الأرض تحب من يحبها.. بلفور المشؤوم (1)

تابعنا على:   11:00 2022-10-27

د. سامي محمد الأخرس

أمد/ أولًا: القراءة السياسية.
منذُ الصغر ونحنُ نُغذّى ذهنيًا بالوعد الذي منحته بريطانيا للحركة الصهيونية بفلسطين كوطنٍ قومي، عبّر وزير خارجيتها "جيمس آرثر بلفور" الذي حمل الوعد اسمه، فحمل مظلمته الكبرى، ومعظمته الكبرى وفق وجهة نظر الأطراف المتعلقة بهذا الوعد، وهي الأطراف الّتي لا يمكن حصرها بأيّ حالِ مِنْ الأحوال في قوميتين محددتين "العرب واليهود"، كما هو شائع في العرف التقليدي أو الفهم التقليدي المتداول، فمثلًا المسلمُون طرف، والمسيحيِّون طرف. إذن فالديانات السماوية الثلاثة أطراف حية وحيوية ومؤثرة في هذا الوعد، بما أنّ الوعد منح قضية تمثل رأس حربة، ومكان تقديس للديانات الثلاث، فمن أصدر الوعد مسيحي له كديانة صراع طويل وحاد مع اليهودية، فهم مَنْ صلبوا المسيح-- ويؤكد ويؤرخ التاريخ حجم وشراسة هذا الصراع العنيف بينهما، والمستفيد مِنْ الوعد اليهود الذين يُرْجعون ذلك لحق ديني، وعقائدي لا إلتباس فيه- حسب وجهة نظرهم- وأنّ لهم الحق في فلسطين دينيًا وتاريخيًا، وأنّ صراعهم ديني عقائدي، أثبت وأكد وأعاد لهم أرض الميعاد، أما المتضرر فهم المسلمُّون الذين يعتقدوا أنّ حقهم في فلسطين حق سماوي، ورباني وأنّ فلسطين لها مكانة مقدسة معظمة في المعتقد الإسلامي، فهي حاضنة المسجد الأقصى أولى القبلتين، وثالث الحرمين، والمسجد الذي عُرج منه النبي محمد - - إلى السموات العلى، وأنّ هذا الحق قرآني لا يخضع للإسقاط أو التنازل أو التشكيك.
إضافة إلى هذا البُعد العقائدي المبسّط، فإنّ هناك تقاطعات أخرى حول هذا الحق لا زال الجدل حوله رغم مرور مائة عام، وهو الجدل الإنساني، والصراع بين البُعد الإنساني والبُعد الإستعماري:
- البُعد الأوّل: يرى "الوعد مِنْ منظور أنه مَنح حق لمن لا يستحق"، وانتزع شعب مِنْ أرضه وأحل شعب آخر بديل انتزع الأرض وأقام كيانه على حساب شعب لا زال يصارع الشتات، واللجوء، والتشرد، ويحمل خيمته مشردًا في أصقاع الأرض؛ لإنتزاع حقوقه مثل الشعوب في العيش بوطنٍ حر مستقل.
- البُعد الثّاني: فإنه يرى في الوعد بُعدًا استراتيجيًا في السيطرة على المنطقة الأهم، والأكثر حيوية في العالمين القديم والحديث، وأنه أمن للإستعمار العالمي مدخلًا استرتيجيًا في السيطرة على المنطقة، والتحكم في جغرافيتها، وثرواتها، والأهم إنتزاع فتيل الصراعات مِنْ عمق الدول المستعمرة وتصديره إلى عمق المنطقة العربية، وحصره في مربعها المقسم المفتت، ممّا منحهم مزيدًا مِنْ القدرة على العمل، والتخطيط، والهيمنة وهو البُعد الذي أثبت صوابيته التاريخية ونجاعته حتى راهن اللحظة.
