامل بالأجرة، وحرية الرأسمالي في أن يستأجره، والمساواة أمام القانون تعني المساواة بين البورجوازية والإقطاعي بإزالة إمتيازات الأخير.

■ هذه هي إذن المهمة الأولى من مهمات الثورة البورجوازية الديمقراطية: تحرير الفلاحين من النير الإقطاعي. وإلى جانبها تصدت الثورات البورجوازية الديمقراطية إلى مهمة أساسية أخرى هي التوحيد القومي للأمم الأوروبية وإزالة التجزئة الإقطاعية للبلدان الأوروبية، سعياً منها وراء خلق سوق وطنية واحدة واسعة خالية من الحواجز والقيود، تسهيلاً لانتقال البضائع وتداولها. فبدون وجود سوق وطنية رحبة لا يمكن أن يتحقق الإنتاج الرأسمالي الواسع، ولا أن تتحقق بالتالي وتيرة سريعة من التراكم لرأس المال. إن توحيد الأمة في دولة قوية مستقلة موحدة كان يشكل المجال الطبيعي الأرحب والأكثر تسهيلاً لنمو وتطور قوى الإنتاج الرأسمالية النامية.

ولذلك كانت الثورة البورجوازية الديمقراطية ترفع راية الوحدة القومية بهدف إنهاء التجزئة الإقطاعية وتوحيد الشعوب في دول قومية، أو لتحقيق الاستقلال عن الأمم الأخرى حتى تتوفر لها سوقها الوطنية الخاصة التي تحفز تطورها السريع.

■ لكن مهمات تحرير الفلاحين والتوحيد القومي للأمة (أي إزالة الحواجز الإقطاعية التي تخترق بلدانها)، لم تكن ممكنة الإنجاز بدون ثورات إجتماعية تستهدف تقويض سلطة الإقطاع كطبقة تمارس سيطرتها السياسية على باقي الشعب من خلال النظام الملكي المطلق، الذي كان يمثل طبقة النبلاء الإقطاعيين، ويحمي إمتيازاتهم، ويضفي عليها صفة النظام الطبيعي الخالد. وهكذا رفعت الثورات البورجوازية لواء إقامة سلطة الشعب وإشاعة الديمقراطية السياسية، بهدف انتزاع السلطة السياسية من الطبقة الإقطاعية وتأمين إنتقالها للطبقة البورجوازية.

■ هذا هو المحتوى الرئيسي للثورات الوطنية الديمقراطية المبكرة وهذه مهماتها الأساسية: إنها ثورات وطنية (أو قومية) تستهدف إلغاء التجزئة الإقطاعية وتوحيد الأمة في دولة قومية موحدة، أو انتزاع استقلالها عن الأمم الأخرى وتكوين دولتها القومية المستقلة. وهي ثورات ديمقراطية، لأنها تستهدف تحرير الفلاحين من القيود والامتيازات الاقطاعية وضمان الحريات الفردية والمساواة أمام القانون، وإرساء الأساس لانتقال السلطة السياسية من الطبقة الإقطاعية إلى الطبقة البورجوازية من خلال إلغاء الملكية المطلقة ونقل السلطة إلى الشعب الذي تقوده وتمثله البورجوازية الناهضة. إذن، تتحدد المهمات الأساسية للثورة الوطنية الديمقراطية بما يلي: تحرير الفلاحين، توحيد الأمة في دولة قومية موحدة مستقلة، إشاعة الديمقراطية السياسية■

(2)

الثورة الوطنية الديمقراطية..

ظروفها التاريخية المعاصرة ومهماتها الجديدة

■ إن إنجاز البلدان التي نمت فيها الرأسمالية مبكراً (وتحديداً بلدان أوروبا الغربية) إنجازاً تاماً وناجحاً لمهمات ثورتها البورجوازية الديمقراطية قد أطلق العنان لتطور قوى الإنتاج الرأسمالية لديها، وأتاح لبورجوازيتها الناهضة تحقيق وتيرة عالية من التراكم الرأسمالي الذي أدى فيما بعد، (وبفعل القوانين الموضوعية للتطور الرأسمالي)، إلى انتقالها من مرحلة المنافسة الحرة إلى مرحلة الإحتكار، ومن ثم إلى قيام الاتحادات الإحتكارية العملاقة التي أدى تصارعها على الأسواق والخامات إلى بروز ظاهرة الإمبريالية.

■ وغني عن البيان أن التطور الرأسمالي المبكر لعدد من هذه البلدان الأوروبية قد منح بورجوازيتها أفضليات ومزايا تاريخية لم تُتح لبورجوازيات البلدان التي نشأت فيها الرأسمالية في وقت متأخر، بل وحتى لبورجوازيات البلدان الرأسمالية الأوروبية الأدنى نمواً (مثل بلدان وسط أوروبا وجنوب شرق أوروبا وروسيا القيصرية)، فلقد تمكنت البلدان التي عرفت النمو الرأسمالي المبكر والسريع من تحقيق معدلات عالية من النمو والتراكم الرأسمالي نتيجة لغزوها الاستعماري لشعوب البلدان المتأخرة ونهب ثرواتها الطبيعية، ونتيجة لنشاط الشركات الاحتكارية في هذه البلدان.

■ وبالمقابل، فإن هذه المزايا التي تمتعت بها بورجوازية البلدان الأوروبية ذات النمو الرأسمالي المبكر والسريع، شكلت قيداً على تطور البلدان المتأخرة النمو، التي كان عليها لكي تحقق تطورها الاقتصادي المستقل أن تتحرر أولاً من السيطرة الإمبريالية عليها، ومن النهب الذي تمارسه الشركات الإحتكارية لثرواتها ومواردها الطبيعية. وحتى البلدان الأوروبية الرأسمالية الأدنى نمواً (مثل أوروبا الشرقية والوسطى)، فقد كان عليها لكي تنجز مهمات ثورتها الديمقراطية البورجوازية بصورة كاملة، أن تتحرر من تبعيتها للإحتكارات ومن هيمنة رؤوس الأموال الأجنبية على الفروع الرئيسية لاقتصادها الوطني.

■ هكذا نجد أن الثورات الوطنية الديمقراطية لشعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، التي قامت في عصر تحول الرأسمالية إلى إمبريالية، باتت ملزمة بالتصدي لمهمات جديدة إضافة إلى مهماتها الرئيسية الأخرى، وأن تسعى إلى إنجازها في ظروف تاريخية بالغة الصعوبة والتعقيد، إذ كان على شعوب القارات الثلاث أن تتصدى أولاً لمهمات إنجاز تحررها الوطني الكامل، أي الاستقلال عن النظام الرأسمالي – الإمبريالي العالمي سياسياً واقتصادياً. فبدون فك روابط التبعية للإمبريالية وبدون تقويض مواقع الإحتكارات وإنهاء هيمنتها على الفروع الرئيسية للإقتصاد الوطني، وبدون ضمان التكافؤ في العلاقة مع السوق الرأسمالية العالمية، بدون هذا كله لا يمكن تحقيق الوظيفة التاريخية للثورة الوطنية الديمقراطية والتي تتمثل في إطلاق تطور قوى الإنتاج الرأسمالي الوطنية، وإزالة العقبات الإقتصادية – الإجتماعية التي تعرقل هذا التطور ممثلة أساساً في علاقات الإنتاج ما قبل الرأسمالية.

■ وهكذا نجد أن الظروف التاريخية المعاصرة التي تحيط بالثورات الوطنية الديمقراطية لشعوب البلدان المستعمرة والتابعة باتت تضفي على هذه الثورات خصائص معينة تختلف عن الثورات البورجوازية الديمقراطية الكلاسيكية.

فالثورات الوطنية الديمقراطية في البلدان المستعمرة لم تعد تواجه عدواً واحداً هو العدو الطبقي ممثلاً في الإقطاع كطبقة مسيطرة وكنظام سياسي وكعلاقات إنتاج مكبِلة لتطور قوى الإنتاج الجديدة، وإنما باتت أيضاً تواجه عدواً آخر أكثر قوة وقدرة إقتصادية وسياسية وعسكرية هو الرأسمال الأجنبي الإحتكاري والهيمنة الإمبريالية. ولأن النهب الذي يمارسه الرأسمال الأجنبي الإحتكاري في البلدان التابعة هو العامل الرئيسي في عرقلة تطور القوى المنتجة الجديدة الناهضة، ولأنه هو الدعامة الرئيسية للطبقات الإقطاعية وسائر الطبقات المالكة الرجعية ولعلاقات الإنتاج البالية المعيقة للتطور الاقتصادي والاجتماعي، فقد باتت المهمة الرئيسية المطروحة على الثورة الوطنية الديمقراطية في هذه البلدان هي إلغاء الهيمنة الإمبريالية، ووقف النهب الذي يمارسه رأس المال الاحتكاري الأجنبي، وإنهاء التبعية للسوق الرأسمالية العالمية التي تسيطر عليها الإحتكارات الإمبريالية.

■ دخلت الرأسمالية إلى البلدان المستعمرة والتابعة من خلال تغلغل رأس المال الإمبريالي الذي يجري تصديره من بلدان المتروبول (المركز). ولنتذكر أن السمة الرئيسية للإمبريالية هي تصدير رأس المال من المتروبول إلى البلدان التابعة على أيدي الاحتكارات.

ومن الطبيعي أن يؤدي تصدير رأس المال الإمبريالي هذا إلى نقل أسلوب الإنتاج الرأسمالي إلى البلدان المستعمرة والتابعة، وإلى تحقيق درجة معينة من النمو الرأسمالي فيها. ولكن هذا النمو الرأسمالي لم يكن حافزاً لنهوض قوى الإنتاج المحلية بقدر ما كان يشكل قيداً على تطورها. كيف ولماذا؟

■ لقد استهدف النشاط الإمبريالي في البلدان المستعمرة والتابعة أن يجعل منها ميداناً لتوظيف رأس المال الأجنبي الاحتكاري بهدف: أ) إستثمار ونهب الموارد الطبيعية والمواد الخام. ب) السيطرة على الأسواق المحلية بغرض تصريف فائض إنتاج صناعات المتروبول. ج) إستغلال الأيدي العاملة الرخيصة التي تزخر بها البلدان المستَعمرة والتابعة.

في المرحلة الأولى من مراحل التغلغل الإمبريالي كان استثمار رأس المال الأجنبي المُصَدَّر إلى البلدان المستعمرة والتابعة موجهاً بشكل رئيسي إلى قطاعات الصناعات الاستخراجية واستغلال الموارد الطبيعية لهذه البلدان لتوفير المواد الخام اللازمة للتزويد المنتظم لصناعات الشركات الإحتكارية في بلدان المتروبول (النفط، المعادن، القطن، المطاط، الخ..).

وهكذا فقد انحصر نمط الإنتاج الرأسمالي في البلدان التابعة في «جزر مغلقة» تقتصر على القطاعات والفروع الإنتاجية التي تدخل في نطاق توظيف رأس المال الأجنبي ونشاطه.

■ وفي المقابل، فقد وجدت الاحتكارات الإمبريالية من مصلحتها الحيلولة دون تنمية الناتج الوطني للبلدان التابعة كيلا يشكل هذا منافساً لها، ولكي تستطيع دوماً أن تُحكم سيطرتها على السوق المحلية لتلك البلدان لتصريف فائض إنتاجها. وكان هذا يتطلب الحفاظ على علاقات الإنتاج المتخلفة ما قبل الرأسمالية التي تعرقل نهوض القوى المنتجة الوطنية.

وهكذا وجدنا أن نمط الإنتاج الرأسمالي السائد في القطاعات الخاضعة لهيمنة الرأسمال الأجنبي كان يتجاور ويتعايش مع أنماط الإنتاج وعلاقات الإنتاج ما قبل الرأسمالية، ويساهم في تكريسها. وكان هذا يشكل الأساس المادي للتحالف بين الإمبريالية وبين الطبقات المالكة القديمة في البلدان التابعة والتي كانت إمتيازاتها ومصالحها الطبقية مرتبطة بعلاقات الإنتاج القديمة وبتكريسها إستمراراً لها ولديمومتها.

■ ولم يقتصر دور رأس المال الإمبريالي على فرض الحجر على نمو القوى المنتجة الوطنية وعرقلة تطورها، بل لقد أدى نشاط الرأسمال الأجنبي، في كثير من الأحيان، إلى تدمير أسس الاقتصاد الوطني للبلدان التابعة والقضاء على مقومات بنيته التقليدية. فقد جرى تدمير زراعة المحاصيل المعدة للإستهلاك لصالح الزراعات التي تنتج محاصيل التصدير والمواد الخام، وتراجعت واندثرت الحرف والصناعات البدائية المحلية بفعل منافسة البضائع المستوردة من الخارج.

■ لقد أدى نشاط وتغلغل رأس المال الأجنبي، بلا شك، إلى توسيع السوق المحلية للبلد المُستَعمر أو التابع، ولكنه حيثما أسهم في ذلك، فقد اكتفى بتوسيع محدود لهذه السوق وبشكل يتناسب مع حاجته إليها من أجل تصريف فائض الإنتاج المتحقق في البلدان الإمبريالية المُهيمِنة، وفي سبيل ذلك عمل رأس المال الأجنبي على التحالف مع البورجوازية التجارية الكبيرة في البلدان التابعة وتسخيرها كأداة لفرض الهيمنة على السوق المحلية. وهكذا نشأت أولى شرائح البورجوازية الكومبرادورية التي عملت كوكيل للإحتكارات الأجنبية ووسيط تجاري بينها وبين السوق المحلية.

■ وهكذا لم يكن التوسع في السوق المحلية ليشكل حافزاً لنمو رأس المال الوطني (كما كان الحال في البلدان الأوروبية المتقدمة)، بل بالعكس فقد دخل رأس المال الأجنبي المُهيمن في منافسة حادة مع الرأسمال الوطني المحلي، وتمكن بحكم سمته الإحتكارية وبفضل الميزات التي توفرها له هذه السمة، تمكن من تدمير الرأسمال الوطني حيثما اقترب من المجالات التي تشكل ميادين نهبه الرئيسية، وفرض على هذا الرأسمال الوطني أن يكتفي بمجالات النشاط الهامشية، وحَدَّ من نشاطه في الميادين الإنتاجية الرئيسية، بل لقد حصر مجالات استثماره في القطاعات الخدمية وفرض عليه أن يتكون باتجاه طفيلي وكومبرادوري.

■ وهكذا، فإن التطور الرأسمالي الذي شهدته البلدان المستعمرة والتابعة في ظل الهيمنة الأجنبية الاستعمارية كان تطوراً محدوداً، ومشوهاً، ووحيد الجانب. فقد اقتصر هذا التطور، في المرحلة الأولى من مراحل التغلغل الإمبريالي، على الميادين الرئيسية لنشاط الرأسمال الأجنبي في استغلال الخامات والموارد الطبيعية المحلية وزراعة المواد الأولية وتأمين الخدمات الأساسية اللازمة لضمان تدفق المواد الأولية كالموانيء والسكك الحديدية والطرق.

 وأدى هذا بلا شك إلى استخدام أعداد متزايدة من الأيدي العاملة المحلية ذات الكلفة الرخيصة. وكانت هذه نواة الطبقة العاملة المحلية التي تشكلت، بفعل التغلغل الرأسمالي الإمبريالي، قبل تشكل البورجوازية الوطنية وبشكل مستقل عن نشوئها.

باستثناء هذا التطوير المحدود والبطيء لقوى الإنتاج والسوق المحلية، فإن هيمنة رأس المال الأجنبي لم تؤدِ إلى تطوير وحفز نمو قوى الإنتاج الرأسمالية المحلية، بل هي بالعكس تعايشت وكرست أنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالية (المشاعية، وشبه الإقطاعية)، وتحالفت مع الطبقات المالكة القديمة التي شكلت عقبة في وجه نمو قوى الإنتاج الجديدة، وعرقلت نشوء الرأسمال الوطني وَحَّدت من تطوره■

(3)

التحرر الوطني والاستقلال الاقتصادي

هو المهمة الرئيسية الحاسمة للثورة الوطنية الديمقراطية الجديدة

■ نستخلص مما مر أن الثورات الوطنية الديمقراطية الجديدة باتت مطالبة ليس فقط بتحرير الفلاحين وإلغاء الملكية الإقطاعية للأرض وتوحيد الأمة في دولة قومية موحدة مستقلة وضمان انتقال السلطة السياسية من الإقطاع إلى الشعب، وإنما باتت أيضاً مطالبة بإنجاز مهمة رئيسية جديدة أصبحت هي المهمة الحاسمة التي يتوقف على إنجازها النجاح في تحقيق المهمات الوطنية الديمقراطية الأخرى.

تلك هي مهمة التحرر الوطني وتحقيق الاستقلال السياسي والاقتصادي وإنهاء الهيمنة الإمبريالية الاقتصادية. فإنجاز هذه المهمة وحده، هو الذي يُمكِّن البلدان المستعمرة والتابعة من التصدي لإزالة العوائق الإقتصادية – الإجتماعية المعرقلة لتطور قوى الإنتاج الرأسمالية الوطنية وتحقيق الوتيرة السريعة اللازمة من النمو الاقتصادي من أجل القضاء على التخلف الموروث، وتصحيح الاختلال والتشوه وعدم التناسب القائم في البنية الداخلية للاقتصاد الوطني.

■ لكن التصدي لمهمة التحرر الوطني وإنجاز الاستقلال الاقتصادي والسياسي للشعوب المقهورة والمستعَمرة ليس بالمهمة السهلة، خاصة مع التطور السريع للنظام الرأسمالي العالمي وتعاظم نفوذ الاتحادات الاحتكارية الكبرى، وازدياد هيمنتها على السوق الرأسمالية العالمية.

وتثبت تجربة البلدان التي تحررت من السيطرة الاستعمارية القديمة أن تحررها الوطني التام عن النظام الرأسمالي – الإمبريالي العالمي لم يتحقق بمجرد انتزاع استقلالها السياسي وتحولها إلى دول وطنية ذات سيادة. فمع أن النظام الاستعماري القديم قد تمت تصفيته بشكل شبه تام بعد الحرب العالمية الثانية، ورغم أنه مر على نشوء الدول الوطنية المستقلة الجديدة عقود طويلة من السنين، إلا أن انتزاعها استقلالها السياسي لم يشكل لوحده شرطاً كافياً يكفل لها وتيرة عالية من النمو والقضاء على التخلف. فمن أجل تحقيق ذلك، كان لا بد من إنهاء تبعيتها الاقتصادية للبلدان الإمبريالية الكبرى، والتخلص من موقعها الضعيف التابع في السوق الرأسمالية العالمية.

■ إن العديد من البلدان المستعمَرة سابقاً والتي باتت بلداناً ذات سيادة، أي حققت استقلالها السياسي عن الدول الاستعمارية القديمة، لم تنجز بعد تحررها الوطني الكامل، وإنما مازالت تعاني من التبعية للبلدان الإمبريالية.

فالإمبريالية لم تعد، من أجل تحقيق هيمنتها على البلدان التابعة، تعتمد بشكل رئيسي على الوسائل التقليدية القديمة (أي من خلال الغزو والقهر العسكري لشعوب البلدان المستعمرة، أو إقامة أنظمة الوصاية والحماية والانتداب على هذه البلدان، أو من خلال أنظمة حكم محلية عميلة مرتبطة مباشرة وبشكل سافر بالاستعمار)، لقد باتت تستخدم أساليب جديدة غير مباشرة وذات طابع إقتصادي، تكفل لها سيطرة محكمة على اقتصاد البلدان التابعة مستفيدة من اندماج هذه البلدان، ومن موقع الطرف الضعيف في السوق الرأسمالية العالمية التي تهيمن عليها عملياً الاحتكارات الدولية العملاقة، أو ما يسمى بالشركات المتعددة الجنسيات.

فمن المعروف أنه في الطور الراهن من تطور النظام الرأسمالي، أي طور نظام الرأسمالية الدولة الاحتكارية في البلدان الإمبريالية الكبرى، لم تعد الاتحادات الاحتكارية الدولية (أو الشركات الاحتكارية المتعددة الجنسيات) تكتفي بأسواقها القومية ولا بأسواقها التقليدية في البلدان التابعة، وإنما باتت تمارس نشاطها في إطار سوق رأسمالية عالمية موحدة تمتد إلى جميع أطراف المعمورة.

■ لذلك، فإن اندماج البلدان النامية في السوق الرأسمالية العالمية من موقع الضعف واللاتكافؤ بات يجعل منها بلداناً تابعة إقتصادياً رغم أنها من الزاوية السياسية تعتبر بلداناً مستقلة ذات سيادة.

إن الأزمة المتفاقمة التي تعاني منها الرأسمالية العالمية تؤدي بالإحتكارات إلى تشديد استغلالها لإمكانيات السوق العالمية، واتساع رقعة هيمنتها على الاقتصاد الرأسمالي العالمي، ودخولها ميادين جديدة تحقق لها إمكانيات متجددة للربح والتراكم.

فالرأسمال الأجنبي الاحتكاري المستثمَر في البلدان التابعة والضعيفة التطور لم يعد يكتفي بميادين استثماره التقليدية في استغلال المواد الأولية والزراعية بهدف الحصول على المواد اللازمة لصناعاته في البلدان الإمبريالية نفسها، وإنما بات يصدر رؤوس أمواله إلى البلدان التابعة بهدف استثمارها في ميادين جديدة مثل إقامة الصناعات الاستهلاكية والخفيفة التي تنتج سلع الاستهلاك المباشر.

ويتم ذلك عن طريق إقامة فروع صناعية محلية تابعة للشركات الصناعية الاحتكارية، أو عن طريق مشاركة الرأسمال المحلي في إقامة هذه الصناعات الاستهلاكية الخفيفة، أو عن طريق منح إمتياز تصنيع منتجات الشركات الاحتكارية المعروفة عالمياً إلى الرأسماليين المحليين.

■ إن توسيع ميادين استثمار الاحتكارات الأجنبية في البلدان التابعة لتشمل ليس استخراج وإنتاج المواد الأولية فحسب، وإنما إنتاج الصناعات الخفيفة المعدة للاستهلاك المباشر، ناجم عن بحث الاتحادات الاحتكارية عن مجالات جديدة لتوظيف رؤوس أموالها تحقق لها معدلات أعلى للربح، بالمقارنة مع أرباح التوظيفات داخل البلدان الرأسمالية المتطورة التي أخدت تميل إلى الانخفاض عند مستوى معين من الاستثمار.

■ عن طريق الاستثمار في إقامة الصناعات الاستهلاكية في البلدان النامية، تمكنت الاحتكارات من الالتفاف على القيود الجمركية وأشكال الحماية التي تفرضها العديد من هذه البلدان في وجه المستوردات الاستهلاكية الأجنبية. وباتت من خلال مشاركتها للرأسمال المحلي تتمتع أحياناً بالامتيازات والتسهيلات التشريعية والإعفاءات الضريبية الممنوحة للمشاريع الصناعية بحجة دعمها وتشجيعها، كما استفادت من انخفاض أجور الأيدي العاملة المحلية.

■ وهكذا، أخذت الاحتكارات الدولية تعزز هيمنتها على السوق الرأسمالية العالمية من خلال أذرعها في كل أرجاء العالم، وإلى كل بلد من البلدان التابعة المندمجة في إطار السوق الرأسمالي العالمي، سواء أكان ذلك عن طريق إقامة فروعها الإقليمية في هذه البلدان، أم عن طريق مشاركتها للرأسمال المحلي وتحت يافطة الشركات الرأسمالية الوطنية. وقد أدى هذا أيضاً إلى تعزيز مكانة رأس المال الكومبرادوري وتوسيع نشاطه، حيث لم يعد يقتصر على الوساطة التجارية للإحتكارات الأجنبية، وإنما بات يعمل كوسيط صناعي لصالح الشركات الأجنبية الاحتكارية من خلال استخدام الآلات والمواد نصف المصنعة، أو الخبرة الأجنبية في إنتاج المواد المعدة للاستهلاك المباشر، أو من خلال الشراكة في رأس المال.

■ من ذلك نستطيع أن نرى أن النظام الإمبريالي يجدد تبعية البلدان النامية المستقلة سياسياً، ولكن المندمجة في السوق الرأسمالية العالمية عن طريق سيطرة الاحتكارات الدولية على إنتاج وتوزيع المواد الخام التي تنتجها هذه البلدان، وعن طريق تصدير رؤوس الأموال للاستثمار في ميادين الصناعة الخفيفة الاستهلاكية، وتعميق تبعيتها التجارية، وتوجيه تطورها الاقتصادي وجهة تعمق تبعيتها بدلاً من أن تساعدها في تحقيق استقلالها ونهوضها الاقتصادي.

كذلك ترهن الدول الإمبريالية تقديمها للمساعدات والقروض المالية اللازمة للتنمية بشروط مالية وسياسية واقتصادية قاسية تجعل من الصعب جداً على هذه البلدان الإفلات من شباك التبعية والتخلف الاقتصادي وتدخلها في حلقة مفرغة من النضال لإنقاذ نفسها من الديون الخارجية المتراكمة، كل ذلك من أجل أن تبقى هذه البلدان في إطار التبعية الاقتصادية للسوق الرأسمالي العالمي المهيمن عليها من الاحتكارات الدولية.

■ نستخلص من ذلك أن مهمة التحرر الوطني لم تعد تقتصر على تحقيق الاستقلال السياسي للبلدان المستعمَرة والتابعة، بل أصبحت تعني أيضاً تحقيق الاستقلال الاقتصادي عن السوق الرأسمالية العالمية وإنهاء التبعية لها. وأصبح هذا يتطلب ليس ضرب رأس المال الأجنبي والبورجوازية التجارية الكبيرة المتحالفة معه فحسب، بل كذلك ضرب رؤوس الأموال الكومبرادورية وتصفية دورها في إخضاع السوق الوطنية لنهب الاحتكارات الإمبريالية■

(4)

توازن طبقي جديد لقوى الثورة الوطنية الديمقراطية:

لماذا لم تعد البورجوازية مؤهلة لقيادة الثورة الوطنية الديمقراطية؟

[■ الظروف التاريخية الجديدة التي تجري في إطارها الثورات الوطنية الديمقراطية المعاصرة، والتي جعلت من الإمبريالية العدو الأول لشعوب الدول التابعة، مثلما ألقت على عاتق هذه الثورات مهمات نضالية جديدة ذات أولوية حاسمة هي التحرر الوطني، وتحقيق الاستقلال الاقتصادي الأوسع عن السوق الرأسمالية العالمية والنظام الإمبريالي العالمي، فقد أحدثت تبدلاً جوهرياً في نسبة القوى الطبقية الداخلية لقوى الثورة الوطنية الديمقراطية الجديدة، أبرز معالمه هو انتقال الدور القيادي من البورجوازية إلى تحالف طبقي جديد، تلعب فيه الطبقة العاملة وسائر الكادحين دوراً قيادياً نافذاً.

■ فبينما كانت طبقات الشعب في البلدان التي نمت فيها الرأسمالية لأول مرة تنخرط في النضال الثوري ضد الإقطاع تحت قيادة الطبقة البورجوازية الفتية الناهضة، وبينما كانت البورجوازية قادرة على توحيد الفلاحين والحرفيين والعمال تحت قيادتها في النضال من أجل إنجاز مهمات الثورة الوطنية الديمقراطية، وكانت مؤهلة لإنجاز هذه المهمات إنجازاً كاملاً جذرياً بحكم انسجام وتطابق هذه المهمات مع مصالحها الخاصة، وبذلك كانت هذه الثورات تؤدي وظيفتها الجوهرية: أي إزالة العقبات والحواجز التي كانت تعترض نمو قوى الإنتاج الرأسمالية، إلا أن الظروف الجديدة التي أحاطت بالثورات الوطنية الديمقراطية الجديدة (أي تحول الرأسمالية إلى إمبريالية، والهيمنة المتعاظمة للاحتكارات الدولية على السوق الرأسمالية العالمية)، هذه الظروف أدت إلى نشوء تناسب قوى جديد داخل حركات الشعوب الوطنية التحررية، وإلى بروز تبدل جوهري في خصائص الطبقة البورجوازية بات يجردها من دورها القيادي التقليدي بسبب عجزها عن النهوض بمهمات الثورة الوطنية الديمقراطية بمثابرة وحزم حتى النهاية، وذلك للأسباب التالية:]

1- نشاط رؤوس الأموال الأجنبية والاحتكارات في البلدان التابعة يعرقل تطور البورجوازية الوطنية ويحقق وتيرة أسرع من النمو للطبقة العاملة، فلقد تم زرع نمط الإنتاج الرأسمالي في البلدان التابعة وتطورت مواقعه تحت تأثير مبادرة ونشاط رأس المال الأجنبي الاحتكاري بالدرجة الرئيسية، وليس تحت تأثير نمو رأس المال المحلي.

■ لقد ترك هذا أثره على التكوين الإجتماعي – الطبقي لشعوب البلدان المستعمرة والتابعة، حيث باتت الطبقة العاملة، وليس البورجوازية الوطنية هي القوة الرئيسية من بين قوى الإنتاج الرأسمالي الوطنية.

لقد سبق أن أوضحنا أن استثمار رأس المال الأجنبي الاحتكاري في البلدان التابعة كان يؤدي بالضرورة إلى نمو طبقة عاملة محلية مستخدمة في مشاريعه وفي المجالات التي كان ينشط لاستغلالها، مما كان يقود إلى توسيع تدريجي لحجم الطبقة العاملة المحلية. في حين أنه كان يتسبب في عرقلة واحتجاز نمو البورجوازية الوطنية، ويعمل على حصرها، بل وتحطيمها إذا ما دخلت في الميادين الرئيسية لاستثماره ونهبه. ولذلك كانت الطبقة العاملة تنشأ وتنمو بوتيرة أسرع نسبياً وبشكل أكثر تماسكاً بالمقارنة مع البورجوازية الوطنية.

■ كذلك، كان لتوجه رأس المال المحلي في البلدان التابعة للنشاط في إطار علاقة التبعية والشراكة الكومبرادورية مع الرأس المالي الأجنبي الاحتكاري أثره الملموس في التعجيل النسبي في نمو الطبقة العاملة، خاصة حيثما عمل شريكاً ووسيطاً صناعياً للإحتكارات الأجنبية عن طريق إقامة فروع صناعية لهذه الاحتكارات. وبالمقابل، فإن هذا النشاط الرأسمالي الكومبرادوري أدى بالضرورة إلى إضعاف مواقع البورجوازية الوطنية، وإلى حصر نشاطها في قطاعات الإنتاج الصغير والمجالات الهامشية والتكميلية في الاقتصاد الوطني.

[■ يجب هنا التمييز بين شريحتين من شرائح البورجوازية: البورجوازية الكومبرادورية (ماكنة رأس المال الكمبرادوري) التي ترتبط بالاحتكارات الأجنبية الإمبريالية وتعمل كوكيل تابع لها، والبورجوازية الوطنية (صاحبة رأس المال الوطني) التي تتمتع باستقلال نسبي عن الإمبريالية وتستثمر رأسمالها في ميادين ونشاطات إنتاجية غير خاضعة للهيمنة الكاملة للاحتكارات الأجنبية.

إن البورجوازية الكومبرادورية، هي جزء من الحلف الطبقي الكابح، المعطل لإنجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية. أما البورجوازية الوطنية فهي – على عكس الكومبرادور - جزء من معسكر الثورة الوطنية الديمقراطية، حيث أن نجاح هذه الثورة في تحقيق رسالتها التاريخية يزيل العقبات التي تعرقل وتحجز تطور البورجوازية الوطنية.]

■ إن المنافسة غير المتكافئة بين رأس المال الأجنبي وبين رأس المال الوطني المحلي، كانت تدفع الأخير للإحجام عن الاستثمار في الميادين التي تضعه في مواقع التصادم والتزاحم مع رأس المال الأجنبي، وإلى البحث عن ميادين لا تدخل في إطار إهتمام الاحتكارات الأجنبية؛ والنشاط الرأسمالي المحلي أخذ يُحجم أيضاً عن الاستثمار الطويل الأمد وفي الميادين الإنتاجية، واتجه بدلاً من ذلك نحو الاستثمار في الميادين الأكثر ربحاً والأسرع مردوداً والأكثر ضماناً، لا سيما التجارة الخارجية (الاستيراد والتصدير)، والمضاربة والمقاولات، وهكذا أخذ الرأسمال المحلي يكتسب أكثر فأكثر سمات طفيلية وكومبرادورية، وأدى هذا بدوره إلى تقليص تدريجي للمواقع الاقتصادية للبورجوازية الوطنية ولنفوذها الاجتماعي.

2- عداء البورجوازية الوطنية للإمبريالية عداء نسبي، وليست لها مصلحة في الاستقلال الكامل عن السوق الرأسمالية العالمية

■ حتى في البلدان التابعة التي تمكنت فيها البورجوازية الوطنية من احتلال مواقع هامة في بعض قطاعات الاقتصاد الوطني بالاعتماد على مبادرتها الخاصة ونشاطها المستقل عن رؤوس الأموال الأجنبية، فإن هذا لم يؤهلها في الظروف التاريخية الراهنة للاستقلال إستقلالاً كاملاً عن الاحتكارات الدولية ولأخذ سياسة حازمة ضد الإمبريالية. فهي بحكم روابطها الوثيقة بالسوق الرأسمالية العالمية، واعتمادها عليها في التزود بالآلات وقطع الغيار والمواد الأولية والخبرة الفنية، لا تستطيع أن تنتهج سياسة الاستقلال الكامل عن هذه السوق، ولا عن الاحتكارات الدولية المهيمنة عليها.

■ إن للبورجوازية الوطنية مصلحة في تحقيق الاستقلال السياسي وفي إزاحة رؤوس الأموال الأجنبية من مواقعها الرئيسية في الاقتصاد الوطني كي تستطيع أن تنمو في ميدانها الطبيعي (سوقها الوطني)، لكنها تحرص مع ذلك على الإبقاء على روابط وصلات وطيدة بينها وبين السوق الرأسمالية العالمية، إذ أن مصلحتها الطبقية الخاصة تملي عليها الإمتناع عن انتهاج سياسة الاستقلال التام عن السوق الرأسمالية العالمية والنظام الإمبريالي العالمي.

