حنا أبو حنا غيمتنا الدائمة

تابعنا على:   14:46 2022-02-26

تحسين يقين

أمد/ ما أحوجنا اليوم وغدا إليه، وقد علمنا لا الشعر المقاوم فقط، بل البقاء العظيم!

قبل عشرين عاما كانت سيرته "ظل الغيمة"؛ كان في بداية السبعينات، كأنه أحب أن يقول شيئا عن حنا والشعر والحياة، فهل كان في تسعينياته يفكر بسيرة إضافية عن آخر عقدين!

زميله الشاعر العباسي عَوف بن مُحـلِّـم الخُزاعي في عصر مضى، قال إن الثمانين وبلغتها، قد أحوجت سمعي الى ترجمان، قد اشتهر بيته أكثر منه، فصرنا نتهيب من الحديث مع كبار السن، أو أن نتعلم كيف نتحدث معهم؛ فقد كان الرجل الثمانيني في كامل أناقته، حين كان على جبل الكرمل يرنو الى بحر حيفا، منتصب الظهر في جلسته، يصغي للكون حوله، مستغرقا في مونولوج داخلي؛ ترى ما يقول الشاعر الآن! أما أنا فسلمت عليه، ورحت فقط أتأمل الشاعر، ذي الأناقة المكتملة، برقي الحركة والكلمة.

كان في بداية رحلة الشعر في الرينة بالناصرة، حين تم استلاب البلاد عام 1948، فلم يكد القلب يتفتح للعواطف وجمال الطبيعة في الجليل، حتى زاحم الوطن كل المعاني؛ فكان هو القدر، لذا لم تمر كثير سنوات حين بشّر أبو حنا بهوية القلب والكلمات.

 نقرأ في قصيدته "كيف يُغْسَلُ عن شارعٍ ثاكلٍ قَمَرُ الأرجوان؟" هوية هذا النوع من الشعر الفلسطيني:

"هذه الأرضُ

أقرأها نبتةً ً

مثلما راحتي !

في الفؤاد خريطة فتنتها

....

من سنديان الجبالِ

إلى النخلِ في الغَوْرِ

من شاطئ البحر  ...للنهرِ

من شفة الجرحِ حتى جذور الدّموع

نوّصَ العمرُ

لم تخْبُ نار الهوى"

تلك هي فلسطين الكاملة كما عرفها، وتلك هي الحدود الطبيعية، التي رسمتها أشجار النخيل في أريحا، وسنديان الجليل، على ضفة نهر وشاطئ بحر.

في مسيرة الشعر الجماعي المقاوم تشبه مسيرة الشاعر نفسه، وينطبق عليه في مراحل تطوره ومراحله العمرية ما ينطبق على الجماعة؛ فقد تجد اتجاهات الشعر الفلسطيني الحديث والمعاصر ممثلا بسيرة الحياة الشعرية لشاعر سبعيني أو أكثر، لسبب طبيعي يتعلق بانفعالاته الشعورية والفكرية تجاه ما يجد في الحياة الفلسطينية موضوعيا بشكل خاص، وما ينفعل هو به على المستوى الذاتي إنسانيا، وما يتفاعل بين الموضوعي والذاتي. وهكذا كان وظل؛ فكل عمر له شعره، لكن الوطن ظل القاسم المشترك الأعظم حاضرا في شعره.

مكان حنا أو حنا الذي نحن إزاءه هو فلسطين المحتلة عام 1948، والزمان الممتد لعقود. وما المكان والزمان بمنأى عن المكان الفلسطيني والعربي والعالمي، ولا عن الزمان-التاريخ، خصوصا في استمرار العامل الموضوعي المؤثر على الأفراد والشعب.

في شعر حنا أبو حنا، وزملائه وزميلاته، نحن في حالة استطلاع واكتشاف وتأمل أيضا. كما إننا في حالة تفكير في التاريخ الأدبي من جهة، وتفكير باتجاهات الشعر الفلسطيني 1948 من جهة أخرى.

ثمة اتجاهات واضحة تتعايش ولا تتناقض، تكمل روح الإنسان الفلسطيني الباقي هناك، وقد تكون مجتمعة لدى شعراء وشاعرات، وقد تكون ظاهرة بتركيز نحو اتجاه محدد، خصوصا لدى الجيل الجديد، الذي يحاول الاهتداء لصوته الخاص، في ظل التحولات العميقة التي أثرت على الشعب الفلسطيني في كافة أماكن وجوده، بما فيه المكان الأصلي، في ظل ذلك ظل الشاعر المخضرم حنا أبو حنا حيّا إلى جانب ما تنبت أرض الوطن هناك من شعراء وفنانين.

ولعلنا نزعم أن اتجاهات الشعر لدى حنا أبو حنا، تتراوح ما بين الهموم الموضوعية الوطنية والقومية، والهموم الجامعة بينها وبين النزعة الإنسانية الفردانية، وبين الشعر الذاتي؛ فمنذ البدء بالشعر العمودي والانتقال الى الشعر الحرّ، والمواضيع الإنسانية تتجلى بانسيابية جعلته يحافظ على الحضور.