ويبقى لنا أنّ نُفكر ونسأل معًا، ما هي الإستراتيجية الًتي مَنحت بريطانيا عبّر بلفور هذا الوعد للحركة الصهيونية؟، وماذا فعل العرب والمسلمُّون وكذلك الإنسانية أمام ما خلفه هذا الوعد؟ وما هي السبل لإعادة ما تركه مِنْ آثار على المعتقدات الدينية الثلاثة؟
في الأساس صدر وعد بلفور في الثّاني مِنْ نوفمبر (تشرين ثان) عام 1917 عبّر تصريح أو صك يؤكد بإقرار بريطانيا الدولة "الإمبراطورية" العظمى بمنح اليهود والحركة الصهيونية، بقيادة ثيودور هرتزل الحق في إقامة وطنٍ قومي في فلسطين، وهو الصك الذي حاولت الحركة الصهيونية وهرتزل معًا الحصول عليه بشتى الطرق والأساليب مِنْ الدولة العثمانية والسلطان عبد الحميد الثّاني الذي رفض قطعًا كلّ الإغراءات الصهيونية، وشرع وأصدر عشرات القوانين الّتي تقاوم وتحد مِنْ تحركات الحركة الصهيونية والهجرة اليهودية إلى فلسطين، إلاّ أنه رغم كلّ ذلك فشل. وكان للفساد في الولايات العثمانية، والولاة العثمانيّين في فلسطين دور مهم ومؤثر في تنفيذ وعد بلفور على الأرض، وزاد مِنْ وتيرة هذا الفعل هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، والتمرد والإنقلاب ضد السلطان العثماني، وتقسيم ممتلكاتها، وفرض الإنتداب البريطاني على فلسطين وإمارة شرق الأردن، والعراق، ومصر، والانتقال مِنْ مراحل المحاولة والتمهيد إلى مراحل التطبيق، حيث بدأت سياسة الإنتداب البريطاني في فرض سياسة التمهيد للحركة الصهيونية سياسيًا، وعسكريًا، وجغرافيًا مع غياب للعرب عامة ومحاولات بائسة مِنْ الفلسطينيِّين في مقاومة هذا المشروع الذي لَم تقف على رأسه الحركة الصهيونية فقط، بل والدول الاستعمارية، وهو هدف استراتيجي أوّل مَنْ أعلن عنه هو الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت، الذي تعاطف مع اليهود ومطلبهم في إقامة وطن قومي لهم في فلسطين مع العودة لمصطلح "قومي" في التداول التاريخي للصراع بين الحركة الصهيونية والعرب مِنْ جهة، وصبغ الصكوك الإستعمارية بهذا المصطلح في التعريف بالحق اليهودي، أيّ منح الصراع بُعدًا قوميًا يتعدى حدود الصراع بين شعبين بل بين قوميتين، أيّ هنا الحديث عن هوية قومية، وليس هوية سكانية، إضافةً إلى البُعد الديني في المسألة، بما معناه أنّ الصراع ديني- قومي وهو شبه متفق عليه بين اليهود والمسلمين، أنّ الصراع يأخذ طابعًا أعمق وهو الطابع القومي- الديني.
محطات عديدة مرّ بها هذا الوعد في خضّم الصراع المتواصل بين العرب والحركة الصهيونية على فلسطين، وإنّ كانت هذه المحطات في إرهاصاتها ذات ملامح دولية بما أنّ الصراع كان عالميًا وليس إقليميًا، فالدولة العثمانية كانت ترى فلسطين أحد محمياتها وولاياتها، وهي جزء مِنْ دولتها ومسئوليتها الدينية كخلافةٍ للمسلمين والمتحدث بلسانهم، وحامي حمى الإسلام، وبين العالم المسيحي بشقيه، بريطانيا وفرنسا والتحالف المستمر مع الحركة الصهيونية الإطار النّاظم لليهود في العالم، بعدما أذاقت الممّالك الأوروبية اليهود الويلات في كنفها، واضطهدتهم وارتكبت بحقهم المذابح، والقمع، وحرق كتبهم الدينية وتلمودهم، إضافة للسعي إلى حل المعضلة أو المسألة اليهودية في أوروبا، ونقلها كمسألةٍ صراعية مِنْ قلب العالم الأوروبي الذي خاض صراع مرير مع اليهود، ويخوض صراع عنيف مع العالم الإسلامي أو العقيدة الإسلامية الّتي تحولت لمنافس ديني وتاريخي لهم منذ فجر الإسلام، أيّ انتقال وتحول الصراع مِنْ مسيحي - يهودي إلى مسيحي - إسلامي ومِنْ ثمّ مسيحي يهودي - إسلامي في ظلّ حالة التحالف المسيحية اليهودية في صراع الإمبرطوريات والإستعمار الحديث.