■ لكل ذلك، فإن البورجوازية الوطنية تنتهج على الصعيد السياسي نهجاً وسطياً في الصراع الدائر ما بين طبقات الشعب الكادحة وبين التحالف الإمبريالي الرجعي. إن عداءها للإمبريالية، بحكم مصالحها الخاصة وتكوينها غير المستقل إستقلالاً تاماً عن السوق الرأسمالية العالمية، هو عداء نسبي. فهي تميل إلى انتهاج نهج مساوم مع الإمبريالية، يستهدف من جهة، تحسين مواقعها في الصراع مع الإمبريالية، ومن جهة أخرى، يستهدف التوصل إلى صفقات تحقق لها أهدافها دون أن تؤدي إلى قطيعة تامة بينها وبين الإمبريالية. ولذا يتسم موقفها بالوسطية والتذبذب وعدم القدرة على انتهاج سياسة عداء ثابت للإمبريالية.

3- الموقع الوسطي للبورجوازية الوطنية وخشيتها من صعود سلطة الشعب يمنعانها من إنجاز مهمات الثورة الوطنية الديمقراطية إنجازاً جذرياً

■ ليست البورجوازية الوطنية في البلدان النامية عاجزة فحسب عن تحقيق التحرر الوطني الكامل وانتزاع الاستقلال الاقتصادي، وفك التبعية للإمبريالية وللسوق الرأسمالي العالمي، وإنما أيضاً هي عاجزة عن إنجاز باقي مهمات الثورة الوطنية إنجازاً حازماً متكاملاً، فهي إذا اضطلعت بدور قيادي في الثورة، فإنها لا تستطيع أن تصل بها إلى تحقيق إنتقال السلطة من أيدي الطبقات المالكة القديمة (كبار الملاكين العقاريين شبه الإقطاعيين، والبورجوازية الكومبرادورية، وباقي الفئات الرجعية) إلى أيدي الشعب، وتحقيق الديمقراطية السياسية.

■ كانت البورجوازية الأوروبية تنهض بهذه المهمة حتى النهاية في الثورات البورجوازية الديمقراطية المبكرة بحكم انسجامها مع مصالحها الطبقية. فقد كانت البورجوازية هي القيادة الطبقية للتحالف الشعبي دون منازع بحكم كونها الممثل الطبيعي للنظام الاجتماعي الناهض الجديد (النظام الرأسمالي)، لذلك، فإن انتقال السلطة إلى الشعب كان يعني انتقالها إلى البورجوازية، ولكن هذا ليس وضع بورجوازيات البلدان النامية التي تأخذ موقعاً وسطياً بين الطبقات المالكة القديمة وباقي طبقات الشعب الكادحة.

■ إن البورجوازية الوطنية الضعيفة في البلدان النامية تخشى من تحطيم السلطة القديمة وتحقيق الديمقراطية السياسية: أولاً- بسبب روابطها الوثيقة بالشرائح المالكة والبورجوازية الكومبرادورية وكبار الملاك. وثانياً- وهذا هو الأهم، بسبب خوفها من انتقال السلطة إلى الشعب حيث الثقل الاجتماعي البارز للطبقة العاملة وحلفائها الكادحين.

لذلك لا تتردد البورجوازية الوطنية في كثير من الأحيان عن استخدام الغليان الجماهيري والتحركات الشعبية من أجل المساومة مع الطبقات – المالكة الرجعية بهدف تحسين مواقعها الطبقية الخاصة، ثم عقد صفقة معها تقطع الطريق على تطور الثورة باتجاه الاستيلاء الكامل على السلطة، وتصفية مواقع الطبقات الرجعية وامتيازاتها، تصفية نهائية.

■ من هنا، لم يعد للبورجوازية الوطنية برنامجها الديمقراطي المتكامل والجذري، فهي تعارض تحقيق إصلاح زراعي جذري يحرر الفلاحين ويمنحهم الأرض، وتكتفي بتحديد سقف أعلى للملكية مع منح تعويض نسبي لكبار الملاك الزراعيين، وتترك لهم منافذ واسعة للتحايل على القانون واستعادة ملكياتهم بوسائل غير مباشرة، واستئناف «استعبادهم» للفلاحين. كذلك تُحجم البورجوازية الوطنية عن إطلاق حريات الجماهير الديمقراطية والسياسية، وتحتفظ أحياناً بالقوانين والأنظمة الرجعية لكي تُستخدم في وجه الطبقة العاملة وحركتها النقابية وطليعتها السياسية، بل وتستخدم أحياناً أخرى وسائل دكتاتورية وتعتمد أساليب سلطوية، من أجل الإبقاء على هيمنتها السياسية.

■ لجميع هذه الأسباب، فإن الطبيعة الطبقية للبورجوازية الوطنية في البلدان النامية ولمواقفها الوسطية حيال مهمات الثورة الوطنية الديمقراطية، فإنها لم تعد تمتلك الشروط اللازمة لقيادة الثورة الوطنية الديمقراطية حتى نهاياتها الحاسمة. فهي تكتفي باتخاذ خطوات محدودة على صعيد هذه المهمة أو تلك، وتقنن إنجاز هذه الخطوات بما يتفق مع مصالحها الطبقية الضيقة، وبما لا يفتح الباب أمام تطور الثورة تطوراً يهدد هيمنتها السياسية والطبقية■

استراتيجية وتكتيك الطبقة العاملة

في الثورة الوطنية الديمقراطية

■ عالجنا فيما سبق مسألة الثورة الوطنية الديمقراطية من حيث طبيعتها ومهماتها وقواها المحركة من الزاوية النظرية العامة. وخلصنا إلى استنتاج مركزي مفاده أن الظروف التاريخية الجديدة التي تجري في إطارها الثورات الوطنية الديمقراطية المعاصرة أحدثت تبدلاً جوهرياً في نسبة القوى الطبقية الداخلية لقوى الثورة الوطنية الديمقراطية الجديدة، أبرز معالمه هو توفر شروط إنتقال الدور القيادي إلى تحالف قوى إجتماعية تضطلع فيه الطبقة العاملة بدور قيادي نافذ.

فإذا كانت البورجوازية الوطنية قد ساهمت في تحرير قوى الإنتاج عبر صدامها بالإقطاع والقوى الكومبرادورية، ودخلت في منافسة حادة مع رؤوس الأموال الأجنبية والإحتكارات في بلدانها، فإن هذه المنافسة كانت غير متكافئة، واقتصرت عملياً على تمركز رؤوس الأموال الوطنية في مجالات الإنتاج الصغير والصناعات الهامشية والتكميلية في الاقتصاد الوطني، بينما حافظ الرأسمال الأجنبي على هيمنته على فروع الاقتصاد الرئيسية.

وفي حين قاد النمو الرأسمالي العام إلى تطور وتوسع الطبقة العاملة، بقيت البورجوازية الوطنية بفعل السيطرة الطاغية للرأسمال الأجنبي أسيرة القطاعات غير الرئيسية في الإقتصاد، ودخلت شريكاً ضعيفاً لهذا الرأسمال الاحتكاري، أو وسيطاً له عن طريق إنشاء فروع تكميلية لصناعاته. ومن جراء هذا الوضع الإقتصادي التابع، كان لا بُدَّ أن يكون عداء البورجوازية للإمبريالية عداء نسبياً، حيث لم تكن لهذه البورجوازية، بفعل بنيتها، مصلحة نهائية في الاستقلال الكامل عن السوق الرأسمالية العالمية، ولا قدرة على ذلك، أصلاً.

■ ينتج عن ذلك عجز هذه البورجوازيات الوطنية، ليس عن تحقيق الاستقلال الاقتصادي والسياسي الناجز فحسب، بل أيضاً عجزها عن التصفية الجذرية لمصالح ومواقع الطبقات القديمة في مجتمعاتها. وأكثر من ذلك، فهي تجد نفسها في نهاية المطاف مضطرة للحفاظ على روابطها بالطبقات القديمة بفعل خوفها من الطبقة العاملة وحلفائها ونفوذها المتنامي في صفوف الجماهير. ويتضح بالتالي أن لا قدرة للبورجوازية الوطنية على دفع مهام الثورة الوطنية الديمقراطية حتى نهاياتها.

■ أما الطبقة العاملة، فبالإضافة لكونها الأسرع نمواً والأكثر تماسكاً في تطورها بالمقارنة مع البورجوازية الوطنية، فهي صاحبة مصلحة أكيدة وثابتة في إنجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية إنجازاً كاملاً، وبالتالي في تصفية نفوذ بقايا الطبقات القديمة والكومبرادور، وتصفية رؤوس الأموال الأجنبية؛ كما أنها صاحبة مصلحة أكيدة في إشاعة الديمقراطية في المجتمع، وإقامة نظام سياسي يكفل الحريات العامة، وبما يضمن تعبئة شاملة لكافة القوى الكادحة.

■ إن الطبقة العاملة تمتلك مصلحة ثابتة في إنجاز أهداف الثورة الوطنية الديمقراطية، وتحقيق مضمونها الإجتماعي. وتلك المصلحة تشاركها فيها طبقات وشرائح طبقية أخرى تشكل موضوعياً جزءاً من التحالف الديمقراطي لقوى إجتماعية نافذة. إن الأفق التاريخي المفتوح لتطور الطبقة العاملة، وثقتها العميقة بالجماهير الشعبية وقدرتها على تعبئتها وإطلاق مبادراتها على أسس ديمقراطية وثورية حازمة، هي الخصائص التي تؤهلها موضوعياً لتجاوز نهج التردد والتذبذب البورجوازي، والتصدي على رأس تحالف ديمقراطي للإضطلاع بدور قيادي في الثورة الوطنية الديمقراطية، وتوفير مستلزمات انتصارها الحاسم.

■ إن هذه المقدمة النظرية التي تجد تجلياتها الملموسة في العديد من بلدان «العالم الثالث»، وجدت كذلك تعبيراتها الدقيقة في عالمنا العربي، في سلسلة التراجعات التي عرفتها العديد من أنظمة البورجوازية الوطنية، والتي وصلت إلى حد إعادة ربط بلدانها بشكل أو بآخر بالرأسمال العالمي، والوقوع المتجدد في شباك الهيمنة الاستعمارية.

■ هل يعني هذا أن الثورة العربية، في مرحلتها الراهنة، قد فقدت سمتها الوطنية الديمقراطية، وأن التحالف مع البورجوازية الوطنية لم يعد ضرورياً، وأصبح مطلوباً فكه والاستغناء عنه؟ الجواب هو كلا. إن سمات أية مرحلة ثورية يحددها المضمون الإجتماعي لمهماتها التاريخية وطبيعة التناقض الرئيسي الذي تسعى إلى حله. والطبقة العاملة، في هذه المرحلة من التطور الإجتماعي - الإقتصادي، لا تسعى إلى تحقيق هدفها التاريخي في تغيير الطابع القانوني للملكية الخاصة لوسائل الإنتاج لصالح ملكية المجتمع، ما يعني إضفاء الصفة الإجتماعية على وسائل الإنتاج بدلاً من ملكيتها الخاصة، وبما يقود إلى إلغاء علاقات الإنتاج الرأسمالي، ويرسي المقدمات السياسية والمادية الضرورية لتدشين مرحلة إنتقال تاريخية تضطلع الطبقة العاملة خلالها بدور قيادي في المجتمع على أساس من الديمقراطية والتعددية من أجل بناء الإشتراكية وإلغاء إستغلال الإنسان للإنسان بكافة أشكاله.

■ إن هذا الهدف التاريخي يستحيل تحقيقه – كما أسلفنا، ومن ضمن أمور أخرى - إلا بتوفير القاعدة المادية – التكنولوجية الضرورية من خلال تنمية قوى الإنتاج المحلية. وتلك هي الوظيفة التاريخية التي تؤديها الثورة الوطنية الديمقراطية ومضمونها الإجتماعي. إن الطبقة العاملة تسعى في هذه المرحلة التاريخية إلى إنجاز جذري ومتكامل لمهمات الثورة الوطنية الديمقراطية بتحقيق التحرر الوطني، وتعزيز الاستقلال السياسي والاقتصادي، وتصفية النفوذ الإمبريالي، وضرب مصالح الطبقات الرجعية (كبار الملاك، البورجوازية الطفيلية والكومبرادورية)، وإطلاق الحريات الديمقراطية للجماهير، والنهوض بمهمات التنمية والتصنيع، وإنجاز إصلاح زراعي جذري، والنضال من أجل دعم وبناء علاقات وحدوية بين الأقطار العربية (أو بأقله لعدد منها) على أساس من الديمقراطية والتكافؤ والإختيار الشعبي الطوعي الحر.

■ إن التناقض الرئيسي في هذه المرحلة التاريخية هو التناقض مع الصهيونية والإمبريالية وحلفائها من الطبقات الرجعية المحلية. وعلى الطرف الآخر من التناقض يقف الشعب كله، بما فيه البورجوازية الوطنية.

ولذلك، فإن الطبقة العاملة، في نضالها من أجل حل هذا التناقض وإنجاز المهمات الوطنية الديمقراطية، تنتهج سياسة ثابتة في السعي إلى توحيد الشعب كله، بكافة طبقاته الوطنية. وهذ يعني العمل الدؤوب من أجل تحالف طبقي وطني عريض يوحد العمال والفلاحين وجماهير الفئات الوسطى (البورجوازية الصغيرة) والبورجوازية الوطنية في إطار جبهة وطنية متحدة، تتصدى للعدو الإمبريالي – الصهيوني – الرجعي، وتنهض بمهام التحرر الوطني والديمقراطية والتنمية والتقدم الاجتماعي والوحدة القومية.

إن ضرورات حشد أوسع الطاقات الوطنية لمناهضة العدو الرئيسي ودحره، تملي على الطبقة العاملة العمل الدؤوب من أجل اجتذاب البورجوازية الوطنية إلى دائرة هذا التحالف، وتعبئة الضغط الجماهيري عليها بهدف شل تذبذبها، ودفعها إلى المشاركة الأوسع في النضال الوطني الديمقراطي.

■ من هنا تنبثق سياسة الطبقة العاملة في بناء الجبهة الوطنية المتحدة. إن الطبقة العاملة تمارس دورها الطليعي في الثورة الوطنية الديمقراطية، من خلال إضطلاعها بدور قيادي في الجهة الوطنية. إن سلطة الجبهة الوطنية هي القادرة على استكمال إنجاز مهمات الأجندة الوطنية الديمقراطية، وعلى تعبئة طاقات الشعب كله لمجابهة ودحر الاستفزازات العدوانية الإمبريالية والصهيونية ومؤامرات العصيان الرجعي، وإلحاق الهزيمة المؤكدة بها.

وينبغي أن تقوم هذه الجبهة على أساس صيانة الاستقلال الأيديولوجي والسياسي والتنظيمي لكل طرف من أطرافها، وضمان الحقوق المتكافئة لجميع الأطراف في ممارسة كافة أشكال النشاط والتنظيم السياسي والأيديولوجي والدعاوي في جميع الميادين بحرية لا تحدها سوى المصلحة الحقيقية للثورة الوطنية الديمقراطية، وتأمين حق الأطراف في تبادل النقد الرفاقي في سياق النضال المشترك ضد العدو الرئيسي الإمبريالي – الصهيوني - الرجعي، والاتفاق الطوعي على برنامج عمل للنهوض المشترك بمهمات الثورة الوطنية الديمقراطية حتى انتصارها الكامل.

إن قيام الجبهة الوطنية المتحدة على هذه الأسس الديمقراطية الواضحة، يلبي مصالح كافة الطبقات الوطنية، ويوطد وحدتها، ويبعد تحالفها عن نزعات الهيمنة والاستئثار والتفرد، التي سرعان ما تقود إلى الاحتراب وتقويض مرتكزات الوحدة الوطنية.

■ إن التدهور اليميني للبورجوازيات الحاكمة، وصولاً ببعض فصائلها إلى الرِدة، ومخاطر نهج التردد والمساومة الذي تسلكه القيادات البورجوازية الوطنية، أصبح يملي على الطبقة العاملة، موضوعياً، ضرورة الاضطلاع بالدور القيادي المطلوب في إطار حركة التحرر الوطني العربية، وعلى عاتق أحزاب الطبقة العاملة والفصائل اليسارية والديمقراطية الثورية يقع واجب الاستجابة لهذه الضرورة التاريخية التي أصبحت تتطلبها بإلحاح مصلحة نهوض وتقدم حركة التحرر الوطني العربية، وقدرتها على مجابهة وصد الهجمة المعادية.

إن النضال من أجل توطيد مواقع الطبقة العاملة والفصائل اليسارية والديمقراطية الثورية في الصفوف القيادية لحركة التحرر الوطني، هو مهمة أساسية واستراتيجية تشكل إحدى أهم ضمانات اضطراد تقدم المسيرة الوطنية الديمقراطية.

■ إن هذا التوجه الاستراتيجي يملي على الطبقة العاملة وأحزاب اليسار عموماً بلورة سياسة تكتيكية صائبة إزاء المعضلات الراهنة لتطور حركة التحرر الوطني، وصياغة موقف سليم ملموس من المهمات الملحة التي يطرحها هذا التطور في ظل موازين القوى الحالية.

ومن بين أبرز هذه المعضلات تأتي مسألة الموقف من التحالف مع البورجوازية الوطنية التي تقف في مواقع القيادة أو السلطة. إن نبذ الإنحرافات اليمينية الذيلية والانتهازية اليسارية في هذه المسألة الهامة هو ضرورة قصوى من أجل بلورة سياسة واقعية ثورية توطد النفوذ الجماهيري للطبقة العاملة، وتساعد في تمكينها من أداء دورها المتقدم.

■ هذه السياسة ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار عاملين موجهين رئيسيين دون تغليب أحدهما على الآخر: الأول هو: ضرورة حشد أوسع تحالف وطني لحل التناقض الرئيسي مع العدو الإمبريالي – الصهيوني – الرجعي؛ والثاني هو: ضرورة صيانة إستقلال الطبقة العاملة، وفتح طريق النضال من أجل قيادة طبقية حازمة لحركة التحرر الوطني.

إن سياسة الطبقة العاملة إزاء القيادات أو الأنظمة البورجوازية الوطنية هي سياسة التحالف مع النقد، وصولاً إلى المواجهة، إذا ما اقتضى الأمر: التحالف في النضال ضد الإمبريالية والصهيونية والرجعية، والنقد والمواجهة لمظاهر نهج التردد والمساومة، النقد الذي يمارس من منطلق الحرص على مصالح الحركة الوطنية بمجموعها، بما فيها النظام الوطني نفسه، ومن زاوية تعزيز قدرتها على التصدي لهجمة الحلف المعادي والنهوض بالمهمات الوطنية والديمقراطية.

■ إنها سياسة تقوم على الأركان الخمسة التالية: 1- دعم ومساندة كافة التدابير المناهضة للإمبريالية والرجعية، التي تنسجم مع مهمات الثورة الوطنية، الديمقراطية، وتستجيب لها. 2- نقد الثغرات التي تتضمنها هذه التدابير، وفضح نهج التردد والمساومة البورجوازية، والمعارضة الحازمة للتراجعات والتحولات اليمينية. 3- الحرص الشديد على صيانة الاستقلال الأيديولوجي والسياسي والتنظيمي لحزب الطبقة العاملة وأحزاب اليسار عموماً. 4- السعي إلى تحالف وطني يقوم على قاعدة التكافؤ والمساواة في الحقوق. 5- إطلاق الحريات الديمقراطية للجماهير.

■ إن الطبقة العاملة في إطار تحالفها الديمقراطي الوطيد مع فقراء الفلاحين والفئات الوسطى وسائر الكادحين، فضلاً عن أوسع قطاعات الشباب والمرأة، تساند وتدعم بحماس كافة الإجراءات التي تقدم عليها السلطة البورجوازية الوطنية لتصفية النفوذ الإمبريالي، وتعزيز الاستقلال السياسي والاقتصادي للبلاد، وفي هذا الإطار فهي:

1- تنتقد الطبيعة المحدودة لهذه الإجراءات، وتدعو إلى تطويرها باتجاه قطع الصلات بالإمبريالية وسوقها العالمية، والتصفية الجذرية الكاملة لمصالحها. وتساند الطبقة العاملة وتدعم بحماس كافة التدابير الموجهة ضد مصالح كبار الملاك والرأسمالية التجارية والكومبرادورية، وهي تنتقد الثغرات التي تتضمنها هذه التدابير وتقدم الحلول الملموسة لتجاوزها، وتدعو إلى استكمال هذه الإجراءات بالتأميم الكامل لرؤوس الأموال الأجنبية والكومبرادورية، وتأميم التجارة الخارجية وسيطرة الدولة على تجارة الجملة الداخلية، وتعميق الإصلاح الزراعي باتجاه تنفيذ مبدأ «الأرض لمن يحرثها»، وتشجيع الاتجاه نحو التعاون الزراعي الإنتاجي، وإقامة مزارع الدولة، وتمكين الفلاحين من المشاركة الديمقراطية الواسعة في تنفيذ هذه التدابير.

2- تدعم الطبقة العاملة بقوة قطاع الدولة في دوره التقدمي، وتفضح وتعارض هجمات البورجوازية اليمينية الهادفة إلى التشكيك بجدواه وفعاليته، وتدعو إلى توسيع نطاقه وتعزيز دوره القيادي في الاقتصاد الوطني، وإخضاعه للإدارة العمالية والرقابة الشعبية الواسعة، بما يضمن تطوير كفاءته، وتجاوز ثغراته، ووقف النهب البورجوازي البيروقراطي والطفيلي لموارده. وتناضل الطبقة العاملة لتعبئة الجماهير لمقاومة كافة التراجعات والتحولات اليمينية دفاعاً عن هذه المكتسبات التقدمية وحماية لها.

3- تساند الطبقة العاملة السياسات الخارجية المناهضة للإمبريالية، وتنتقد كافة ميول المساومة واتجاهات المهادنة مع الرجعية، وتدعو إلى سياسة أكثر حزماً في عدائها للإمبريالية، سياسة تقوم على وحدة الصف الوطني العربي، وحشد كل الطاقات وزجّها في المعركة القومية لدحر العدوان الإسرائيلي، ومقاومة الحلول الاستسلامية، وتحرير الأراضي العربية المحتلة، ومساندة نضال الشعب الفلسطيني من أجل العودة وتقرير المصير والاستقلال الوطني.

4- تقاوم الطبقة العاملة بحزم نهج إحتكار السلطة والتفرد بها، وتناضل من أجل إطلاق الحريات الديمقراطية للجماهير الشعبية على أوسع نطاق، وتعمل على تعبئتها وتنظيمها وتسليحها للدفاع عن الثورة والوطن. إن الحل الاستراتيجي الذي تطرحه الطبقة العاملة لكافة معضلات التحرر الوطني الديمقراطي هو إقامة سلطة الشعب، سلطة الجبهة الوطنية الديمقراطية القائمة على أساس ضمان الاستقلال الأيديولوجي والسياسي والتنظيمي لكافة أطرافها، والتكافؤ والمساواة في الحقوق بين هذه الأطراف، وتأمين الحقوق والحريات الديمقراطية للجماهير الشعبية. ولا تخفي الطبقة العاملة أنها تناضل، بالأساليب الديمقراطية ومن خلال قناعة الأغلبية الشعبية، للنهوض بدور القيادة الطبقية لهذه الجبهة، ضماناً لفعاليتها، وتعزيزاً لتلاحمها، وتعميقاً لنهجها الحازم في استكمال مهمات الثورة الوطنية الديمقراطية.

5- إن الطبقة العاملة تساند الطبقة البورجوازية الوطنية بقدر ما تنخرط هذه في النضال الملموس ضد الإمبريالية والرجعية والصهيونية، وتنتقدها بقدر ما تبدي تردداً في هذا النضال وميلاً للمساومة مع العدو، وتعارضها بحزم بقدر ما تحاول التطاول على الحقوق الديمقراطية للجماهير الشعبية وعلى استقلال حركة الطبقة العاملة.

وتواصل الطبقة العاملة في إطار التحالف الديمقراطي ومعه، السير نحو هدفها الاستراتيجي دون إهمال المهمات المباشرة لتعبئة الجماهير من أجل صيانة المكتسبات الوطنية والتقدمية القائمة، والدفاع عنها ضد التآمر الرجعي واليميني، ومن أجل شلّ تذبذب البورجوازية الوطنية، وعرقلة إتجاهاتها التراجعية والمساوِمة، والإبقاء عليها جزء من التحالف الوطني العريض المناهض للإمبريالية والصهيونية والرجعية.

■ إن تعزيز تماسك صفوف حركة التحرر الوطني وتوطيد وحدة فصائلها في إطار جبهة وطنية عربية عريضة معادية للإمبريالية وللصهيونية والعدوان الإسرائيلي، جبهة مناهضة للنهج الاستسلامي، الذي يأخذ به المحور الرجعي اليميني العربي، هو المهمة الرئيسية التي يتطلبها بإلحاح المستوى الراهن من المجابهة مع الحلف الإمبريالي – الصهيوني - الرجعي.

■ إن برنامج المواجهة العربية القومية الحازمة للمخطط الإمبريالي – الصهيوني، برنامج ضرب وتصفية المصالح الإمبريالية، وتوطيد وحدة وتماسك الصف العربي على أسس تضمن حشد الطاقات العربية وزجّها في المعركة القومية ضد الإمبريالية والعدوان الإسرائيلي، والتعبئة الديمقراطية الواسعة المنظمة للجماهير الشعبية، ودعم الثورة الفلسطينية وضمان حقها في تمثيل الشعب الفلسطيني، ورفض ومقاومة كافة الحلول الاستسلامية والإصرار على تحرير كامل الأراضي العربية المحتلة بعدوان 67، دون قيد أو شرط، واستعادة حق الشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير، وإقامة دولته الوطنية المستقلة.

■ إن هذا البرنامج هو الذي ينبغي أن يشكل أساساً للقاء ووحدة كافة القوى الوطنية المخلصة حقاً لقضية التحرر الوطني ولقضية النضال ضد العدو الإسرائيلي، ولتوحيد جهودها في إطار الجبهة الوطنية العربية المنشودة لصد الهجوم الإمبريالي، ودحر العدوان الإسرائيلي، ومتابعة السير على طريق التحرر الوطني الديمقراطي والوحدة القومية.

■ إن قيام هذه الجبهة يتطلب من جميع تلك القوى أن تضع جانباً أية مصالح ضيقة أو اعتبارات ثانوية أو خلافات جانبية، وأن تركز أنظارها على الخطر الرئيسي، خطر الهجوم الإمبريالي الذي أصبح واضحاً أنه لا يقبل المساومة والمهادنة، وأنه يستهدف التصفية الكاملة لكل المكتسبات والمواقع الوطنية، أو إجبارها على الركوع والالتحاق بنهج الإستسلام.

■ إن كل وطني يرفض هذا المصير البائس، تقع على عاتقه مهمة النضال من أجل قيام هذه الجبهة على قاعدة برنامج يلبي حقاً الحد الأدنى الضروري من مستلزمات المواجهة الجادة لهذا الخطر الإمبريالي – الإسرائيلي – الرجعي، وعلى أسس تنظيمية ديمقراطية تكفل إشراك كل القوى الوطنية التي توافق على هذا البرنامج بغض النظر عن إتجاهاتها الفكرية والسياسية، كما تضمن بناء العلاقات بين أطرافها على أساس التعاون الرفاقي والاحترام المتبادل، والابتعاد عن نزعات الهيمنة والاستئثار والعصبيات الحزبية الضيقة، بحيث توضع الخلافات الثانوية جانباً، ويجري التركيز على النضال المشترك ضد العدو الرئيسي بروح ديمقراطية حقيقية■

1985

       

   الفصل الخامس

في نظرية الحزب..

مفاهيم تأسيسية

■ في المسألة التنظيمية

■ دور الحزب في العملية الثورية

■ حول وحدانية حزب الطبقة العاملة وطليعيته

■ المركزية الديمقراطية..

    مضمونها الطبقي وضرورتها النضالية

معهد العلوم الإجتماعية

الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

في المسألة التنظيمية

(1)

موقعية المسألة التنظيمية في العملية السياسية

■ الجانب الرئيسي في المسألة التنظيمية تطبيقي، عملي، له علاقة بالتجربة المعاشة، بالممارسة الحسية.. لكن هذا لا يعني أنه ليس ثمة من أساس نظري تقوم عليه المسألة التنظيمية، فهذا الأساس قائم لا ريب، وله محدداته الواضحة، إنما طبيعة المسألة التي نحن بصددها تفرد حيّزاً واسعاً للتصورات المحكومة بالممارسة، والعمل وسط الناس، وفي قلب الحركة الجماهيرية بمختلف قطاعاتها.

لكن عندما نتكلم عن الممارسة، ما هو بالضبط المقصود بهذه الممارسة التي لا يخفى طابعها السياسي بصرف النظر عن مستويات تجليها، في النضال الوطني التحرري، أو المطلبي، أو من أجل الحريات العامة، أو السياسية..

من هنا القول بأن المسألة التنظيمية منظور إليها من زاوية البحث بالأداة الحاملة للبرنامج ودورها في الحركة الجماهيرية هي مسألة سياسية بامتياز لأنها بالتعريف تبحث بتلك الحلقة التي تسمح بنقل البرنامج من حيّز التصور إلى حيّز التطبيق، ومن هنا موقعيتها في العملية السياسية المطروحة من زاوية الممارسة العملية.

■ ما سنتناوله فيما يلي هو: المسألة التنظيمية من منظور تجربة الجبهة الديمقراطية التي لا تنطبق بالتأكيد على تجربة حزب آخر، أو حزب آخر في بلد آخر، أو حتى على تجربة الجبهة الديمقراطية نفسها في مرحلة تاريخية سابقة باعتبار أن التجربة موضع البحث  قد طوت عقود من مسار نضالي إتسم بدرجة عالية من الحراك ومن الإنجازات، وكذلك من الإرتدادات والخسائر..

ومع ذلك، فإن خصوصية التجربة لا تلغي واقع المنطلقات النظرية التي إستندت إليها، كما أنها لا يجب أن تحجب عدد من الإستخلاصات الرئيسية التي ربما تكون ذات فائدة لما، ولمن يتجاوز دائرة تطبيقاتها المباشرة■

 (2)

التنظيم.. شكل التوسط بين النظرية والممارسة

■ في الأساس النظري، التنظيم (الحزب) هو شكل التوسط بين النظرية والممارسة، بين البرنامج وتطبيقاته، بين الهدف والعمل في سبيل الوصول إليه.

والمقصود بالنظرية هو البرنامج السياسي والإجتماعي الذي يناضل في سبيله التنظيم (الحزب) وليس المنهج (أو - في بعض الأحيان – العقيدة الفكرية) الذي يُعتمد من أجل اجتراح هنا البرنامج، فالإنتماء إلى الحزب والإنتظام في صفوفه يتم إنطلاقاً من البرنامج، على يده وبواسطته، بصرف النظر عن الخلفية المنهجية، أو العقائدية، أو الأيديولوجية التي يستند إليها هذا البرنامج.

والبرنامج، كما هو معروف، ليس دستة من المطالب، ولا رزمة من الأهداف بل هو خارطة طريق، بخطوط عريضة لكن ملموسة، تشخص التناقضات التي تتحكم بالعملية السياسية ووجهة حلها والقوى الإجتماعية الحاملة للبديل، لعملية التغيير، للثورة، للإصلاح، الخ.. وهي ترسم لوحة للتحالفات التي توحد أوسع القوى من أجل بلوغ الهدف، أو الأهداف المحددة..

البرنامج يحدد الإطار التحليلي للواقع القائم للفعل فيه والتأثير به إنطلاقاً من تشخيص ملموس لتناقضاته، كما يحدد الأهداف البعيدة والمتوسطة والقريبة المدى، والقوى المنخرطة في العملية الصراعية السياسية / الإجتماعية القائمة، وموقع هذه القوى وتأثيرها والعلاقات التي تَنْظُمها، الخ..

والعلاقة بين البرنامج والجمهور ليست مباشرة، فالبرنامج تحمله – في العادة - أطر منظمة (نقابات، إتحادات، أحزاب..)، وبالتالي لا بد من أن يكون هنالك أشكال معينة من الإرتباط، الإنسجام، التوافق ما بين الأهداف السياسية والإجتماعية المتوخاة والأشكال التنظيمية التي تحملها وهي تسعى إلى هذه الأهداف.

وفيما يتعلق بالأحزاب بشكل خاص، فإن حيوية الشكل التنظيمي وتلاؤمه مع الأهداف السياسية والإجتماعية للحزب، فعالية هذا الشكل التنظيمي هي التي تقرر إلى حد بعيد، قدرة الحزب على التدخل والتأثير في مجرى الأحداث■

(3)

أشكال النضال وأشكال التنظيم،

وجهان لنفس الموضوع

■ العلاقة بين السياسي والتنظيمي مكينة، فللتنظيم إستراتيجية يعتمدها وهي التي تحمل برنامجه وتجسد خطه العام، وللتنظيم أيضاً تكتيكه الذي يعبر عن الخطوات الإنتقالية المحددة التي بتقدمها وتراكمها تنجز مهام مرحلة تسمح بالإنتقال إلى التي تليها ضمن الإستراتيجية المعتمدة.

وبشكل ملموس فالتكتيك يبحث بأمرين مترابطين: أشكال النضال وأشكال التنظيم، أي بأشكال النضال التي يفرضها الظرف وبأشكال التنظيم التي تحمل أشكال النضال هذه. وكما أن رافعة التكتيك هي أشكال النضال المعتمدة، باعتبارها الأساس؛ كذلك فإن أشكال التنظيم هي رافعة أشكال النضال، وبالمحصلة فإن أشكال النضال (التكتيك) وأشكال التنظيم (التنظيم) هما وجهان لنفس الموضوع.

