جولة مرت وهدنة معتادة

تابعنا على:   14:29 2022-08-08

د. سامي محمد الأخرس

أمد/ كالعادة التي تعودنا عليها في السنوات الأخيرة أنّ العدو يتغول في دمنا الفلسطيني، ويدمر الأرض والمباني فوق رؤوس الأطفال الفلسطينيِّين، ويدير معركته الإعلامية الموجهة للراي العام المحلي الصهيوني مقدمًا دماء اطفالنا قربان حملاته الانتخابية، وللرأي العام العالمي المنحاز الذي لا يحتاج توجيه أو تحفيز بل تقوده الولايات المتحدة الأمريكية والغرب الأوروبي بمنح صكوك البراءة لهذا العدو الذي يفرض حصاره على بقعة جغرافية صغيرة تكتظ بأكبر كثافة سكانية هي الأعلى فوق البسيطة، وبعدما يتغول في قهر الإنسانية وتجاوز كلِّ الأعراف والمواثيق الدولية مِن قتل الأطفال والنساء، وهدم المنازل فوق رؤوس ساكنيها يبدأ للبحث عن هدنة يعيد مِن خلالها استعداداته لخوض معركة أخرى مع شباب أمنت بالتحرير وأمنت بوطنها وبقضيته.

تأتي الهدنة الحالية في الجولة الخامسة التي شنها العدوان الصهيوني ضد شعبنا في غزة منذ عام 2008 في ظّل ضغوطات كبيرة جدًا داخليًا واقليميًا على حركة الجهاد الإسلامي التي ردت العدوان على اغتيال أحد قادتها تيسير الجعبري يوم الجمعة الخامس مِن أغسطس (آب) 2022 وهي تستعد للموافقة على تفاهمات مع العدو بواسطة الوسيط العربي المصري، ليؤكد هذا العدو أنه لا يؤتمن ولا عهد ولا عهدة له، وأنه لا يسعى أو يحاول أنّ يمنح شعبنا الفلسطيني أيّ حق مِن حقوقه، بل يستغل أيّ فرصة للتغول في الدم الفلسطيني الذي يعتبر تذكرة مرور ساسته وقادته لكرسي السلطة في كيانهم، وأنّ الناخب الصهيوني شهيته وقريحته لا تتفتح إلَّا بدم الأطفال الفلسطينيِّين.

معركة غير متوازنة
ردت حركة الجهاد الإسلامي على عملية اغتيال قائدها تيسير الجعبري الذي كان يجهز للرد على الوسيط المصري بالموافقة على التفاهمات المتعلقة بالقائد الأسير بسام السعدي الذي تمّ اعتقاله بشكّلِ مهين ومبتذل ومستفز مِن قبل قوات العدو التي سربت فيلمًا تصويريًا لاستفزاز قيادة الجهاد الإسلامي، وعندما أدركت حكمة ورزانه قيادة الجهاد وتعاطيها مع الوساطة المصرية بادرت بتحريك ألتها العدوانية في الإغارة على قادة الحركة في غزة، ساحتها التي تفرغ بها أزماتها وتأزماتها السياسية الداخلية، كالعادة، ممّا أضطر حركة الجهاد الإسلامي أنّ ترد على ذلك بعمليات الدفاع عن النفس، بما تمتلكه مِن أدوات وامكانيات، وكانت تحت وطأة المفاجأة الصادمة لعملية الاغتيال التي نفذتها الآلة الصهيونية، إلَّا إنّها خاضت المعركة والتحدي بأسلوب وتكتيك مميز وقدرة على التخطيط والتدرج، رغم الحرب النفسية القاسية التي حاول العدو أنّ يصدرها للحركة ولقيادتها ولشعبنا الفلسطيني مِن خلال خلق قاعدة إشتباك جديدة،