وهذه المرحلة هي الّتي أسست وأوضحت معًا لملامح المخطط الإستراتيجي والسعي المثابر للإستعمار الغربي والحركة الصهيونية نحو فلسطين، في ظلّ حالة الانسحاب الإسلامي- العربي مِنْ الصراع بعد هزيمة الدولة العثمانية وتفككها، وسيطرة الإستعمار على ميراثها الجغرافي في المنطقة العربية الّتي أيضًا تمّ تفكيكها عبّر سايكس – بيكو عام 1916، وتوزيع مناطق النفوذ بين فرنسا، وبريطانيا، وإيطاليا في المنطقة، ووضع الشعوب العربية تحت الوصاية أو الإنتداب لحين يتم تأهيلها - وفق الفهم الإستعماري- لحكم نفسها، وهو الإطار الذي صاغته وشرعته عصبة الأمم المتحدة، ومِنْ خلاله تمّ تجزئة الوطن العربي ورسم ملامحه الجديدة وعلى وجه التحديد منطقتي الشام "سوريا الكبرى" والخليج العربي، فالشام أصبح سوريا، لبنان، فلسطين، الأردن، أما الخليج ففتت إلى إمارات ومشايخ صغيرة تحيط بالكيان السعودي الديني، أيّ أنّ الإنتقال مِنْ مرحلة لمرحلة وفق الحالة العامة هو الأساس الذي بنى عليه تجسيد وترسيخ "وعد بلفور" دون إثارة للنعرات الدينية، أو إحداث زلزال في المنطقة العاجزة أصلًا، والمرهقة مِنْ حكم أربع قرون مِنْ الدولة العثمانية الّتي أنهكت قواه، ودمرت مقدراته ومقوماته، وأضعفت مِنْ بنيانه المؤسساتي القادر على الثبات والصمود، مع بعض الأحداث والمواقف السياسية الّتي اتخذت بعض المواقف والإنحياز لتحالفات وتيارات كما فعل "أمين الحسيني" في الحرب العالمية الثانية، وربما كان لهذا الإنحياز ما يبرره كونه أحد الخيارات الجدلية في فهم طبيعة الصراع الذي اجتهد فيه الحسيني، وجاء بناء على رؤيته لطبيعة التحالفات القائمة آنذاك، وقراءته العميقة لطبيعة ووعود كلّ حلف مِنْ المحورين، والعلاقة بالحركة الصهيونية الّتي كان لها تحالف عقدي مع محور"التحالف" بريطانيا وفرنسا، في ظلّ عدم أو صعوبة الحياد في أزمة قائمة ومعقدة على الأرض وفي الواقع ركيزتها وضحيتها فلسطين.
ومع هزيمة حلف "المحور" والدولة العثمانية أصبحت الأقطار العربية تتحول مِنْ مفهوم الوحدة والدولة الكبرى إلى مفهوم القطرية والدولة المتقوقعة في حدودها، وأزماتها ممّا دفع كلّ قُطر إلى البحث عن خلاصه الداخلي، فمصر تصارع بريطانيا والملكية، والعراق يصارع بريطانيا، وسوريا ولبنان تصارعان فرنسا، وليبيا تصارع إيطاليا، والأردن إمارة مُسيطر عليها بريطانيًا، والسعودية وليد شرعي استراتيجي لبريطانيا، وفلسطين تصارع بريطانيا والحركة الصهيونية والموروث الذي تركه تحالف الحسيني مع دول المحور، أضف لذلك الصراع الداخلي العشائري، وارتباط الحالة الفلسطينية بالحالة العربية عامةً، والإرتهان لحالة المقاومة العشوائية غير واضحة المعالم والأهداف الّتي كانت سائدة في تلك الحقبة في صفوف النخبة السياسية، الّتي خاضت صراع آخر ما بين القومية والقطرية مِنْ جهة، وما بين العشائرية مِنْ جهةٍ أخرى. فكانت النتيجة ذوبان الهوية الفلسطينية وانصهارها في معركة كانت تتطلب رسماً لسياسات تكتيكية واستراتيجية، واتخاذ خطوات للأمام بثبات وقوة، ومباغتة الأهداف البريطانية- الصهيونية، وهو ما يضعنا أمام سؤال آخر، بعد إحدى وثلاثين عام مِنْ وعد بلفور 1917 إلى عام 1948 لماذا لَم يُعلن العرب والفلسطينيُّون دولتهم؟!
في الوقت الذي كانت فيه بريطانيا والحركة الصهيونية تؤسسان لتنفيذ وعد بلفور على الأرض، كان العرب عامة يخوضون معركة القرارات الدولية، ولجان التحقيق، والتعويل على القوى الاستعمارية، والعشوائية في المقاومة، ونزع الحقوق، حيث خاض الشعب الفلسطيني معركته منفردًا بثوراتٍ شعبية ما بين الفينة والأخرى، وهي ثورات أخذت ردة الفعل على بعض الأحداث، وليس ثورات تحررية أو مطالب بجلاء الإنتداب، ولَم ينظم الفلسطينيُّون حقوقهم ضمن مؤسسات دولة تملأ الفراغ عكس الحركة الصهيونية الّتي كانت تبني الدولة، وتقيم مؤسسات دولة، إضافة إلى الاعتماد على الدول العربية آنذاك والّتي كانت أحوالها ليس بأفضل حال مِنْ الفلسطينيِّين وخاصة مصر الّتي كانت تحارب وتقاوم الملكية والسيطرة البريطانية، وكذلك العراق، وأيضًا سوريا، فكانت النتيجة أنّ مِنْ غرس قطف، فالحركة الصهيونية غرست بذرة الدولة فقطفت ثمار بذرتها، في الوقت الذي كان به الفلسطينيُّون منشغلين ومتنازعين، فماذا لو أعلن العرب دولة فلسطين في الخامس عشر مِنْ مايو (أيار) 1948؟!