أما أشكال النضال فهي ذات مضمون سياسي بالضرورة باعتبارها ترمي إلى تلبية ما، أو بعض ما يطرحه البرنامج، ما يجعل من التكتيك إطاراً يضم معاً كلا الجانبين السياسي والتنظيمي في وحدة جدلية في مجرى الممارسة والنضال.

القوة السياسية للتنظيم تنجم عن قوته التنظيمية، أي عن قدرته على نقل توجهاته إلى أوسع القطاعات لتتبناها، وتسير تحت راياتها.. والقوة السياسية الناجمة عن صواب الرؤية وصحة التوجهات تتبدد إذا كان هنالك ضعف في الحلقة التنظيمية. فالبعد التنظيمي يمثل البعد الذاتي في التطور وفي العملية الصراعية الجارية.

وأشكال التنظيم التي يعتمدها التنظيم رهن بطبيعة المرحلة والمهام المطروحة من الموقع الطبقي / الإجتماعي الذي ينطلق منه الحزب. ووعي التنظيم لنفسه ولدوره ينبغي أن ينسجم ورؤية الحزب للواقع الموضوعي الذي يسعى إلى التأثير فيه■

(4)

المسألة التنظيمية من صلب استراتيجية الحزب

■ المسألة التنظيمية من صلب إستراتيجية الحزب، وهي جزء لا يتجزأ ومن هويته الفكرية والطبقية. واهتمام الحزب بتقوية تنظيمه من خلال تعزيز دوره في مختلف مجالات النضال الوطني والديمقراطي والإجتماعي هي تعبير عن وعي الحزب للدور الذاتي من أجل حسم التناقضات التي تعتمل في الواقع العملي بالوجهة التي تلبي مصالح السواد الأعظم من الناس، أي ضمن وجهة وطنية وتقدمية.

■ إن إهمال المسألة التنظيمية، أي الدور الذاتي في النضال من خلال الأداة التنظيمية الواعية والفاعلة، يعبر عن ركون إلى التطور الموضوعي التلقائي لمنحى الصراع، ويعكس نزوعاً حتموياً؛ بينما الإهتمام بالمسألة التنظيمية يعبر عن توجه جاد ووعي لموقع ودور وتأثير العملية التنظيمية في التدخل لحسم التناقضات المعتملة في المجتمع (في النضال السياسي والديمقراطي والإجتماعي)، أو التناقض (القومي) مع العدو الغاصب المحتل.. لحسم التناقضات إذن، بالوجهة الصحيحة التي لا تستكين إلى مايسمى بالحتمية التاريخية، التي – على أية حال - لم تثبتها حتى اللحظة وقائع الحياة؛ فالمسار الموضوعي للصراع يؤشر إلى وجهة عامة تنطوي يومياً على خيارات متعددة، يؤدي إعتماد أي منها إلى تطورات قد تصب أو لا تصب في وجهة التقدم والإرتقاء، لا بل يمكن، أيضاً، أن تصب في وجهة التأخر والتراجع، إن لم يكن الرِدَّة في بعض الأحيان.

الإهتمام بالتنظيم يبرز خيار الوعي في التأثير على مجرى الأحداث؛ بينما تدني درجة الإهتمام بالتنظيم تؤدي إلى إضعاف القدرة على التأثير بمجريات الأحداث■

 (5)

الدور التوحيدي للحزب

■ يلعب التنظيم دوراً مؤثراً في توحيد القطاع، أو الطبقة التي يتوجه إليها بشكل رئيسي. فانقسام المجتمع إلى طبقات على قاعدة الموقع من إمتلاك وسائل الإنتاج أو رأس المال، هو نموذج نظري، صحيح علمياً، لكنه غير كافٍ عملياً وتطبيقياً. إن الخارطة الطبقية في كل المجتمعات، لا سيما في بلدان العالم الثالث، حيث التداخل والتجاور بين أكثر من شكل ونمط من أشكال وأنماط الإنتاج يولد سيولة طبقية وتداخلات إجتماعية لا تسمح بالكلام – على سبيل المثال - عن طبقة عاملة متجانسة تلقائياً من حيث التلاقي الواسع لمصالح جميع الشرائح التي تتشكل منها، بل لا بد من إدخال عامل الوعي الوافد من خارج الطبقة والدور الذاتي للتنظيم، والتنظيم الطليعي بالذات، من أجل توحيد الطبقة بمختلف، أو معظم شرائحها وراء برنامج عمل وأهداف نضالية تلبي مصالحها الجوهرية ضمن الوجهة المقبلة علينا بالمعنى التاريخي للكلمة.

■ بهذا المعنى، فالحزب الطليعي يوحد قطاعات واسعة من الطبقة، سياسياً.

وبهذا المعنى، أيضاً، فالنقابة توحد قطاعات واسعة من الطبقة العاملة، مطلبياً.

وإتحادات الشباب توحد وجهة العمل وسط قطاعات الشباب بما يلبي مصالحهم ويستجيب إلى ميولهم، الخ..
أما بالنسبة للشعب الفلسطيني بالذات الذي يعاني كما هو معروف من التشتيت والتبديد والتوزيع على عدد كبير من البلدان، حيث يعيش نصفه تقريباً خارج الوطن. ويتوزع النصف المقيم على أرض الوطن على كيانين سياسيين مختلفين (دولة إسرائيل، والسلطة الفلسطينية)، وتنقسم السلطة بدورها ما بين سلطة قائمة في الضفة تحت الإحتلال، وأخرى في القطاع تحت الحصار.

■ نقول، أما بالنسبة للشعب الفلسطيني الذي لا يندرج ضمن دورة إقتصاد وإنتاج ينجم عنها إجتماعاً موحداً، حيث تخضع مختلف تجمعاته إلى شروط إجتماعية واقتصادية متمايزة وغير موحدة، وفي كثير من الاحيان متنافرة.. فقد لعبت المسألة التنظيمية دوراً فائق الأهمية في إعادة بناء وتشكيل الهوية الوطنية الفلسطينية، وفي الحفاظ عليها وصونها..

وهذا ما وقع من خلال تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية التي تطورت نحو تجسيد الكيانية الفلسطينية والهوية الوطنية من خلال المكانة التي اكتسبتها بوصفها ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني.. الأمر الذي تحقق من خلال مجمل المنظمات والفصائل والتشكيلات والإتحادات والنقابات، الخ.. التي تشكلت في إطار م.ت.ف، والتي عليها تقوم منظمة التحرير■

(6)

التنظيم.. شكل التوسط بين الماضي والحاضر والمستقبل

■ إلى جانب أنه يشكل حلقة الوصل بين النظرية والممارسة بين البرنامج والجماهير، يضطلع التنظيم أيضاً بدور توسطي بين الماضي والحاضر، من جهة، وبين المستقبل، من جهة أخرى. فالتنظيم يختزن تجربة ويراكم خبرة ووعياً يضعها بتصرف القادم من المهام، وهو الذاكرة التي يتم الغرف من معينها لإضاءة طريق التقدم نحو التعاطي مع معطيات المستقبل، وحل معضلاته.

إن هذا الدور لا يتم الإضطلاع به إلا بتوفير شروط معينة وفي مقدمتها قدرة التنظيم (الحزب) على اشتقاق الدروس والإمساك بخلاصة التجربة، وتحليه بدرجة كافية من المرونة للتخفف من القيود التي تحول دون التقدم نحو ارتياد آفاق المستقبل■

(7)

أسس المسألة التنظيمية

■ المسألة التنظيمية في الجبهة الديمقراطية والتجربة التي إجتازتها على امتداد العقود الماضية تقوم على عدد من الأسس، أهمها:

1–■ إعتماد المركزية الديمقراطية كمبدأ أساس للتنظيم أي للعلاقات التنظيمية في إطاره، وللمركزية الديمقراطية جانب يتصل بالعلاقات الداخلية، ونَظْم هذه العلاقات على قاعدة تضمن وحدة التنظيم، ووحدة حركته، وإتساق تكتيكاته وتكاملها، كما أن لها جانب آخر يتصل بالعلاقة مع الحركة الجماهيرية والجماهير عموماً، وهي علاقة مركزية ديمقراطية بالضرورة، باعتبار أن جدوى سياسة التنظيم تتحدد في ضوء علاقته، موقعه، تأثيره وسط الجمهور.

2–■ الطموح إلى الجمع ما بين الصفة الطليعية والصفة الجماهيرية للتنظيم، فالصفة الطليعية ليست معطى ثابتاً، بل تُكتسب ويعاد إكتسابها، تُمتلك ويعاد امتلاكها في مجرى النضال اليومي. ولا معنى للصفة الطليعية بالمعنى السياسي الحقيقي ما لم تنعكس على مستوى تعزيز الطابع الجماهيري للحزب، فلا طليعية بدون جماهيرية، ولا طليعية بدون هذه الصفة إلا وتحوَّلت إلى سمة لإطار نخبوي مغلق، معزول عن عمقه الشعبي، إذن عن قدرته على الفعل والتأثير.

3–■ إنسجاماً مع ما سبق، فإن التنظيم الحزبي لا يستطيع الإضطلاع بدوره النضالي في صفوف الشعب، ما لم يُنظم حوله ويؤطر الجمهور الصديق للحزب من خلال منظمات جماهيرية وتجمعات مهنية ديمقراطية تجسد، سياسياً وعملياً، الائتلاف الديمقراطي الثوري، وبالمعنى المباشر للكلمة، الذي يفترض أن يضطلع الحزب بدور قيادي في التعامل مع هذا الإئتلاف ضمن مهمات وطنية وديمقراطية وإجتماعية ذات صلة مباشرة بمصالح وهموم وتطلعات وطموحات كل قطاع على حدة، وفي إطار متكامل يعزز وحدة طبقات الشعب ومختلف فئاته الإجتماعية في مرحلة التحرر الوطني.

كما أن التنظيم الحزبي لا يستطيع أن يضطلع بدوره القيادي ما لم يتوجه كحزب وكإطار ديمقراطي منظم إلى الحركة الجماهيرية من خلال إتحاداتها ونقاباتها ومختلف مؤسساتها، للفعل إيجاباً في بنائها وتوطيد هياكلها وزجها من الباب الأوسع في المعترك النضالي، الوطني والديمقراطي والإجتماعي■

(8)

الديمقراطية هي الأصل في سلامة الأوضاع الحزبية الداخلية

■ المركزية الديمقراطية كناظم للعلاقات الداخلية ومع الجماهير، الطليعية بما هي صفة وسمة وموقع كفاحي يتم السعي والتقدم نحو إمتلاك عناصرها بشكل متجدد ووثيق الصلة بجماهيرية الحزب من خلال بناء الأطر الجماهيرية الصديقة للحزب تعبيراً عن تعزيز مكانة الائتلاف الديمقراطي الثوري في الحركة الوطنية والجماهيرية المنظمة الأوسع.. هذه هي الأسس التي حكمت ووجهت المسألة التنظيمية في الجبهة الديمقراطية..

ويبقى الأصل في الموضوع هو سلامة الأوضاع الحزبية الداخلية، وروحها الضامنة هي الديمقراطية والمزيد من الديمقراطية التي تعزز العروة الوثقى التي توحد جهد آلاف المناضلين في عالم كفاحي شديد الإنفتاح على الخارج.

■ ويُخطيء من يعتقد أن الحزب هو نموذج لعالم مصغر للمجتمع المنشود، مجتمع الحرية والديمقراطية والعدالة الإجتماعية، مجتمع المواطنين المتساوين في الحقوق والواجبات وأمام القانون، والمساواة بين المرأة والرجل.. فلا توجد صيغة تنظيمية بعينها تماري المجتمع، ولا توجد جزيرة مثالية وسط المجتمع تشكل نموذجاً يُحتذى به، فعلاقات المجتمع، علاقات السياسة الكلية أكثر تعقيداً وغنى من أن تختزل بنموذج مُصَغَّر – كالحزب إفتراضاً - يكفي أن يُصار إلى تكبيره حتى تُحل تناقضات هذا المجتمع.

ومن هذه الزاوية فالتنظيم هو أداة نضال وبوتقة عمل، عمل جماعي يسعى إلى امتلاك وعي متقدم يسمح بإضاءة الطريق الذي يقود إلى التحرر الوطني والإنعتاق الإجتماعي والحرية والتعددية، ومجتمع الحق والقانون والمواطنة التامة على قاعدة المساواة وحرية الضمير.

■ إن الحزب هو وسيلة لهدف، وليس صيغة إختبارية لمجتمع نموذجي يُحتذى به في مجرى النضال نحو الأرقى. ومن هذه الزاوية تضحى المسألة التنظيمية مسألة مفصلية مطروحة دائماً على جدول أعمال القوى الثورية بالتحديد من زاوية تجديد إمتلاكها لوسائط المعرفة وأدوات الفعل القادرة على التغيير الوطني والمجتمعي، وتوحيد المجتمع بمختلف طبقاته والوطن بكل فئاته.

وبهذا المعنى تحمل القوى الثورية دائماً وأبداً هم تجدد إمتلاكها لمفهوم عن دور يندرج تحت علامة سؤال كبير عن جدواه وفائدته، وبالتالي عن مبرر وجوده بمقياس تقديم الإسهام النوعي، نظرياً وعملياً، الذي يرقى بالأداء، أي بمستوى السياسة الممارسة■

2005

دور الحزب في العملية الثورية

[■ تتحدد سمات الحزب الطليعي وكيفية وأسس بنائه ودوره القيادي في صفوف الطبقة العاملة والحركة الجماهيرية والقوى الإجتماعية عموماً ذات المصلحة في التغيير، إستناداً إلى مفهوم علمي لكيفية تطور العملية الثورية في المجتمع، وهذا المفهوم للتطور وللتغيير الثوري هو جوهر المادية التاريخية. ولإبراز حقيقة دور الحزب الطليعي وعلاقته بجماهير الطبقة والقوى الإجتماعية الثورية ينبغي التذكير بالقوانين الرئيسية التي تقف وراء التغيير الثوري للمجتمع:

 فالعملية الثورية هي حصيلة التناقض الموضوعي في المصالح المادية بين القوى الإجتماعية والطبقات الرئيسية التي يتكون منها كل مجتمع من المجتمعات.

 ولكل طبقة أو قوة إجتماعية مصالحها المادية المحددة، وهذه المصالح تتناقض بدرجات معينة ومتفاوتة مع مصالح الطبقات والقوى الإجتماعية الأخرى. وبسبب من ذلك يقع الصراع الإجتماعي بين القوى والطبقات، حيث كل واحدة منها تسعى لتأمين مصالحها المادية من خلال هذا الصراع.

 وفي سياق هذا الصراع والتناقض وما يؤدي إليه من صراعات إجتماعية يقع التغيير الثوري في المجتمعات، ما يرقى بالمجتمع ويصنع التاريخ ■]

(1)

العملية الثورية

■ العملية الثورية هي عملية موضوعية تعبر عن حاجة موضوعية للتطور التاريخي. إن التناقض والصراع في المجتمع تحكمه قوانين موضوعية تنعكس من خلال نشاط البشر. ومع أن البشر هم الذي يصنعون التاريخ وكل التحولات الثورية في المجتمع، لكنهم لا يصنعوها بناء على أهوائهم وإنما بناءً على عدد من القوانين الموضوعية التي تفعل فعلها من خلال وعي البشر ونشاطهم وعملهم وممارستهم الإجتماعية.

إن الرغبة بوجود مجتمع تسوده العدالة بدأت تنشأ لدى الانسان وخاصة في أوساط الطبقات المضطهَدة منذ أن إنحلت المجتمعات المشاعية البدائية وبدأ الإنقسام الطبقي. منذ ذلك الحين نشأت الحركات والفلسفات والعقائد التي تُعبّر عن رغبة الطبقات المضطهَدة في التحرر وتحقيق مجتمع العدالة، ولكن هذه الرغبة لم تجد طريقها إلى التنفيذ، لأن القوانين الموضوعية لم تسمح بقيام مجتمع ينتفي فيه الاستغلال.

■ إن القوانين الموضوعية لتطور المجتمعات الرأسمالية، على سبيل المثال، ناجمة عن درجة تطور قوى الإنتاج فيها، وبالتالي الصراع بين المجموعات البشرية للاستحواذ على فائض القيمة. وكما أشرنا تفعل القوانين الموضوعية فعلها بصرف النظر عن رغبات البشر، ولكن ليس على شاكلة قوانين الطبيعة، أي بمعزل عن النشاط البشري، بل من خلال النشاط البشري نفسه وذلك وفقاً لدرجة تطور المجتمع، لا وفقاً لمحض رغبات البشر.

■ ينبغي أن نلاحظ هنا أن القوانين المتعلقة بتطور المجتمع وبالتاريخ البشري هي قوانين موضوعية، لكن يجب أن نميّز بين القوانين الموضوعية الاجتماعية، أي المتعلقة بالمجتمع، وبين القوانين الموضوعية المتعلقة بالطبيعة؛ فالأخيرة هي قوانين علمية مستقلة إستقلالاً كاملاً في أدائها ومفعولها عن إرادة البشر، ولذلك نقول إن القوانين الطبيعية هي حتمية، بمعنى إذا توفرت عناصر القانون وشروطه  تتحقق العملية التي ينص عليها القانون؛ فقوانين الفيزياء والكيمياء والرياضيات (أي ما يسمى بالعلوم الصلبة) هي قوانين حتمية، أي تتكرر كلما إنعقدت شروطها.

قوانين الطبيعة هي قوانين حتمية، بينما القوانين الاجتماعية هي قوانين موضوعية لأنها لا تعمل بمعزل عن نشاط الإنسان ونضاله في إطار الممارسة الإجتماعية، بل تجد طريقها إلى الترجمة والواقع من خلال النشاط البشري، وبالتالي من خلال الوعي البشري. وبعبارة أخرى، فقوانين الإجتماع هي قوانين موضوعية تعبر عن حاجة موضوعية لا عن ضرورة حتمية. فمن أجل أن يتطور المجتمع لا بد وأن يتحقق كذا وكذا، ولكن تحقيق كذا وكذا مرهون بنشاط الإنسان ووعيه.

■ إذن، القوانين الاجتماعية تعبر عن ضرورة وحاجة تاريخية وليس عن حتمية تاريخية. والتناقض الموضوعي في المصالح بين المجموعات البشرية (الطبقات الإجتماعية) يؤدي إلى وضع تحكمه القوانين الموضوعية التي تعبر عن الضرورة التاريخية للتحول الإجتماعي، ولكن لا تعكس بالضرورة حتميته. ولهذا تنعقد شروط الضرورة التاريخية عندما تقترن بعاملي الوعي والتنظيم، حيث يصبح التحول الثوري عملية راهنة. ولكن غياب هذين العاملين بشكل رئيسي، يمكن أن يُدخل التاريخ في التكرار والتراجع ويُدخل المجتمع في مأزق المراوحة الناجمة عن تأخر العوامل الذاتية عن الانسجام مع الضرورات الموضوعية، والإستجابة لمتطلباتها■

 (2)

في مواجهة الحتموية والإرادوية

[ يتعارض هذا المفهوم للتطور التاريخي للمجتمع والعملية الثورية المعتملة فيه مع إتجاهين خاطئين في فهم كيفية حصول التغيير الثوري، هما: الحتمية التاريخية والإرادية الذاتية. وهذان الإتجاهان الخاطئان يؤديان إلى نتائج إنتهازية وخاطئة في فهم دور الحزب في العملية الثورية:]

1-■ إتجاه الحتمية التاريخية (أو الحتموية): وهو إتجاه يهمل القوانين الذاتية المتعلقة بعاملي الوعي والتنظيم، ويعتبر أن قوانين التطور التاريخي هي قوانين حتمية، وليست فقط موضوعية، بمعنى أنها شبيهة بالقوانين التي تحكم حركة الطبيعة وتطورها. هذا المفهوم يقود إلى إتجاهات في العمل التنظيمي والنضالي نسميها بالاتجاهات الاصلاحية العفوية (أو الإصلاحوية)، أي التي تقلل من عوامل الوعي والتنظيم في الحركة الجماهيرية وتعتمد على التطور التاريخي العفوي (الحركة العفوية) لإنجاز تقدم العملية الثورية.

■ الإتجاه الإرادي الذاتي (أو الإرادوي) في العملية الثورية: وهو إتجاه يهمل أهمية القوانين الموضوعية التي تحكم الإجتماع، والتطور المجتمعي عموماً، حيث يضع إرادة الطليعة الثورية كعامل أساس في تطوير وضع العملية الثورية. وهذا الاتجاه يقود إلى ممارسة تنظيمية ونضالية نسميها الإنتهازية اليسارية والمغامِرة والتي تتخذ أشكالاً متعددة منها الفوضوية والارهابية والنزعة الإنقلابية. ويجد هذا الإتجاه جذوره في نظرة إرادية ذاتية (إرادوية) تهمل حقيقة كون العملية الثورية هي حصيلة تناقضات موضوعية تجري وفقاً لقوانين موضوعية، ويركز بالمقابل على الإرادة الذاتية والوعي الذاتي باعتبارهما العنصر الحاسم في العملية الثورية.

■ هذان الإتجاهان يتناقضان مع المفهوم العلمي للعملية الثورية الذي يؤكد أن العملية الثورية هي عملية موضوعية لأنها حصيلة التناقض الموضوعي للمصالح المادية بين القوى الإجتماعية والطبقات. ويقود هذا التناقض إلى نشوء العملية الثورية ويجعل منها ضرورة تاريخية، وهذه الضرورة لا تتحول إلى استحقاق راهن بالمعنى التاريخي، إلا إذا إقترنت بالعامل الذاتي، أي بالوعي والتنظيم للطبقات الثورية.

2-■ على قاعدة هذا المفهوم تؤدي القوانين الموضوعية فعلها من خلال الحركة العفوية للجماهير، حيث تُدفع الجماهير للعمل بحكم تلمسها لمصالحها المباشرة التي تتناقض مع مصالح الطبقات السائدة. فالعامل على سبيل المثال ليس بحاجة إلى وعي سياسي متبلور، بل إلى مجرد وعي « نقابي» أولي حتى يبدأ العمل من أجل المطالبة بزيادة الأجور وخفض ساعات العمل. وكل هذا النضال هو تعبير عن التناقض القائم بين رأس المال، وبين العمل المأجور الذي يُنتج فائض القيمة.

■ إن اندفاع العمال العفوي للنضال من أجل مصالحهم المباشرة هو قاعدة التناقض، ثم الصراع الذي يدور في المجتمع بين الطبقتين الأساسيتين: العمال من جهة، والبورجوازية من جهة أخرى، وهو تعبير عن قانون موضوعي هو قانون الصراع بينهما على من يستحوذ على فائض القيمة، أو ما هي حصة كل طرف فيهما من هذا الفائض. وكما أشرنا، يفعل هذا القانون فعله من خلال الحركة العفوية للجماهير بحكم تلمسها لمصالحها المادية المباشرة والمتناقضة مع مصالح الطبقات السائدة. وبإمكان هذه العفوية أن تحقق تطورات، أو تحولات جزئية، أو محدودة في المجتمع، لكنها لا تستطيع أن تحقق تغييراً ثورياً، ومع ذلك تبقى هي أساس وقاعدة العملية الثورية، غير أنها لا تتحول إلى عملية ثورية إلا عندما تقترن بعوامل الوعي والتنظيم، وهي التي يُدخلها الحزب إلى الطبقة العاملة وسائر الفئات الإجتماعية الكادحة كحصيلة لتطور نضالها المباشر، واقترانه بالعامل الذاتي.

3-■ في مقابل هذه الأفكار اليسارية المغامرة تقف الأفكار الإنتهازية اليمينية التي تركز على الجوانب المتعلق بالقوانين الموضوعية، وتهمل دور الحزب في إدخال الوعي والتنظيم لصفوف الحركة الجماهيرية والجماهير عموماً. وهي تأخذ بمقولة أن الحزب لا يصنع الثورة، لكنها تهمل دور الحزب في قيادة الثورة، وتتبع بالتالي سياسة إصلاحية تقصر دور الحزب على مواكبة نضال الجماهير للحصول على عدد من الإصلاحات، وتهمل ضرورة تطوير نضال الجماهير، أي تضع الحزب في ذيل الحركة الجماهيرية مهملة ضرورة ربط العملية العفوية بعملية الإرتقاء بوعي الجماهير ومستوى تنظيمها، ما يفترض بدوره إضطلاع الحزب بدور مبادر في مقدمة الحركة الجماهيرية■

(3)

في مواجهة الإنتهازية بوجهيها

1-■ ليست وظيفة الحزب أن يصنع العملية الثورية، إنما وظيفته أن يشارك بقيادتها وبطموح تعاظم دوره وتأثيره في هذه القيادة، الحزب هو التعبير عن عوامل الوعي والتنظيم، ومهمته أن يُدخل هذين العاملين إلى الفئات الإجتماعية النازعة إلى التغيير الثوري. إنه ينظم من أبناء الطبقة العاملة بمختلف شرائحها، ومن سائر الفئات والشرائح الإجتماعية، وهو الذي يُكسب الطبقة الثورية أي الطبقة العاملة (وحلفائها) الوعي بمصالحها النهائية في إنجاز التغيير الثوري.

 الحزب لا يصنع العملية الثورية، بل تصنعها الطبقة الثورية، والشرائح الإجتماعية الكادحة والمضطهَدة، وجماهير الفئات الوسطى. دور الحزب هو قيادتها وتطوير نضالها العفوي إلى نضال ثوري منظم لإنجاز عملية التطوير، أو التغيير الثوري. فالأساس المادي الذي تقوم عليه العملية الثورية هو نضال الجماهير نفسها، نضال الطبقة الثورية والجماهير الكادحة، ويأتي الحزب ليكسب هذه الجماهير عاملي الوعي والتنظيم حتى تتحول من تعبير عفوي للقوانين الموضوعية للتطور التاريخي إلى حقيقة تتجسد في الواقع.

2-■ لمزيد من التوضيح لهذه الأفكار علينا أن نقارنها بالأفكار الخاطئة التي تنشأ في صفوف الحركة الثورية بشأن دور الحزب في العملية الثورية؛ وهي أفكار ذات صبغة يسارية إنتهازية مغامرة تعتبر – مثلاً - أن الحزب هو الذي يصنع الثورة، وتركز على مدى الإستعداد الذاتي للحزب للقيام بالعملية الثورية، وتسعى لإنجازها من خلال الطاقة الذاتية للحزب بديلاً عن تنظيم الجماهير وقيادتها، أي ترهن العملية الثورية بمدى إستعداد الحزب نفسه.

وتعتبر هذه الإتجاهات أن الحزب يجب أن يقوم بالثورة نيابة عن الجماهير، وليس على رأس حركة الجماهير من أجل مصالحها المباشرة، فتقع في مختلف أشكال الأفكار الإنقلابية والإرهابية والفوضوية، والتي جوهرها الإعتقاد أن الحزب هو الذي يقوم بالثورة نيابة عن الجماهير، ولذلك ترى هذه الإتجاهات أنه عندما يكون الحزب جاهزاً للقيام بالعملية الثورية فستكون العملية الثورية حتمية.

وهذا يشمل الإتجاه الإنقلابي (عندما يقوم الحزب بعملية إنقلابية بمعزل عن الجماهير)، أو الإتجاه الإرهابي (عندما يقوم الحزب بسلسلة من الأعمال الإرهابية الكبيرة لإنضاج التغيير الثوري بمعزل عن الجماهير)، أو الفوضوي (الذي يريد أن يختصر العملية الثورية بضربة واحدة؛ أي إلغاء كل المراحل…) على اعتبار أن الحزب هو الذي يصنع الثورة مهملاً نضال الجماهير والقوانين الموضوعية لتطور العملية الثورية والحركة الجماهيرية.

3-■ في مقابل هذه الأفكار اليسارية الإنتهازية المغامرة تقف الأفكار الإنتهازية اليمينية التي تركز على الجانب المتعلق بالقوانين الموضوعية، وتهمل دور الحزب في إدخال عاملي الوعي والتنظيم إلى صفوف الحركة الجماهيرية والجماهير عموماً. وهي تأخذ بمقولة أن الحزب لا يصنع الثورة، لكنها تهمل دور الحزب في لعب دور مهم، وأحياناً حاسم في قيادة الثورة، وتتبع بالتالي سياسة إصلاحية تقصر دور الحزب على مواكبة نضال الجماهير العفوية للحصول على عدد من الإصلاحات، وتهمل ضرورة تطوير نضال الجماهير، أي تضع الحزب في ذيل الحركة الجماهيرية، مهملة ضرورة ربط العملية العفوية بعملية الإرتقاء بوعي الجماهير ومستوى تنظيمها، ما يفترض بدوره إضطلاع الحزب بدور مبادر في مقدمة الحركة الجماهيرية■

(4)

دور الحزب في العملية الثورية

[■ إن كلا هذين الإتجاهين يحيد عن المفهوم الصحيح الذي يقول إن الحزب يضطلع بدور قيادي في العملية الثورية التي تصنعها جماهير الطبقات الثورية، وذلك من خلال إدخال عاملي الوعي والتنظيم إليها. وحتى يستطيع الحزب أن يقوم بهذا الدور، عليه أن يؤدي الوظائف الرئيسية التالية:]

أولاً-■ تشخيص التناقض الموضوعي بين الطبقات الثورية وبين الطبقات الرجعية المناهضة للثورة وصياغة برنامج نضال على قاعدة هذا التشخيص؛ فالثورة هي حصيلة التناقض بين الطبقات الثورية وبين الطبقات المعادية للثورة؛ وحتى يستطيع أي حزب ثوري أن يقوم بدوره القيادي في العملية الثورية عليه أن يشخص تشخيصاً صحيحاً التناقض الرئيسي ما بين هذه القوى والطبقات.

■ على قاعدة هذا التشخيص يقيم الحزب برنامجه النضالي. برنامج الحزب لا يتأتى من الوعي المجرد، وإنما هو نتيجة لتشخيص علمي للتناقضات. وهذا يستدعي الإجابة عن أسئلة من نمط ما هو التناقض الرئيسي الذي يحكم الصراع الدائر؟ وما هي طبيعة التناقضات؟ على ماذا يدور الصراع بين الطبقات الصاعدة من جهة، والرجعية من جهة أخرى. وعلى أساس تشخيص هذه التناقضات يبني الحزب برنامجه، لأن البرنامج تعبير عن مصالح الطبقات الثورية، والتشخيص الأولي للتناقضات ليس بالضرورة أن يكون هو التشخيص النهائي، حيث يُحتمل أن يتغير هذا التشخيص – بهذا القدر أو ذاك - بين القوى الثورية والقوى المناوئة بحكم تطور الصراع. كذلك يُدخل الحزب تغييرات على برنامجه على ضوء خبرته المتجددة وتطور الصراع بين الطرفين.

ثانياً-■ الإنغراس الكامل في حركة الجماهير النضالية العفوية من أجل مصالحها المباشرة وإقناع الجماهير برفع إستعدادها النضالي لتحقيق هذه المصالح: في هذا المجال، إدراك الجماهير العفوية لمصالحها يدفعها بطريقة عفوية للنضال من أجل هذه المصالح. مثال من النضال العمالي: العمال يدركون بحكم معاناتهم ضرورة الحصول على أجور أعلى وساعات عمل أقل، فضلاً عن تحسين الشروط المحيطة بالعمل.. هذا النضال أساسه نضال الطبقة العاملة للحصول على جزء من فائض القيمة الذي تستولي عليه البورجوازية. إن دور الحزب والحال هكذا، يتحدد بدعم مطالب وإسناد أصحاب هذه النضالات التي ترمي إلى هذا الهدف.

■ بعض الإتجاهات المتطرفة تستهين بانخراط الحزب في حركة الجماهير العفوية  بحجة أنها حركة محض مطلبية لا تطرح تحقيق أهداف سياسية، باعتبار أن وحدها المطالب التي يجدر النضال من أجلها هي من طبيعة سياسية، أي من طبيعة تندرج في سياق التغيير العميق في المجتمع. ولكن هذه الإتجاهات تتجاهل أن هذا النضال لا يمكن أن يتحقق بفعل إرادة الحزب وحده وبدون تطور نضال الجماهير. إن إنخراط الحزب في النضال هو الذي يبلور المطالب المحصّنة التي يمكن أن تحصل عليها الجماهير بدون إرتدادات.

وفي هذا الإطار على الحزب أن يغني برنامجه بمطالب الجماهير، ويدرك معها الأشكال الملموسة للاستغلال الذي تتعرض لها. والحزب يتعلم من الجماهير كما يوجه حركتها، ويُغني برنامجه بالمطالب الجماهيرية وبتجربتها، ويفيدها بتطوير نضالها من أجل هذه المطالب، ويرفع وعيها بالملموس لعملية الربط بين المصالح المباشرة، وبين الأهداف العامة من خلال مشاركة الحزب بالنضال، ودوره القيادي.

 ■ إن كل هذا يُمكّن الحزب من صياغة شعاراته النضالية القادرة على تعبئة الجماهير من أجل مصالحها. وهذه الوظيفة تتناقض مع التوجهات النخبوية التي تعتبر أن وظيفة الحزب تقتصر على تعليم الجماهير، حيث يتحوَّل برنامج الحزب إلى مجموعة من الشعارات العامة المعزولة عن إهتمام الجماهير، ما يقود إلى عزلة هذه النخبة عن الجماهير.

إن إنعزالية هذه النزعة النخبوية تقود إلى التعالي عن الجماهير، ورفض التعلم منها، بينما تكتسب شعارات الحزب ملموسية أكبر كلما إقترب من الجماهير وتعلم منها، من خلال المشاركة في نضالها اليومي، وكذلك من خلال الإدراك اليومي لأشكال الإستغلال الملموسة الواقعة عليها وتشخيص المصالح المباشرة لكل تجمع من التجمعات الجماهيرية، ولكل قطاع من قطاعاتها.