وتصريحاته وتأكيداته المستمرة على أنّ معركته ضد حركة الجهاد الإسلامي فقط وليس ضد غزة، محاولة منه لترك حركة الجهاد الإسلامي تحت تأثيرات الضغط النفسي مِن مواجهة هذا الاحتلال، والضغوطات الشعبية الفلسطينية في غزة التي يعاني مواطنيها مِن ظروف قاسية ومعقدة وصعبة جدًا، وحصار خانق منذ خمسة عشر عامًا، بل وضغط الاحتياجات التي سارعت وزارة الصحة الفلسطينية مِن التحذير مِن نفاذ الأدوية والقدرة الإستيعابية لطاقتها، والسولار الاحتياطي لديها منذ أول لحظة بالمعركة، وكذلك حذو سلطة الطاقة بالإعلان عن نفاذ مخزون السولار مِن شركة الطاقة وتوقف محطة الكهرباء كليًا، وهو ما ترك ضغطًا كبيرًا على حركة الجهاد الإسلامي التي أصبحت تحت نيران العدو وآلته العسكرية القاتلة،

وضغط المواطن الفلسطيني الذي يرى مشاهد الجرائم ضد الأطفال والنساء والتدمير للبيوت، وضغط الإدارة والقدرة على إدارة المعركة - وحيدًا - إلَّا ِمن مشاركة بعض الأذرع الفلسطينية الأقل عدة وعتادًا، وغياب الإعلام الفلسطيني الداعم والمحفز لقيادة الجهاد وسراياها، وضغط الوسيط المصري للقبول بهدنة أو تهدئة مع بعض الضمانات والتعهدات المصرية التي لَم يبدِ الاحتلال أيّ موافقة عليها، وسط كلِّ هذه الضغوطات وجد الجهاد الإسلامي أنه يغرد وحيدًا وسط ضجيج الصمت الذي يكتنف غزة الصامتة إلَّا مِن ضجيج وأزيز الطائرات والصواريخ التي تلهب جماجم الأطفال والعزل. فكان عليه أنّ يتخذ قرارًا صعبًا ومعقدًا يعتبر أقل الخسائر، ويضمن تحقيق جزء مِن اشتراطاته المشروعة.
دروس وعبّر:

هذه المعركة (وحدة الساحات) التي خاضها الجهاد الإسلامي - وحيدًا- خلال ثلاثة أيام هي معركة لا تختلف عن سابقاتها مطلقًا، إلَّا مِن حيث أنّ الجهاد خاضها وحيدًا في مواجهة الترسانة الصهيونية، والتي جاءت تحمل الكثير مِن المنجزات على صعيد المواجهة مع العدو سواء على مستوى حركة الجهاد الإسلامي التي أكدت على:

أولًا: إنّها تنظيم فلسطيني وطني يؤمن بالثبات الثوري وحق شعبنا بنيل حريته وحقوقه، وأنه لن ولَم يلقِ الراية، ولن يرفع الراية البيضاء لهذا العدو، وأنه لا زال يؤمن بقواعد الاشتباك حتى إزالة الاحتلال.

ثانيًا: القدرة التكتيكية لمقاتلي سرايا القدس التي رغم عمليات القصف المستمرة على مدار الساعة، ووجود طائرات الاستطلاع على مدار الساعة في سماء غزة، إلَّا إنّها استطاعت أنّ تواصل قصف بلدات الغلاف مع الاحتلال، بل والمدن الكبرى مثل تل أبيب والقدس ويافا، وتغلق مطار بن غوريون وتحول حركة الملاحة، بل وتدخل ربع سكان دولة الكيان في الملاجئ.

ثالثًا: قدرة الجهاد الإسلامي وقيادته على امتصاص ضرب واغتيال قيادته العسكرية سواء قائد اللواء الشمالي تيسير الجعبري أو قائد اللواء الجنوبي خالد منصور، والجهوزية التي تمتعت بها قيادة سرايا القدس في عملية (وحدة الساحات(.

رابعًا: القدرة على التعامل مع الملف والضغط السياسي بذكاءِ وحنكة وخبرة، والمزج بين متطلباتها الحركية ومتطلبات الفعل السياسي المحيط بالبيئة الفلسطينية والساحة الغزية على وجه الخصوص، ومحاولاتها الحدّ قدر المستطاع مِن الخسائر ضد البنية التحتية للحركة ومتطلبات شعبنا الفلسطيني في غزة، بعدما صرح ناطقها العسكري أبو حمزة بتصريحه الذي أكد للجميع مِن خلاله على الدعوة للجميع بمشاركتهم المعركة.
في هذا السياق يتأتى أيضًا أنّ المعركة فرضت على الحركة الكثير مِن المتطلبات المستقبلية التي يجب أنّ توضعها على مائدتها، ومائدة سرايا القدس، منها:
أولًا: ضرورة التجهيز والإستعداد الدائم والجهوزية الأمنية المستمرة لقيادتها وعناصرها العسكرية بشكّلِ مستمر ودائم.

