وعد بلفور.. الجريمة المستمرة (2/1)

تابعنا على:   10:33 2022-11-01

سليم يونس الزريعي

أمد/ مدخل: إنه من التبسيط ربط وعد بلفور باللورد آرثر جيمس بلفور كشخص، كون ذلك التعهد هو تعبير عن إرادة ونية الدولة البريطانية في ارتكاب جريمة زرع كيان غريب مع سبق الإصرار والترصد في فلسطين، أقدمت عليه بريطانيا كدولة، ضد الشعب الفلسطيني صاحب الأرض حاضرا وعلى امتداد التاريخ. من أجل تمكين المستجلبين اليهود بكافة تنوعهم العرقي والقومي فيما أَطلَقَ عليه المؤرخ اليهودي شلومو ساند المدرس في جامعة "تل أبيب" مسمى خرافة " الشعب اليهودي".
مقدمات الوعد
وتكشف الوقائع أن ذك التعهد الاستعماري جاء تتويجاً لعمل مشترك بين الساسة الأوروبيين ويهود أوروبا اعتمد على تخطيط استمر لأكثر من 120 عاماً منذ محاولات نابليون عام 1799 وحتى إعلان التعهد البريطاني عام 1917.(1)
وكان نابليون بونابرت في سياق دوره الاستعماري ولإنقاذ حملته التي تحطمت على أسوار عكا الفلسطينية، قد حاول وهو على أسوار عكا عام 1799 إرضاء اليهود في أوروبا سعياً منه لكسب المزيد من الدعم لحملاته العسكرية، فخاطب يهود آسيا وأوروبا "أيها الإسرائيليون انهضوا، فهذه هي اللحظة المناسبة، إن فرنسا تقدم لكم يدها الآن حاملةً إرث إسرائيل، سارعوا للمطالبة باستعادة مكانتكم بين شعوب العالم".
وقد نشر نابليون بياناً يدعو فيه كل يهود آسيا وأوروبا للقدوم إلى القدس تحت الراية الفرنسية وتحول نداء نابليون إلى خبر رئيس في الصحف الفرنسية، وذلك في محاولة من "بونابرت" كسب المزيد من الدعم لحملاته العسكرية، لأنه كان يعاني من عقبات كبيرة على الشواطئ الفلسطينية(2).