ثالثاً- تنظيم الحركة العفوية للجماهير: الجماهير عندما تتحرك للنضال تكون في غالب الأحيان غير منظمة، وتتلمس شيئاً فشيئاً ضرورة توحيد طاقاتها لمجابهة مستغليها والحصول على مطالبها. وعندما تنتقل الجماهير إلى مرحلة الانتظام تنحسر صفتها العفوية. إن مهمة الحزب تتحدد في مساهمته بنقل الحركة العفوية إلى حركة متسقة بإدخال عنصر التنظيم إليها. والحزب من خلال إنخراطه في نضال الجماهير من أجل مصالحها المباشرة، إنما يسعى إلى إقناع الجماهير بضرورة توحيد صفوفها كي تتمكن من إنتزاع مطالبها من أنياب مغتصبيها.

ووظيفة الحزب أن ينشر الوعي وسط الجماهير بضرورة التنظيم، وبأن الطبقة العاملة وسائر الفئات الكادحة لا تستطيع أن تحقق مصالحها دون إنخراطها في أشكال ملائمة من التنظيم ضد مستغليها. وفي هذا السياق يجب على الحزب أن يحدد الأشكال التنظيمية المناسبة في كل مرحلة من مراحل النضال ولكل شريحة من الشرائح الإجتماعية بما يتناسب وتقديره لدرجة وعيها وإستعدادها الكفاحي.

رابعاً-■ الحفاظ على وحدة الحزب الفكرية والسياسية والتنظيمية في مختلف مراحل النضال: إن وحدة الحزب الفكرية والسياسية والتنظيمية هي أحد الشروط الهامة والضرورية التي تمكنه من قيادة العملية الثورية نحو الإنتصار. وهذا أمر طبيعي إذ لا تستطيع الطبقة العاملة أن تمارس دورها في العملية الثورية بدون وحدة صفوفها. وكذلك لا يستطيع الحزب أن يضطلع بدوره المنشود ما لم يكن موحداً بالإرادة والعمل وكذلك الفكر، فالتنظيم بلا وحدة فكرية وسياسية بين مناضليه أشبه بحشد يرغب في التحرك على الطريق، ولكنه لا يعرف إلى أين ينبغي أن يذهب، ولماذا.

■ بيد أن الوحدة الفكرية وحدها لا تكفي حتى يضطلع الحزب الطليعي بدوره في العملية الثورية. إذ لا يستطيع حزب الطبقة العاملة وعموم الكادحين أن يتطور بنجاح ويؤدي دوره القيادي في جميع مراحل النضال إلا إذا تم تدعيم الوحدة الفكرية والسياسية بوحدة تنظيمية، أي إلا إذا كانت حياة الحزب منظمة جيداً وقائمة على معايير وقواعد راسخة لجميع هيئات الحزب ووحداته القاعدية وفي ظل سيادة الإنضباط الحزبي القائم على القناعة وترسيخ الديمقراطية والعلاقات الناجمة عنها في صفوف التنظيم.

■ هذا هو المفهوم السليم للعملية الثورية، وواضح في هذا السياق أن قيادة الحزب للعملية الثورية تتطلب من الحزب معرفة قوانين تطور المجتمعات وتشخيص التناقضات الموضوعية في صفوف المجتمع بدقة، والإنغراس الكامل في حركة الجماهير المنظمة، ورفع مستوى إستعداداتها الكفاحية لانتزاع حقوقها، والسير على سياسة صحيحة واقعية وثورية، هذا إلى جانب الحفاظ على وحدته الفكرية والسياسية والتنظيمية في جميع مراحل النضال.

عندما يسير الحزب على هذه الأسس والمعايير والقواعد، فسوف يتمكن دون شك من الإرتقاء بدوره القيادي في العملية الوطنية حتى نهاياتها، وتحقيق الإنتصار■

1978

حول وحدانية حزب الطبقة العاملة، وطليعيته

[■ لقد آن الأوان لإعادة النظر بمقولة وحدانية حزب الطبقة العاملة لجهة التخلي عنها. إن مغادرة هذه المقولة لا يتناقض مع نظرية الحزب الطليعي، كما سنوضح في السياق اللاحق، بل ينسجم تماماً مع جوهر هذه النظرية ومضمونها الديمقراطي الثوري ويستبعد إمكانية إستغلالها لتبرير ممارسات سلطوية تتظلل بستار «الدور الطليعي للحزب»، ولكنها تتعارض في الجوهر مع سمات الطليعة الحقة. إن مقولة «وحدانية حزب البروليتاريا» هي أصلاً مستمدة من تبسيط ساذج للمقولة الماركسية بشأن التجانس الداخلي للبروليتاريا والذي يشكل قاعدة مادية لتماسكها ووحدتها وانسجام مصالحها النهائية:]

(1)

التجانس الداخلي للبروليتاريا

يتكامل في سياق التطور التاريخي

أولاً– هذه الموضوعة الماركسية تتحدث عن تجانس البروليتاريا الناجم عن إنسجامها الداخلي فيما يخص علاقتها بوسائل الإنتاج، كون جميع شرائحها محرومة من ملكية وسائل الإنتاج ومضطرة لبيع قوة عملها مقابل أجر في ظل النظام الرأسمالي، وكونها كطبقة لا تستطيع تملّك وسائل الإنتاج إلا بشكل جماعي، ومن هنا تنبثق وحدة مصلحتها النهائية في التحرر من الإستغلال المرتبط بنظام الملكية الخاصة، وفي تحويل وسائل الإنتاج إلى ملكية جماعية للمجتمع.

ثانياً- لكن هذا التجانس في علاقة الطبقة بوسائل الإنتاج، والذي يحدد وحدة مصلحتها النهائية، لا يستثني ولا يمكن أن يستبعد التباين والتفاوت، القائم في الواقع، بين شرائحها فيما يتعلق بدرجة التمركز، وبالتالي درجة تأصل مزايا الإنضباط والروح الجماعية المنبثقة من نمط تقسيم العمل في مؤسسات الإنتاج الكبير، أو فيما يتعلق بمستوى المهارة والتأهيل التقني، وبالتالي مستوى الدخل ونمط الحياة الإجتماعية؛ إن هذا التفاوت يخلق بالضرورة تبايناً، وربما تعارضاً، في المصالح المباشرة القصيرة الأمد، بين شرائحها المختلفة.

ثالثاً– إن ماركس يتحدث عن ميل التطور الرأسمالي إلى تقليص هذا التفاوت بين شرائح الطبقة العاملة والإقتراب التدريجي من إحداث التجانس فيما بينها ليس بعلاقتها بوسائل الإنتاج فحسب، بل أيضاً فيما يخص درجة التمركز ومستوى المهارة والتأهيل ومستوى الدخل، ولكنه يتحدث عن هذا الميل باعتباره إتجاهاً يفعل فعله تدريجياً وفي الأمد البعيد، ويؤدي في التحليل النهائي إلى مزيد من التجانس الداخلي للطبقة، ولكن في التحليل النهائي فحسب، وفي المدى البعيد، وليس في واقعها الراهن القائم فعلاً■

(2)

التعددية الفكرية والسياسية والتنظيمية

داخل حركة الطبقة العاملة

■ إن تبسيط هذه الموضوعة الماركسية وتحويلها إلى فكرة مجردة تقول بالتجانس الداخلي المطلق للبروليتاريا، وفي جميع المجالات وفي كل الظروف ومراحل التطور، يختزلها في الحقيقة إلى نظرة وحيدة الجانب، غير جدلية، تستوحي غاية الصيرورة الجدلية لتطور الطبقة وتُحِلَّها محل واقعها الفعلي. فالواقع القائم، في جميع المجتمعات باختلاف أنظمتها ودرجات تطورها حتى الآن، يشير إلى أن الطبقة العاملة رغم تجانسها كطبقة - فيما يخص علاقتها بوسائل الإنتاج – ماتزال تنقسم إلى شرائح مختلفة تتفاوت في مزاياها وفي مستوى دخلها ونمط حياتها، وتتباين بالتالي في مصالحها المباشرة وفي درجة وعيها وإدراكها لمصلحتها النهائية. وهذا يشكل بالضرورة أساساً مادياً لتعدد أحزابها.

■ إن تراث وتقاليد الإتجاه الثوري في الحركة العمالية العالمية إستمر يعترف بهذه الحقيقة حتى مطلع ثلاثينيات القرن العشرين. ولم تبدأ مقولة «وحدانية حزب البروليتاريا» تبرز – وحتى ذلك الحين بصورة جنينية بعد – إلا في سنة 1922 عندما إتخذت الأممية الثالثة، لإعتبارات تتعلق بالوضع الإستثنائي للحركة الشيوعية العالمية في ذلك الظرف بالذات، قراراً  بالإعتراف بحزب شيوعي واحد في كل بلد بهدف حث الشيوعيين المنقسمين في بعض البلدان على توحيد صفوفهم. ولكن هذا الإعتبار الإستثنائي المؤقت تحول تدريجياً إلى مبدأ مطلق نُسجت لتبريره مقولة أيديولوجية متكاملة. وكان هذا يعكس المصالح الإستراتيجية للبيروقراطية السوڤييتية في تعزيز هيمنتها على الحركة الشيوعية العالمية، أكثر مما يعكس واقع الطبقة العاملة وحاجاتها النضالية.

■ لقد حان الوقت للتخلص من هذا الإرث الثقيل الذي برهنت التجربة أنه، في المدى البعيد، لا يقود إلى الوحدة الفعلية النضالية لحركة الطبقة العاملة، بل يقود إلى الإنقسام والتشرذم والإحتراب بين أحزابها وإتجاهاتها. وهذا يعني الإعتراف بإمكانية التعددية الفكرية والتنظيمية داخل حركة الطبقة العاملة، تعبيراً عن واقعها الفعلي الراهن في كل بلد، والإحترام المتبادل بين أحزابها لهذا الحق في التعدد والتمايز الفكري والتنظيمي، مع السعي الدائب نحو مزيد من الوحدة النضالية أولاً، وأيضاً نحو الوحدة التنظيمية عندما تتوفر شروطها.

■ إن الإعتراف بحق التعدد لا يعني التشجيع على الإنقسام، بل هو على العكس من ذلك السبيل الديمقراطي، الجدلي، الوحيد لإحراز وحدة متينة في النهاية. إنه يشبه الإعتراف بمبدأ حق تقرير المصير الذي يلزم أحزاب الطبقة العاملة باحترام حق القوميات في الإنفصال وتشكيل دول مستقلة، ولكنه لا يلزمها بتشجيع هذه القوميات على ممارسة هذا الحق، أو على الإنفصال الفعلي في كل الظروف والحالات.

■ إن الإحترام المتبادل بين أحزاب الطبقة العاملة لحقها في التعدد، في التمايز الفكري والتنظيمي، يوفر المناخ الملائم لإقامة علاقات طبيعية فيما بينها، على قاعدة النقد الرفاقي المتبادل وحرية الصراع الأيديولوجي، ويؤمن بالتالي الأجواء التي تسمح بابتداع أشكال فعالة لتعزيز الوحدة النضالية فيما بينها. وهذه الأشكال يمكن أن تتخذ صيغاً جبهوية، كصيغة الجبهة العمالية المتحدة – مثلاً - بمختلف درجات الوحدة بين أطرافها، كما يمكن أن تتطور – مبدئياً - على طريق الإندماج في حزب جماهيري موحد، إذا ما توفرت الشروط والقاعدة البرنامجية الملائمة لذلك■

(3)

طليعية الحزب ليست معطى ثابتاً،

بل تكتسب وتتجدد بالنضال اليومي

■ إن الإعتراف بإمكانية، وبحق، التعددية الحزبية داخل حركة الطبقة العاملة لا يعني التخلي عن نظرية الحزب الطليعي وسماته ومبادئه التنظيمية: المركزية الديمقراطية. إنه يعني فقط الإعتراف بحق جماهير الطبقة العاملة نفسها بأن تقرر بنفسها، وبإرادتها الحرة من هو حزبها الطليعي حقاً.

لقد أثبتت نظرية الحزب الطليعي جدواها وضرورتها لبناء منظمة كفاحية متماسكة تشكل أداة لا غنى عنها للطبقة العاملة في مرحلة نضالها من أجل الظفر بدورها القيادي والدفاع عنه، ولكن من الطبيعي أن تكتسب مباديء هذه النظرية، ومفهوم الحزب الطليعي، مضامين تطبيقية مختلفة في المراحل المختلفة لتطور الصراع الطبقي، ولتطور الطبقة العاملة، وكذلك لتطور الحزب نفسه. كما أن من الضروري التمسك بالمفهوم الديمقراطي، ونبذ المفهوم القسري – الشمولي (السلطوي)، لسمات الحزب وجدارته الطليعية:

أولاً– كيف يمكن مصالحة مقولة الإعتراف بتعددية أحزاب الطبقة العاملة مع مفهوم الحزب الطليعي؟

أ) إن مفهوم الحزب الطليعي يعبر عن سمات الفصيل الطليعي من الطبقة، وليس بالضرورة أن يعكس سمات الطبقة كلها. إنه يعكس مزايا الشريحة المتقدمة من البروليتاريا، تلك الشريحة التي تتجسد فيها غاية الصيرورة الجدلية لتطور الطبقة كلها، والتي تتميز بوعي متكامل للمصالح النهائية للطبقة ولرسالتها التاريخية، كما تتميز – منذ الآن– بمزايا الإنضباط والروح الجماعية والتجانس الداخلي، تلك المزايا التي يفرضها التطور الإجتماعي وانتشار اٍلإنتاج الكبير على مجموع الطبقة، ولكنه يفرضها تدريجياً وفي المحصلة النهائية، يفرضها بالتدريج إبتداءً من فصيلها الأكثر تقدماً.

ب) لذلك، فإن هذا الفصيل هو الأكثر وعياً للرسالة التاريخية للطبقة، والأكثر قدرة على الربط بين مصالحها المباشرة ومصلحتها النهائية، الأكثر تجانساً في تكوينه الداخلي، والأكثر جدارة بقيادتها في مختلف مجالات وأشكال نضالها كونه أداة التوسط بين نظرية الطبقة العاملة والممارسة. ولكن هذا لا يجعل منه فصيلها الوحيد الذي يَحِّلُ بديلاً عنها في جميع مجالات نضالها وجميع أشكال التعبير السياسي عن وجودها الإجتماعي. إنه حزبها الطليعي، وليس بالضرورة حزبها الوحيد.

ثانياً– ماذا نعني بالمفهوم الديمقراطي، وليس الشمولي، لسمة الحزب الطليعية؟

أ) إن هذا المفهوم ينبثق من حقيقة أن السمة الطليعية للحزب هي ليست معطى ثابتاً، جاهزاً ونهائياً يتبلور مرة واحدة ثم يكرس نفسه تلقائياً إلى الأبد. إن الطبقة العاملة، ككل الظواهر الإجتماعية الحيّة، تتغير بتطور المجتمع، وتتغير أيضاً بتطور نضالها من أجل تغيير المجتمع. والعلاقات بين شرائحها ومكوناتها تتحول بالضرورة في مسار هذا التغيير. وهذا ينعكس بالتأكيد على بنية وسمات أحزابها. وبالتالي، فإن ما هو جدير بتجسيد السمة الطليعية اليوم قد لا يكون بالضرورة جديراً بذلك غداً.

ب) تُبَيِّن التجربة أنه ليست ثمة، ولا يمكن أن تكون ثمة مقاييس نظرية جاهزة وثابتة يمكن وفقها الحكم على هذا الحزب أو ذاك بجدارته بالموقع الطليعي، فالجدارة الطليعية ليست مسألة نظرية مجردة أولاً، وإلى ذلك من الذي سيحكم على هذه المسألة؟

إن الجهة الوحيدة القادرة على أن تحكم هي جماهير الطبقة العاملة نفسها، بإرادتها الديمقراطية الحرة التي تحدد من هو الحزب الجدير بقيادتها في كل مرحلة من مراحل نضالها وتطورها. والرقابة الديمقراطية التي تمارسها جماهير الطبقة العاملة هي وحدها التي تشكل ضماناً وحافزاً للحزب الطليعي كي يحافظ على سماته الطليعية ويكافح ظواهر البقرطة داخل صفوفه.

ثالثاً– أ) إذا سَلَّمنا أن السمة الطليعية للحزب ليست معطى ثابتاً ونهائياً ودائماً، فإن هذا يعني أن تلك السمة الطليعية بحاجة إلى نضال دؤوب من أجل اكتسابها، وإلى نضال أكثر دأباً من أجل الحفاظ  عليها. وهو نضال أيديولوجي وكفاحي في آن، يجري داخل الحزب نفسه، وفي علاقته مع جماهير الطبقة ومنظماتها وأحزابها الأخرى كذلك. فالسمة الطليعية لا تتوفر بالتبني النظري المجرد لرسالة الطبقة التاريخية فحسب، أو بالإدراك الواعي لمصالحها النهائية، أو بصحة البرنامج السياسي الذي يربط بين مصالحها المباشرة وأهدافها بعيدة الأمد، كما أنه لا يقتصر على التبني النظري لمباديء التنظيم المركزية الديمقراطية.

ب) إن السمة الطليعية تتطلب توفر هذا كله، وتتطلب علاوة عليه تحسيناً مضطرداً للتكوين الطبقي للحزب، وفعالية كفاحية وجدارة قيادية في الممارسة العملية مشهوداً بها من قبل جماهير الطبقة وحلفائها، وقدرة دائبة على بلورة سياسات واقعية تقدم لجماهير الطبقة وحلفائها حلولاً ملموسة لمعضلاتها المباشرة، حلولاً تأخذ بعين الإعتبار تناسب القوى القائم فعلياً في الصراع الإجتماعي والسياسي الدائر في المجتمع.

فضلاً عن ذلك، فإن الحفاظ على السمة الطليعية للحزب يتطلب بالضرورة قدرته على التجدد والتطور الدائب المنسجم مع تطور الطبقة الإجتماعي ومع إرتقاء خبرتها وممارستها النضالية، التجديد والتطوير الدائب في برامجه وسياساته وفي نمط علاقاته الداخلية ونمط علاقاته بجماهير الطبقة وحلفائها. وهذا كله لا يمكن إكتسابه وصونه بفضل الوعي النظري المجرد، بل بفعل الممارسة النشطة التي تخضع للرقابة الديمقراطية الدائمة والحيّة من قبل جماهير الطبقة نفسها.

رابعاً– أ) إن قواعد التنظيم المركزية الديمقراطية، التي هي من أبرز مكونات السمة الطليعية للحزب، ليست قواعد جامدة تطبق بمضامين واحدة ثابتة في كل مراحل تطور ونضال الحزب وعلاقته بالطبقة. هذه القواعد التي تَنْظُم الحياة الداخلية للحزب وتوجه علاقته بجماهير الطبقة العاملة وحلفائها، تكتسب بالضرورة مضامين مختلفة بتطور نضال وتكوين الطبقة وموقعها الإجتماعي، كما بتطور الحزب نفسه في بنيته الداخلية وموقعه في حركة الطبقة.

إن المضمون التطبيقي لقواعد المركزية الديمقراطية – على سبيل المثال - في فترة النضال من أجل الظفر بالدور القيادي للطبقة العاملة شيء، ومضمونها التطبيقي في فترة الدفاع عن سلطتها شيء آخر. وفي الحالة الأخيرة ينبغي أن تكتسب هذه المضامين مزيداً من التعميق والفعالية لآليات الممارسة الديمقراطية في حياة الحزب الداخلية، وفي علاقته بحركة الطبقة ومنظماتها النقابية والإجتماعية وأحزابها الأخرى أيضاً، وأيضاً.

ب) كذلك، فإن المضامين التطبيقية لهذه القواعد في فترة نضال الحزب من أجل اكتساب سمته الطليعية وموقعه القيادي في حركة الطبقة العاملة، هي بالضرورة مختلفة عنها في فترة النضال من أجل صون هذه السمة الطليعية والحفاظ على هذا الموقع القيادي. وفي الحالة الأخيرة أيضاً يتطلب الأمر مزيداً من التعميق للممارسة الديمقراطية داخل الحزب وفي علاقته بالجماهير.

■ إن الممارسة الديمقراطية في الحياة الداخلية للحزب الطليعي تنطلق من إدراك حقيقة أن تجانسه الداخلي المعبر عنه بوحدة الفكر والإرادة والعمل، هو أيضاً ليس معطى جاهزاً ونهائياً، ولا هو تجانس تماثلي شمولي يمكن تحقيقه بالوسائل القسرية والبيروقراطية.

إن التجانس الداخلي، ووحدة الفكر والإرادة والعمل، هو عملية نضالية دائبة. إنه معطى يجري إكتسابه بالنضال الداخلي، ويجري الحفاظ عليه أيضاً عبر النضال الداخلي، عبر الحوار والنقاش الحر والإحترام المتبادل للآراء والإجتهادات طالما ترسو على قاعدة برنامج الحزب ووحدة الإرادة والعمل، فذلك وحده هو الذي يؤسس للتجانس ويرسي الوحدة على قاعدة متينة■

1994

المركزية الديمقراطية..

مضمونها الطبقي وضرورتها النضالية

 [■ إن المركزية الديمقراطية هي المبدأ الذي يحكم العلاقات الحزبية الداخلية للجبهة ويوجه العلاقة بينها وبين الجماهير. وهي ليست مجرد مجموعة من القوانين والقواعد الإجرائية التي يجري تنفيذها بصورة شكلية وبمعزل عن مضمونها الطبقي، وإنما هي في الأساس تعبير عن المزايا المادية الموضوعية التي تتوفر لدى الشريحة المتقدمة للطبقة العاملة، والتي تنزع إلى اكتسابها الطبقة العاملة بعمومها، تدريجياً، من نمط حياتها وتطور دورها في المجتمع وفي الانتاج: مزايا الجماعية وتقسيم العمل، والوحدة المتزايدة للمصالح النهائية للطبقة العاملة، والتماسك الداخلي في صفوفها، والانضباط وروح المثابرة والصبر وطول النفس والقدرة على رؤية مصالح مجموع الشعب، والتقدير الدقيق لنسبة القوى بينه وبين اعدائه.

■ تقوم المركزية الديمقراطية على قاعدة الوحدة في الفكر والإرادة والعمل، وهي ضرورة نضالية لا بد منها من أجل تسليح الحزب الطليعي بالإنضباط والوحدة الفكرية والتنظيمية المتينة والفعالية النضالية، ومن أجل تعميق العمل الجماهيري وروح التضحية والإندماج بحركة الشعب، والابتعاد عن الفردية الحِرَفية والأنانية والفوضوية والتسيب الليبرالي.

■ تُعَبِّر المركزية الديمقراطية عن حاجة الطبقة العاملة والفئات والشرائح الكادحة عموماً وتلك المتحالفة معها إلى هيئة أركان وقيادة جماعية صلبة تجسد مصالحها النهائية وتشكل صلة الوصل بين نظريتها وبين الممارسة العملية، بين البرنامج السياسي المعبر عن مصلحة الطبقة العاملة وأوسع الفئات الشعبية ووجهة نظرها، وبين التنفيذ العملي لهذا البرنامج من خلال تعبئة طاقات الجماهير العمالية والكادحة وتوحيد وتنظيم نضالاتها.

■ إن المركزية الديمقراطية هي السلاح الفعّال للحزب من أجل أداء دوره الفاعل في الحركة النضالية، وذلك من خلال عمله كوحدة متراصة في الفكر والإرادة والهدف وفي النضال العملي، وهي التي تكفل بناء الحزب كمنظمة كفاحية صلبة■]

(1)

المركزية الديمقراطية كناظم للعلاقات الحزبية الداخلية

■ إن المركزية الديمقراطية على صعيد صياغة العلاقات الحزبية الداخلية تعني التطبيق الحازم للمباديء التالية:

أ) إلتزام الفرد بقرارات التنظيم وتغليب مصلحة التنظيم على أية مصلحة خاصة: إن المركزية الديمقراطية تعني تثقيف العضو الحزبي بروح الالتزام العميق المبني على إيمان لا يتزعزع بقضية الثورة والشعب والفئات والشرائح الإجتماعية الكادحة، روح الاستعداد لتحمل التضحيات والمشاق، روح التواضع ونكران الذات والصدق والإخلاص والنزاهة في التعامل مع التنظيم ومع الشعب في آن معاً.

إن هذا المبدأ يملي على العضو الحزبي الانضباط الواعي لقرارات الحزب والالتزام بسياسته وخطط عمله وبالمقررات التي تتخذها هيئاته الجماعية، والعمل المخلص من أجل تنفيذها والدفاع عنها أمام الجماهير بغض النظر عن تطابقها، أو تباينها مع رأيه الشخصي.

ب) المشاركة الفعلية لجميع الأعضاء في رسم سياسة التنظيم وفي تحديد خطه العام، وذلك من خلال حق جميع الهيئات الحزبية القاعدية في مناقشة برنامجه ونظامه الداخلي وقرارات مؤتمراته ولجانه القيادية المركزية، وحق إبداء الملاحظات والاقتراحات مهما كانت الظروف التي يعمل في ظلها التنظيم، من خلال إنتظام التقارير من الهيئات الحزبية الأدنى إلى الهيئات الحزبية الأعلى على قاعدة الحرية التامة في النقاش والانتقاد.

ج) إلتزام الأقلية برأي  الاغلبية: تتخذ الهيئات الجماعية قراراتها بالتصويت الديمقراطي ووفقاً لرأي الأغلبية، مع إلتزام الأقلية بموقف الأغلبية وقرارات الهيئات الحزبية.

وللأقلية كامل الحق في التعبير عن وجهة نظرها وأن تناضل في سبيله داخل المؤتمرات والهيئات وسائر القنوات الحزبية.

إن التنظيم الثوري يتصدى للنزعات التكتلية والشللية اللامبدئية التي تسيء إلى وحدة التنظيم وتضعف تماسكه وفعاليته النضالية.

د) إنتخاب الهيئات القيادية من أدنى إلى أعلى وممارسة الرقابة الحزبية من أدنى إلى أعلى وبالعكس: إن جميع الهيئات القيادية الحزبية  تتشكل بواسطة الانتخاب من أدنى إلى أعلى وتلتزم بتقديم التقارير التي تتضمن كشف حساب بإنجازاتها إلى المؤتمرات والمنظمات الحزبية التي انتخبتها.

إن جميع الهيئات القيادية تخضع دوماً للرقابة من قبل المؤتمرات التي انتخبتها على دقة تنفيذها والتزامها بقرارات هذه المؤتمرات وبتوجيهات الهيئات الأعلى.

وعلى الهيئات الأدنى أن تمارس حقها في مناقشة ونقد قرارات الهيئات الأعلى داخل الأطر الحزبية، كما على الهيئات العليا أن تشرف إشرافاً دقيقاً على نشاط الهيئات الدنيا، وأن تتابع تنفيذها للقرارات والخطط الحزبية ولواجباتها اليومية، وأن تقدم لها التوجيهات المناسبة لتصحيح أخطائها ومضاعفة نشاطها.

هـ) إلتزام الهيئات الدنيا بقرارات الهيئات العليا والتزام المنظمات الحزبية بقرارات اللجنة المركزية والمؤتمر الوطني العام: إن جميع الهيئات الدنيا ملزمة بتنفيذ المقررات التي تتخذها الهيئات الأعلى وفقاً للتسلسل الحزبي.

ويحق للهيئات الدنيا، لا بل من واجبها أن تناقش قرارات الهيئة الأعلى، وعند اللزوم أن تنتقدها وتسجل إعتراضها عليها وأن تطالب بتعديلها او إلغائها، بشرط أن لا يُعَطِّل هذا الحق الإلتزام بهده القرارات من قبل الهيئة الدنيا، طالما أنه لم يجرِ تغييرها.

وعلى الهيئات الأعلى أن تدرس إعتراضات الهيئات الدنيا وانتقاداتها بعناية وجدية وأن تأخذ بما هو صحيح وبنَّاء منها، وأن تحرص على التفاعل الإيجابي القائم على الاحترام المتبادل والتضامن الرفاقي بين مختلف مستويات التنظيم.

إن جميع المنظمات الحزبية ملزمة بتنفيذ القرارات التي تتخذها المؤتمرات الوطنية للتنظيم ولجنته المركزية.

و) جماعية القيادة وفردية المسؤولية: إن جماعية القيادة تعني اتخاذ القرارات والتوجهات السياسية والتنظيمية بشكل جماعي من قبل الهيئات المخولة بها.

أما مسؤولية تنفيذ هذه التوجهات واتخاذ القرارات التفصيلية والعملية اليومية وتوزيع المهام الكفيلة بالتنفيذ فهي من حق العضو، أو الأعضاء الذين تناط بهم مهمة التنفيذ.

وتتابع الهيئات الجماعية أولئك الأعضاء على مستوى تنفيذهم لتوجيهاتها مع تشجيع القرارات والمبادرات التي يتخذونها أثناء ذلك.

ز) النقد والنقد الذاتي في إطار التقييم، هو الأسلوب الرئيسي لتعزيز الممارسة الديمقراطية داخل صفوف التنظيم والسلاح الفعال من أجل تصحيح مساره النضالي وردم الثغرات في عمله التنظيمي، ومن أجل تصويب سياساته وخطط عمله والاستئصال الدائم للتأثيرات الأيديولوجية الضارة وأنماط السلوك والتفكير الغريبة التي تتسرب إلى صفوفه من الخارج، والحفاظ بالتالي على نقاوته ووحدته الفكرية وتماسكه التنظيمي والنضالي.

■ إن الجانب الرئيسي لمفهوم المركزية الديمقراطية يكمن في حق وواجب جميع الأعضاء والمنظمات الحزبية في ممارسة النقد والنقد الذاتي الهادف والبناء الذي لا ينزلق إلى المهاترات العقيمة والخلافات اللارفاقية واللامبدئية، ولا يستخدم ستاراً للتهرب من المهمات ومن تَحَمُّل المسؤولية الفردية عن الخطأ، ولا ينحدر إلى مستوى تضخيم الأخطاء الصغيرة أو إلقاء اللوم على الآخرين، بل ينصب على معالجة الأخطاء السياسية والتنظيمية الهامة وتصحيحها والتعلم منها، ويجري بروح التضامن الرفاقي التي تبرز الجوانب الإيجابية من أجل تشجيعها، وتحلل الظواهر السلبية من أجل دحضها واستئصالها، ويمارس بحس من المسؤولية العالية والصدق مع الذات ومع التنظيم والشجاعة الثورية في تحمل نتائج الخطأ ومعاملة أخطاء الذات بنفس المستوى الذي تعامل به أخطاء الآخرين، ويستهدف تربية الأعضاء بالقيم النضالية وتخليصهم من الثقافات والأمراض والتقاليد المتخلفة والظلامية والرجعية■

(2)

المركزية الديمقراطية كموجه للعلاقة بن التنظيم والجماهير

■ إن تصليب التنظيم الحزبي وتعزيز انضباطه الداخلي على قاعدة المركزية الديمقراطية والتطبيق الحازم لمبادئها وقوانينها في تنظيم العلاقات الحزبية الداخلية هو مهمة ذات ضرورة قصوى، ولكنها ليست كافية بحد ذاتها، فهي قد تتحول إلى ممارسة شكلية، وتؤدي إلى نتائج نخبوية وانعزالية وانتهازية يسارية أو يمينية، إذا هي لم تقترن ببناء علاقة سليمة بين التنظيم والجماهير تقوم على قاعدة المركزية الديمقراطية أيضاً.

 إن المركزية الديمقراطية كمفهوم موجه للعلاقة بين الحزب والجماهير، تنبثق من اعتبار أن العملية الثورية حصيلة لنضال الجماهير من أجل رفع الاستغلال عنها، وأن دور التنظيم الثوري يكمن في إكساب الحركة الجماهيرية عنصر التنظيم والاتحاد الواعي.

■ إن المركزية الديمقراطية تعني نبذ النزعات الذيلية والإصلاحية اليمينية التي تضع التنظيم الحزبي في مؤخرة التحرك النضالي للجماهير بدلاً من أن يكون طليعتها التي تتقدم الصفوف، وتنظم النضال وتثابر على رفع مستوى الاستعداد الكفاحي للجماهير وتحريضها الدائم للتحرك دفاعاً عن حقوقها، كما تعني نبذ الميول المغامرة الصبيانية و«اليسارية» المتطرفة التي تعزل التنظيم عن الحركة الجماهيرية، وتضعه وحيداً في مجابهة الأعداء وتزجه في أعمال وتكتيكات طائشة تنبثق من فورات الحماس الذاتي بدلاً من التحليل الدقيق لنسبة القوى الموضوعية ودرجة الاستعداد الكفاحي للجماهير.

إن المركزية الديمقراطية كمفهوم موجه للعلاقة بين الحزب والجماهير تتطلب التطبيق الخلاق للمباديء التالية:

أ) الإنغراس العميق في الحركة الجماهيرية: إن التنظيم الطليعي ليس نخبة مستقلة عن الحركة الجماهيرية للعمال والكادحين، بل هو فصيلة متقدمة من فصائلها وهو طليعتها الواعية والمنظمة التي تحرص على الارتباط بها إرتباطاً وثيقاً. إن المركزية الديمقراطية لا تنسجم إطلاقاً مع نزعة «التنظيم من أجل التنظيم» التي تجعل من وجود التنظيم الحزبي غاية مقصودة لذاتها، بل هي تؤكد وظيفة التنظيم كقائد ومنظم لحركة الجماهير العمالية والكادحة، تلك الوظيفة التي لا يمكن أداؤها إلا من خلال الإنغراس العميق في الحركة الجماهيرية والانخراط في كافة مؤسساتها المنظمة.

 إن واجب كل عضو وكل منظمة حزبية هو الإنخراط في النقابات وسائر المنظمات الجماهيرية، بغض النظر عن طبيعة قياداتها أو نمط نشاطها، والمشاركة الفعالة في نشاطاتها وحياتها الداخلية وممارسة عمل يومي دؤوب بين صفوف قاعدتها الجماهيرية. كما أن واجب كل عضو أن يمارس عملاً ثورياً يومياً منتظماً بين الجماهير في موقع عمله وسكنه وفي الأوساط الإجتماعية التي يحتك بها.