ثانيًا: الجهوزية لمفاجآت وصدمات هذا العدو الذي لا يؤتمن تحت أيّ ظرف مِن الظروف سواء بالهدوء أو بالمعارك.
ثالثًا: إعادة الجهوزية لفرقها واستعداتها التكتيكية على التحرك والمناورة مِن نخبها العسكرية ومباغتة العدو بمفاجآت على مستوى التكتيك العسكري المتنوع.

رابعًا: إعادة تنظيم وترتيب أدواتها الإعلامية بشكل إحترافي، فالإعلام نصف المعركة، وأكدت المعركة أنّ حركة الجهاد تعاني مِن خلل كبير في وسائلها وأدواتها الإعلامية، ويتطلب منها إعداد جهازها الإعلامي القادر على مواكبة المعركة والمزاج الشعبي الفلسطيني، بل والرأي العام الإقليمي والدولي.
خامسًا: تعدد الجبهات مِن خلال منح الضوء الأخضر لكلِّ ساحاتها بالكثافة الجهوزية والحضور إعلاميًا على كلِّ الوسائل والأدوات الإعلامية، وإثبات الحضور الدائم والمستمر إعلاميًا، وعدم المراهنة على المحللين الذين أغلبهم ذو توجهات معينة، وجزء منهم أرزقية لا يعنيه أكثر مِن إثبات الاسترزاق والحضور الإعلامي.
سادسًا: بناء الخطط والمخططات على أسس وقواعد إشتباك معينة يكون عنوانها أنّ تكون وحيدًا في أيّ معركة تخوضها كما حدث في هذه المعركة.
سابعًا: العمل وبشكّلِ دؤوب على إعادة صياغة مفاهيم ومبادئ الشراكة الوطنية وفق أسس وقواعد تضمن عدم التفرد أو منح فرص للعدو التفرد بها مستقبلًا.
توقيت الهدنة أو التهدئة:

لقد وضعت حركة الجهاد الإسلامي الكثير مِن القوى والجهات الداخلية والخارجية في مواقف محرجة، بل ودفعها الكثير سواء بشكل مباشر أو غير مباشر للموافقة على الهدنة، وتعرضت لضغوطات صعبة ومعقدة، إلَّا إنّها رغم بعض الخسائر التي منيت بها استطاعت أنّ تتناغم والعمل السياسي العقلاني وفق ما شرحنا سابقًا، وأنّ لا تغرد في فضاء يعزلها عن الجميع وخاصة شعبنا الفلسطيني الذي شكّل لها حاضنة وبات على يقين أنّ حركة الجهاد تنطلق من معتقدات وثوابت وطنية هدفها العريض (التحرير) وإنها ليست حركة تحاول حصد أهداف سياسية معينة أو أهداف حزبية خاصة،

بل تؤمن بعملية العمل الثوري التحرري، وعليه استطاعت أنّ تختار التوقيت والشروط الذي لا تضعها بمواقف محرجة شعبيًا مِن جهة، وأنّ لا تمنح العدو نصر زائف حاول تمريره بماكنته الإعلامية ثانيًا، وروج مِن بداية المعركة بأنه حقق أهدافه ووجه ضربة قاسية لحركة الجهاد الإسلامي، بالعكس فحركة الجهاد الإسلامي بمناورتها السياسية دحضدت هذه الرواية، وافشلت مخطط العدو الذي استهدفها راسها شعبيًا، بل أنّ حركة الجهاد الإسلامي قدمت نفسها مِن جديد لجماهير شعبنا الفلسطيني وبروح جديدة يجب البناء عليها مستقبليًا مِن خلال التأكيد على سياسة العمل الجماهيري والشعبي للحركة، وتفعيل مؤسساتها الجماهيرية والإعلامية والخدماتية، كما أنّ التوقيت لموافقة الحركة على فرض حالة مِن الهدوء أكد على أنّ الحركة أصبحت شريكًا فلسطينيًا ووطنيًا لا يمكن القفز عنه، أو تجاوزه مستقبلًا في إدارة المستقبل الفلسطيني.