ربما كانت دفة الصراع قد تحولت بدرجة كبيرة جدًا، ولَم تصل الأمور إلى حدودها الحالية فكان يمكن أنّ يكون الصراع بين دولة وأقلية قومية تقطن هذه الدولة، وهذا الصراع كان يمكن إيجاد مصوغات كثيرة له، وحلول متعددة، ولكن ما حدث العكس أنّ الصراع أصبح بين دولة وأكثرية تطالب بدولة، وهو ما آل إليه حتى واقع الحال الذي نحن في كنفه، ولا زلنا نناقش مفهوم الدولة وهويتها، هل هي دولة ديمقراطية واحدة، أم ثنائية الدولة، أم دولة دينية إسلامية، أم دولة على حدود عام 1967؟
هي الذهنية الأساسية في القدرة على التخطيط الاستراتيجي، والتفكير مِنْ خلال مؤسسة؛ ففي عام 1897 أعلن مؤسس الحركة الصهيونية هرتزل عن إقامة "الدولة اليهودية" في فلسطين، ولكن توفي بعد ثلاثة أعوام مِنْ تصريحه السابق، فهل سقط مشروعه؟ وهل سقط وعده؟
لَم يسقط وعد بلفور الذي صدر عام 1917، وكذلك لَم يسقط تصريح هرتزل عام 1897؛ ففي عام 1948 أعلنت الحركة الصهيونية عن دولة "إسرائيل" بعد إعلان إنتهاء الإنتداب البريطاني في الرابع عشر مِنْ مايو( آيار) رغم أنّها انسحبت مِنْ المناطق اليهودية في الثامن عشر مِنْ فبراير (شباط)، أيّ أنّ المسافة الزمنية خمسون عام رغم وفاة المؤسس ثيودور هرتزل صاحب فكرة الدولة، وهو ما يؤكد ما ذهبنا إليه سابقًا بأنّ الحركة الصهيونية تعمل وفق عمل منظم ومؤسساتي ممنهج ضمن مؤسسة لا ترتبط بحضور فرد أو غياب فرد آخر، وليس ضمن إطار شخصية واحدة وكاريزما واحدة لفرد أو لحركة ما، وهو المكون التاريخي الذي لا زال غائب عن الفهم الإستراتيجي العربي عامة، والفلسطيني خاصة.
فبعد ما يقارب مِنْ قرن مِنْ الزمن (مائة عام) مِنْ وعد بلفور، وخمسة وتسعون عاماً مِنْ صك الانتداب في عام 1922 الذي تضمن في طياته أكثر ممّا هو إنتداب ووصية ولكنه نص على:" ولما كانت دول الحلفاء قد وافقت أيضًا على أنّ تكون الدولة المنتدبة مسؤولة عن تنفيذ التصريح الذي أصدرته في الأصل حكومة صاحب الجلالة البريطانية في اليوم الثّاني مِنْ شهر نوفمبر(تشرين الثاني) 1917، وأقرته الدول المذكورة لصالح إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، على أنّ يفهم جليًا أنه لن يؤتى بعمل مِنْ شأنه أنّ يضير بالحقوق المدنية والدينية الّتي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية الموجودة الآن في فلسطين، أو بالحقوق والوضع السياسي ممّا يتمتع به اليهود في أيّ بلاد أخرى."