ب) التعلم من الجماهير وتعليمها: إن التنظيم الحزبي طليعة واعية للطبقة الثورية. ولكن وعي التنظيم الثوري، أي نظريته وبرنامجه، ليس منبثقاً من ثقافة المباديء المجردة، بل هو حصيلة الوعي الملموس للمصالح المادية المباشرة والنهائية لجماهير الطبقات الثورية ولخبرة ودروس نضالها؛ وطريقه إلى ضمان تلك المصالح.

 إن المركزية الديمقراطية في العلاقة بين التنظيم والجماهير تتطلب نبذ نزعة «الثقافة النظرية والسياسية المجردة» وتملي الربط الوثيق بين الوعي الثوري، وبين المصالح الملموسة للجماهير والممارسة العملية للنضال.

إن المركزية الديمقراطية تتطلب استئصال نزعة «التثقيف من أجل التثقيف» التي تجعل من المعرفة المجردة غاية مقصودة لذاتها أو إمتيازاً معنوياً للعضو الحزبي ووسيلة للحذلقة على الجماهير والتعالي عليها، بدلاً من أن تكون المعرفة والوعي الثوري وسيلة لخدمة الجماهير، وتهمل تعبئتها وتنظيمها وإنارة طريق النضال أمامها، وتوجيه الممارسة العملية للأعضاء والمنظمات الحزبية.

 إن التنظيم يربي أعضاءه على احترام الجماهير والاستماع إلى آرائها بتواضع والتعلم من تجاربها وخبراتها ودراسة همومها اليومية ومشكلاتها وطرحها داخل صفوف المنظمة الحزبية حتى يتمكن التنظيم من إغناء نظريته بها وصياغتها في برامج عمل وشعارات نضال يعيد طرحها في صفوف الحركة الجماهيرية من أجل توجيه وقيادة نضالها. كما أن التنظيم يربي أعضاءه على التحدث بلغة الشعب وربط الأفكار الثورية بالخبرة الملموسة للجماهير.

ج) الدفاع عن المصالح المُلِّحة للجماهير وقيادة نضالها اليومي وربطه بالنضال الوطني العام: إن التنظيم الثوري ليس منظمة للدعاية السياسية المجردة من أجل الأهداف الوطنية الكبرى. إنه أداة لقيادة النضال اليومي للجماهير دفاعاً عن مصالحها الملحة وربطه بالنضال السياسي الشامل من أجل الأهداف النهائية التي لا يمكن أن تكون إلا حصيلة تراكم وارتقاء نضالات الجماهير اليومية من أجل مصالحها المباشرة.

إن التنظيم الثوري ليس جماعة فئوية تشكل لنفسها مصالح ذاتية متميزة عن مصالح الطبقات الثورية. إنه يتطلب من أعضائه وجميع منظماته الحزبية أن يولوا إهتماماً واسعاً للمطالب المباشرة للعمال والكادحين مهما بدت صغيرة وثانوية، وأن يدافعوا عنها دفاعاً عنيداً، وأن ينخرطوا في النضال اليومي من أجل هذه المطالب ويلعبوا فيه دوراً متقدماً، ويعملوا في الوقت نفسه على تسييسه وتطويره وربطه بالنضال الوطني والديمقراطي الشامل.

د) المثابرة على تنظيم أوسع الجماهير في النقابات والإتحادات والمنظمات الشعبية: إن الجماهير المنظمة هي وحدها القادرة على انتزاع حقوقها وإنجاز العملية الثورية.

إنطلاقاً من هذه الحقيقة فإن التنظيم الثوري يتصدى بحزم داخل صفوفه لكافة ظواهر الإحجام عن تنظيم الجماهير بأي حجة كانت، ويكافح جميع نزعات التعامل مع المنظمات الجماهيرية كواجهات سياسية مغلقة، تلك النزعات التي تقصر وظيفة الأعضاء والمنظمات الحزبية على التغلغل في التنظيمات الجماهيرية القائمة والسعي إلى السيطرة على قياداتها بالوسائل البيروقراطية والإنقلابية والفوقية، واستخدامها فحسب، كواجهات لتعزيز النفوذ السياسي للتنظيم.

إن التنظيم الثوري يعتبر وظيفة دائمة وثابتة لجميع أعضائه ومنظماته الحزبية أن يثابروا على حث وإقناع أوسع الجماهير العمالية والكادحة على الانضمام إلى نقاباتها واتحاداتها، والعمل على تطويرها وتحويلها إلى أدوات كفاحية لتنظيم نضال الجماهير من أجل حقوقها ومطالبها المباشرة، وأن يناضلوا من أجل قيادة التنظيم لهذه النقابات والاتحادات من خلال القناعة الديمقراطية لقواعدها الجماهيرية الواسعة بجدارة التنظيم القيادية وصحة سياساته، وأن يعملوا بدأب من أجل ابتداع وبناء كافة الأطر التنظيمية التي تنسجم مع درجة وعي أوسع الجماهير من أجل استقطابها وتعبئتها للنضال المنظم، وأن يدافعوا دفاعاً مثابراً عن حق الجماهير في التنظيم النقابي والإجتماعي، وأية أشكال أخرى تبتدعها الحركة الجماهيرية.

هـ) الإعتماد على طاقات الجماهير المنظمة في إنجاز العمل الثوري: إن التنظيم الطليعي لا يسعى إلى إنجاز المهمات الوطنية وغيرها بالاعتماد على طاقاته الذاتية المحضة فحسب، بديلاً عن الطاقات المنظمة لأوسع جماهير الطبقات الثورية.

إن عملية بناء القوة الذاتية للتنظيم الحزبي ليست هدفاٌ قائماً بذاته، بل هي وسيلة لتمكين التنظيم من أجل أن يضطلع على نحو أفضل بوظيفته المفترضة في تنظيم الجماهير وقيادة نضالها، وهي مهمة تجري من خلال تطوير النضال الجماهيري واستقطاب أفضل الحالات الطليعية التي يبرزها وضمها إلى صفوف التنظيم.

إن هذا المبدأ يعني أيضاً، إستئصال نزعة «إحلال الكادر بديلاً للتنظيم، وإحلال التنظيم بديلاً للجماهير» في أداء المهمات النضالية، تلك النزعة التي هي إنعكاس لتأثيرات الأيديولوجية «الإرهابية» و «الإنقلابية» للنخبة المثقفة المنتمية إلى الفئات الوسطى، والتي تفتقر إلى الثقة بالجماهير وبطاقاتها وقدراتها الكفاحية الجبارة.

إن التنظيم الثوري يسعى دوماً إلى إشراك أوسع الجماهير في أعماله النضالية بإطلاق مبادراتها وتنظيمها وقيادتها. إنه يتحرك للنضال مع الجماهير وفي مقدمة صفوفها، وليس بمعزل عنها، ويرسم تكتيكاته النضالية إنطلاقاً من درجة الاستعداد الكفاحي لدى الجماهير، كما يثابر على رفع مستوى هذا الاستعداد وتطويره■

 (3)

نحو تطبيق خلاق للمركزية الديمقراطية

■ إن التطبيق السليم والخلاق للمركزية الديمقراطية كأساس للعلاقات الحزبية الداخلية وللعلاقة بين التنظيم والجماهير هو كفاح داخلي دؤوب ضد كافة أشكال الإنحرافات اليمينية واليسارية في قضايا التنظيم والعمل الجماهيري كالليبرالية والفوضوية والحِرَفية المغلقة والإصلاحية والنخبوية الصبيانية المغامرة التي تعبر عن تسرب أفكار وقيم شرائح معيَّنة من البورجوازية الصغيرة إلى داخل التنظيم. وهو نضال دائم من أجل تعزيز المضمون الطبقي العمالي والكادح للتنظيم وتنقيته من الشوائب الغريبة الناجمة عن التأثيرات الأيديولوجية للطبقات الاخرى.

■ إن ظروف النضال المتعددة والمتنوعة التي نعمل في ظلها، تتطلب تكثيف وتشديد النضال من أجل التطبيق الخلاق لمباديء المركزية الديمقراطية، وتوفير الشروط الضرورية من أجل أن تصبح بمضمونها الطبقي البروليتاري قاعدة ثابتة متينة لحياة التنظيم الداخلية وعلاقاته بالجماهير. وتتطلب هذه الشروط تشديد العمل بالأسس التالية:

أ) إتقان كافة أشكال النضال وجميع أشكال التنظيم: الحفاظ على موقع متقدم في النضال الوطني والديمقراطي بوجهيه السياسي والإجتماعي يقتضي الإنخراط في كافة أشكال النضال والتنظيم الجماهيري إنطلاقاً من وحدتهما، وإتقان ممارسة وقيادة نضال الجماهير على كافة الاصعدة، وبكافة الوسائل النضالية التي ترتقي من التحركات المطلبية السلمية إلى الانتفاضة الشعبية الشاملة.

ويقتضي كذلك إتقان فن التنظيم بكافة أشكاله السرية وشبه العلنية والعلنية، وتعلم كيفية الجمع بينها ومرونة الانتقال من أحدها إلى الآخر وفقاً لما تقتضيه ظروف النضال. إن ما يزيد من إلحاح ذلك وأهميته الظروف المتنوعة التي يعيش في ظلها الشعب الفلسطيني وتعمل ضمن شروطها منظمات الجبهة، والتغيرات السياسية الطارئة التي يفرضها تعقد الصراع وتشابكه في المنطقة.

ب) التطبيق الحازم لبرنامج الجبهة وخطها على كافة الأصعدة السياسية والعسكرية والنقابية والجماهيرية، وتوثيق الصلة بالجماهير والدفاع عن مصالحها مهما كانت صغيرة، لأن هذا وحده هو الذي يؤدي إلى توطيد جماهيرية الجبهة وتعزيزها، ويؤدي إلى توسيع صفوفها ورفدها بالمناضلين البارزين من أبناء الشعب، وخاصة من بين العمال والفلاحين الفقراء وسائر الفئات الكادحة، وقطاعات الشباب والمرأة، ويزيد بالتالي قدرتها على العمل الموحد والتنفيذ الخلاق لبرامجها وسياساتها.

ج) العمل الدؤوب على تعزيز نفوذ الجبهة في صفوف الطبقة العاملة وسائر الشرائح الكادحة والفئات الوسطى، واكتساب المواقع الثابتة الوطيدة داخل حركتها النقابية، ومواصلة العمل على تنظيم الإطارات الجماهيرية الصديقة للجبهة، في منظمات ديمقراطية للشبيبة والطلبة والنساء والقطاعات الجماهيرية الأخرى من أبناء الفئات الوسطى، والاهتمام بالتوسع الحزبي وبرمجته بشكل دائم وتوجيهه من خلال خطط العمل الدورية السنوية والفصلية والشهرية.

د) الإعتناء بالتثقيف الحزبي على كافة مستويات التنظيم وتطوير أساليبه ووسائله، وربطه ربطاً محكماً بالممارسة ومهمات النضال العملي، وتنمية وعي ملموس لبرنامج الجبهة الديمقراطية ونظامها الداخلي وشعاراتها السياسية والنضالية باعتبارها دليل عمل وتوجيه لنضال التنظيم والجماهير، وتوجيه جهد التثقيف نحو فهم أعمق للواقع الفلسطيني والعربي، ونحو استئصال المفاهيم والأفكار الغريبة والعشائرية والمتخلفة والظلامية، ونحو تعزيز القيم والمفاهيم الثورية داخل  صفوف التنظيم وتوطيد وحدته الفكرية، والعمل على تطوير نضال الجبهة الأيديولوجي ضد كل أشكال التضليل اليميني والإنتهازي والطفولة اليسارية.

هـ) الإعتناء البالغ بمقاييس إنتقاء الكادر ووسائل وأساليب تطويره وتربيته وصقل قدراته القيادية، واعتماد مقاييس الصلابة النضالية والنشاط العملي والشخصية القيادية والقدرة على التعبئة والتوجيه المنظم لطاقات التنظيم والجماهير في النضال، بدلاً من الحذلقة والقدرة الكلامية المحضة، والإعتناء بتشكيل الهيئات القيادية على كافة المستويات على أسس نضالية وأيديولوجية وسياسة واضحة بإدخال المزيد من المناضلين العمليين والنشطاء الميدانيين المسلحين بالوعي الضروري، إلى هيئاتها القيادية وزيادة نسبتهم فيها باضطراد.

و) بناء المنظمات القاعدية على أساس الموقع الإنتاجي أو المهني، إلى جانب المنطقة الجغرافية، أو المنظمة الجماهيرية، أو المؤسسة وقطاعات العمل الأخرى، بما يُمَكِّن الأعضاء من ممارسة عمل نضالي ثوري منتظم في مواقع عملهم إلى جانب موقع سكنهم، وبما يسمح للمنظمات الحزبية أن تنغرس في وسط طبقي محدد وتتلمس مشكلاته وهمومه وتقود نضالاته اليومية. وكذلك الإعتناء البالغ بهذه المنظمات، واعتماد كل وسائل التثقيف معها، وإرساء التقاليد الثورية التنظيمية والإنضباطية بين صفوفها، وتوجيهها نحو النشاط العملي كالانتساب للنقابات والإتحادات المهنية والنضال داخلها، والتدقيق في مشاكل الجماهير اليومية والتفصيلية، وأشكال حَلَّها.

ز) محاربة الصراعات غير المبدئية، ودحر كل المفاهيم والأفكار التي تتستر وراءها: إن هذه الصراعات تقود إلى تعطيل النضال العملي، وتسرب روح الإنتهازية والفردية داخل صفوف التنظيم، فضلاً عن نيلها من هيبته■

1975

       

الفصل السادس

القوى الإجتماعية في مرحلة التحرر الوطني

■ الجغرافيا السياسية والقاعدة الإجتماعية

■ في دينامية البنية الإجتماعية الطبقية

■ حول مفهوم «الديمقراطية الثورية»

■ الجبهة الديمقراطية: حزب يساري ديمقراطي

ملحق 1 + 2

معهد العلوم الإجتماعية

الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

الجغرافيا السياسية والقاعدة الإجتماعية

القوى الإجتماعية في مرحلة التحرر الوطني

[■ يتناول البرنامج السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، الصادر عن مؤتمرها الوطني العام السابع - 2018، في فصله الأول (المقطع4)، موضوع «القوى الإجتماعية المحركة للثورة الوطنية التحررية» بأبعاده المتعددة. وفيما يلي تجري مقاربة الأمر من زاويتي الجغرافيا السياسية من جهة، ومن زاوية القاعدة الإجتماعية ببعديها الطبقي والقطاعي، من جهة أخرى:]

(1)

الجغرافيا السياسية

■ تبدو معادلة الشعب الفلسطيني – الصعبة أصلاً - أكثر تعقيداً من أن تُختزل بوطن وشتات من منظور الجغرافيا السياسية التي ينحكم لها، وذلك بالجدران العالية التي تقيمها هذه الجغرافيا بين مختلف تجمعاته.

إن توزع الشعب الفلسطيني على عدة كيانات سياسية (بين وطن وشتات، كما وبين وطن ووطن، وبين شتات وشتات)، كيانات تدخله أيضاً في دورتها الإقتصادية – الإجتماعية الخاصة، بغض النظر عن مكانتة القانونية فيها وحقوقه السياسية والإجتماعية، ما ينعكس – بالنتيجة – تمايزاً في شروط حياته وسلّم أولوياته على الحدود الفاصلة بين هذه الكيانات.

■  هذا المعطى الموضوعي يبرر طرح ما يلي: هل يملك الإنتشار الفلسطيني بالسمات التي ذُكرت، هل يملك بتمايزاته وتبايناته مصلحة مشتركة في إنجاز التحرر الوطني بالمضمون ذاته الذي تعبر عنه – مثلاً – قرارات المجلس الوطني الفلسطيني؟

الشعب الفلسطيني أجاب ومازال بنعم على هذا السؤال، ما يؤكد وحدته إنطلاقاً من إجماعه على وحدة قضيته الوطنية بأركانها، والتقائه على وحدة أهداف نضاله الوطني في إطار البرنامج المرحلي، القائم على ما يتطلبه إنجاز حق تقرير المصير مرحلياً: الدولة (على حدود الـ 67)، حق العودة (إلى الديار)، والمساواة القومية (في الـ 48).

هذا ما يظهّره البرنامج السياسي للجبهة الديمقراطية، إنطلاقاً من تشخيصه لطبيعة المشروع الصهيوني الذي إنتكب به شعبنا والقائم على: تمزيق وطمس الكيان الوطني، والهوية الوطنية للشعب الفلسطيني، وتشريده من أرضه، وتقسيم بلاده، وإخضاعها للإغتصاب والإستعمار الإستيطاني – الإحلالي، وبعدوان مستدام يمثله الإحتلال بالقوة الغاشمة.

إن طبيعة المشروع الصهيوني تؤسس – لا ريب – لترسيخ مرتكزات هذه الحالة الفلسطينية التي (على الرغم من تعقيدات الجغرافيا السياسية بعقباتها وارتفاع أسوارها، إن لم يكن خصومتها، وحتى عدائها) مازالت تحتفظ بوحدتها وتماسكها، بعد إنقضاء عقود ممتدة على النكبة.

■ «إن إنجاز التحرر الوطني (..) يستجيب لمصالح وطموحات الشعب الفلسطيني بجميع طبقاته ومختلف تجمعاته (..)»، كما يرد في الفقرة1 (الفصل الأول- «4- القوى الإجتماعية المحركة للثورة الوطنية التحررية») من النص موضوع بحثنا في البرنامج السياسي. وهذا ما يرمي إليه النضال الوطني الفلسطيني المسقوف باستراتيجية عليا، تؤطر إشتقاقاتها برامج نضالية خاصة بكل تجمع، ويرسم خطوطها الرئيسية بشكل ملموس الفصل الثاني للبرنامج السياسي.

وفي هذا السياق أتت صياغة الفقرة1 الآنف ذكرها؛ لتشير - من جهة – إلى واقع معاناة شعبنا في دوائر إنتشاره الثلاث (48، 67، شتات)؛ ولتشير أيضاً إلى «جميع طبقاته»، وليس إلى «طبقاته الوطنية» فحسب، دفعاً لأي إلتباس قد يثيره إضفاء صفة «الوطنية» على طبقات بعينها، واستثناء أخرى منها، ما قد يؤول إلى التمييز بين طبقات «وطنية» وأخرى «غير وطنية»، التي لا لزوم لها، إنطلاقاً من الطبيعة الخاصة للمشروع الصهيوني المعادي جوهرياً للشعب الفلسطيني بأسره، وبكل مكوناته■

(2)

القوى الإجتماعية المحركة للثورة الوطنية التحررية..

مستويات وأبعاد

■ البرنامج السياسي، في عرضه للقوى الإجتماعية المحركة للثورة الوطنية التحررية، يأخذ بمستوييها:

أ) الإجتماعي الطبقي القائم على أربعة أعمدة: العمال، البورجوازية الوطنية، الفئات الوسطى، والبورجوازية الطفيلية والكومبرادورية والفئات البيروقراطية المندمجة فيها.

ب) الإجتماعي القطاعي (sectoriel) القائم على أساس العمر: «الشباب»، أو الجنس الإجتماعي (الجندر): «المرأة»، لاعتبار ما يمثله هذان القطاعان من ثقل إستثنائي في المجتمع، وكون «مسألة المرأة» قضية قائمة بذاتهافي الحالة الفلسطينية، نظراً للإجحاف والتمييز السلبي اللاحق بها.

■ إن اعتماد المستوى القطاعي إلى جانب الطبقي لا يمس بموقع الأخير، الذي يبقى هو الأساس في تحليل تأثير القوى الفاعلة في المجتمع، فالإشتراكية العلمية لا تنكر التمايزات الإجتماعية غير الطبقية التي يمكن أن تكون جهوية، إثنية، طائفية.. لا بل يمكن أن تكتسي هذه التمايزات – ضمن شروط معيّنة – أهمية تجعلها تطغى على ما غيرها، فالبعد الطبقي وإن كان هو الأساس في الحراك السياسي – الإجتماعي، فليس بالضرورة أن يكون هو الأهم في جميع هذه الحِراكات؛ علماً أن الأخيرة – بغض النظر عن تعبيراتها ودرجة زخمها – تستبطن دائماً مضموناً طبقياً.

■ إمتداداً لما سبق، فإن الإشتراكية العلمية لا تنكر المشتركات العظمى القائمة بين مكونات متعددة المنشأ طبقياً، طالما يوحدها واقع، دور، هم مشترك، كما هو حال قطاع الشباب، أو المرأة.. الذي يملك (أو يمكن أن يملك) كل منها حركته المستقلة القائمة بوعيها لذاتها، ببرنامجها، الخ..

■ إن جمع البرنامج السياسي عند تناوله «القوى الإجتماعية المحركة للثورة الوطنية التحررية» ما بين البعدين: الطبقي كأساس، والقطاعي دونما استتباع، يُكسب مقاربته ملموسية إضافية ذات قيمة عملية، إن على مستوى التحالفات أو تكتيك النضال، أو أشكال التنظيم.

وفي هذا يواصل البرنامج السياسي اعتماد النظرية الإشتراكية العلمية للطبقات الإجتماعية وللصراع الطبقي، باعتباره الأساس في تحليل مختلف الإتجاهات والنزعات السائدة في المجتمع، سواء ما خص تناقضه الرئيسي (القومي) مع الإحتلال، أو ما تعلق بتناقضاته الداخلية (بطبيعتها السياسية والإجتماعية) التي ينبغي أن يُجهد باستمرار لضبطها تحت سقف البرنامج الوطني المشترك، واحتوائها في إطار الوحدة الوطنية، بمواجهة الإحتلال.

■ إن النظرية الإشتراكية العلمية للطبقات الإجتماعية تستوعب وجود شرائح (مثلاً: الأرستقراطية العمالية..)، أقسام - fractions (مثلاً: البورجوازية الصناعية..)، لا بل فئات إجتماعية - categories (بيروقراطية الدولة، التي يمكن أن يقابلها، بشيء من التصرف، بيروقراطية السلطة في الحالة الفلسطينية، المثقفون..)؛ لكنها لا تستوعبها كـ «مجموعات إجتماعية» خارج الطبقات، إنما كجزء مكوّن منها: فالأرستقراطية العمالية هي جزء من الطبقة العاملة، والبورجوازية الصناعية هي جزء من البورجوازية، والمثقفون هم مثقفون عضويون لطبقة بعينها، الخ..

إن الشرائح، الأقسام، والفئات الإجتماعية تنتمي، كمكّونات، إلى إحدى الطبقتين الأساسيتين في المجتمع الرأسمالي (أي المجتمع القائم على أساس من غلبة نمط الإنتاج الرأسمالي): البورجوازية (التي تملك الرأسمال بشكليه السائل والعيني – وسائل الانتاج، إلى جانب وسائل التداول)، والطبقة العاملة (التي لا تملك سوى قوة عملها).

وفيما عدا ذلك، هنالك البورجوازية الصغيرة (أو الفئات الوسطى) التي لا يُخرجها عدم إنتمائها إلى إحدى هاتين الطبقتين الأساسيتين من آلية التقاطب بينهما، التي تسري – وإن بدرجات متفاوتة - على جميع فئات البورجوازية الصغيرة (الفئات الوسطى)، وينعكس عليها أيضاً التناقض الأساسي القائم بين رأس المال والعمل المأجور■

(3)

في التشكيلة الإقتصادية - الإجتماعية

1-■ تُطبق النظرية الماركسية للطبقات الإجتماعية على حالة مجتمعية ملموسة، تتمثل بـ «التشكيلة الإقتصادية - الإجتماعية» القائمة في مجتمع ما، بدرجة معيّنة من تطوره التاريخي، حيث يتعايش داخل هذه التشكيلة ويتمفصل أكثر من نمط إنتاجي (لا سيما في بلدان العالم الثالث)، يكون أحدها – أي نمط (أو أسلوب) الإنتاج الرأسمالي – هو المهيمن. ويلتقي في التشكيلة الإقتصادية – الإجتماعية بناءان:

■ بناء تحتي يُختزل بنمط الإنتاج، وهو الوحدة الملموسة تاريخياً لقوى الإنتاج والعلاقات الإجتماعية للإنتاج التي تنشأ بين البشر (كمجموعات) في سياق عملية الإنتاج (وكذلك التداول).

■ بناء فوقي يُختزل بالمؤسسات السياسية والقضائية (في إطار الدولة بالأساس، لكن أيضاً خارجها)، والعلاقات الأيديولوجية.. كما وأشكال الوعي الإجتماعي التي تقابلها والمؤسسات الحاملة لها، أي منظومة الأفكار السياسية والفلسفية والحقوقية والسلوكية والجمالية.. فضلاً عن المعتقدات الدينية..

2- إلى ما سبق، نضيف الملاحظات التالية:

■ عناصر البناء الفوقي ليست مرتبطة بالبناء التحتي على نحو متماثل، فعناصر مثل الدولة والقانون أقرب إلى البناء التحتي، بينما العناصر الأخرى هي أبعد عن البناء التحتي.

■ على تمايزهما – بالدرجة والنوع – يتسم التلاقي بين البنائين التحتي والفوقي، في دائرة التشكيلة الإقتصادية – الإجتماعية الواحدة، بالتداخل في جوانب معينّة، فالدولة – على سبيل المثال – لها دور رئيسي في الجانب الإقتصادي، تتدخل وتؤثر فيه بشكل مباشر، كلما إقتضى الأمر، وهكذا..

■ محرك التشكيلة الإقتصادية – الإجتماعية يتأسس على مجموع التناقضات ما بين البنائين التحتي والفوقي. وفي هذا الإطار يعود الدور الأساسي إلى البناء التحتي، والدور الحاسم إلى بعض مكونات البناء الفوقي، ومجرى التاريخ بوقائعه، يؤكد ذلك: إن أي تحول بالعمق في نمط الإنتاج لا يمكن أن يقع ويأخذ مداه كاملاً قبل إمساك قوى التغيير (القوى الثورية، أو القوى الإجتماعية الصاعدة) بمقاليد السلطة السياسية (التي تنتمي وتتحرك على مستوى البناء الفوقي)، أي السلطة السياسية بما هي مفتاح للتحول الجذري.

■ فيما سبق لا يجب أن يفوتنا للحظة واحدة أن العلاقة بين مالك أدوات الإنتاج من جهة، والمنتِج المباشر (العامل) من جهة أخرى، هي التي تحدد – بالنتيجة – الشكل الذي تتخذه الدولة. وهذا ليس فقط لأن نمط الإنتاج هو الذي يحدد شكل جميع العلاقات الأخرى، بل لأن نمط الإنتاج يشكل القاعدة لنسبة القوى القائمة بين الطبقات التي تنعكس بشكل مكثف على المستوى السياسي (في البناء الفوقي).

3-■ إن الهدف الرئيسي من المقاربة الإجتماعية الطبقية هو تفسير حالة، وتعيين دور مختلف الطبقات الفاعلة في مجرى العملية الوطنية، أي في الصراع السياسي  بكل أبعاده (الإقتصادية، الإجتماعية، الفكرية..)، ما يعني، في الحالة الفلسطينية تحديداً، وبشكل رئيسي، الصراع مع إسرائيل والمشروع الصهيوني.

هذا ما يضطلع به البرنامج السياسي عندما يعيّن موقع ودور القوى الطبقية الفلسطينية في هذا الصراع، وبالحدود التي تقتضيها التعبئة القصوى لطاقات الشعب، بما فيها – خاصة - رسم الخطوط الرئيسية للتحالفات الواجبة بين مختلف القوى الإجتماعية■

2013

في دينامية البنية الإجتماعية الطبقية

القوى الإجتماعية المحركة للثورة الوطنية التحررية

[■ تعريف الطبقات الإجتماعية إنطلاقاً من الموقع في عملية الإنتاج (والتداول)، أي ضمن الدائرة الإقتصادية والدور الإقتصادي كأساس وأولوية، لا يكفي لتعريف الطبقات وتحديد موقعها، فثمة دور رئيسي تلعبه في هذا الإطار المنظومة الفكرية والسياسية والثقافية، الخ.. أي باختصار البنية الفوقية. وبالتالي، فإن التحليل الطبقي لا يقتصر على المعيار الإقتصادي (الذي يبقى هو الأساس)، بل يشمل أيضاً معايير أخرى سياسية وفكرية وثقافية، الخ...، كما أنه يأخذ بالإعتبار واقع التداخل والتعايش والصراع في مجتمع يتجاور فيه، ويتداخل، أكثر من نمط انتاجي (رأسمالي وما قبل رأسمالي).

■ إنطلاقاً مما ورد في البرنامج السياسي (الفصل الأول، المقطع 4، الفقرات 2 إلى 8)، نقدم فيما يلي مقاربة لنوعية ودينامية العلاقة بين مختلف القوى الإجتماعية الطبقية الفلسطينية، وبين المهام المرحلية التي يتضمنها البرنامج الوطني التحرري. هذه الدراسة البنيوية بأدوات التحليل المنهجي للنظرية الإشتراكية العلمية، لا تعفي، ولا تحل مكان الدراسة الإمبريقية الميدانية - العينية  الموثقة، التي استندنا إلى بعض معطياتها في هذه الدراسة:]

(1)

الكومبرادور والبورجوازية الوطنية

1–■ الكومبرادور هو ذلك القسم من البورجوازية، التي لا تملك قاعدة خاصة بها للتراكم الرأسمالي، والتي تنشط كـ «وسيط» للرأسمال الإمبريالي الدولي (الخارجي) مع النخبة البيروقراطية (في السلطة السياسية القائمة) المندمجة مع الرأسمال الطفيلي على حساب نهب موارد المجتمع المنتج.

فيما يتعلق بموقع ودور هذه الشرائح الإجتماعية، ينص البرنامج السياسي في فصله الأول (المقطع4)، على مايلي: «2- إن شرائح ضيِّقة من البورجوازية الطفيلية والكومبرادورية والفئات البيروقراطية المندمجة فيها، بحكم تشابك المصالح بينها وبين رأس المال الإحتكاري الدولي من جهة، واندماجها في البورجوازيات العربية النظيرة من جهة أخرى، هذه الشرائح إنما تجد مصلحتها في التساوق مع مشاريع الحلول، والحلول التي تمس بمصالح الشعب الفلسطيني أو تنتقص من حقوقه الوطنية. ومن هذا الموقع فإن تلك الشرائح تميل إلى المهادنة مع الإحتلال والإرتهان لإملاءاته».

2-■ تتميّز البورجوازية الوطنية عن الكومبرادور بامتلاكها قاعدة خاصة للتراكم الرأسمالي، لكنها قاعدة متداخلة – وإن بدرجات – مع الرأسمال الخارجي (الإمبريالي بشكل رئيسي، وكذلك غيره)، ما يؤثر على الأساس المادي لاستقلالها السياسي، دون أن يلغي تناقضها مع هذا الخارج، سيما في الجوانب المتعلقة بالقضية الوطنية.

إلى هذا، تعاني البورجوازية الوطنية الفلسطينية من واقع الإحتلال، الجاثم أيضاً على صدرها بشروطه السياسية والإقتصادية، التي تقوّض مرتكزات دورها الإقتصادي، وتضيّق أمامها – هذا إن لم تكن تُغلق - آفاق النمو والتطور.

وأخيراً، فإن البورجوازية الوطنية تتحرك ضمن شروط التعايش مع الكومبرادور، المتنفذ سياسياً والمقتدر إقتصادياً، بفعل إنتمائه إلى الدائرة المؤثرة في القرار على مستوى السلطة السياسية.

3-■ بفعل هذه العوامل مجتمعة، لا تنطبق على بورجوازيتنا الوطنية المواصفات المفترضة للبورجوازية الوطنية في البلدان المستقلة، لجهة إستقلالها السياسي، المبني على الإستقلال الإقتصادي النسبي (مع التشديد على «النسبي» الذي ينطبق في عصر العولمة  على البورجوازيات الوطنية في البلدان النامية – وحتى متوسطة النمو – مع نزوع شرائح منها إلى التحول الكومبرادوري).

■ ومع ذلك، فإن التقاء «قاعدة التراكم الخاصة»، حتى بالقيود المذكورة، مع الملف الملتهب للقضية الوطنية، حيث يتهدد الإحتلال والإستيطان الوجود والمصير، يجعل البورجوازية الوطنية الفلسطينية تحمل موقفاً سياسياً مستقلاً نسبياً (وليس تابعاً) بالمضمون الوطني المتعارف عليه، وبأهدافه المعلنة.

إن ميول المساومة والتذبذب السياسي – موقفاً ومسلكاً – لهذه الطبقة، تعكس ضعف ثقتها بقدرتها على الفعل السياسي، على خلفية إدراكها لضعف قاعدتها الإقتصادية، ما يجد إمتداده في افتقارها  للثقة بقدرات الحركة الجماهيرية. لكن هذا النزوع التراجعي – واضح المعالم وسط بعض شرائحها – لا يلغي موقعها في البنية الفكرية والسياسية القائمة، الذي يعبّر – بالمحصلة – عن وحدة موقفها كطبقة بإزاء القضية الوطنية.

4-■ إنطلاقاً من كل هذا، ينص البرنامج السياسي  في فصله الأول (المقطع4)، على مايلي: «3- لعبت البورجوازية الوطنية، المستقلة نسبياً عن الإمبريالية، دوراً هاماً في قيادة الحركة الوطنية لشعبنا داخل الوطن وخارجه، ولكن هذه الطبقة، في ظل الهيمنة الإمبريالية الكونية، تفتقر إلى أفق تاريخي مفتوح لتطورها، وهي محكومة إما بالأفول، أو بالتحول المضطرد إلى موقع كومبرادوري، وبالرغم من أهمية مشاركتها في النضال الوطني المناهض للإحتلال، ولذلك تتفشى في صفوفها نزعات المساومة والتذبذب، وتفتقر إلى الثقة بالطاقات والمبادرات الثورية للجماهير الشعبية، وتبدي بعض شرائحها ميلاً متزايداً للتراجع أمام الضغوط الإمبريالية، وتنتشر في أوساطها الإتجاهات الإنهزامية»■

(2)

الفئات الوسطى (البورجوازية الصغيرة)

■ في النظرية الإشتراكية العلمية (الماركسية) للطبقات الإجتماعية، يُستخدم على نطاق واسع (ولكن ليس من قبل جميع من يعتمد هذه النظرية) مفهوم/ مصطلح/ تعبير «البورجوازية الصغيرة»، كما و«الفئات الوسطى» بنفس المعنى؛ فهما يغطيان نفس المساحة الطبقية بتكويناتها، ويجملان نفس الفئات الإجتماعية التي، بدورها، تندرج تحت عنوانين رئيسيين:

1-■ الفئات الوسطى (البورجوازية الصغيرة) التقليدية، التي تشمل أصحاب الإنتاج الصغير، والملكية الصغيرة، وصغار التجار والفلاحين...، حيث الإعتماد – بمثال الحالة الفلسطينية – على عدد قليل من العاملين (من الأسرة تفضيلاً، لكن أيضاً من خارجها)، وتوجه الإنتاج إلى السوق المحلي، والنشاط في ما يعرف بـ «الإقتصاد غير المنظم»، القائم على الإستخدام بدون عقود عمل، وما يترتب على ذلك..