بعد عام 1967، التقى شعراء الوطن الواحد تحت الاحتلال الواحد، فرأينا أن الشعر هناك شكلا ومضمونا وإبداعا لا يبعد عن الشعر في الضفة الغربية وقطاع غزة (فلسطين 1967)، ولا عن الشعر في الشتات، بل ولم تبعد كثيرا عن اتجاهات الشعر العربي. تلك كانت قدرة شاعرنا حنا أبو حنا في الانسجام مع الهم الفلسطيني والعربي، بما عناه من حيوية البقاء الوطني والقومي إنسانيا.

انتمى الشاعر الباقي إلى الجيل الأول من شعراء المقاومة، لكن بقاءه في فلسطين، وسط التحولات الدامية، نقلت شعره من سياق تقليدي الى سياق إبداعيّ حيّ، فظل وفيا للشعر والوطن. وتابع حياته كمعلم وتربوي وباحث في شؤون الأدب والنقد والتراث، لكنه اشتهر كشاعر كبير.

"ولد عام 1928، في قرية الرينة قضاء الناصرة. ثم تنقل بحكم عمل أبيه في دائرة "مساحة فلسطين" بين القدس، ورام الله، وجفنا، وأسدود، وقرية نجد، وحيفا، والناصرة، ثم العودة إلى الرينة. تعلم في الكُتاب في قرية أسدود التي دمرتها النكبة وأقامت محلها مدينة أشدود، ثم التحق بالمدرسة الابتدائية "المدرسة الأميرية- مدرسة المعارف للبنين" في حيفا. ولكن الإقامة فيها لم تطل؛ إذ انتقل إلى الناصرة وكان من الطلاب المشاركين في ثورات عام 1936  ثم التحق بمدرسة اللاتين في الرينة مدة من الزمن، انتقل بعدها لينهي دراسته الثانوية في مدرسة المعارف في الناصرة. اختير أبو حنا، بعد المرحلة الثانوية، للدراسة في الكلية العربية في القدس التي كانت تستقبل الطلاب المتفوقين من مدارس فلسطين الحكومية، ثم اختير لمتابعة الدراسة في بريطانيا وخصصت له بعثة حكومية لذلك عام 1947، لكن ظروفه العائلية ثم ظروف النكبة حالت دون تحقق هذه الفرصة. نال درجة البكالوريوس في الأدب الإنجليزي من جامعة حيفا.

تنوعت إبداعات الشاعر الشاب إذن: في مجال التعليم، خصوصا في ظل ما تعرض له الفلسطينيون من تهجير، حيث عمل مديرًا للكلية الأرثوذكسية العربية، حيفا حتى سنة 1987، ومُحاضرًا في جامعة حيفا وكلية إعداد المعلمين عام 1973. حصل على الماجستير في الأدب.

كان من الطبيعي أن يكون هنا تلاق ما بين الأدب والصحافة مبكرا في حياته؛ حيث عمل في هيئة تحرير صحيفة الاتحاد الحيفاوية، وشارك في إنشاء مجلة الغد ومجلة الجديد التي صدرت عام 1951 كملحق لجريدة الاتحاد، ثم تابعت الصدور عام 1953، ثم ليعود ثانية ليساهم في مجلتي: "المواكب" عام 1984 و"المواقف" عام 1993. وأزنه كان حديث السن حين شارك في تحرير وإعداد برامج الطلبة في إذاعتي القدس والشرق الأدنى. 

كذلك، ككاتب وأديب، فقد أحب الفنون مثل فن المسرح، أبي الفنون، فساهم بتأسيس جوقة الطليعة، وكان عضواً في الهيئة الإدارية لـ "المسرح الناهض"، و"مسرح الميدان" في حيفا".

وهكذا، من الشعر الى التعليم والصحافة والمسرح والعمل الثقافي العام، ظل حنا أبو حنا حتى الرمق الأخير حيويا محبا للأدب والفن والحياة والجمال والحرية، التي نالها في كلماته، ولم يكن السجان الا واهما حين سجنه عام 1958، وهو يدخل الثلاثين من عمره وهو بكل إصراره في حب الوطن، لعله دوما كان يتذكر طفولته وهو في المظاهرات في الثلاثينيات، ذلك هو القدر، وقد استجاب له، كما قال زميله التونسي يوما:

إذا الشعب يوما أراد الحياة  فلا بدّ أن يستجيب القدر

نحن اليوم فعلا بأمس الحاجة لتأمل فصول حياته، وكيف ظل باقيا كسنديان الجليل ونخل أريحا وتدفق نهر الأردن، واستمرار الأمواج، رغم كل عوامل النفي والطرد والتهجير والاستلاب.

لعل العمر يجمعنا بحديث آخر معه وعنه، كيف كنا نتواصل معه عن بعد، وهو يتعاون معنا، بكل كرم وحفاوة.

 

كلمات دلالية

اخر الأخبار