هذان الشبلان من ذاك الأسد

تابعنا على:   11:18 2021-10-19

منجد صالح

أمد/ يقطن ثلاثتهم والعائلة الصغيرة والعائلة الكبيرة في قرية النبي صالح الوادعة الحالمة الثائرة، أيقونة المقاومة الشعبية ضد الإحتلال الإسرائيلي الغاشم، مثلها مثل أخواتها بلعين ونعلين وكفر قدّوم وبيتا والمغيّر وبيت أمّر وكوبر ومدخل مدينة البيرة الشمالي ومدخل مدينة نابلس الجنوبي ومُخيّم بلاطة و"مدينة اللد ومدينة الناصرة وقرى الجليل والمُثلّث".

هم ومعظم سكان القرية ينحدرون من عائلة التميمي المعروفة الشهيرة العريقة المناضلة المقاتلة. "عهد التميمي" الطفلة ذات الشعر الأشقر المُجعّد المُجدّل المجدول "المقطقط"، وهي تصرخ على جنود الإحتلال وتواجههم مباشرة و"تتحنّجل" أمامهم رافعة قبضاتها "القبضاية" الصغيرة في وجوههم ومن خلفهم، تُحاول أن تُخلّص شقيقها أو أمّها أو ابن عمّها من براثن الجنود المُدججين بالرشاشات والحقد والغطرسة والقباحة.

أحمد وعزمي، ولدا العم "أبو عزمي"، الشبلان المُتوثّبان المُنتصبة قاماتهما العالية هاماتهما الماشيان على الأرض "ملكا" في شوارع وحارات "النبي صالح"، يُنافسان بشموخهما شموخ مقام "الولي"، النبي صالح، الذي يربض على أعلى التلّة المُشرفة على الساحل الفلسطيني غرباً من بعيد، ساحل عبق بيارات البرتقال والليمون، ويُشرف من قريب من على جميع الجهات على قرى كوبر وجمّالة وبيتللو ودير عمّار وبيت ريما ودير غسّانة وعبود ودير السودان وإم صفا وبير زيت وقراوة بني زيد.

في بلادنا، لحسن حظّنا ودوام عزّنا، يوجد قراوتين "زيادة الخير خيرين": قراوة بني زيد وقراوة أخرى هي قراوة بني حسّان المجاورة لبلدة بدّيا غرباً في محافظة سلفيت.  

أحمد الثائر "الطاهي" وعزمي الثائر الجريح، جاءا إلى الدنيا تباعا لكنهما سارا في الدرب ذاته، درب حُبّ النبي صالح، درب حُبّ فلسطين، كلّ فلسطين، سهولها وجبالها ووديانها وبراريها وغورها وبحرها ونهرها.

لقد شربا وتشرّبا هذا الحب مع أول قطرةٍ من حليب أمهما، مع أول حبّات زيتون التقطاها، مع أوّل قطرات عرق خرجت من مسامات جسميهما وهما يركضان فتية في مقارعة جنود الإحتلال، ومع أول الحجارة التي قذفاها في وجهه وباتجاه الجنود المُعتدين.

هل أصبح الطفل الفلسطيني يولد وفي يده حجر؟؟!!

هل أصبح الحجر الفلسطيني يساوي الجواهر والألماس؟؟ ويسيل على جوانبه السائل الأحمر القاني من مسامات وجراحات وعذابات شبابنا وشاباتنا الأغلى علينا من كلّ جواهر وذهب وماس الدنيا.

أحمد التميمي، شابٌ أسمرٌ نحيلٌ، مُعتدٌّ بنفسه وبذاته وبقدراته، شعره أسود فاحم مالس طويل، "تُهفهف" خصلات شعر "غُرّته" على جبهته العريضة أمام نُسيمات الغرب الهابة من عبق برتقال وليمون الساحل الفلسطيني، المُطلّة قريته عليه.  

اعتقله جنود الإحتلال عام 2017 من بيته في بلدة النبي صالح، على أثر مشاركته الحثيثة والدائمة في المظاهرات والمسيرات والمواجهات ضدّ جنود الإحتلال، وهو طالبٌ في التوجيهي، عُمره بالكاد  سبعة عشر ربيعا مديدا سديدا.

احتجزوه في المعتقل تسعة أشهر، لم يكن قد أنهى دراسته، أكملها في المعتقل، وحصل على شهادة التوجيهي، جواز السفر وفيزا المرور إلى الجامعة.