■ بشكل عام، فإن هذه الفئات المتكئة أساساً إلى نمط الإنتاج السلعي الصغير، هي من موروث نمط الإنتاج ما قبل الرأسمالي الحديث، وتنسب إلى التشكيلات الإقتصادية – الإجتماعية القائمة، التي يتعايش فيها أكثر من نمط إنتاجي تحت مظلة نمط الإنتاج الرأسمالي وهيمنته.

إن المنحى العام للتطور يشير إلى تراجع هذه الفئات وأفولها؛ لكنها في البلدان النامية تحافظ – مع تراجعها – على وجودها، على قاعدة أن أنماط الإنتاج المتعايشة في مجتمع واحد (تشكيلة إقتصادية – إجتماعية واحدة)، تتفاعل فيما بينها من خلال معادلة التعاون والصراع..، مع الإشارة إلى أن تعدد أنماط الإنتاج قد يتجسد في بعض القطاعات الإقتصادية أكثر من غيرها، وفي بعض المجتمعات المحلية أكثر من غيرها، الخ..

2-■ الفئات الوسطى (البورجوازية الصغيرة) الحديثة، التي تشمل أصحاب المهن الحرة، المعلمين، أصحاب ما يسمى بالرأسمال الثقافي (أي حاملي شهادات الإختصاص على أنواعها)، التكنوقراط، العاملين براتب في القطاعين العام والخاص، وفي مؤسسات المجتمع السياسي، والمدني، والأهلي، وفي مؤسسات البنية الفوقية عموماً..

المنحى العام في المجتمعات التي يسودها نمط الإنتاج الرأسمالي، هو اتساع حجم ودور هذه الفئات الوسطى، لارتباطها المباشر بتلبية متطلبات بناء وتطوير مؤسسات الدولة الحديثة، بتطور الصناعات والتكنولوجيا، بتوسيع أطر المجتمع المدني، بنمو المدن وزيادة عدد سكانها، بالإحتياجات المتعاظمة لتقديمات قطاع الخدمات..

3-■ هذا ما ينطبق أيضاً على الحالة الفلسطينية، سيّما بعد قيام السلطة الفلسطينية بمؤسساتها، وانتشار مكونات المجتمع المدني والمؤسسات الأهلية، واتساع نطاق التعليم العالي، وقطاع الخدمات الذي ينمو بالتداعي مع توسيع دائرة العاملين في المجالات آنفة الذكر.

إن هذه المجتمعات تشهد – بشكل عام – زيادة في عدد العاملين براتب، لتمييزهم عن العاملين بأجر، الذي ينطبق على الطبقة العاملة، وبالتحديد على شرائحها المنخرطة في ما يسمى بـ «العمل المنتج» ، أي العمل الذي يُستخلص منه فائض القيمة بشكل مباشر، الأمر الذي لا  ينطبق على «العمل غير المنتج». إن إستخدام هذين المصطلحين لا يشكل حكم قيمة على أيٍ منهما، فـ «العمل غير المنتج»، وإن لم ينتج فائض قيمة بشكل مباشر، فهو من صلب «التقسيم الإجتماعي للعمل» الذي بدونه لا تدور عجلة الإنتاج■

(3)

الفئات الوسطى ليست طبقة متجانسة

1–■ مما تقدم، يتضح أن الفئات الوسطى (البورجوازية الصغيرة) ليست طبقة متجانسة، بالإمكان التعاطي مع تمايزاتها من خلال توزيعها على شرائح وفئات وأقسام، كما هو حال البورجوازية أو الطبقة العاملة، لأن هذا التوزيع في مكان ما يحتاج إلى توضيح لمرجعيته – الأصل، باعتبار أن الشرائح هي شرائح لطبقة، والأقسام هي أقسام لطبقة، والفئات هي فئات لطبقة..؛ وهذه الإحالة إلى المرجعية - الأصل تستلزم بدورها تطبيق المعيار – الأساس في تعريف الطبقات الإجتماعية، الذي يتمثل بتحديد العلاقة مع وسائل الإنتاج (المثبتة والمصاغة بقوانين في الغالب)، ما يقود، في حال تطبيق هذا المعيار وحده على البورجوازية الصغيرة، إلى وضعها على سوية الطبقة العاملة التي تتشارك معها في عدم إمتلاك وسائل الإنتاج، الأمر الذي يوصلنا إلى الفوضى في المفاهيم والمصطلحات.

2-■ إن تجنب هذا السيناريو الإفتراضي بما يقود إليه، والذي أوردناه لتوضيح الفكرة ليس إلا، يجعلنا نعود إلى أصل تعريف الطبقات الإجتماعية في النظرية الإشتراكية العلمية التي، وإن اعتبرت علاقة مجموعة من الفاعلين الإجتماعيين بوسائل الإنتاج (من زاوية ملكيتها القانونية من عدمها) هي الأساس في تعريف الطبقات ودورها، فإنها تقيم العلاقة بين هذا المقياس – الأساس ومجموعة أخرى من المقاييس، تلعب كلها، أو بعضها، دوراً فائق الأهمية بتحديد دور الطبقة في الصراع السياسي، والتغيير الإجتماعي، الخ.. وتتحدد هذه المقاييس (في إطار ومع المقياس - الأساس) بما يلي:

أ) الدور في التنظيم (أو التقسيم) الإجتماعي للعمل (من يقوم بالعمل الإداري، أو الفني، أو التكنوقراط الذي يحوز سلطة القرار والتأثير في الرأسمال العيني، أكانت وسائل الإنتاج أو غيرها، دون أن يكون على علاقة ملكية بها).

ب) طرق الحصول على حصة في الثروة الإجتماعية وحجم تلك الحصة.

ج) المكانة المعنوية أو الإجتماعية التي تعود إلى وظائف بعينها (حتى في حال عدم توازن الراتب معها).

■ الخلاصة: إذ يلعب العامل الإقتصادي الدور الأساس في تحديد الطبقات ودورها، فإن العامل السياسي والفكري وما ينتسب إلى البناء الفوقي، يلعب دوراً فائق الأهمية. إن التحليل الطبقي (إلى جانب المقياس الإقتصادي الذي يبقى هو الأساس)، يعتمد مقاييس سياسية وغيرها، قد تكون حاسمة في سياقات معيّنة،  برسم الإصطفافات الإجتماعية.

3–■ الفئات الوسطى لا تقيم في مجال علاقات الإنتاج، الذي هو الأساس في نمط الإنتاج الرأسمالي، وإنما في مجال علاقات التوزيع، ما يضع هذه الفئات في حقل الإستقطاب بين القوتين/الطبقتين - الأساس في نمط الإنتاج المهيمن (البورجوازية من جهة، والطبقة العاملة، من جهة أخرى)، ويؤدي إلى انحياز أجزاء معينة من الفئات الوسطى إلى أحد القطبين لاعتبارات تتجاوز قدرتنا على حصرها، لكن منها، وأكثرها دلالة، على سبيل المثال: إنحياز الفئات العليا من البورجوازية الصغيرة الحديثة إلى البورجوازية، وبالمقابل إنحياز الفئات الدنيا منها إلى الطبقة العاملة..

■ غير أن هذه الإنحيازات لا تعني أن الفئات الوسطى تتوزع بكامل «ملاكها» على القطبين (الأدق: على الممثلين السياسيين للقطبين)، فآلية الإنحياز هي إحدى ديناميتين قائمتين، حيث تتمثل الأخرى باحتفاظ الفئات الوسطى على جسم معين خارج الإستقطاب الثنائي، لا يفقدها عدم قدرتها على اجتراح برنامج للكل الوطني (كما هو الحال في الساحة الفلسطينية)، لا يفقدها دورها كقوة رئيسية، كفاعل رئيسي في المجتمع.

إن التكتيك الصحيح، الذي ينبغي أن يتبعه اليسار الفلسطيني في التعاطي مع الفئات الوسطى، يقوم على ركيزتي الإجتذاب (التي تقنع أفرادها بجدوى النضال تحت راية اليسار، ما يفترض أيضاً أن يدقق اليسار ببرنامجه، وأسلوب عمله وعلاقاته الداخلية)، والتحالف (ما يفترض القدرة على إجتراح أشكال وبرامج تصلح كقاعدة للعمل المشترك).

4–■ إن دينامية الإستقطاب التي تولد تعدد الإصطفافات داخل الفئات الوسطى، هي التي تفسر تعدد المصطلحات التي تطلق عليها. ومن جهتنا، نحن لا ننحاز لصالح تسمية دون غيرها، طالما أنها تضمن التعاطي مع الفئات الوسطى تحت عنوان واحد، لا يتجاهل أو يقفز، عن التمايزات الكبيرة القائمة – موضوعياً – في صفوفها؛ ذلك أننا في الحالة الفلسطينية، نقف أمام كتلة إجتماعية وازنة، وفاعلة في النضال الوطني والإجتماعي وفي المجتمع الفلسطيني عموماً (ليس أقل من 40% موزعة تقريباً بالتساوي بين الجناحين التقليدي والحديث)، يجدر الإنفتاح السياسي عليها بأقصى ما يمكن، إنما ضمن الحدود التي لا تؤدي إلى تمييع الهوية الطبقية والفكرية لليسار.

■ إن أي من مصطلحي الفئات الوسطى والبورجوازية الصغيرة يؤدي الغرض و يوفر المطلوب، لكن المشكلة تكمن فيما يلي: إن بعض الأوساط باتت تطلق مصطلح «البورجوازية الصغيرة» على الجناح التقليدي من هذه الكتلة الإجتماعية، بينما خصَّت الجناح الحديث بمصطلح «الطبقة الوسطى»، أو (كما هو الحال في بعض البلدان الرأسمالية المتطورة) «الشرائح البينية الإجيرة»، أو «الإنتلجنسيا التقنية».. من هنا إيثارنا لمصطلح «الفئات الوسطى» منعاً لأي إلتباس، ودرءاً لسلبيات إختلاط الألوان وتداخلها■ 

(4)

موقع الفئات الوسطى في البرنامج السياسي للجبهة الديمقراطية

■ منذ اعتماد البرنامج السياسي للجبهة الديمقراطية بصيغته الأولى عام 1975، وبعد التعديلات/ التدقيقات التي أُدخلت على صيغة البرنامج في محطات مؤتمرية متتابعة (1981، 1994، 2006، 2013، 2018)؛ تطورت بالمنحى الإيجابي الصاعد، صيغ مقاربة دور الفئات الوسطى في العملية الوطنية. وفيما يلي – تأكيداً لهذا المنحى- قراءة مقارنة للنصوص المعتمدة في المحطات الثلاث الأخيرة (2006، 2013، 2018):

1-■ تنص صيغة البرنامج السياسي- 2006 للفقرة المتعلقة بالبورجوازية الصغيرة على ما يلي:
«4- تؤدي البورجوازية الصغيرة بشرائحها المختلفة دوراً حيوياً وفعالاً في مجرى الثورة الوطنية التحررية وتشكل إحدى قواها المحركة الرئيسية. ولكنها تفتقر إلى التجانس الداخلي الذي يمكّنها من احتلال موقع الطليعة الطبقية  للثورة. إن موقعها الوسطي الرجراج بين سائر الطبقات، يحول دون تكوين رؤية واقعية سليمة لنسبة القوى، تمكنها من بلورة برنامج نضالي ملموس لتعبئة جماهير الشعب تحت قيادتها. وهي تستعيض عن ذلك بشعارات التطرف والمغامرة والرفض اللفظي لواقع الإضطهاد والتشرد من جهة، والإنكفاء إلى الإحباط من جهة أخرى».

2-■ بينما تنص الصيغة المعتمدة في البرنامج السياسي – 2013، بعد إجراء تعديلات ذات مغزى على الصيغة أعلاه، على ما يلي:

«4- تؤدي الفئات الوسطى بشرائحها المختلفة دوراً حيوياً وفعّالاً في مجرى الثورة الوطنية التحررية، ولكنها تفتقر إلى التجانس الداخلي الذي يمكّنها من إحتلال موقع الطليعة الطبقية للثورة. إن موقعها البيني الرجراج حيال سائر الطبقات، إذ يحد من قدرتها على بلورة  برنامج نضالي ملموس لتعبئة جماهير الشعب تحت قيادتها، فإنه لا ينال من حقيقة كون الفئات الوسطى إحدى القوى الإجتماعية الرئيسية المحركة للثورة».

3-■ بالمقارنة ما بين النصين يتضح مايلي:

أ) تلتقي الصيغتان (2006 و 2013) عند الدور الحيوي والفعّال للبورجوازية الصغيرة (الفئات الوسطى) في مجرى الثورة الوطنية التحررية، ما يجعلها إحدى القوى الإجتماعية الرئيسية المحركة للثورة، كما تتفقان على افتقار الفئات الوسطى (البورجوازية الصغيرة) إلى التجانس الداخلي الذي يمكنها من احتلال موقع الطليعة الطبقية للثورة.

ب) بالمقابل تتباين الصيغتان فيما تستخلصانه من الموقع الوسطي (البيني) للبورجوازية الصغيرة (الفئات الوسطى) بين سائر الطبقات؛ ففي حين تقطع صيغة – 2006 بأن احتلال هذا الموقع «يحول دون رؤية سليمة لنسبة القوى تمكن البورجوازية الصغيرة من بلورة برنامج نضالي ملموس لتعبئة جماهير الشعب تحت قيادتها»، تكتفي صيغة – 2013 بتسجيل أن هذا الموقع الوسطي «يحد من قدرة» الفئات الوسطى على بلورة هذا البرنامج، ليس إلا.

ج) كما تبتعد صيغة – 2013 تماماً عن صيغة – 2006، التي اعتبرت أن البورجوازية الصغيرة «تستعيض» عن عدم تمكنها من بلورة البرنامج النضالي العتيد «بشعارات التطرف والمغامرة والرفض اللفظي لواقع الإضطهاد والتشرد من جهة، والإنكفاء إلى الإحباط من جهة أخرى» باعتبار أن هذا المسلك السياسي، حتى لو حصل في ظرف بعينه، فإنه لا يمكن أن يعمم على جميع شرائح البورجوازية الصغيرة، كما أنه لا يسري على أيٍ من فئاتها وشرائحها في كل زمان ومكان.

4-■ تستعيد صيغة البرنامج السياسي – 2018، في موضوع «الفئات الوسطى» نفس الصيغة التي وردت في البرنامج السياسي - 2013، لكنها تضيف إليها فقرة كاملة عن دور «الفلاحين والمزارعين»، التي كانت غائبة عن الصيغ السابقة لمقطع «القوى الإجتماعية المحركة للثورة الوطنية التحررية»، فقرة تنص على مايلي:

«.. ويبرز هنا، بشكل خاص، دور الفلاحين والمزارعين الذين يتعرضون للسحق والتدمير بفعل هيمنة إسرائيل الإقتصادية وتحكمها بالسوق ومصادر المياه والأرض وتوسعها الاستيطاني، الأمر الذي يجعلهم قوة إجتماعية ذات طاقة ثورية مهمة في مجرى النضال الوطني التحرري»■

(5)

الطبقة العاملة والتحالفات

1–■ في الصيغ الثلاث (2006، 2013، 2018) تؤكد الفقرة 5 على عاملي التنظيم والدور النضالي للطبقة العاملة في «توفير شروط تمكينها من الإضطلاع بدورها المطلوب موضوعياً (كطبقة) في مسار الثورة الوطنية التحررية»؛ لكن على خلاف صيغة – 2006، فإن صيغتي – 2013 و 2018 لا تعتبران هذا «شرطاً رئيسياً من شروط النصر»، لطبيعة هذا الشرط التكهنية، الإفتراضية، الذي ينطوي على نزوع حتموي يُفَضَّلْ عدم الوقوع في محذوره. إن التأكيد على صحة هذه المقولة التي تعتبر الدور النضالي للطبقة العاملة «شرطاً رئيسياً من شروط النصر» ربطاً بدورها القيادي، أو الدور المتقدم (الطليعي) لقيادتها السياسية، وذلك إنطلاقاً من تجربة عديد حركات التحرر الوطني، إنما ليس بالضرورة أن يسري على جميع الحالات، كما تؤكد أيضاً تجارب حركات تحرر وطني أخرى في هذا المضمار.

2–■ على خلاف الفقرات الآنف ذكرها، المتعلقة بموقع ودور القوى الطبقية في الثورة الوطنية التحررية (الكومبرادور، البورجوازية الوطنية، الفئات الوسطى)، تربط الفقرة 5 بين موقع ودور الطبقة العاملة في العملية الوطنية من جهة، وبين التحالفات التي تعقدها، من جهة أخرى، تأكيداً على مسئوليتها الوطنية الخاصة في هذا المجال.

إن الدور القيادي  للطبقة العاملة لا يكون إلا من خلال، وربطاً بـ «تحالفها الديمقراطي الوطيد» مع «القوى الإجتماعية الديمقراطية»: العمال والفئات الوسطى (ومن ضمنهم الفلاحين) وسائر الكادحين + أوسع قطاعات المرأة والشباب.

في هذا الإطار جرى توسيع مكونات التحالف من تحالف يقتصر على «الطبقة العاملة وفقراء الفلاحين وسائر الكادحين» الذين أُضيفت إليهم – في سياق لاحق – «الشرائح المتقدمة من البورجوازية الصغيرة»، كما ورد في صيغة 2006، إلى تحالف يضم إلى هؤلاء «الفئات الوسطى (وليس فقط شرائحها المتقدمة) وسائر الكادحين، فضلاً عن أوسع قطاعات الشباب والمرأة»، في صيغتي 2013 و 2018.

3-■ إن توسيع مكوّنات التحالف إستتبع نقلة من صيغة التحالف الديمقراطي الثوري (أي التحالف اليساري الأقرب إلى موقع القوى التي تسترشد بالإشتراكية العلمية)، كما ورد في صيغة 2006، إلى التحالف الديمقراطي، أو تحالف القوى الديمقراطية، كما ورد في صيغة 2013، ومن ثم إلى «تحالف القوى الإجتماعية الديمقراطية من عمال وفلاحين وفئات وسطى وسائر الكادحين فضلاً عن أوسع قطاعات المرأة والشباب»، كما في صيغة 2018، ذي القاعدة الإجتماعية الأعرض، الذي يشكل، والحال هكذا، «الضمانة الأكيدة لتوطيد الجبهة الوطنية المتحدة وضمان إلتزامها الثابت بالبرنامج الوطني» (الفقرة 7)■

2013

حول مفهوم «الديمقراطية الثورية»

(1)

بين الأحزاب العمالية الأحزاب الديمقراطية الثورية

1–■ من الزاوية النظرية إرتبط مفهوم الديمقراطية الثورية، سواء في العملية التنظيمية الحزبية، أو في إدارة المجتمعات والقوى الطبقية المحركة للعملية الثورية فيها، إرتبط هذا المفهوم بمستوى التطور السياسي والثقافي والإجتماعي– الإقتصادي لهذه المجتمعات.

وكان مستوى التطور هذا هو العامل الحاسم أساساً في تحديد المحتوى النظري والعملي لمفهوم الديمقراطية الثورية؛ ففي بلد صناعي نمت فيه الطبقة العاملة وتبلورت وتطورت مزاياها الإجتماعية والإقتصادية إلى الحد الذي انقسم فيه المجتمع إلى طبقتين أساسيتين (تجسدان التناقض الأساسي القائم بين رأس المال والعمل المأجور)، هما الطبقة العاملة والبورجوازية، كان من الطبيعي أن يتشكل في المجتمع حزب للطبقة العاملة، أي حزب تشكل الطبقة العاملة قاعدته الإجتماعية الأوسع في مواجهة البورجوازية وتعبيراتها السياسية المنظمة.

كان هذا هو الحال في البلدان الأوروبية، حيث حلَّ أسلوب الإنتاج الرأسمالي مكان أسلوب الإنتاج الإقطاعي بدءاً من نهاية ق 18، وحيث إنتشرت الثورة البورجوازية الديمقراطية في هذه البلدان منذ انتصار الثورة الفرنسية- 1789.

■ في حينها كانت تتحطم تشكيلة إجتماعية – إقتصادية، هي التشكيلة الإقطاعية، ليحل مكانها تشكيلة جديدة هي التشكيلة الرأسمالية، التي برز فيها دور البورجوازية كطبقة متجانسة وموحدة في قيادة التحول الثوري الرأسمالي. كانت الطبقة البورجوازية في حينها طبقة ديمقراطية، وكانت ثورية أيضاً، وكانت شعاراتها تدل على ذلك بوضوح، إذ كانت تدافع عن الحرية والإخاء والمساواة، من خلال نضالها في سبيل تحرير قوة العمل من قيود النظام الإقطاعي، الذي كان يكبح تطور القوى المنتجة وتطور علاقات الإنتاج. وقد وجدت البورجوازية، آنذاك في الطبقة العاملة الناشئة، وفي الفلاحين بشكل عام، حليفاً لها في صراعها المصيري ضد الإقطاع.

2–■ مع التطور المتسارع، الذي شهده أسلوب الإنتاج الرأسمالي، وعبّر عن نفسه بتطور أوضاع القوى العاملة والتطور الهائل للقوى المنتجة، التي – بدورها – إكتسبت صفة إجتماعية على نطاق واسع، كان التمركز في أوضاع قوى وعلاقات الإنتاج يشق طريقه ليفتح صفحة جديدة في تاريخ المجتمعات البشرية.

■ لقد ترتب على هذا التمركز وخاصة في القطاع المالي، أي المؤسسات المالية المصرفية، تفاوت واسع في مستوى التطور الإجتماعي – الإقتصادي على النطاق العالمي. ولعبت الكولونيالية والإمبريالية دوراً متعاظماً في تكريس ذلك التفاوت الواسع، الذي لازالت آثاره قائمة حتى يومنا هذا، بين البلدان الرأسمالية، البلدان التي شقَّت فيها الرأسمالية طريقها في وقت مبكر، والبلدان التي حجزت الكولونيالية والإمبريالية آفاق تطورها الرأسمالي المستقل.

■ في المجتمعات التي حسمت فيها البورجوازية سيطرتها ووطدت سلطتها على نحو حاسم، وفي مرحلة مبكرة من التطور الرأسمالي، باتت المجتمعات الرأسمالية تنقسم إلى طبقتين أساسيتين هما: البورجوازية، من ناحية، والبروليتاريا، من ناحية ثانية، وتأسست على قاعدة هذا الإنقسام أحزاب تدافع عن الرأسمالية هي الأحزاب البورجوازية، وأحزاب تدافع عن الطبقة العاملة وحقوقها ومصالحها هي الأحزاب العمالية والشيوعية.

■ وكان ظهور الأحزاب العمالية والشيوعية أمراً طبيعياً، أي نتيجة طبيعية لحالة التناقض التي انتهجها التطور الرأسمالي في البلدان الرأسمالية، وهو تناقض بين الصفة الإجتماعية للإنتاج وبين علاقات الإنتاج القائمة على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. في هذه المجتمعات لم تتشكل الأحزاب الديمقراطية الثورية، موضوع بحثنا، فمستوى التطور الإجتماعي – الإقتصادي لم يطرح هذه المسألة أصلاً■

(2)

التشكيلة الإقتصادية – الإجتماعية

التي تقوم عليها الأحزاب الديمقراطية الثورية

1-■ في أية مجتمعات كان تشكيل الأحزاب الديمقراطية الثورية إذن ضرورة موضوعية؟ وأية قوى إجتماعية كان لها مصلحة في تشكيل أحزاب كهذه؟ وعن أية مصالح طبقية كانت تدافع هذه الأحزاب؟ وما صلة هذه الأحزاب بالأحزاب العمالية والشيوعية؟ وهل تملك هذه الأحزاب طاقة ذاتية للتحول إلى أحزاب تسترشد بالإشتراكية العلمية؟ وهل تستطيع هذه الأحزاب قيادة العملية الثورية في بلدانها، أو مجتمعاتها، وبأية برامج سياسية وثقافية وإجتماعية – إقتصادية ينبغي على هذه الأحزاب أن تعمل، وهي تقود العملية الثورية؟

وفي الإجابة على هذه الاسئلة يتحدد المدخل الأنسب لتعريف مفهوم «الديمقراطية الثورية».

2-■ إذا كان تطور الرأسمالية في البلدان الصناعية قد شكل نفياً لضرورة تشكيل أحزاب ديمقراطية ثورية، حيث تجاوزت التشكيلة الإجتماعية – الإقتصادية لهذه البلدان تلك الضرورة، فمن البديهي أن يتوجه الإهتمام في معالجة مسألة «الديمقراطية الثورية» إلى البلدان، التي تأخر فيها التطور الرأسمالي، أي إلى البلدان التي خضعت بشكل مباشر، أو غير مباشر للسيطرة الإمبريالية.

■ إن تطور الرأسمالية في البلدان الصناعية قد نفى ضرورة تشكيل أحزاب ديمقراطية ثورية، لأن المجتمع قد انقسم في وقت مبكر من الثورة البورجوازية الديمقراطية إلى طبقتين أساسيتين: هما البورجوازية والطبقة العاملة؛ ومثلما كان للبورجوازية في هذه البلدان أحزابها، فقد كان للبروليتاريا – بشكل، عام ومع بعض الإستثناءات – هي الأخرى أحزابها، أي الأحزاب العمالية والشيوعية والتي عُرفت حتى نهاية الحرب العالمية الأولى- 1918، بأحزاب الإشتراكية – الديمقراطية.

3-■ بالمقابل، ففي البلدان التي تأخر فيها تطور الرأسمالية بسبب خضوعها المباشر وغير المباشر للإمبريالية، فإن الإنقسام الطبقي في المجتمع – بمعناه الحديث – كان في بداياته. وخير ما يشهد على ذلك تعايش أنماط إنتاجية عدة في إطار التشكيلة الإجتماعية - الإقتصادية القائمة في البلد الواحد.

وبشيء من الإختزال تتمثل هذه الأنماط الإنتاجية، التي تتداخل فيما بينها، بمايلي:

أ) نمط الإنتاج ما قبل الرأسمالي في الريف، كما في المدينة؛ ب) نمط الإنتاج الرأسمالي الذي نشأ في البلدان المُستعمَرة وشبه المُستعمَرة في مرحلة إنتقال الرأسمالية إلى طورها الإمبريالي. وفي هذا نأخذ بمقياس التدرج من نمط الإنتاج الأدنى إلى نمط الإنتاج الأعلى، الذي ينعكس بالضرورة على مستوى الوعي السياسي للصراع الطبقي، لدى مختلف الفئات الإجتماعية■

(3)

التعايش والتداخل بين نمطين من الإنتاج

[ فيما يلي، نورد نماذج الإنتاج التي يندرج كل منها – على الرغم من التداخل القائم فيما بينها – في أحد نمطي الإنتاج المذكورين، مع الإشارة إلى أن هذا التصنيف بتداخلاته، إنما يجري تحت مظلة وهيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي الصاعد في مرحلته الإمبريالية:]

1– ■ نمط الإنتاج ما قبل الرأسمالي، كما تجلى في الريف، حيث سادت على نطاق واسع في عديد البلدان في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، علاقات إنتاج تجمع بين المشاعية البدائية، وبين علاقات الإنتاج الإقطاعية، وشبه الإقطاعية. وكان سكان الأرياف يؤلفون الأغلبية الساحقة في هذه البلدان التي كانت تخضع بشكل مباشر، أو غير مباشر للسيطرة الإمبريالية. وكان وضع القوى المنتجة متخلفاً للغاية ويفتقر إلى الحدود الدنيا من متطلبات التطور، حيث القاعدة التقنية بدائية في الزراعة. وفي هذا الإطار كانت تجري عملية تجديد الإنتاج في نطاق ضيق وبوتائر بطيئة.

■ في ظل هذا الوضع، كان الريف ضعيف الإكتراث بالتحولات السياسية والإجتماعية – الإقتصادية التي لا تمسه بشكل مباشر. وهكذا كان الريف حصناً للإقتصاد التقليدي (العائد إلى نمط الإنتاج ما قبل الرأسمالي)، كما وللإتجاهات المحافظة والرجعية في المجالات السياسية والإجتماعية والإقتصادية بشكل عام، ولم يكن يضطلع بدوره في عملية الصراع الطبقي.

على هذه الخلفية كان الوعي الطبقي يتطور ببطء شديد ويؤثر بدوره في إبطاء عملية الصراع الطبقي، وفي إبطاء تطور الوعي الطبقي في المدينة ذاتها بين جمهور العاملين.

2– ■ نمط الإنتاج ما قبل الرأسمالي في المدن، كما تجلى بشكل خاص في الإنتاج الحرفي، حيث يتحِّد المنتج مع وسائل الإنتاج باعتباره مالكها، ولم يكن إنتاجه السلعي يحتاج إلى تقسيم عمل يتطلب إستغلال قوة عمل الآخرين. إن هذا النمط الإقتصادي يرتبط بالسوق من خلال العلاقة المباشرة بين المُنتج نفسه والمُستهلك، أو التاجر. وليس في هذا النمط الإنتاجي قيمة زائدة (فائض قيمة)، إلا بالمعنى المُستعار، حيث تتشكل في إطاره وُرش صغيرة، محدودة العدد وضعيفة الإنتاج.

■ يبقى الأهم، في السياق، ليس التعريف بهذا النموذج ودوره في العملية الإنتاجية وموقعه في علاقات الإنتاج، بل تعيين موقعه في الصراع الطبقي في المجتمعات التي تأخر فيها تطور نمط الإنتاج الرأسمالي، أو في البلدان التي حجزت الإمبريالية، فيها زمناً طويلاً، تطور القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج الرأسمالية.

عملياً، كان إسهام القوى المنتجة (في الإنتاج الحرفي) في عملية الصراع الطبقي ضعيفاً للغاية، ومحصوراً بحدود الصراع ضد النتائج التي ترتبت على التغلغل البطيء لعلاقات الإنتاج الرأسمالي، والتي – بسبب من بطئها – لم تكن تنعكس بوضوح كافٍ، على مستوى الوعي بالعناصر الأساسية لصراع الطبقات لدى الفاعلين في الإنتاج الحرفي؛ فبقي هذا الوعي على مستوى القيم والمفاهيم الإجتماعية – محصوراً في نطاق العفوية والحرفية والفردية الأنانية، البعيدة عن مُثل وقِيم الطبقة العاملة، الناجمة عن نمط عملها، وحياتها.

3– ■ الإنتاج البضاعي البسيط والمتوسط، الذي كان يشق طريقه في بعض فروع الصناعة، وخاصة في فروع النسيج والملبوسات وفروع الصناعات الغذائية، أي في الفروع الصناعية التي كانت تزود الأسواق المحلية ببعض إحتياجاتها من السلع، أو البضائع ذات القيمة الإستعمالية العالية؛ فالحاجة إلى الملابس وإلى المواد الغذائية حاجة يومية، وعلى سلع هذه الفروع الصناعية يُقبل أفراد المجتمع باستمرار، ولذا إتجهت توظيفات الرأسمال المحلي الضعيف إلى هذه الفروع الصناعية، قبل غيرها.

أيضاً هنا، ليس الأهم تحديد موقع هذا النموذج الإنتاجي ودوره في العملية الإنتاجية وعلاقات الإنتاج، بل تعيين دوره في عملية الصراع الطبقي، وبلورة الوعي الطبقي في المجتمعات، التي تأخر فيها تطور نمط الإنتاج الرأسمالي، أي في بلدان آسيا، وإفريقيا، وأميركا اللاتينية.

■ إنطلاقاً من هذا نسجل ما يلي: عملياً كان إسهام هذا النموذج الإنتاجي في عملية الصراع الطبقي ضعيفاً بسبب ضعف مؤسساته الإنتاجية بشكل عام، حيث كانت هذه المؤسسات صغيرة الحجم بشكل عام، وتعتمد على استخدام أيدٍ عاملة لا تتطلب مهارة عالية في العمل، بفعل ضعف اعتمادها على التقنية المتطورة.

دون شك كانت اليد العاملة في هذا النمط الإنتاجي تتعرض لأشد درجات الإستغلال، غير أن مزايا العمالة في هذا المجال، وخاصة لجهة الضعف في استخدام الأيدي العاملة الماهرة، من ناحية، والتنافس في سوق العمل، من ناحية ثانية، كان يُضطر القوى العاملة للرضوخ لشروط العمل وقوانينه الجائرة، ما كان يحجز بشكل عام تطور عملية الصراع الطبقي وتطور الوعي الطبقي.

إن هذا لا يعني أن هذا المجال لم يكن يشهد نزاعات عمل، بل على العكس من ذلك. غير أن العوامل المشار إليها، مضافاً إليها تدخل أجهزة القمع الرسمية المحلية، كانت تمثل قيداً على تطور دور الطبقة العاملة وحركتها النقابية، التي تشكلت بالدرجة الرئيسية في مؤسسات هذا النموذج.

