مقايضة حقوقنا الوطنية بالاقتصاد

تابعنا على:   09:51 2021-09-26

نهاد أبو غوش

أمد/ بدت الحكومة  الإسرائيلية في بدايات تشكيلها وكأنها ضعيفة وهشة وقابلة للانهيار عند أول اختبار جدي، لكن حكومة بينيت- لابيد- غانتس تواصل عملها حتى الآن بثقة وثبات، وتتجاوز العقبة تلو الأخرى، سواء من المطبّات والأزمات الطارئة والمفاجئة كقضية أسرى نفق الحرية، أو الألغام والكمائن التي يزرعها زعيم المعارضة بنيامين نتنياهو التواق للعودة إلى الحكم بأي ثمن، واقتراحات حجب الثقة عن الحكومة كلما لاحت فرصة لذلك.

فقد باتت هذه الحكومة التي يرأسها يميني متطرف، شابّ نسبيا ومحدود التجربة،  تحظى بدعم دولي ملحوظ وبخاصة من قبل إدارة الرئيس جو بايدن، ومن قبل الأطراف الرئيسية في الاتحاد الأوروبي، وذلك ما ساهم في تسويق هذه الحكومة وتعويمها حتى لدى الأطراف العربية الرئيسية المعنية بملف الشرق الأوسط، حيث جرت لقاءات بين بينيت وكل من العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، إلى جانب استقبال الرئيس محمود عباس لوزير الجيش الإسرائيلي بيني غانتس.

وتستمد حكومة بينيت الدعم والتأييد ليس بسبب تجانسها وتماسكها الداخلي أو ثقة الجمهور والبرلمان بها، ولا لكونها تحمل برنامجا يخترق الجمود ويبشر باستئناف مسيرة التسوية، بل من سبب رئيسي واحد، هو رغبة كل الأطراف الدولية والإقليمية في طي صفحة بنيامين نتنياهو، الذي سمّم اجواء العالم بأسره وليس فقط أجواء المنطقة، ووضع كل البيض في سلة دونالد ترامب الخطير على بلده وعلى العالم، فوتّر علاقات إسرائيل ليس بإدارة بايدن فقط، بل حتى بيهود الولايات المتحدة الذين تميل أغلبيتهم إلى جانب الحزب الديمقراطي، وفي اوروبا استفز نتنياهو الدول الرئيسية وخاصة ألمانيا وفرنسا، وركّز علاقاته مع اليمين الشعبوي المتطرف، وخاصة مع حكام المجر والتشيك، الذين ساعدوه أكثر من مرة في إحباط قرارات الاتحاد الأوروبي، بحيث بدا وكأن نتنياهو يملك حق الفيتو في مؤسسات السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي.

كان من المتوقع ان تتهتم حكومة بينيت أساسا بمعالجة الشؤون الداخلية، وإصلاح ما خرّبه نتنياهو في مؤسسات دولة الاحتلال، ومواصلة العمل ضمن الخطوط العريضة للسياسة الإسرائيلية في مجالات الأمن والاستيطان ومواجهة الخطر الإيراني المزعوم، من دون ان تحاول التصدي لملفات سياسية خارجية مهمة، ولا حتى لملفات داخلية إشكالية. لكن الدعم الخارجي الذي يفوق التوقع، وحرص مكوّنات الحكومة الثمانية على البقاء معا خوفا من مواجهة خطر الاندثار في حال انهيار الحكومة ( من الأمثلة على ذلك تأكيد ممثلي القائمة العربية الموحدة أنها لن تنسحب من الحكومة حتى لو شنت عدوانا على غزة)، كل ذلك شجع هذه الحكومة الهجينة على طرح مبادرات سياسية تنسجم بالطبع مع القواسم المشتركة للقوى السياسية الصهيونية على اختلاف أصولها ومشاربها.