تسعة وستون عامًا مِنْ إعلان دولة "إسرائيل" في اليوم التالي لإنتهاء الإنتداب البريطاني الذي تمّ بشكل فردي ودون تنسيق مع الأمم المتحدة وفق الأعراف الدولية والقانونية المتعارف عليها، والمتبعة بإبلاغ الدولة المنتدبة الأمم المتحدة؛ لترتيب الأوضاع وفق القانون الدولي وملء الفراغ السياسي في الدولة الخاضعة للإنتداب، إلَّا أننا نحنُ كعربِ وفلسطينيِّين لا زلنا في حالة صراع مرير وقاسي حول مفهوم الدولة الّتي نريد، ماذا نريد؟
تتابعت الهزائم العربية منذ عام 1948 ونجاح الحركة الصهيونية وعصاباتها المسلحة في قطع الخطوات العملية نحو تنفيذ قرار التقسيم الصادر عام 1947 الذي رفضه العرب واليهود آنذاك، إلَّا أنّ الحركة الصهيونية عادت لتوافق عليه إدراكًا منها للمخطط القائم مستقبلًا، وخطواتها الإستراتيجية الّتي تسعى لتنفيذها على الأرض ضمن سياسة الخطوة – خطوة، ومرحلة تلو مرحلة في سبيل الهدف الإستراتيجي الذي يدور في مراحل وخطط تكتيكية متتابعة تؤدي لما سعت وتسعى إليه الحركة الصهيونية ضمن برنامج ثابت ومحدد، وممنهج، وكانت بداية التطبيق لهذه الإستراتيجية إعلان دولة "إسرائيل" دون القدس الشرقية، والضفة الغربية، وقطاع غزة، لتبدأ ملامح الصراع تتغير وتدخل في معركة أعمق، أيّ أنّ الوعد الذي قطع وأصدر عام 1917 لَم يَعد صكًا تاريخيًا ووثيقة تاريخية بل بدأ يتحول لصك ملكية على الأرض وفي الواقع، واستطاعت الحركة الصهيونية قيادة دفة الصراع السياسي، والعسكري، لتنتقل بعد 1948 إلى الصراع الجغرافي بعدما وضعت ونصبت موطئ قدم فعلي، وبدأت بترسيم حدود الواقعية السياسية والجغرافية على الأرض، وتتصرف كصاحبة حق، وصاحبة قوة، وأنّ الوعد حق لمن هو أحق، وتحولت مِنْ المفهوم العصاباتي المتعارف عليه عربيًا، إلى المفهوم المنظم والنظامي، وأصبح العرب الفلسطينيُّون عرفًا وتقليدًا مِنْ أكثرية إلى أقلية، وهنا نعود مِنْ جديد لسؤالنا السابق المتحمور حول عدم استغلال الأكثرية للحالة وإعلان دولتها على أرضها(أيّ الفلسطينيُّون)؟ وتحويل الصراع فيما بعد لحقوق أقلية (اليهود)، فما حدث أنّ الأقلية اليهودية بإعلان دولتها عكست ملامح الصراع والواقع الديموغرافي بأنّ جعلت مِنْ الأكثرية أقلية والعكس صحيح، وأصبحت الأكثرية تطالب بحقوقها مِنْ الأقلية، وهو التحول التاريخي الإستراتيجي في المفهوم العام للصراع الذي حتى هذه الحقبة اتخذ ثلاث مراحل تكتيكية نجحت بها الحركة الصهيونية:
الأولى-التأكيد على الحق التاريخي والديني مِنْ خلال انتزاع صك بذلك بعدما فشلت في انتزاعه مِنْ الدولة العثمانية، فانتزعته مِنْ الإمبراطورية العظمى بريطانيا.
الثانية-التمهيد والتمتين على الأرض، ورسم الملامح الإستراتيجية للمشروع وفق المخطط الإستراتيجي والإطار العام للهدف الأساسي وطن قومي يهودي في فلسطين.
الثالثة-التحول مِنْ أقلية إلى أكثرية، وفرض إرادتها وسيادتها وفق سياسة الأمر الواقع مِنْ خلال البناء، والتأسيس، والتنفيذ.
هذه المراحل الثلاثة رسمت معالم الصراع، وفرضت قوة دخيلة مشرذمة نظمت مؤسساتها وكيانها حول هدف أساسي وإستراتيجي إستنادًا للحق الممنوح بصك بلفور، وإتباع منهجية وسياسة الخطوة - خطوة في الإندفاع للأمام، وقوة لا زالت تصارع وجودها وبقائها دون أيّ ملامح لأيّ منهجيات أو إستراتيجيات، فقدت وتفقد كلّ مكوناتها ومصوغاتها كأكثرية صاحبة حق تاريخي بوطنها.
لَم تقف الحركة الصهيونية عند حدود قرار التقسيم لعام 1947، ولَم تقف عند طموح إعلان دولة "إسرائيل" عام 1948، كذلك لَم تقف طويلًا في نقاش مقررات اللجان والهيئات الدولية، بل اندفعت في العمل الدؤوب وفق السياسة الّتي أوضحناها ألَّا وهي سياسة الخطوة – خطوة في تجسيد وترسيخ مشروعها على الأرض، والإنتقال مِنْ مرحلة التثبيت لمرحلة التشتيت، ولكن التشتيت ليس لمكوناتها أو فكرها أو ذهنيتها بل لعدوها (العرب) وأعداء مشروعها، فخاضت حرب 1967 لتعيد ضم الجولان السوري، وسيناء المصرية، والضفة الغربية وقطاع غزة الفلسطينيِّين، والقدس الشرقية فتحولت السيادة مِنْ مقررات خطوط الهدنة دوليًا إلى خطوط الفصل المحددة إسرائيليًا، وإعادة العرب عامة والفلسطينيِّين خاصة للبدء مِنْ جديد في مناقشة مطالبهم ورؤياهم بعد التغيرات الجيوسياسية الّتي أحدثتها نتائج هزيمة عام 1967.