4– ■ في إطار نمط الإنتاج الرأسمالي في مرحلته الإمبريالية، تجدر الإشارة إلى تركيز الإستثمارات الأساسية للدول الإستعمارية في عدد رئيسي من البلدان في آسيا، وإفريقيا، وأميركا اللاتينية، على مؤسسات النهب الإستعماري لثروات البلدان المُستعمَرة وشبه المُستعمَرة، وذلك من خلال مؤسسات البنى التحتية والصناعات الإستخراجية.

فمن أجل تسهيل عمليات النهب الإمبريالي المنظم كان على الإمبريالية أن تعتني بشق الطرق وبناء السكك الحديدية وبناء الموانيء البحرية. هذا إلى جانب الإستثمار في المناجم، وفي المنتجات الزراعية الرأسمالية (القطن على سبيل المثال) الضرورية لتطور الصناعة في البلدان الإمبريالية.

في هذه المؤسسات، نمت طبقة عاملة كان لها دور بارز في عملية الصراع التحرري الوطني والإجتماعي، وفي تطور الوعي الطبقي في عدد من البلدان الرئيسية المستعمرة، وشبه المستعمرة، مثل الهند، والصين، وأندونيسيا، ومصر وإيران، والجزائر، وڤينزويلا، والأرجنتين، وغيرها من البلدان.

■ غير أن علينا أن نلاحظ أن الإستعمار كان يحرص باستمرار على حجز تطور قوة العمل المحلية من خلال إعتماده على الخبرات الفنية، والأيدي العاملة الماهرة الأجنبية، التي كان يصدرها مع رأس المال المالي من البلدان الإستعمارية ذاتها.

ومع ذلك كانت الطبقة العاملة في مؤسسات هذا النمط من الإنتاج الرأسمالي في مرحلته الإمبريالية، هي النواة الصلبة للحركة العمالية والنقابية في البلدان التي تأخرت فيها عملية التطور الرأسمالي. وكان على الطبقة العاملة هذه، أن تضطلع بدور كفاحي مُركب، أي أن تخوض نضالات ضد القوة الإستعمارية من موقعها الوطني والقومي، ونضالات ضد الإستغلال المكثف لقوة عملها من موقع العمل كذلك. وفي مؤسسات هذا النموذج الإقتصادي نمت الطبقة العاملة في عدد من البلدان المُستعمَرة، وشبه المُستعمَرة، وتطور دورها الكفاحي في بناء أحزاب الطبقة العاملة، والأحزاب الديمقراطية الثورية■

(4)

التمايز بين مجتمع وآخر

1– ■ تلك كانت أهم النماذج عن مختلف أنماط الإنتاج، التي تعايشت وتجاورت مع بعضها بعضاً في المجتمعات التي تأخر فيها تطور الرأسمالية في بلدان إفريقيا، وآسيا، وأميركا اللاتينية. وقد كان للإمبريالية دور كبير – موضوعياً - في تكريس هذه النماذج والمحافظة عليها على امتداد النصف الأول من ق 20.

ذلك لا يعني أن هذه النماذج التابعة لأنماط عدة من الإنتاج قد تعايشت، وتجاورت، وتداخلت مع بعضها بعضاً في جميع هذه المجتمعات دونما تمايزات بين مجتمع وآخر، بل على العكس تماماً، فقد تمايزت مجتمعات عن غيرها في هذا المجال، كما كان الحال بالنسبة لعدد من بلدان أميركا اللاتينية، كالمكسيك، والبرازيل، والأرجنتين، وغيرها؛ ومن البلدان الآسيوية مثل الهند، وأندونيسيا، والصين، وإيران، وتركيا؛ ومن البلدان الإفريقية وخاصة في الشمال الإفريقي كمصر، والجزائر مثلاً.

في هذه البلدان كان انتشار علاقات الإنتاج الرأسمالي الحديث أسرع من غيره، حيث نمت فيها صناعة محلية، وأخرى أجنبية منذ نهاية ق 19، وقامت فيها مؤسسات مصرفية كان لها دور في نهوض قطاع صناعي متواضع. ومع ذلك، فإن النماذج الإقتصادية التابعة لأنماط إنتاج عدة، كما تم تناولها، كانت أيضاً في هذه البلدان منتشرة على نطاق واسع على امتداد العقود الأولى من ق 20 .

2– ■ في ظل هذه النماذج الإقتصادية (في إطار تعدد أنماط الإنتاج تعايشاً وتداخلاً) التي سادت المجتمعات في إفريقيا، وآسيا، وأميركا اللاتينية؛ كيف سارت عملية تشكيل الأحزاب بشكل عام، والأحزاب التقدمية بشكل خاص؟

على قاعدة الإنقسام بين طبقتين أساسيتين وفي إطاره تشكلت في المجتمعات الأوروبية الأحزاب البورجوازية والأحزاب الإشتراكية الديمقراطية العمالية، والتي تحولت بعد الحرب العالمية الأولى للعمل تحت رايات الأحزاب العمالية والشيوعية بعد انقسام الإشتراكية الديمقراطية إلى إتجاهين: شيوعي (شكل الأممية الثالثة)، وإشتراكي ديمقراطي (في امتداد الأممية الثانية).

■ في المجتمعات الآسيوية، والإفريقية، والأميركية – اللاتينية لم يكن الأمر كذلك، فالتركيب الطبقي لتلك المجتمعات كان تابعاً للنماذج الإقتصادية التي سادت هذه المجتمعات، ويدور في إطارها. ولذا، كان تأسيس أحزاب عمالية يبدو عملية مفتعلة لا تنسجم مع مستوى التطور السياسي، والثقافي، والإجتماعي – الإقتصادي لتلك المجتمعات. ويندر أن نجد حتى مطلع ق 20 تشكيلات سياسية حزبية كانت تدعي الإنتماء إلى عالم الإشتراكية الديمقراطية في أي من بلدان آسيا وإفريقيا وحتى أمريكا اللاتينية التي أُحرزت بلدانها إستقلالها السياسي في بدايات ق 19■

(5)

أحزاب عمالية أم ديمقراطية ثورية؟

1– ■ إن كل ما نجده في التراث التقدمي لبعض هذه المجتمعات، التي تأخر فيها تطور الرأسمالية هو ثورات الفلاحين، التي كانت تتقاطع في مصالحها مع بدايات تشكل البورجوازيات الوطنية المحلية، والتي بدأت تناضل من أجل الاستقلال الوطني، أي من أجل استقلالها في أسواقها الوطنية والقومية عن البورجوازية الأوروبية الإمبريالية.

كانت ثورات الفلاحين تدعو إلى تحرير القوى المنتجة المتخلفة إلى أبعد الحدود عن علاقات الإنتاج الرجعية الإقطاعية وشبه الإقطاعية، ومن هذه الزاوية التاريخية، كانت مصالحها تتقاطع مع مصالح البورجوازيات الوطنية المحلية الناشئة.

الشواهد على مثل هذا التراث التقدمي متعددة في كل من ولايات الإمبراطورية العثمانية بما في ذلك تركيا، مصر، كما وفي إيران، والصين، وأندونيسيا، وغيرها من البلدان. أما الحركة الإشتراكية الديمقراطية فلم يكن لها وجود حتى في هذه البلدان بسبب التعايش والتداخل بين عدة أنماط إنتاجية (رأسمالية، وما قبل رأسمالية) في إطار التشكيلة الإقتصادية – الإجتماعية في البلد الواحد.

2– ■ إن هذا الواقع الموضوعي لا يعني أن «الأفكار الإشتراكية» لم يكن لها وجود في هذه المجتمعات، غير أن تلك الأفكار، وبسبب من المستوى المتدني لتطور القوى المنتجة والسمة المتخلفة لعلاقات الإنتاج (متخلفة بمقياس التطور التاريخي)، كانت أفكاراً مشوشة تتداخل فيها عناصر العدالة الإجتماعية مع عناصر الأفكار الداروينية (نسبة إلى العالم البريطاني الذي اجترح نظرية «النشوء والإرتقاء في تطور الجنس البشري»)، على غرار: الكبير يأكل الصغير، والقوي يسيطر على الضعيف، الخ..

وقد شهدت مجتمعاتنا العربية مثل هذه الأفكار في مطلع ق 20، وخاصة في مصر وبلاد الشام، وظهر عدد من المفكرين الذين يدعون إلى مثل هذه المفاهيم المشوشة حول الطبقات والصراع الطبقي، وحول «الإشتراكية» وضرورات تنظيم العاملين في جمعيات خاصة تدافع عن حقوقهم ومصالحهم.

■ بعد الحرب العالمية الأولى، وبشكل خاص بعد انتصار ثورة أكتوبر الإشتراكية في روسيا- 1917، بدأت تتشكل الأحزاب التقدمية في منطقتنا العربية وفي بلدان آسيا، وإفريقيا وأميركا اللاتينية. فتأسست من عدد من الأندية والحلقات الماركسية منظمات حزبية في عدد من البلدان العربية مثل الحزب الشيوعي الفلسطيني، والحزب الشيوعي المصري، والحزب الشيوعي في سوريا ولبنان، الخ..

وفي مطلع عشرينيات ق 20، أصبحت هذه الأحزاب جزءاً من الحركة العمالية والشيوعية العالمية، التي انضوت منذ العام 1919 في «الأممية الثالثة» (الشيوعية)، أي «الكومنترن»، التي تشكلت لتجاوز «الأممية الثانية» بعد إنقسام الحركة الإشتراكية الديمقراطية على نفسها في الحرب العالمية الأولى.

ومثل هذه الأحزاب تشكل كذلك في العديد من البلدان الآسيوية، والإفريقية، والأميركية - اللاتينية. السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل كانت هذه الأحزاب أحزاباً شيوعية عمالية، أم كانت أحزاباً ديمقراطية ثورية؟ لقد كان للينين، قائد ثورة أكتوبر الإشتراكية في روسيا، الفضل في تقديم إجابة واضحة على هذا السؤال في الإطار النظري والتطبيقي العملي لمفهوم «الديمقراطية الثورية»■

(6)

المضمون الإجتماعي للديمقراطية الثورية

والتحالفات المطلوبة

1-■ كثيراً ما تحدث لينين في مؤلفاته عن «الديمقراطية الثورية» في سياق معالجته لأوضاع المجتمعات التي تأخر فيها تطور الرأسمالية، بما في ذلك المناطق الآسيوية في جمهوريات الإتحاد السوڤييتي.

أما في البلدان المُستعمَرة وشبه المُستعمَرة، فكان لينين ينظر لقضاياها التحررية من أكثر من زاوية؛ فمن ناحية، كان يرى في البورجوازيات الوطنية الناشئة في هذه البلدان «مناضلاً غير ثابت من أجل الديمقراطية»، فهي تناضل ضد الإمبريالية، وضد سيطرة رؤوس الأموال الأجنبية على هذه المستعمرات وشبه المستعمرات، ولكنها في نضالها تفضل أن يكون التحول في المجتمع بطيئاً وتدريجياً وحذراً، وبأقل قدر ممكن من المبادرة الثورية للجماهير؛ ومن ناحية أخرى، فهي تخشى الحركة الجماهيرية المنظمة ومبادراتها الثورية وتسعى باستمرار للبحث عن مداخل في علاقتها مع الإمبريالية، ورؤوس الأموال الأجنبية لحجز تطور القوى الثورية في مجتمعاتها.

■ كان لينين يدرك ويؤكد جوهر برنامج هذه البورجوازيات الوطنية الناشئة، ويحدد التكتيك الثوري في التعامل معها؛ ففي ظروف النضال من أجل الإستقلال كانت العلاقات بين البورجوازيات الإستعمارية، وبين بورجوازية المستعمرات تمر بمراحل من التوتر، وأخرى من التهدئة، وحتى التقارب، ما يجعل الأخيرة – مع تأييدها للحركات الوطنية - تناضل في الوقت نفسه، في بعض الحالات المعبِّرة، ضد الحركات الثورية والطبقات الثورية.

■ ولكن ما هي القوى الطبقية الديمقراطية الثورية في المجتمع بمضمون البرنامج الذي تحمله، وتمضي به حتى نهاياته المظفرة؟ إنها الطبقة العاملة، إنها الطبقة الديمقراطية الثورية بامتياز التي تملك مصلحة ثابتة في إنجاز مهام التحرر الوطني والديمقراطي، وبالمضمون السياسي والإجتماعي معاً، للديمقراطية.

2– ■ غير أن الطبقة العاملة كانت في البلدان المُستعمَرة وشبه المُستعمَرة طبقة ضعيفة. وبسبب من هذا الضعف، من ناحية، وتعايش أنماط إنتاجية متعددة في البلدان التي تأخر فيها التطور الرأسمالي، من ناحية ثانية، وكي تضطلع الطبقة العاملة الناشئة بدورها الطليعي والثوري، كان لا بد أن يكون هنالك قوى إجتماعية تتحالف معهم. فما هي هذه القوى (الطبقات، الشرائح، الفئات الإجتماعية..)، التي طالب لينين الطبقة العاملة بالتحالف معها في البلدان المُستعمَرة وشبه المُستعمَرة؟

■ لقد أولى لينين في هذا السياق الفلاحين أهمية خاصة، وبالتحديد – كما في الحالة الروسية – صغار الفلاحين والفلاحين الفقراء والعاملين بأجر في الزراعة وأيضاً أنصاف البروليتاريا (الذين يحصلون على قسم من أسباب المعيشة من العمل المأجور في الزراعة، وعلى القسم الآخر من استثمار قطعة من الأرض يملكونها، أو يستأجرونها).

ولم يكن الفلاحون وحدهم في عداد قوى التحالف الطبقي الثوري عند لينين، بل كان سائر الكادحين في المدن، وكذلك المثقفون الثوريون في عداد قوى التحالف الطبقي هذا. وفي هذا الإطار كانت الدعوة لبناء هذا التحالف الطبقي الثوري عملية طبيعية في السعي من أجل إحداث تغيير جوهري في تناسب القوى الطبقية والسياسية، لصالح العمال وجماهير الفلاحين وسائر الكادحين.

■ كان الأمر الجوهري في هذا الطرح الموقع القيادي للطبقة العاملة في هذا التحالف الطبقي الثوري؛ والمقصود بالدور القيادي – أساساً – هو قدرة الطبقة العاملة على إقناع هؤلاء الحلفاء وبالتالي جذبهم إلى ميدان المعركة في النضال من أجل الثورة الديمقراطية، ما يفتح الآفاق نحو التطوير اللاحق لهذه الثورة نحو المراحل الإنتقالية التي تُفضي إلى الإشتراكية.

■ ومن أجل أن تضطلع الطبقة العاملة بدورها هذا ينبغي على حزبها، أن يكون حزباً طليعياً من طراز جديد، حزباً يُنظم في صفوفه القوى الطليعية من أبناء العمال وفقراء الفلاحين وسائر الكادحين والمثقفين الثوريين. وعليه، فإن الحركة الديمقراطية الثورية هي الحركة التي تجسد تحالف العمال مع فقراء وصغار الفلاحين وسائر الشغيلة والكادحين، والمثقفين الثوريين (أي شرائح من الفئات الوسطى) الذين يمثلون هذه الفئات ويدافعون عن مصالحها.

3– ■ هذا هو المضمون الإجتماعي للديمقراطية الثورية. ولكي يكتسب هذا التحالف سمته الديمقراطية الثابتة والمنسجمة، فإنه ينبغي أن يقوم بمعزل عن قيادة البورجوازية وتأثيراتها. وهذا يعني أن الحركة الديمقراطية الثورية هي الحركة التي تتبنى نهجاً فكرياً وسياسياً يقوم على الإقتناع بالدور القيادي للطبقة العاملة والإسترشاد بنظريتها: الإشتراكية العلمية. هذا هو الشرط الفكري – السياسي للسمة الديمقراطية الثورية لأية حركة، أو حزب سياسي.

■ إن إدراكنا العميق لهذا المفهوم يتطلب التمييز بين الحزب الذي يسلم بالدور الطليعي للطبقة العاملة ويتبنى نظريتها، وبين الحزب البروليتاري؛ فالحزب البروليتاري هو الحزب الذي ينبثق من الحركة النضالية لطبقة عاملة متطورة وواسعة (تحتل موقع القلب فيها الطبقة العاملة الصناعية) ويمثل طليعتها السياسية؛ الحزب الذي يتشكل في تكوينه الإجتماعي من غالبية ثابتة من العمال، والصناعيين منهم بالذات؛ أما الحزب الذي ينبثق من الحركة الديمقراطية للعمال والفلاحين وسائر الشغيلة والكادحين، ويمثل طليعتها السياسية، فهو حزب ديمقراطي ثوري، شرط إكتساب الطبقة العاملة فيه دوراً قيادياً فضلاً عن استرشاده بالإشتراكية العلمية.

■ نستطيع إذن، أن نعرّف الحزب الديمقراطي الثوري بأنه «الحزب الذي يمثل الطليعة السياسية لتحالف العمال والفلاحين وسائر الكادحين، والذي يتبنى نظرية الطبقة العاملة، ويسير بثبات على طريق التحول إلى حزب بروليتاري، بما يواكب تطور الطبقة العاملة في المجتمع (كشرط موضوعي)، ومكانتها الإجتماعية والنضالية (كشرط ذاتي)، ومن خلال التحسين المضطرد لتكوينه الطبقي – الإجتماعي بتعزيز دور العمال في منظماته وهيئاته»■

(7)

في البنية الإجتماعية للأحزاب الديمقراطية الثورية

1– ■ بفعل تكوينه الإجتماعي والتزامه الفكري والمباديء التنظيمية القائمة على المركزية الديمقراطية التي تحكم علاقاته الداخلية من جهة، ومع الجماهير من جهة أخرى، بالإمكان القول، إن الحزب الديمقراطي الثوري في البلدان النامية هو الأقرب بسماته إلى الحزب البروليتاري الذي يلتزم النظرية الإشتراكية العلمية (الحزب الشيوعي) في البلدان المتطورة.

إن المسافة الفاصلة بين هذين النمطين من الأحزاب تجد أساسها الموضوعي في تباين الشروط الإقتصادية – الإجتماعية، والتاريخية – الثقافية التي تعمل هذه الأحزاب في ظلها.

■ وإذا كان بالإمكان تقليص هذه المسافة من خلال تلبية معطيات معيّنة تنعكس إيجاباً على وضع ودور الأحزاب الديمقراطية الثورية: التكوين الإجتماعي، تماسك البنية الداخلية، تطوير الوعي بتضافر عاملي التركيم النضالي والمخزون الثقافي، أسلوب العمل، الصلة مع الحركة الجماهيرية، الخ..، أي ما يسمى – في العادة – الشرط الذاتي، فليس بالإمكان جسر هذه المسافة بين الأحزاب العمالية والأحزاب الديمقراطية الثورية، إلا من خلال إلتقاء الشرط الذاتي مع الشرط الموضوعي من خلال تطور وضع البلدان النامية ذاتها، أي التطور الإقتصادي – الإجتماعي – الثقافي لمجتمعات هذه البلدان؛ وهذا ما يشكل العمود الفقري لبرنامج عمل الأحزاب الديمقراطية الثورية ويقع في صلب مهامها.

■ وعليه، فهذه الأحزاب تتطور وتكتسب تدريجياً السمات المنشودة، بقدر ما تواكب عملية التطور الموضوعي في مجتمعاتها، وبقدر ما يتطور دورها في توفير شروط هذه العملية الإقتصادية – الإجتماعية – الثقافية، وتسريعها ما أمكن في هذه المجتمعات.

هذه هي الوجهة التي تقيم المعادلة الصحيحة بين العامِلين الموضوعي والذاتي، وترسي الأخير على شرطي التطوير الحزبي الداخلي (التكوين، البرنامج، الوعي، أسلوب العمل..) وتطوير الدور الخارجي، أي الفعل والتأثير في المجتمع والحركة الجماهيرية بكل مكوناتها: العمالية، الشبابية، النسائية، ومن الفئات الوسطى.. وصولاً إلى الدور القيادي المنشود في المجتمع والكيان السياسي (الدولة).

2– ■ إذن، ثمة إعتبارات موضوعية تضع حدوداً لموضوعة التحول من حزب ديمقراطي ثوري إلى حزب بروليتاري (حزب شيوعي) مازالت مطروحة في أوساط اليسار الرصين، التي لا نحتسب منها بالطبع بعض الإتجاهات الهامشية – ومنها التروتسكية – في الحركة العمالية والشيوعية في العالم التي لا تقر بهذا؛ فهي أولاً، لا تقيم وزناً كبيراً لدور الحلفاء الثوريين للطبقة العاملة الصناعية؛ وهي ثانياً، لا تقيم وزناً كبيراً لحجم ووزن الطبقة العاملة الصناعية في المجتمع، فالأهم عندها ما تسميه «السياسة البروليتارية» للحزب بصرف النظر عن حجم ووزن الطبقة العاملة الصناعية في المجتمع، وفي تكوين الحزب.

لسان حال هذه الإتجاهات يقول: يكفي أن تسير القيادة على خطى سياسة بروليتارية لتسهم في تطوير دور الطبقة العاملة في العملية الثورية. مثل هذه السياسة لا تؤسس لوضع سليم، إذ لا تكتمل سياسة الحزب ما لم يحرص على توسيع صفوفه أساساً بالفصيلة الطليعية من الطبقة العاملة، وشريحتها الصناعية بالتحديد، الأمر الذي يفترض بدوره تعيين: وجودها، تمركزها، نسبتها من إجمالي العمالة، الخ...

3-■ إن هذه الإعتبارات لا تعطل الإمكانيات المتاحة لتحسين دور وأداء الأحزاب الديمقراطية الثورية في الصراع الراهن؛ لكن، وبالمقابل، فإن هذه الإعتبارات الموضوعية تضع على أجندة هذه الأحزاب ضرورة السعي لتطوير بنيتها بإتجاه الطبقة العاملة من جهة، والفئات الوسطى من جهة أخرى. قد تبدو تلبية متطلبات هذين الأمرين – للوهلة الأولى – متعاكسة فيما بينها، ولكنها – في حقيقة الأمر – ليست هكذا، إذا ما أخضعناها لشيء من التدقيق:

أ) ■ إن التكوين الإجتماعي للحزب الديمقراطي الثوري – كما سبقت الإشارة – يستمد عناصره من التكوين الإجتماعي – الطبقي في المجتمع، الذي يختلف تكوينه في البلدان النامية عن مثيله في البلدان الرأسمالية الصناعية المتطورة، أي البلدان التي شقت طريق تطورها الرأسمالي في وقت مبكر.

صحيح أن الطبقة العاملة الصناعية في البلدان النامية قد تطورت حجماً ونوعاً، خاصة حيث توفرت شروط نمو طبقة عاملة صناعية في الصناعات الإستخراجية والصناعات التحويلية، كما تحسنت المزايا الديمغرافية والإجتماعية – الإقتصادية للبروليتاريا الصناعية، ولكنها قياساً بحجم القوى العاملة لا زالت ضعيفة نسبياً وقياساً بحجم السكان أضعف.

■ في الوقت نفسه، يشكل الحلفاء الثوريون للطبقة العاملة الصناعية في هذه البلدان قوة عددية أكبر بكثير من قوة الطبقة العاملة الصناعية، وهؤلاء لا يتحلون بالمزايا المادية التي تتحلى بها الطبقة العاملة الصناعية، فصلتهم بوسائل الإنتاج أضعف وموقعهم في علاقات الإنتاج أقل تماسكاً.

لذا، ينبغي في عملية البناء الحزبي أن يحرص الحزب الديمقراطي الثوري باستمرار على توسيع صفوفه من أوساط الطبقة العاملة الصناعية وعمال الإنتاج بدرجة رئيسية، حتى تسود صفوفه وعلاقاته مع الجماهير تلك المزايا التي تكتسبها الطبقة العاملة الصناعية من خلال علاقتها بوسائل الإنتاج، ومن خلال موقعها في علاقات الإنتاج.

ب) ■ في المجتمعات النامية تتسع صفوف الفئات الوسطى (ومنها بالتحديد البورجوازية الصغيرة الحديثة لتمييزها عن البورجوازية الصغيرة التقليدية) لاعتبارات كثيرة: فجهاز الدولة يتضخم من خلال إستيعابه المتزايد للقوى العاملة، وكذا الأمر بالنسبة لشركات ومؤسسات القطاع الخاص في قطاع الخدمات، كالمؤسسات المالية والمصرفية ومؤسسات الصحة والتعليم الخاص والإسكان والمحلات التجارية والمؤسسات الخدمية الأخرى، وهذه تستوعب أعداداً واسعة من القوى العاملة.

■ إن هذه الفئات شديدة التنوع وقطاع واسع منها ينتمي إلى جمهور الكادحين دون شك، وإلى هذا الجمهور يتوجه الحزب الديمقراطي الثوري، فهو يشكل قوة سياسية واجتماعية فائقة الأهمية في العملية التحررية الوطنية والديمقراطية (بشقيها السياسي والإجتماعي)، وهو – أي هذا الجمهور- الحليف الرئيسي والأهم للطبقة العاملة في الحالة الفلسطينية على نحو التخصيص.

■ إن الحزب الديمقراطي الثوري في توجهه هذا، إذ يسعى لاستمالة هذه القوة الإجتماعية شديدة التأثير والفعل إلى صف قوى الثورة والتغيير الديمقراطي والإجتماعي، إنما يحاذر – في الوقت عينه – التأثر بقيمها الناجمة عن ضعف صلتها بوسائل الإنتاج، ونظراً لموقفها الأقل تماسكاً من علاقات الإنتاج القائمة، إنطلاقاً من الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج.

■ إن الفئات الوسطى تشكل قوة إجتماعية ذات تأثير حاسم في ترجيح نسبة القوى لصالح البرنامج الديمقراطي الثوري وثيق الصلة بتطلعات الطبقة العاملة، إذا ما أجادت القوى القيّمة على هذا البرنامج، إدارة دفة التحالفات التي تحقق أهداف ذات منحى تصاعدي متدرج في تلبية المصالح الوطنية والديمقراطية السياسية والإجتماعية لـ «كتلة تاريخية»، تكون الفئات الوسطى في قلبها مع الطبقة العاملة التي تلعب في هذا الإطار دوراً سياسياً متميِّزاً لمواصفاتها التاريخية المتميّزة في علاقات الإنتاج■

1989-2013

الجبهة الديمقراطية: حزب يساري ديمقراطي،

من صلب التيار الديمقراطي الثوري العريض

[■ في أكثر من موقع وسياق، تحدد وثيقتا النظام الداخلي والبرنامج السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين (ج.د) الصادرتين عن مؤتمرها الوطني العام السابع – 2018، هويتها الطبقية والفكرية، كحزب يساري ديمقراطي، ينتسب إلى صلب التيار الديمقراطي الثوري العريض في حركة التحرر الوطني والديمقراطي الفلسطينية والعربية. وفي مايلي ستتم الإشارة إلى النصوص ذات الصلة، كما وردت في وثيقتي النظام الداخلي والبرنامج السياسي:]

(1)

النظام الداخلي

1-■ تنص مقدمة النظام الداخلي (1- التعريف والأهداف) في الفقرات 1، 2، 3، و7 على مايلي:

- الفقرة 1: «الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين (ج.د) حزب يساري ديمقراطي، وهي إتحاد اختياري لمناضلات ومناضلين من العمال والفلاحين والفئات الوسطى وسائر الكادحين، ومن المرأة والشباب، من أجل التحرر الوطني الناجز لشعب فلسطين ومستقبله الإشتراكي».

- الفقرة 2: «تسترشد ج.د بالإشتراكية العلمية كمنهج لتحليل الواقع الإجتماعي، ودليل للعمل من أجل تغييره».

- الفقرة 3: «ج.د هي جزء من حركة الطبقة العاملة الفلسطينية، وهي تعمل لتوطيد العلاقة الكفاحية بين فصائلها وسائر مكوناتها».

- الفقرة 7: «إن إنجاز مهام التحرر الوطني والديمقراطي فلسطينياً وعربياً، وقيام علاقات وحدوية بين الأقطار العربية يرسي المقدمات السياسية والمادية الضرورية لتدشين مرحلة إنتقال تاريخية تضطلع الطبقة العاملة خلالها بدور قيادي في المجتمع على أساس من الديمقراطية والتعددية من أجل بناء الإشتراكية، وإلغاء إستغلال الإنسان للإنسان بكافة أشكاله».

2-■ أما المبدأ التنظيمي الذي تقوم عليه ج.د، فينص النظام الداخلي (2- المبدأ التنظيمي الأساس)، على مايلي:

- الفقرة 2: «إن المركزية الديمقراطية هي في الأساس تعبير عن المزايا المادية الموضوعية التي تتوفر لدى الشريحة المتقدمة للطبقة العاملة والتي تكتسبها الطبقة العاملة بعمومها، تدريجياً، من نمط حياتها وتطور دورها في المجتمع والإنتاج: مزايا الجماعية وتقسيم العمل، والوحدة المتزايدة للمصالح النهائية للطبقة العاملة، والتماسك في صفوفها، والإنضباط وروح المثابرة والصبر وطول النفس، والقدرة على رؤية مصالح مجموع الشعب، والتقدير الدقيق لنسبة القوى في الصراع الناشب بين الشعب وأعدائه».

- الفقرة 4: «إن مبدأ المركزية الديمقراطية كموجه للعلاقة مع الجماهير يعني الإنغراس العميق في الحركة الجماهيرية، وأن الحزب هو فصيل طليعي يأبى الإنعزال عن هذه الحركة ولا يتأخر عن ركبها، وهو يتعلم من الجماهير ويتمثل همومها ومشكلاتها وتجاربها، ويدافع عن مصالح الطبقة العاملة وجماهير الشعب ويقود نضالها اليومي وينظمه ويربطه بالنضال الوطني العام؛ وكونه يعتمد على طاقات الجماهير المنظمة في إنجاز العمل الثوري، فهو يثابر على العمل في أوساط الجماهير وعلى تنظيمها في النقابات والإتحادات والمنظمات الشعبية، وغيرها من الأطر والمؤسسات الجماهيرية والإجتماعية والأهلية»■

(2)

البرنامج السياسي

1-■ الفصل الأول: 4- القوى الإجتماعية المحركة للثورة الوطنية التحررية

- الفقرة 5: «إن الطبقة العاملة، بتحالفها الديمقراطي الوطيد مع فقراء الفلاحين والفئات الوسطى وسائر الكادحين، فضلاً عن أوسع قطاعات الشباب والمرأة، هي الطبقة المؤهلة موضوعياً لقيادة الثورة الوطنية التحررية إلى النصر الحاسم.

إن الأفق التاريخي المفتوح لتطور الطبقة العاملة، والثقل الإجتماعي المتزايد الذي تحتله في صفوف الشعب، داخل الوطن بشكل خاص، وتعاظم مزايا الإنضباط والتماسك الداخلي التي تتسم بها شريحتها المتقدمة، ومصلحتها الجذرية في التحرر من النير الإمبريالي – الصهيوني، وتطور قدرتها على تمثل مصالح مجموع الشعب وعلى التقدير السليم لنسبة القوى بينه وبين أعدائه، تجعلها قادرة على توفير طليعة طبقية وتحالفات ديمقراطية تقود الثورة الوطنية التحررية نحو أهدافها.

إن النضال من أجل تنظيم الطبقة العاملة بمختلف الأشكال وتعزيز ثقلها في المعترك السياسي والديمقراطي والإجتماعي، يوفر شروط تمكينها من الإضطلاع بدورها المطلوب موضوعياً في مسار الثورة الوطنية التحررية».

- الفقرة 6: «تمارس الطبقة العاملة وقواها المنظمة دورها الطليعي، في مجرى النضال من أجل التحرر الوطني، من خلال الحرص على توحيد سائر طبقات الشعب وتعزيز التحالف فيما بينها في إطار جبهة وطنية متحدة للنضال المشترك ضد الإحتلال والإستعمار الاستيطاني الصهيوني [...]».

- الفقرة 7: «[...] إن تحالف القوى الإجتماعية الديمقراطية من عمال وفلاحين وفئات وسطى وسائر الكادحين، فضلاً عن أوسع قطاعات المرأة والشباب، هو الضمانة الأكيدة لتوطيد الجبهة الوطنية المتحدة وضمان إلتزامها الثابت بالبرنامج الوطني. وتسعى قوى الطبقة العاملة إلى تعزيز وحدة هذه القوى الديمقراطية وائتلافها لتشكل نواة صلبة للتحالف الوطني العريض».

2-■ الفصل الثالث: الثورة الفلسطينية في المجال العربي، 1- الثورة الفلسطينية وحركة التحرر الوطني والديمقراطي العربية

 - الفقرة 4: «إن الخروج من هذا المأزق أصبح، أكثر من أي وقت مضى، رهناً بنهوض تحالف عريض يضم أوسع القوى الوطنية والديمقراطية والليبرالية والعلمانية، وفي القلب منها قوى الطبقة العاملة، كقيادة جديدة وكفؤة لحركة التحرر الوطني والديمقراطية العربية». [ ملاحظة: المقصود بـ «المأزق»، هو ما ورد في الفقرة 3 حول ما يتهدد مصير الشعوب العربية ومكانتها في عالم اليوم من مخاطر، بفعل التخلف والعجز عن الإفلات من الحلقة المفرغة للتبعية، والتخلف، الخ..].

3-■ الفصل الرابع: الثورة الفلسطينية في عالمنا المعاصر

 1- الثورة الفلسطينية في بعدها الدولي، الفقرة 3: «إن الثورة الفلسطينية، وحركة التحرر الوطني العربية عموماً، جزء لا يتجزأ من النضال الذي تخوضه شعوب العالم، وفي المقدمة الطبقة العاملة، ضد الإمبريالية. وعلى عاتق الطلائع الثورية للطبقة العاملة وحلفائها من القوى الديمقراطية وعموم الكادحين، تقع مسؤولية توحيد وتنسيق هذا النضال لبناء أممية من طراز جديد، تراعي الخصائص الوطنية للحركة الثورية في كل بلد، وتحترم إستقلالها وخياراتها الحرة، لتنير طريق البشرية نحو الغد الإشتراكي».