الثابت والمتغير في المعركة:
بالقراءة السابقة وضعنا التصورات المنطقية للعملية والمعركة التي خاضتها حركة الجهاد الإسلامي خلال ثلاثة أيام وهي المعركة الثانية التي تجد الحركة نفسها وحيدة بعد معركة عام 2019 في ردها على اغتيال قائدها بهاء أبو العطا، واليوم خاضت معركتها للرد على قائدها تيسير الجعبري في ظّل ثوابتها ومحدداتها الحركية والوطنية، حيث أنّ الثابت لدى حركة الجهاد الإسلامي هو التأكيد على هويتها وعقيدتها التي أسس عليها الشهيد المؤسس فتحي الشقاقي مفاهيم وأيديولوجيًا العمل الثوري ومعركة التحرير، وأكدت حركة الجهاد الإسلامي التي انطلقت منذ ستة وثلاثون عام إنها لا زالت تؤكد على ثوابت انطلاقها وبنائها ومفهومها وأيديولوجيتها العقائدية والتحررية، ورؤيتها لماهية ومفهوم مواجهة دولة الاحتلال، وكذلك مفهومها ورؤيتها للعملية السلمية أو عمليات الترويض التي خضعت لها بعض الفصائل الفلسطينية،

وأنّ الأهداف الإستراتيجية غير قابلة للتغيير عن الثوابت ما دام الاحتلال قائم ويتغول ضد الشعب الفلسطيني، والأرض الفلسطينية. أما مفهوم المتغيرات هي القدرة على التفاعل والتعامل مع المتغيرات الإقليمية السياسية وكيفية المزج ما بين سياسات العدو الصهيوني الذي يحاول أن يضع الجهاد الإسلامي كعدوٍ رئيسي ويتفرد به لتصفيته أو أنهاكه واضعافة، والسياسات التي تعمل وفقها بعض القوى الفلسطينية التي تستهدف تحقيق أهداف سياسية وفق المتاح أو الممنوح لها إسرائيليًا، وكذلك قدرة التعامل مع متغيرات ومتطلبات الاحتياجات والحاجات الشعبية المستنزفة، وهي على يقين أنّ شعبنا الفلسطيني رغم ظروفه إلَّا أنه يشكّل حواضن لكلِّ عمل مقاوم صادق ومتصالح مع أهدافه الوطنية، وهذا ما نجحت به حركة الجهاد الإسلامي وتأكيده مِن خلال ثوابتها ومتغيراتها.

مِن هنا فإننا كفلسطينيِّين مطالبين أنّ نحافظ على حركة تؤمن بهذه الثوابت وتعمل وفق هذه المتغيرات، وأنّ نكون صادقين معها في توجيهها ونقدها وتثبيت قواعدها وعقيدتها النضالية، وأنّ نشكل لها ظهرًا سياسيًا وشعبيًا يمكنها مِن المناورة والتطوير لمفهوم العمل المقاوم التحرري، وكذلك مطلوب مِن الحركة أنّ تخوض معارك بنائها الداخلي وتطوير قدراتها البشرية وغير البشرية، وخلق كوادر تستطيع أنّ تقود المشروع الفلسطيني المقاوم.
أخر كلماتي:

لقد خاضت حركة الجهاد الإسلامي أطهر معركة ومواجهة مع العدو الصهيوني في الفترة النضالية الأخيرة، وعلينا أنّ لا نسلم وعينا لمن يريد أن ينخر جسد حركة الجهاد الإسلامي بتسوس التشكيك والريبة والعزف على عاطفة ومشاعر الجماهير الفلسطينية المغلوبة على أمرها، فكلِّ معاركنا الخمس السابقة لَم نحقق أكثر ممّا حققت هذه المعركة، ولَم نفعل أكثر ممّا فعلت حركة الجهاد الإسلامي.

كلمات دلالية

اخر الأخبار