فأصبحت مصر تقاتل دبلوماسيًا، وسياسيًا، وعسكريًا؛ لتعيد كرامتها، ومناطقها الجغرافية المحتلة، وتحولت مِنْ دولة تريد تحرير فلسطين إلى دولة تريد تحرير سيناء، فكانت حرب أكتوبر (تشرين أوّل) 1973 التحريكية لتثبيت الفكر الصهيوني، والفكرة الصهيونية الإستراتيجية مِنْ خلال حصر التفكير المصري في حدوده الموسومة عبّر سايكس – بيكو، وهو ما تجلى في اتفاقية كامب ديفيد عام 1978، ومِنْ ثمّ معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية عام 1979، وإعادة سيناء للسيادة المصرية خالية مِنْ أيّ مظاهر إلَّا الإشراف الشرطي المصري فقط.
أما على الجبهة السورية الأخرى فتم تسكين الصراع ما بين اللاسلم واللاحرب وأصبح كلّ الوعي السوري ينصب في كيفية استعادة الجولان وتحريرها، أما الأردن فأرتأت أنّ تنأى عن نفسها مِنْ الحروب وأطلقت العنان لسياساتها للحفاظ على جغرافيتها حتى وقعت اتفاقية وادي عربة عام 1994... ويبقى لنا أنّ نسأل أين فلسطين؟!
سؤال بعرض الإستعراض التاريخي الذي يجيب عنه صك ووثيقة وعد بلفور الصادر عام 1917، وصك الانتداب عام 1922 أين فلسطين؟ وما هي حدود وجودها الجيوسياسي؟
خاض الشعب الفلسطيني بعد عام 1967 نضاله المطلبي منفردًا مِنْ خلال ثورته المعاصرة الّتي انطلقت عام 1965؛ ليحدد مشروعه الأساسي، وفكره الإستراتيجي في صياغة رؤيته وتطلعاته نحو مفهوم الدولة، ومفهوم التحرير، والوطن، ورؤيته العميقة لجملة أهدافه النضالية، وإستراتيجيته التحريرية لأرضه، وتنوعت الأيديولوجيات وتشتت الرؤى حوّل هذه المفاهيم في الثورة الفلسطينية، وحوّل الحق التاريخي في الدولة، وبرزت في جملة هذا التعمق والتشتت معًا محاور يمكن صياغتها على شكّل أسئلة تتلخص في:
هل هو حق في حدود الزمان والمكان المتاح؟ أم في حدود الزمان والمكان التاريخي للصراع؟
مِنْ هنا كانت ملامح مرحلة جديدة بدأت تدون وتنطلق في الوعي الوطني الفلسطيني والإمتداد القومي للصراع إلى الفهم والإمتداد القطري للصراع، إلَّا أنّ الملامح الثورية وازنت بين الفهمين مع التأكيد على الإستقلالية في الرؤية والقرار، والعمل، ولفهم وإدارة الصراع وهو الإطار النظري الذي انتهجته الثورة وقواها الّتي انبثقت مِنْ رحم هزيمة 1967، وبدأت تستنزف جدلها، ونقاشها حول مفاهيم التحرير، والصراع، وقراءتها الجدلية للصراع:
هل هو صراع هوية أم صراع وجود؟
فكانت نتيجة هذه المعركة الأيديولوجية الفكرية برنامج النقاط العشر(البرنامج المرحلي) في عام 1974، الذي قدمته الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وتبناه المجلس الوطني الفلسطيني (برلمان الثورة) والذي يستند إلى دولة في حدود عام 1967، أيّ الوقوف طويلًا أمام الفكرة الّتي تناولناها سابقًا مِنْ التحرك الإسرائيلي في اندفاعه ومعركه لنقل معركة الوعي من مرحلة إلى مرحلة أخرى، أيّ مرحلة الوعي الّتي كانت ترفض مجرد الإعتراف بحق اليهود في دولة في فلسطين والّتي رفضت قرار التفسيم عام 1947 إلى مرحلة الوعي الّتي تعترف بجوارهم في دولتين، والإقرار بدولة يهودية على أرض فلسطين التاريخية قبل عام 1948، ثمّ لمواطني غزة، وبعض مناطق مِنْ الضفة الغربية ويتم دفع برنامج النقاط العشرة عام 1974 خلف الظهور، وإعادة إنتاج مرحلة جديدة مِنْ الوعي، والذي ينتقل بنا جيلًا تلو جيل إلى حيث الهدف العام، فجيل النكبة حلم بوطن شامل متكامل، وجيل النكسة حلم بدولة مستقلة عام 1967، وجيل أوسلو يحلم بحياة كريمة، هي مراحل تدحرج في الوعي الجمعي العام للقبول بالمخطط الإستراتيجي الصهيوني الذي يتحكم بميكانزم الحركة.