حصل على معدّل 72.4%، وجاء ترتيبه ضمن الخمسة الأوائل بين المعتقلين وعددهم 837، الذين قدّموا امتحانات التوجيهي في 11 معتقلا على امتداد مُعتقلات الباستيلات الإسرائيلية في أرجاء الوطن المسلوب.

ليست الظروف مُناسبة ولا مواتية "لإنتزاع" علاماتٍ ومُعدّلٍ عالٍ أو أعلى في المعتقلات، فبالكاد تتوفر أدنى شروط الحياة الإنسانية، شروط الدراسة الطبيعيّة مفقودةٌ تماما، ظروف قاهرة بكافة المقاييس والمعايير، إلى جانب القمع والضغوطات الجسدية والنفسية التي يتعرّض لها المعتقلون كل يوم وكل ساعة وكل دقيقة، في النهار وفي الليل، في الصيف وفي الشتاء، في ربيع العمر وفي خريفه، حيث بعض الأحكام تصل إلى سبع مؤبّدات .. يا إلهي أيّ تفانٍ وأيّة بطولة هذه!!!

وبالإضافة إلى هذا الكمّ من الصعوبات والمُعوّقات، فان نتائج التوجيهي في المعتقلات تأتي مُتأخّرة عن النتائج خارج المعتقل، تظهر في شهر تشرين ثاني (نوفمبر) عندما تكون طلبات القبول في الجامعات قد أغلقت أبوابها .. ويجب الإنتظار حتى العام القادم!!!

يا إلهي!!، .. اعتقالٌ وحجزٌ وتأخيرٌ وبعدها انتظار عامٍ كاملٍ حتى الحصول على فرصة ممكنة في العام الذي يليه، .. الظلم يصبح ظلمين وظلامين!!!

لكن أحمد، الشاب المُثابر النحيل، طرق أكثر من بابٍ بعد خروجه من خلف القضبان، تواصل مع جامعة تركيّة، لقد كان راغبا ويهوى "فن الطبخ" لإتخاذه مهنة وحرفة ووسيلة كسب وحياة، لكنه يريد أن يُصبح "شيفا" معتبرا عن طريق الدراسة والممارسة.

خلال انتظاره السفر إلى تركيا والتحاقة بالجامعة أو المعهد المطلوب، لم يجلس أحمد القرفصاء يُمنّي نفسه "بكثرة الشحم واللحم" بعد التحاقه بالجامعة، بل أنّه لم يُضيّع يوما سدى دون عمل، فعمل فيما اتفق من بحر الأعمال: عمل نادلا في مطعم، وعاملا في القصارة والبناء، وبائعا في محل أحذية، وبائعا في نوفوتية ملابس، .. ووو... "سبع صنايع لكن البخت ليس ضايع!!!".

حصل على قبول في جامعة "مارمريس" لدراسة فن الطهي، عشقه ومُراده، لكن صديقا تركيّا تعرّف عليه نصحه أن ينتقل إلى معهد مُتخصّص في العاصمة أنقرة للدراسة هناك.

أنهى دراسته في أنقرة ولم يبق عليه إلا التطبيق العملي، حين داهم تركيّا والعالم فيروس كورونا، فاضطر للمغادرة والعودة إلى الديار، إلى فلسطين، إلى قرية النبي صالح.

في كانون ثاني 2021، حصل على فرصةعملٍ في مطعم "شيشة كافي" في "مدينة روابي حديثة الإنشاء"، حيث بقي هناك وأصبح "الشيف أحمد رقم واحد".

في أحد الأيام حين عودته مساءً من عمله، "داهمه" حاجز احتلالي على مدخل قريته، النبي صالح، أين يقيم الإحتلال، منذ سنوات، بوابة حديديّة وبرجا عسكريا شاهقا، شأن معظم قرى ومدن الضفة الغربية التي حوّلها الإحتلال إلى سجون ومعازل.

أنزل جنود الإحتلال المُدجّجين بالرشاشات والغطرسة والحقد والبلادة كافة "الشباب" رُكّاب المركبة ودقّقوا في هويّاتهم الشخصية. أرجعوا الهويّات للجميع ما عدا هويّتي أحمد وزميل له من بلدته.

احتجز الجنود الإثنين في الوقت الذي أطلقوا فيه سراح الآخرين!!!

اخضعوا أحمد وزميله، كلٌّ على حِدةٍ، لتحقيق ميداني حثيث:

أين طائرة "الدراون" التي سقطت أمس في القرية؟؟ سأل الضابط أحمدا بجدّية تامة.

لا أعرف، أجاب أحمد بقليل من الاكتراث.