الأسباب السابقة شجعت هذه الحكومة على ارتياد آفاق طموحة لتحقيق اختراق او تقدم في معالجة قضية الاحتلال والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، مع الحفاظ على ما يراه الإجماع الصهيوني "ثوابت" للسياسة الإسرائيلية، ولكن مع إبداء مرونة في التكتيكات وفي التفاصيل اليومية لتنفيذ هذه السياسات.

صار ممكنا وجود حكومة بقيادة يمينية استيطانية متطرفة، وغطاء يساري وعلماني صهيوني، بحيث تمضي هذه الحكومة في تنفيذ نفس برنامج نتنياهو من ضم فعلي وتوسيع للاستيطان، وتهويد للقدس، والمضي في خطى التطبيع، مع الحرص على إدامة الانقسام الفلسطيني الفلسطيني، ولكنها ليست مضطرة دائما لاعتماد سياسات الشدة والقسوة وارتكاب الفظائع اليومية تجاه الفلسطينيين، أي الإبقاء على الاحتلال كسقف  لطموحات الفلسطينيين الوطنية، مع تخفيف وتلطيف وقعه على حياة الشعب الواقع تحت الاحتلال، وبالتالي فإن ما تختلف فيه عن نتنياهو هو في المظهر الناعم لسياسات الاحتلال مع الحفاظ على الجوهر الخشن .

الرئيس محمود عباس، وفي خطابه أمام الجمعية العامة، منح مهلة سنة لإسرائيل لإنهاء الاحتلال ولقيام الدولة الفلسطينية وإلا...، وللأسف الشديد فإن البدائل التي لوّح بها الرئيس ليس لها أساس واقعي وأول شروطها الداخلية هو إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية واستعادة ثقة الشعب بمؤسساته القيادية من مدخل الانتخابات الشاملة، ثم إعادة بناء استراتيجية كفاح موحدة ضد الاحتلال يمكن لها بدعم اصدقاء الشعب الفلسطيني وأنصاره أن تغيّر في موازين القوى المختلة الآن بشكل فادح لغير صالحنا.

من الصعب تخيل أن ما فشلت في إنجازه ثلاثون سنة من المفاوضات والمبادرات يمكن ان يتحقق بالحسنى أو بالمنطق، فالعالم لا يستمع لصرخاتنا بعد أن ركّب أذنين إحداهما من طين والثانية من عجين، وخيار الدولة الواحدة لا يعني سوى دولة التمييز العنصري (الأبارتهايد) التي يقتصر فيها حق تقرير المصير على اليهود، والحقيقة الماثلة أمامنا أن خيارات إسرائيل البديلة ترتسم وتتشكل وتشق طريقها على أرض الواقع بواسطة الجرافات والدبابات وجدار الفصل العنصري وسواها من أساليب الابتزاز.

من دون ضغط مادي يجعل الاحتلال مكلفا، ويحول الاستيطان إلى عبء سياسي وأمني وأخلاقي، لن تجد إسرائيل نفسها مضطرة لا للاستجابة، ولا حتى للاستماع، لمطالبنا وتهديداتنا، فهي ماضية في تنفيذ مشروعها الرامي إلى مقايضة حقوقنا الوطنية بتحسين أوضاعنا المعيشية والاقتصادية، وفي هذا المجال تتكامل خطة يائير لابيد تجاه قطاع غزة والتي أسماها "الأمن مقابل الاقتصاد" مع رؤية "تقليص الصراع" التي وضعها المؤرخ ميخا غودمان وأبدى بينيت إعجابه بها، وهما حلقتان مكملتان لرؤية بنيامين نتنياهو عن "السلام الاقتصادي".

لن تنتظر إسرائيل موافقتنا ولا مصادقة العالم على خطتها هذه، فهي ماضية في تنفيذها على أرض الواقع لكي تصبح حقيقة مادية يصعب التراجع عنها، كما أنها ومن خلال زيادة تصاريح العمل للعمال ورجال الأعمال، تعمل على بناء قاعدة مادية من المصالح والامتيازات التي تحبذ الارتباط بالاقتصاد الإسرائيلي مع مواصلة كيل الشتائم للاحتلال وسياساته.

كلمات دلالية

اخر الأخبار