تجمدت المرحلة الانتقالية المقرر لها خمس سنوات مِنْ عام 1994 إلى عام 1999 لإقامة الدولة الفلسطينية، وهنا لابد مِنْ العودة للتفكير بالفواصل الزمنية الّتي جئنا عليها في هذه الرؤية والّتي قارنا خلالها بين الفواصل الزمنية في طرح الفكرة، والتمهيد لها، وبنائها، وبين الفواصل الزمنية قصيرة الأجل في مراحل التثبيت؛ لنعود مرة أخرى لقراءة الفواصل الزمنية في مرحلة المماطلة الّتي لازلنا في أتونها أو ما يمكن القول أنه مرحلة التفكر بعمق، والانتقال به إلى اللاحق، فمن عام 1994 حتى عام 2017 ثلاثة وعشرين عامًا مفاوضات مِنْ أجل دولة مستقلة على حدود حزيران (يونيو) 1967... ولا زال البحث جاري عن وطن!
أيّ في جملة التساؤلات المتعددة السابقة الّتي تمّ صياغتها وفق التسلسل المفاهيمي لقراءة الأحداث والمجريات كيف لنا أنّ نجيب:
هل انتهت أسئلتنا الإعتراضية عن المصوغ الأساسي؟! هل توقفت دحرجة الوعي وفق المخطط الإرتكازي الإستراتيجي لمفهوم تطبيق وعد بلفور بعد مئة عام مِنْ صدوره؟
ربما السؤال الأخير يمكن الاجابة عليه بكلمة واحدة، والاستكفاء خلف هذه الكلمة والتوقف عن النبش في الوعي الصهيوني الذي يخوض معركته الأصيلة والأساسية ضد الوعي العربي عامة، والفلسطيني خاصة، ولكن الاستكفاء بالإجابة بكلمة هو إنحصار هروبي في واقع متجمد عن التفكير الذي يُؤْتَي بالتفعيل، والتحرير مِنْ شَرْنقة اليأس والإحباط المحيطة.
مائة عام على وعد بلفور، ولَم يكفِ هذا الصك عن لطمنا بذنوبنا التاريخية الّتي استوقفتنا لقراءة تجلياته التاريخية في كلِّ حقبة دون أنّ نقود معركة الوعي بجانب معركة السلاح، فالفكرة مثمرة في بيئة وتربة صالحة خصبة، لكنها لن تثمر في واقع ينزلق بالوعي لأرذل مراحله، ويتلقى الهزائم هزيمة تلو هزيمة دون أنّ يرفع سلاحه في وجه التبلد والانحسار والسكون، والصمت والقنوط.
اندحرت الفكرة الأساسية ليتم صياغة بحث علمي متكامل يشرف عليه ثمانية مفكرين إسرائيليّين بعنوان"الدولة الفلسطينية مِنْ وجهة نظر إسرائيلية عام 1991 أيّ قبل توقيع تفاهمات أوسلو بعامين أو ثلاثة، ويتحدث الباحثون عن الدولة الفلسطينية مِنْ النواحي السياسية، والاقتصادية، والجغرافية، وتقدم كوثيقة هامة لمؤتمر حكماء بني صهيون المنعقد في هرتسيليا كرؤية شاملة متكاملة تتناول القنبلة الديمغرافية المحيطة بـٍ"إسرائيل"، والّتي بموجبها تمّ تبني نظرية جديدة عن الأمن الإسرائيلي مفادها" أرض أقل، أمن أكبر" عكس الإيمان الصهيوني القائم على" أرض أكثر، أمن أكبر"، ثمّ عن الصراع الداخلي الفلسطيني – الفلسطيني بين قوى منظمة التحرير الفلسطينية والقوى الإسلامية في غزة الذي يسفر عن سيطرة الإسلاميِّين على غزة، وعن المشاكل الإقتصادية والعمل في "إسرائيل" وخلاف العديد منْ القضايا الإستراتيجية الّتي تؤكد أنّ مردود الوعي الإستراتيجي الصهيوني فاعل وفعّال في كلّ الحقب التاريخية عامةً، فكان الإنسحاب الإسرائيلي مِنْ غزة عام 2005 الذي نفذه رئيس الوزراء آرئيل شاورن بمثابة القنبلة الّتي انفجرت في وجه القضية الفلسطينية، واندلاع الصراع الشرس بين فتح وحماس على النفوذ والسيطرة الحزبية على مقاليد السلطة ممّا نتج عنه إنقسام جيوسياسي فلسطيني لا زالت آثاره حتى عام 2017 العام المائة على صدور وعد بلفور عام 1917؛ ليتحول الجدل والصراع مِنْ دولة مستقلة على حدود عام 1967 إلى الصراع في المكون الفلسطيني عن عودة اللحمة والوحدة الوطنية بين شطري الحكم الإداري أوسلو، وهو ما يعتبر مرحلة جديدة مِنْ مراحل إندثار الوعي الفلسطيني حول مفهوم الإستقلال ومفهوم التحرير، ومفهوم الدولة.