بل تعرف، فأنت شاركت في اسقاطها "بالنقّافة"، وصوركم موجودة لدينا، اضاف الضابط المُتغطرس بإلحاح.

لقد كنت في عملي ولم أشارك في أية مظاهرة أمس.

استمر الضابط بالسؤال واستمر أحمد بالإنكار، أو بالأحرى بقول الحقيقة، لأنه فعلا لم يشارك يوم أمس في المظاهرة الحامية التي وقعت في البلدة وقمعها جنود الإحتلال بالرصاص المعدني والمطاطي وبقنابل الغاز المقذوفة من طائرة الدراون المُسيّرة، التي سقطت في البلدة وأختفت آثارها، وجُنّ جنون ضباط وجنود الإحتلال في البحث والتقصّي عنها.

أحمد مناضل صلب و"رأسه حامي"، لم يستطع الضابط المُحقّق أن "يأخذ منه حقّاً ولا باطلا"، وما زال "يُراوغ" الضابط، كما كان يفعل مع سجّانيه وقت اعتقاله الأوّل.

هاتف الضابط والده (أبو عزمي) من جوّال زميله المُحتجز معه:

ألو .. "أبو أزمي"، أنا "دابت المُكابرات" مآك، ابنك بكزب ألينا، بدّي ياك تيجي لهون (أبو عزمي، أنا ضابط المُخارات معاك، ابنك يكذب علينا، أريدك أن تأتي إلى هنا)، قالها الضابط بعربيّة مكسّرة!!!

خلال عشر دقائق كان "أبو عزمي" وجها لوجه مع الضابط الإسرائيلي المُحقّق. ليس قبل أن يوجّه إلية الجندي الرابض على البرج العالي رشاشه ويصرخ عليه أن يتوقّف بعيدا.

"أنتم استدعيتموني ولم آت طوعا"!!! صرخ "أبو عزمي" ردّا على تهديد الجندي.

شوف "أبو عزمي" ابنك "معصلج"، "مزرقن" معانا وبيكذب علينا، قال الضابط ل"أبو عزمي" بنبرة تصالحيّة.

لا أفهم شيئا مما تقول، ابني كان في عمله، ماذا تُريد منه؟؟؟ أجاب "أبو عزمي" حانقا بعض الشيء.

شوف "أبو عزمي" لنا طيّارة مسيّرة صغيرة سقطت أمس ونحن نُريدها.

وما علاقتي أنا وابني بطيّارتكم. ابني لم يشارك أمس في أيّ مظاهرة، هو يعمل ويرجع مُتأخّرا وتعبا وينام.

نحن نُريد الطيّارة وإن لم يدلّنا ابنك على مكانها سنعتقله.

اعتقله، لكنه لا يعرف شيئا عن الطائرة.

طيب، شو رأيك "أبو عزمي" أن تعود إلى القرية وبعد ساعة أتصل بك وتعطيني معلومات عن الطيّارة.

هل تُريد منّي بعد كلّ هذا العمر وكلّ هذا الشيب أن أعمل مُخبرا لديك؟؟!!

أنا أريد منك أن تدلّني على مكان الطيّارة حتى أطلق سراح ابنك أحمد.

شوف يا خواجة، حتى لو أنني أعرف مكان الطائرة فلن أدلّك عليها، وتستطيع أن تعتقل أحمد وأن تعتقلني أنا معه.

انتهى "الحوار" بين الضابط و"أبو عزمي"، نادى الضابط على أحمد الذي كان مُجبرا على الجلوس على الأرض تحت حراسة رشاش أحد الجنود، وقال له:

"روح روّح مع أبوك، سنراقبك طوال الوقت، وسنبقى محاصرين القرية حتى نعثر على الطيّارة!!!

أما عزمي، الأخ الأكبر، البكر، أوّل العنقود، أوّل فرحة "أبو عزمي" وعائلته، فقد شارك فتيّا وبجسارة في تظاهرة حاشدة انتصارا لغزّة اثناء العُدوان الإسرائيلي عليها عام 2014.

أصابته رصاصة قناص في فخذه وهو مُقبلٌ والحجر بيده، فتحت الرصاصة من الخلف حين خروجها فجوة كبيرة، تهتّك العضل و"تفتفت" العظم.

نُقل مباشرة إلى غرفة العمليات في المستشفى في مدينة رام الله، واستغرق علاجه شهورا طويلة.

عزمي وأحمد شبلان سبعان من أشبال فلسطين، شبلان من ذاك الأسد، من عائلة السباع.

كلمات دلالية

اخر الأخبار