2- في السياسة والعلاقات الدولية، الفقرة 2: «إن ج.د جزء من حركة الطبقة العاملة العربية والعالمية، ومن هذا المنطلق فهي تسعى إلى: أ) تعزيز أواصر الأخوة والتساند الكفاحي مع شعوب العالم المناضلة في سبيل حقها في تعزيز مصيرها بحرية، من أجل التحرر الوطني والديمقراطية والمساواة والعدالة الإجتماعية؛ ب) توطيد التضامن الأممي بين الطبقات العاملة في كل البلدان في النضال المشترك من أجل إنتصار الإشتراكية»■

(3)

الهوية الطبقية والفكرية للجبهة الديمقراطية

[ لمزيد من الإحاطة بهذا العنوان، من المفيد العودة إلى المادة بعنوان «حول الأساس النظري للنظام الداخلي»، ص 211-221 من كتاب «مخاض التجديد... 1988-1998»، الكتاب الرقم 7 من سلسلة «في الفكر السياسي الفلسطيني المعاصر»، من إصدارات «المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات»(ملف). ط1: كانون الأول (ديسمبر) 2013.]

1-■ من خلال الإستشهادات المار ذكرها يتبيَّن مدى الوضوح الذي اتسم به تحديد الهوية الطبقية للجبهة الديمقراطية، إن بالتعريف، أو تحديد أهداف النضال، أو بالمبدأ التنظيمي الأساس، أو بموقع الطبقة العاملة الحيوي، ودورها القيادي، ضمن نسق القوى الإجتماعية المحركة للثورة الوطنية التحررية، في بناء تحالف القوى الإجتماعية الديمقراطية، الذي يشكل الضمانة الأكيدة لتوطيد أركان الجبهة الوطنية المتحدة، وضمان إلتزامها الثابت بالبرنامج الوطني الجامع، ما يكتسي أيضاً أبعاده العربية والدولية، إنطلاقاً من اعتبار ج.د نفسها جزءاً من حركة الطبقة العاملة العربية والعالمية.

■ إن إبراز الهوية الطبقية للجبهة الديمقراطية، يحدد موقعها الطبقي ومبدأها التنظيمي وخيارها البرنامجي في سياق النضال الوطني التحرري من أجل انتصار أهداف النضال الوطني، الذي تجمع عليه طبقات الشعب كافة من خلال مختلف الإتجاهات السياسية التي تمثلها، وتعكس تحالفاتها. وفي هذا الإطار، تعتبر الـ ج.د التعددية السياسية مصدراً للقوة بالنسبة للحركة الفلسطينية، كما تعتبر التعددية التنظيمية في إطار حركة الطبقة العاملة مصدراً لفعالية دور اليسار الفلسطيني في دائرة العمل الوطني الأوسع.

2-■ الهوية الفكرية للجبهة الديمقراطية تُكمِّل هويتها الطبقية، لا بل هي أساس الحفاظ على هذه الهوية وصونها، ذلك أن تحديد الهوية الطبقية لحزب يساري ديمقراطي، يستتبع طرح ما يترتب على هذه الهوية من منهج فكري يتسلح به الحزب لتحليل الواقع، أي الواقع المادي الإجتماعي، لفهم تناقضاته، حركته، إتجاهه الرئيسي، في النضال الوطني التحرري، من موقع رؤية الفئات الإجتماعية التي يمثل مصالحها، لمسار هذا النضال، ولتغيير الواقع كي يستجيب لهذه المصالح الوطنية والإجتماعية ويلبيها.

وبهذا المعنى، فإن المنهج الفكري الذي تعتمده ج.د بهويتها الطبقية المحددة لا يقتصر دوره على التحليل، بل يتجاوزه نحو الإمساك بخط العمل من أجل التغيير، والتغيير الثوري من منطلق الإنحياز لموقع الطبقة الصاعدة تاريخياً، والتي يعتبر تنظيمها وتعزيز ثقلها السياسي، وتمكينها من أداء دورها المطلوب، أحد الشروط الرئيسية المطلوبة، لكي تحقق الحركة الوطنية الفلسطينية أهدافها■

2018

ملحق1

مقدمة النظام الداخلي - 2018

(1)

التعريف والأهداف

1– الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين (ج. د. ت. ف) حزب يساري ديمقراطي، وهي إتحاد إختياري لمناضلات ومناضلين من العمال والفلاحين والفئات الوسطى وسائر الكادحين، ومن المرأة والشباب، من أجل التحرر الوطني الناجز لشعب فلسطين ومستقبله الإشتراكي.

2– تسترشد الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين بالإشتراكية العلمية كمنهج لتحليل الواقع الإجتماعي، ودليل للعمل من أجل تغييره.

3– الجبهة الديمقراطية هي جزء من حركة الطبقة العاملة الفلسطينية، وهي تعمل لتوطيد العلاقة الكفاحية بين فصائلها وسائر مكوناتها.

4– في المرحلة التاريخية الراهنة لنضال الشعب الفلسطيني، مرحلة التحرر الوطني، تناضل الطبقة العاملة الفلسطينية في طليعة الحركة الوطنية الفلسطينية من أجل تحقيق أهدافها الوطنية المتمثلة في حق العودة وتقرير المصير وإقامة دولة فلسطين المستقلة كاملة السيادة على الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس، على حدود الرابع من حزيران (يونيو) 1967.

 5– إن واقع الإحتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 67، وواقع التبديد والإقتلاع والتشريد والتمييز ومحاولات طمس الهوية الوطنية الفلسطينية خارجها، يشكل الأساس الموضوعي لوحدة مجموع طبقات الشعب في النضال من أجل إنجاز التحرر الوطني والإنعتاق من النير الإمبريالي الصهيوني.

وبالمقابل، فإن شرائح ضيّقة من البورجوازية الطفيلية والكومبرادورية والفئات البيروقراطية المندمجة فيها، تجد مصلحتها في التساوق مع مشاريع الحلول، والحلول التي تمس بمصالح الشعب الفلسطيني أو تنتقص من حقوقه الوطنية. ومن هذا الموقع، فإن هذه الشرائح تميل إلى المهادنة مع الإحتلال والإرتهان لإملاءاته.

إن الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين تسعى لتوطيد وحدة طبقات الشعب وقواه الوطنية في مختلف أماكن تواجده داخل الوطن وخارجه في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، وتعزيز الإئتلاف الوطني الشامل في إطارها على قاعدة برنامجها وبما يرسخ مكانتها ودورها كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني.

6– إن تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني المتمثلة في حق العودة وتقرير المصير والدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة يفتح الطريق للنضال من أجل حل ديمقراطي جذري للمسألة الوطنية الفلسطينية يلبي كامل الحقوق القومية للشعب الفلسطيني في وطنه في ظل فلسطين ديمقراطية، موحدة، متحررة من الصهيونية والنفوذ الإمبريالي، يتعايش فيها الشعبان على أساس من المساواة القومية وبعيداً عن أي شكل من أشكال التمييز والإضطهاد القومي والعنصري والديني.

7– إن إنجار مهام التحرر الوطني والديمقراطي فلسطينياً وعربياً، وقيام علاقات وحدوية بين الأقطار العربية يرسي المقدمات السياسية والمادية الضرورية لتدشين مرحلة إنتقال تاريخية تضطلع الطبقة العاملة خلالها بدور قيادي في المجتمع على أساس من الديمقراطية والتعددية من أجل بناء الإشتراكية وإلغاء إستغلال الإنسان للإنسان بكافة أشكاله■

(2)

المبدأ التنظيمي الأساس

1– إن المبدأ التنظيمي الأساس الذي تقوم عليه الجبهة الديمقراطية هو المركزية الديمقراطية، التي تَنْظُمْ علاقاتها الداخلية وتوجه علاقاتها مع الجماهير. وهي تعبير عن وحدة الإرادة والفكر والعمل بين جميع منظمات الحزب ومناضليه، والضمانة الأكيدة لها.

2– إن المركزية الديمقراطية هي في الأساس تعبير عن المزايا المادية الموضوعية التي تتوفر لدى الشريحة المتقدمة للطبقة العاملة والتي تكتسبها الطبقة العاملة بعمومها، تدريجياً، من نمط حياتها وتطور دورها في المجتمع والإنتاج: مزايا الجماعية وتقسيم العمل، والوحدة المتزايدة للمصالح النهائية للطبقة العاملة، والتماسك في صفوفها، والإنضباط وروح المثابرة والصبر وطول النفس والقدرة على رؤية مصالح مجموع الشعب، والتقدير الدقيق لنسبة القوى في الصراع الناشب بين الشعب وأعدائه.

3– إن المركزية الديمقراطية كمبدأ لصياغة العلاقات الحزبية الداخلية تضمن المشاركة لجميع أعضاء الحزب ومنظماته في رسم سياسته، وتشكيل الهيئات القيادية بالإنتخابات، وممارسة الرقابة الحزبية من أدنى إلى أعلى وبالعكس، وإلتزام الأقلية برأي الأغلبية وقراراتها، والهيئات الدنيا بقرارات الهيئات العليا، وكافة منظمات الحزب بقرارات اللجنة المركزية والمؤتمر الوطني العام، مع ضمان حق الأقلية في أن تعبر عن رأيها وأن تناضل في سبيله من خلال الأطر والقنوات الحزبية، وممارسه مبدأ القيادة الجماعية في التقرير والمسؤولية الفردية في التنفيذ، وانتهاج أسلوب النقد والنقد الذاتي من أجل تصحيح الأخطاء وتقويم أسلوب العمل الحزبي، ومعالجة النواقص والثغرات لدى الأعضاء والهيئات.

4– إن مبدأ المركزية الديمقراطية كموجه للعلاقة مع الجماهير يعني الإنغراس العميق في الحركة الجماهيرية، وأن الحزب هو فصيل طليعي يأبى الإنعزال عن هذه الحركة ولا يتأخر عن ركبها، وهو يتعلم من الجماهير ويتمثل همومها ومشكلاتها وتجاربها، ويدافع عن مصالح الطبقة العاملة وجماهير الشعب ويقود نضالها اليومي وينظمه ويربطه بالنضال الوطني العام؛ وكونه يعتمد على طاقات الجماهير المنظمة في إنجاز العمل الثوري، فهو يثابر على العمل في أوساط الجماهير وعلى تنظيمها  في النقابات والإتحادات والمنظمات الشعبية وغيرها من الأطر  والمؤسسات الجماهيرية والإجتماعية والأهلية■

(3)

مكوِّنات التنظيم

1– يتكون تنظيم الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين من منظماتها الحزبية في الوطن، وفي أقطار اللجوء والشتات، وفي بلدان المهجر، وفي البلدان التي تقيم فيها جاليات فلسطينية لأغراض العمل أو الدراسة، كما وفي مجالات العمل الأخرى.

2– إنطلاقاً من أواصر الأخوة والوحدة المصيرية التي تربط بين الشعبين الشقيقين الأردني والفلسطيني، وإدراكاً لخصوصية الوضع الذي يعيشه أبناء الشعب الفلسطيني في الأردن، كونهم جزء من الشعب الفلسطيني الموحد في إطار حركته الوطنية الفلسطينية المستقلة، وهم في الوقت نفسه يندمجون إندماجاً عضوياً في المجتمع الأردني كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، ما يملي إنخراطهم في النضال الوطني الديمقراطي  في إطار الحركة الوطنية الأردنية، فإن الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين تحتفظ بعلاقة كفاحية مع حزب الشعب الديمقراطي الأردني تكفل قراراً مشتركاً في القضايا التي تشكل عناصر التداخل بين الحركتين الوطنيتين، وفقاً لإطار العمل المشترك المقر ما بين الحزبين■

ملحق2

من الفصل الأول للبرنامج السياسي - 2018  

(4)

القوى الإجتماعية المحركة للثورة الوطنية التحررية

1– إن إنجاز التحرر الوطني والإنعتاق من النير الإمبريالي الصهيوني يستجيب لمصالح وطموحات الشعب الفلسطيني بجميع طبقاته ومختلف تجمعاته:

أ) في مناطق الـ 48؛ يعاني أبناء الشعب الفلسطيني داخل إسرائيل من واقع الإستلاب والهضم القومي ومن سياسة التمييز العنصري ومصادرة حقوقهم القومية والثقافية، ووضع اليد على أراضيهم وتهويدها، وحرمانهم من الحقوق المدنية التي يكفلها لهم حق المواطنة.

ب) في بلدان الشتات؛ يسحق واقع التبديد والإقتلاع والتمييز مصالح جميع فئات الشعب الفلسطيني وشرائحه الإجتماعية ويعوق طموحها للعودة إلى الديار وتقرير المصير بحرية على أرض الوطن.

ج) وفي الوطن المحتل عام 67؛ تعاني جميع طبقات الشعب من سياسات الضم والإستيطان والتهويد ونهب الأرض والدمج والإلحاق الإقتصادي والقمع وطمس الهوية والثقافة الوطنية وإنتهاك حرمة أماكن المقدسات الدينية. وتجد طبقات الشعب كافة، من عمال وفلاحين وفئات وسطى وبورجوازية وطنية، بما فيها الشرائح المتنورة من كبار الملاك والرأسماليين، تجد مصلحتها في التخلص من نير الإحتلال وانتزاع الحق في تقرير المصير والإستقلال الوطني. وتتشارك جميع هذه الطبقات والشرائح الإجتماعية في الطموح إلى التحرر من النير الصهيوني، ولكن دورها في النضال الوطني المناهض للإحتلال والصهيونية يتفاوت بفعل تباين مصالحها.

2– إن شرائح ضيّقة من البورجوازية الطفيلية والكومبرادورية والفئات البيروقراطية المندمجة فيها، بحكم تشابك المصالح بينها وبين رأس المال الإحتكاري الدولي من جهة، واندماجها في البورجوازيات العربية النظيرة من جهة أخرى، هذه الشرائح إنما تجد مصلحتها في التساوق مع مشاريع الحلول، والحلول التي تمس بمصالح الشعب الفلسطيني أو تنتقص من حقوقه الوطنية. ومن هذا الموقع، فإن تلك الشرائح تميل إلى المهادنة مع الإحتلال والإرتهان لإملاءاته.

3– لعبت شرائح البورجوازية الوطنية، المستقلة نسبياً عن الإمبريالية، دوراً هاماً في قيادة الحركة الوطنية لشعبنا داخل الوطن وخارجه. ولكن هذه الطبقة، في ظل الهيمنة الإمبريالية الكونية، تفتقر إلى أفق تاريخي مفتوح لتطورها وهي محكومة إما بالأفول أو بالتحول المضطرد إلى موقع كومبرادوري. ولذلك، وبالرغم من أهمية مشاركتها في النضال الوطني المناهض للإحتلال، تتفشى في صفوف البورجوازية الوطنية نزعات المساومة والتذبذب، وتفتقر إلى الثقة بالطاقات والمبادرات الثورية للجماهير الشعبية، وتبدي بعض شرائحها ميلاً متزايداً للتراجع أمام الضغوط الإمبريالية وتنتشر في أوساطها الإتجاهات الإنهزامية.

4– تؤدي الفئات الوسطى بشرائحها المختلفة دوراً حيوياً وفعالاً في مجرى الثورة الوطنية التحررية، ولكنها تفتقر إلى التجانس الداخلي الذي يُمكِّنها من إحتلال موقع الطليعة الطبقية للثورة. إن موقعها البيني والرجراج حيال سائر الطبقات، إذ يحد من قدرتها على بلورة برنامج نضالي ملموس لتعبئة جماهير الشعب تحت قيادتها، فإنه لا ينال من حقيقة كون الفئات الوسطى إحدى القوى الإجتماعية الرئيسية المحركة للثورة. ويبرز هنا، بشكل خاص، دور الفلاحين والمزارعين الذين يتعرضون للسحق والتدمير بفعل هيمنة إسرائيل الإقتصادية وتحكمها بالسوق ومصادر المياه والأرض وتوسعها الإستيطاني، الأمر الذي يجعلهم قوة إجتماعية ذات طاقة ثورية مهمة في مجرى النضال الوطني التحرري.

5– إن الطبقة العاملة، بتحالفها الديمقراطي الوطيد مع فقراء الفلاحين والفئات الوسطى وسائر الكادحين فضلاً عن أوسع قطاعات الشباب والمرأة، هي الطبقة المؤهلة موضوعياً لقيادة الثورة الوطنية التحررية إلى النصر الحاسم.

إن الأفق التاريخي المفتوح لتطور الطبقة العاملة، والثقل الإجتماعي المتزايد الذي تحتله في صفوف الشعب، داخل الوطن بشكل خاص، وتعاظم مزايا الإنضباط والتماسك الداخلي التي تتسم بها شريحتها المتقدمة، ومصلحتها الجذرية في التحرر من النير الإمبريالي – الصهيوني، وتطور قدرتها على تمثل مصالح مجموع الشعب وعلى التقدير السليم لنسبة القوى بينه وبين أعدائه، تجعلها قادرة على توفير طليعة طبقية وتحالفات ديمقراطية تقود الثورة الوطنية التحررية نحو أهدافها.

إن النضال من أجل تنظيم الطبقة العاملة بمختلف الأشكال وتعزيز ثقلها في المعترك السياسي والديمقراطي والإجتماعي يوفر شروط تمكينها من الإضطلاع بدورها المطلوب موضوعياً في مسار الثورة الوطنية التحررية.

6– تمارس الطبقة العاملة وقواها المنظمة دورها الطليعي، في مجرى النضال من أجل التحرر الوطني، من خلال الحرص على توحيد سائر طبقات الشعب وتعزيز التحالف فيما بينها في إطار جبهة وطنية متحدة للنضال المشترك ضد الإحتلال والإستعمار الإستيطاني الصهيوني.

إن الوحدة الوطنية لجميع طبقات الشعب ضد العدو القومي هي مهمة حيوية تستمد ضرورتها ليس من الحاجة فحسب، إلى حشد طاقات الشعب بأسره وتعبئتها لمواجهة تفوق العدو، بل كذلك من ضرورة صون وحدة الشعب الفلسطيني ووحدة حقوقه الوطنية، في مختلف أماكن تواجده، وتعزيز تماسك كيانه الوطني وإستقلالية حركته الوطنية في مجابهة عملية التبديد القومي والتشريد والإلحاق والوصاية التي يتعرض لها.

7– إن ظروف الإقتلاع والتبديد والإحتلال والتمييز التي تعاني منها كافة طبقات الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده، تشكل القاعدة الموضوعية لقيام الجبهة الوطنية المتحدة التي تضم كافة القوى المناهضة للصهيونية والإحتلال والإستعمار الإستيطاني بغض النظر عن إنتمائها الطبقي وإتجاهاتها الأيديولوجية.

إن سياسة الائتلاف الوطني العريض لا تنبثق من تجاهل حقيقة وجود التناقضات في المصالح بين طبقات الشعب وشرائحه الإجتماعية حتى في سياق النضال المشترك من أجل التحرر الوطني، بل هي تستند إلى إدراك إمكانية وضرورة تغليب التناقض الرئيسي مع العدو القومي على أية تناقضات أخرى في صفوف الشعب وإمكانية وضرورة حلها بالوسائل الديمقراطية وبالإحتكام إلى المصلحة الوطنية العليا للشعب بأسره. إن صون التحالف الوطني العريض وتماسكه يتطلبان إرساءه على أسس ديمقراطية تكفل الإلتزام ببرنامج وطني للنضال المشترك ضد الإحتلال والصهيونية، واحترام وصون الإستقلال الفكري والسياسي والتنظيمي لكافة أطراف التحالف، ومشاركتها الديمقراطية في صوغ القرار الوطني، وحق تبادل النقد فيما بينها في إطار التحالف والوحدة.

إن تحالف القوى الإجتماعية الديمقراطية من عمال وفلاحين وفئات وسطى وسائر الكادحين فضلاً عن أوسع قطاعات المرأة والشباب، هو الضمانة الأكيدة لتوطيد الجبهة الوطنية المتحدة وضمان إلتزامها الثابت بالبرنامج الوطني. وتسعى قوى الطبقة العاملة إلى تعزيز وحدة هذه القوى الديمقراطية وإئتلافها لتشكل نواة صلبة للتحالف الوطني العريض.

8– إن التحرر من النير الإمبريالي – الصهيوني هو، موضوعياً وفي التحليل الأخير، لمصلحة الطبقة العاملة وسائر الشرائح الكادحة والديمقراطية في المجتمع الإسرائيلي. إنه يعني تجريد عملية التشكل القومي للشعب الإسرائيلي من سماتها الإستعمارية - الإستيطانية والعدوانية الغاصبة، ويحررها من الإعتماد الدائم على الدعم الإمبريالي ويوفر الشروط لتطورها على أسس طبيعية.

وإذا كانت الإمتيازات المادية والمعنوية التي يوفرها المشروع الصهيوني لليهود الإسرائيليين، على حساب تشريد واستغلال الشعب الفلسطيني، تعرقل إدراك الكادحين منهم لهذه الحقيقة، وتفسر تغلغل الأيديولوجية الصهيونية ونزعة الإستعلاء القومي في صفوفهم، فإن تصاعد النضال الوطني التحرري للشعب الفلسطيني وسائر الشعوب العربية ضد الصهيونية ومطامعها التوسعية، وما يقود إليه من تفاقم للأزمات الداخلية في إسرائيل، سوف يؤدي إلى فضح الطبيعة الزائفة للحل الصهيوني والسمة المؤقتة للإمتيازات التي يوفرها، وسوف ينمّي القناعة بأن الطريق الوحيد إلى سلام دائم ووطيد هو التعايش بين الشعبين في فلسطين ديمقراطية موحدة■

ثبت مراجع

 [ إغناء للمواضيع والقضايا الواردة في هذا الكتاب، نُحيل القاريء، المهتم إلى الوثائق والدراسات الصادرة عن الجبهة الديمقراطية، والتي وجدت طريقها إلى الكتب الصادرة ضمن سلسلة «في الفكر السياسي الفلسطيني المعاصر» (فيما يتبع: «السلسلة»). وفيما يلي ثبت بهذه المراجع ذات الصلة بموضوع الكتاب:]

■ أولاً- «المقاومة الفلسطينية... 1970- في ظل إزدواج السلطة»، الكتاب الرقم 3 من «السلسلة». ط1: 6/2007:

من وثائق المؤتمر الوطني الأول للجبهة الديمقراطية– 1970، الفصل بعنوان: «خامساً- بناء الطليعة اليسارية.. مسألة الجبهة والحزب» (ص207-221).

■ ثانياً- «قضايا نظرية.. في الإشتراكية، أزمة الرأسمالية، والعلمانية»، الكتاب الرقم 6 من «السلسلة». ط1: 1/2012:

من وثائق المؤتمر الوطني العام الثالث للجبهة الديمقراطية- 1994، الجزء بعنوان: «موضوعات حول التجربة الإشتراكية وأزمة الرأسمالية المعاصرة» (ص11–213)، بالفصول التالية:

1-  «معالم أزمة اليسار وتجلياتها الفكرية» (ص13-60).

2- «قضايا ومفاهيم من منظور الماركسية» (ص61-91).

3- «النموذج السوڤييتي لعملية الإنتقال إلى الإشتراكية.. عوامل الإنهيار والدروس المستخلصة» (ص93-134).

4- «الماركسية وعملية الإنتقال إلى الإشتراكية... مصطلحات ومفاهيم» (ص135-163).

5- «الرأسمالية المعاصرة في مرحلتها الإمبريالية المتطورة» (ص165-213).

■ ثالثا- «مخاض التجديد.. 1988-1998» الكتاب الرقم 7 من «السلسلة». ط1: 12/2013:

«في المسألة التنظيمية» (ص13-18).

«حول الأسس النظرية للنظام الداخلي- 1994» (ص211-221).

■ رابعاً- «عقد النهوض والإنتصارات.. 1972-1994»، الكتاب الرقم 13 من «السلسلة». ط2: 2/2019:

من وثائق المؤتمر الوطني العام الثاني للجبهة الديمقراطية- 1981، الجزء الأول: «حركة التحرر الوطني العربية ومعضلات الصراع ضد التحالف الإمبريالي - الصهيوني- الرجعي» (ص15-143)، بالفصول التالية:

1- «الإمبريالية العالمية، مصالحها ومخططاتها في المنطقة العربية» (ص17-44).

2- «الرجعية العربية تتواطأ مع المخطط الإمبريالي- الصهيوني» (ص45-58).

3- «البورجوازية الوطنية ومهمات الثورة الوطنية الديمقراطية» (ص59-87).

4- «في بناء الجبهة الوطنية المتحدة.. مسألة التحالفات» (ص89-106).

5- «قيادة طبقية جديدة للثورة الوطنية الديمقراطية.. نحو وحدة القوى اليسارية والديمقراطية الثورية» (ص107-125).

6- «الثورة الوطنية الديمقراطية – حركة التحرر الوطني العربية» (ص127-143).

■ خامساً- «عقد الصمود والخيارات.. 1982-1994»، الكتاب الرقم 14 من «السلسلة». ط1: 3/2019:

من وثائق المؤتمر الوطني العام الثالث للجبهة الديمقراطية- 1994، الجزء الأول: «تطورات الوضع الدولي والإقليمي وسياسات الجبهة الديمقراطية منذ مطلع الثمانينيات- ق 20» (ص11-143)، بالأبواب التالية:

الباب الأول: «الوضع الدولي منذ مطلع الثمانينيات» (ص13-34).

الباب الثاني: «في مواجهة حروب الإستنزاف والتفتيت ومشاريع تصفية القضية الفلسطينية» (ص35-120)، يضم 4 فصول، نشير إلى إثنين منها:

1- «النفط والمصالح الحيوية للنظام الإمبريالي العالمي» (ص37-47).

2- «مشاريع التسوية الأميركية.. فك العزلة عن كمب ديڤيد وتعميمه» (ص49-74).

الباب الثالث: «في الأبعاد العربية للمواجهة والوضع الدولي السائد» (ص121-143)، يضم فصلين:

1- «الأبعاد العربية للمواجهة والوضع الدولي السائد» (ص121-134).

2- «آفاق الوضع الدولي المساند» (ص135-143).

■ سادساً- «في الإشتراكية العلمية، الدولة المدنية، المجتمعات الإنتقالية»، الكتاب الرقم 15 من «السلسلة». ط1: 6/2020:

من وثائق المؤتمر الوطني العام الثالث للجبهة الديمقراطية- 1994، القسم الأول: «موضوعات في الإشتراكية العلمية.. في النظرية والممارسة، في المنهج والتجربة التاريخية، في المجتمعات الإنتقالية» (ص9-111)، بالفصول التالية:

1- «معالم أزمة اليسار وتجلياتها الفكرية.. عناصر الأزمة، نقد الخطاب الليبرالي، بين الإنفتاح السياسي والإنفتاح الفكري، بين «الإصلاحية» و «الواقعية الثورية» (ص15-57).

2- «الإنتقال إلى الإشتراكية، الإمبريالية، الاستراتيجيات المشتقة» (ص59-76).

3- «قضايا ومفاهيم من منظور الإشتراكية العلمية» (ص77-111).

من إصدارات مكتب التثقيف المركزي في الجبهة الديمقراطية، القسم الثالث: «في الإشتراكية العلمية، القوى الإجتماعية في مرحلة التحرر الوطني» (ص179-264)، بالفصول التالية:

1- «حول الإشتراكية العلمية» (ص181-199).

2- «القوى الإجتماعية في مرحلة التحرر الوطني» (ص201-237).

3- مدخل إلى الإقتصاد السياسي (ص239-264).

■ سابعاً- «حول النموذج السوڤييتي لعملية الإنتقال إلى الإشتراكية»، الكتاب الرقم 16 من «السلسلة». ط2: 6/2020:

من الوثائق التحضيرية للمؤتمر الوطني العام الثالث للجبهة الديمقراطية- 1993، بثلاثة أقسام وملحقين (ص9-292):

القسم الأول: «1917-1950» (ص9-94)، يضم 4 فصول:

1 - «ثورة أكتوبر والتناقضات في مسارها» (ص11-22).

2- «الحرب الأهلية.. 1918-1921، وشيوعية الحرب» (ص23-43).

3- «نهاية الحرب، والسياسية الاقتصادية الجديدة.. 1921-1927» (ص45-71).

4- «النموذج السوڤييتي بعد لينين» (ص73-94).

ملاحق القسم الأول (ص263-277).

القسم الثاني: «1950-1991» (ص95-220)، يضم 4 فصول:

1 - «التطور المتسارع لعملية الإنتقال، وتناقضاتها» (ص97-128).

2- «تفاقم التناقضات في المجتمع السوڤييتي» (ص129-159).

3- «في ظل التوازن الدولي والحرب الباردة، تفاقم أزمة الإنتقال إلى الإشتراكية» (ص161-180).

4- «البيريسترويكا وانتصار الرِدَّة» (ص181-220).

ملاحق القسم الثاني (ص279-292).

القسم الثالث: «مسار التجربة السوڤييتية» (ص221-262)، يضم فصلين:

1 - «مسار التجربة السوڤييتية وعوامل إنهيارها» (ص223-244).

2- «الدروس المستخلصة من التجربة السوڤييتية» (ص245-262).

■ ثامناً- «الرأسمالية المعاصرة في أطرافها»، الكتاب الرقم 17 من «السلسلة»: ط2: 2020:

من الوثائق التحضيرية للمؤتمر الوطني العام الثالث للجبهة الديمقراطية- 1993، بأربعة أقسام (ص9-278):

القسم الأول: «مقدمات نظرية (1/2) في الإقتصاد السياسي لنمط الإنتاج الرأسمالي» (ص9-100)، يضم مقدمة + 4 فصول:

مقدمة (ص11-16).

1- «ماركس: حول تناقضات الرأسمالية وقوانين تطورها» (ص17-38).

2- «لينين: حول تناقضات الرأسمالية، وتالياً تطورها» (ص39-49).

3- «موضوعات حول الرأسمالية المعاصرة» (ص 51-78).

4- «الإقتصاد السياسي، مقولات ومفاهيم» (ص79-100).

القسم الثاني: «مقدمات نظرية (2/2)- الطبقة العاملة، الفئات الوسطى، أزمة علم الإقتصاد البورجوازي» (ص101-144)، يضم فصلين:

1- «الطبقة العاملة والفئات الوسطى» (ص107-126).

2- «أزمة علم الإقتصاد البورجوازي» (ص127-144).

القسم الثالث: «في الإقتصاد السياسي.. نموذج البلدان النامية» (ص145-188)، يضم مقدمة + فصلين:

مقدمة (ص147-148).

1- «رأسمالية الأطراف: تكثيف النهب الإمبريالي، وتعاظم السمات الكومبرادورية» (ص149-164).

2- «النهب الإمبريالي للبلدان النامية، وآثاره الإقتصادية والإجتماعية الراهنة» (ص165-188).

القسم الرابع: «في الإقتصاد السياسي.. نموذج البلدان العربية» (ص189-278)، يضم مقدمة + 4 فصول:

مقدمة (ص191-195)

1- «معالم التطور الرأسمالي التبعي في البلدان العربية» (ص197-205).

2- «الكومبرادور يعمق التبعية.. نموذج البلدان العربية المصدرة للنفط» (ص207-226).

3- «الكومبرادور يعمق التبعية.. نموذج البلدان شبه النفطية، وغير النفطية» (ص227-250).

4- «العجز عن التنمية المستقلة» (ص251-278).

■ تاسعاً- «الرأسمالية المعاصرة في مراكزها»، الكتاب الرقم 18 من «السلسلة». ط2: 10/2020:

من الوثائق التحضيرية للمؤتمر الوطني العام الثالث للجبهة الديمقراطية- 1993، بخمسة أقسام (ص7- 278):

القسم الأول: «تطور الرأسمالية حتى نهاية ستينيات ق 20» (ص7-68)، يضم مقدمة + 3 فصول:

مقدمة ( ص9-11).

1– «أزمات ما بين الحربين، التجديد الذاتي بعد الحرب العالمية الثانية» (ص13-23)

2- «ظهور الإحتكارات فوق القومية» (ص25-44).

3- «النهب الإمبريالي، الأزمات الدورية» (ص45-68).

القسم الثاني: «تطور الرأسمالية في سبعينيات ق 20، ومطلع ثمانينياته» (ص69-120)، يضم مقدمة + 3 فصول:

مقدمة (ص71-72).

1- «تطور معدلات الربح، علاقاتها بمعدلات نمو الإنتاجية» (ص73-89).

2- «تمركز رأس المال، عملقة الإحتكارات فوق القومية، غلبتها في السوق المالية» (ص91-103).

3- «النهب الإمبريالي للبلدان التابعة» (ص105-120).

القسم الثالث: «دور الدولة، سمات الأزمة الإقتصادية في سبعينيات ق 20، ومطلع ثمانينياته» (ص121-167)، يضم فصلين: 

1- «تطور دور الدولة، سياساتها الإقتصادية والنقدية» (ص123-142).

2- «سمات الأزمة الإقتصادية، مظاهرها المزمنة» (ص143-167).

القسم الرابع: «سمات الرأسمالية المعاصرة» (ص169-212)، يضم مقدمة + فصلين:

مقدمة (ص171-173).

1- «التدهور في معدلات الربح، تدويل الإنتاج والتبادل» (ص175-196).

2- «تكثيف النهب الإمبريالي للبلدان التابعة» (ص197-212).

القسم الخامس: «التحوّلات البنيوية للرأسمالية، جرّاء الثورة العلمية - التكنولوجية» (ص213-278)، يضم مقدمة + 3 فصول:

مقدمة (ص215-218).

1- «التحولات البنيوية جرّاء الثورة العلمية- التكنولوجية» (ص219-240).

2- «إنعكاس الثورة التكنولوجية على البنية الهيكلية» (ص241-256).

3- «نمو قطاع الخدمات، دور الدولة» (ص257-278)■

       

إصدارات سلسلة «دليل المعرفة»

1- من الانتداب إلى النكبة... 1919-1948

2- في المسألة الوطنية

3- في العلمانية والدولة المدنية

4- في المسألة التنظيمية

5- في الإشتراكية العلمية ونظرية الحزب

معهد العلوم الإجتماعية

الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

اخر الأخبار