في عام 2007 بدأت البنادق الفلسطينية في قصف المجتمع الفلسطيني الذي تميز عبّر حقب الصراع ومراحله بالإنسجام المجتمعي، والتماسك السياسي الإجتماعي رغم الإختلافات الفكرية والأيديولوجية بين قواه الحية، وأصبح المجتمع الفلسطيني متناحر، ممزق، مشتت، مشرذم بين برنامجين لا يختلفان في الفهم الإستراتيجي إلَّا بالنزاع على السلطة مِنْ ناحية، وآليات الإدارة للسلطة مِنْ ناحية أخرى، وهو ما يمكن تفسيره بأنه صراع برنامجين –حسب التوصيف- برنامج يرى بالسلام مدخلًا لحل الأزمة الفلسطينية – الإسرائيلية، وبرنامج يرى بالنضال مدخلًا لحل الأزمة آنفة الذكر، بعيدًا عن مناوشة الوعي الصهيوني الذي انتقل في مراحله منْ العمل المنهجي في فلسطين إلى تثبيت وعد بلفور في الوعي الجمعي العربي عامة، فبعد احتلال العراق عام 2003، والإنقسام الفلسطيني عام 2007، ودحر ليبيا عام 2011، وتفكيك سوريا عام 2011، بدأت تجليات الوثيقة الأخطر في التاريخ "بلفور" تتضح معالمها الإسترتيجية، ومراميها وأهدفها الإستراتيجية، والدور النافذ الفاعل لمؤسسة الوعي الصهيوني والحركة الصهيونية.
بعد مائة عام مِنْ وعد بلفور عام 1917 وفي المشهد الحالي للوعي العام المحيط بتناقضاته، واختلافاته، ورؤياه:
ما هو المطلوب عربيًا دولة فلسطينية مستقلة على حدود عام 1967 أم دولة ديمقراطية على كامل تراب فلسطين أم دولة فلسطينية عربية تضم أقليه يهودية؟
كلّ الدلائل والقراءات والمشاهد تؤكد حقيقة ثابتة أنّ المطلوب دولة ولكن ما هي هذه الدولة لا زال هناك هامش ومساحات كبيرة في القدرة على استدراك مفهوم الدولة الّتي يريدها الفلسطينيُّون في ظلّ حالة التفكك لمكونات الفواصل الزمنية منذ أواخر عام 2010 عندما اندلعت حرّكات الرّبيع العربي مِنْ تونس حتى عام 2017، أيّ خمس سنوات تؤكد البدء بإستجماع الذاكرة مِنْ جديد ولملمتها لإعادة استذكار مفهوم الدولة السيادية، المؤسساتية، الموحدة، وهو قراءة لحالة العراقييِّن على وجه التحديد، والحالة الليبية، واليمنية، والسورية، والمصرية، وأخيرًا التونسية.
فما هي الأولوية القائمة في ذهن مواطن هذه الدول؟ وما هي أولوياته الافتراضية؟ دولة فلسطينية انحسرت خلال عقود طويلة بأنّها قضيته الأساسية، وركيزته الأساسية، أم إعادة الإعتبار لبقائه وكيانه القطري؟ في نفس السياق المواطن الفلسطيني يسأل: ما هي أولوياته الحالية، دولة مستقلة عاصمتها القدس، أم وحدة وطنية بين شطرين متصارعين، أم حياة اجتماعية كريمة تعيد للمواطن كرامته المسلوبة عنوةً؟
مائة عام منذ 1917 مرت مِنْ البحث عن الحق التاريخي لليهود الذي أصدره وزير خارجية الامبراطورية البريطانية "بلفور" ما بين الصراع في الوعي على هذه الأحقية التاريخية، وما بين التنفيذ الاستراتيجي الممنهج وما بين الضياع الممنهج وإسقاطات الغياب الذهني للوعي الوطني الشمولي العام تبقي الباب مشرعًا للبحث في جدلية التاريخ، والماضي، والحاضر، والمستقبل عن هذا الحق وهذا الصك، وإعادة رسم كلّ الإجابات في حدود السياق التاريخي العام. مائة عام ولازال البحث جارٍ عن وطنٍ!

اخر الأخبار