وبعد هزيمة نابليون بحوالي أربعين عاماً، التقط وزير خارجية بريطانيا "بالمرستن" فكرة توظيف جسم يهودي لصالح بريطانيا عبر الاستفادة من يهود أوروبا بأن يقيم لهم وطناً ليس في الممتلكان البريطانية ولكن في فلسطين فيكون بذلك أرضاهم من جهة، ويرد على محاولة محمد علي توحيد مصر وسورية عام 1840، ورفض طلب السفير البريطاني في إسطنبول إقناع الخليفة العثماني وحاشيته بأن الحكومة الانجليزية ترى أن الوقت أصبح مناسباً لفتح فلسطين أمام هجرة اليهود.
فكان أن قوبل الرفض العثماني باستجابة يهودية وكان من أوائل المتفاعلين البارون الثري ادموند روتشيلد الذي مول فيما بعد إنشاء (30) مستعمرة يهودية من أهمها مستعمرة "ريشون لتسيون" التي رفع فيها العلم "الإسرائيلي" الحالي(3).
بريطانيا الصهيونية المبكرة
وإلى جانب بريطانيا كانت هناك حالة أوروبية بدأت فيها ملامح لصهيونية أوروبية أخذت معالمها تتضح بعد نشوء المسألة الشرقية وصعود نجم محمد علي بدعوى أن ذلك يمثل تهديداً ‏لقدرة أوروبا‏ الاستعمارية على التوغل في الإمبراطورية العثمانية.
لذلك نشأت الحاجة لدى الدول الاستعمارية الأوروبية، وخصوصاً بريطانيا، إلى إيجاد موطئ قدم ثابت في فلسطين باعتبارها رأس حربة في المنطقة. والتقت هذه الحاجة الاستعمارية مع إمكان توظيف أسطورة إحياء دولة يهودية في فلسطين. وبهذا المعنى يكتب إميل توما أن «الكولونيالية البريطانية تصبح صهيونية قبل نشوء الحركة الصهيونية.» وهناك كثير من الأدبيات التي تقرأ نشوء الحركة الصهيونية في الأساس كاستمرار للمشروع الاستعماري ومن وجهة نظر المصالح الاقتصادية التي يخدمها المشروع، وتظهر فيه الصهيونية أيضاً ‏أداة في أيدي القوى الاستعمارية الكبرى. ومن ناحية ثانية تبدو الصهيونية كمشروع استثماري للبورجوازية اليهودية
الأوروبية نفسها(4)
إن وعد بلفور كوكيل للحكومة البريطانية لا يمكن اعتباره نزوة ووليد لحظته، ولكنه جاء تتويجا لمسار وحراك سبقه من عمل أطراف متعددة كمقدمة لذلك التصريح، الذي تعهدت فيه الدولة البريطانية القوة الاستعمارية الأولى في العالم آنذاك، بمنح "الحركة الصهيونية" التي تبلورت رسميا في مؤتمر بازل سنة 1897 فلسطين، في حين أن بريطانيا لا تملك تلك المُكنة، كون فلسطين آنذاك تحت سيطرة الاحتلال العثماني هذا أولا، وثانيا هي ملك تاريخي خالص للشعب الفلسطيني. بما يدحض أحد الأسس التي روج لها المشروع البريطاني-الصهيوني من أن فلسطين أرض بلا شعب، ولا بأس من أن تمنحها بريطانيا الاستعمارية للشعب الذي بلا أرض، أي لـ(شتات المستجلبين اليهود) من شتى بقاع العالم عبر اختراع شعب يهودي بأثر رجعي.
مشروع استعماري غربي بذريعة دينية
ولاشك أن التعهد البريطاني بقطع هذا الوعد، أسست له مقدمات ومعطيات في بيئة دينية وسياسية وفكرية وجيوسياسية ضمن سيرورة كذبة أن هناك "شعبا يهوديا" يجب أن يعود إلى وطنه، وذلك ارتباطا بالنسبة للمسيحية الصهيونية بـ"ميثولوجيا التوراة" (أي أساطير التوراة) ، ويمكن تعريف الأساطير: أنها لا تعكس واقعا حقيقيا، ذلك أن الأسطورة: "هي حكاية أو قصة قديمة أو مجموعة من القصص تعود إلى الزمن القديم، ولكنها لا تكون دائماً قصصا حقيقية حصلت على أرض الواقع"(5). في حين أنه بالنسبة إلى بريطانيا يتعلق بزرع كيان وظيفي لخدمة مصالحها بالاتكاء على البعد الديني.
وهذا الدور الوظيفي للكيان المقترح هو ما عبر عنه بوضوح هرتزل بأن "اعتبر أن الدولة اليهودية الموعودة تمثل "رأس حربة الثقافة ضد البربرية" الآسيوية (6).
وضمن هذا المناخ الذي شكلته حمى دعوات المسيحية الصهيونية التي يعرفها الباحث الفلسطيني الدكتور يوسف الحسن «المسيحية الصهيونية» بأنها: "مجموعة المعتقدات الصهيونية المنتشرة بين المسيحيين، خاصة بين قيادات وأتباع الكنائس البروتستانتية، تهدف إلى تأييد قيام دولة يهودية في فلسطين بوصفها حقاً تاريخياً ودينياً لليهود، ودعمها بشكل مباشر وغير مباشر، كون عودة اليهود إلى الأرض الموعودة -فلسطين- هي برهان على صدق التوراة، وعلى اكتمال الزمان وعودة المسيح ثانية(7)."
والصهيونية المسيحية تعتقد أنّ الله قد وضع في الكتاب المقدس نبوءات واضحة، حول كيفية تدبيره لشؤون الكون ونهايته، ومن هذه التدابير: قيام دولة إسرائيل وعودة اليهود إليها، وهجوم أعداء الله: على إسرائيل، ووقوع محرقة (هرمجدون) التي يعتقدون أنها ستكون نووية. وتؤدي إلى مقتل الملايين وانتشار الخراب والدمار، وحينئذ فقط سيظهر المسيح لتخليص أتباعه (أي المؤمنين به) من هذه المحرقة، ومن بقي من اليهود بعد المعركة سيؤمنون بالمسيح، وعندها سينتشر السلام في مملكة المسيح في أرض جديدة وتحت سماء جديدة مدة ألف عام.
وفي مجال تسويق هذه الخرافة التوراتية، وفد إلى القدس عام 1844م أول قنصل أميركي وهو (واردر كريستون)، وكان من الأهداف التي رسمها القنصل لنفسه أن يقوم بعمل الرب، ويساعد على إنشاء وطن قومي لليهود في أرض الميعاد. وبذل (كريستون) جهدا مضنيا في الاتصال بالقادة الأميركيين وحثهم على العمل من أجل "جعل فلسطين وطنا قوميا لليهود حتى يلتئم شمل الأمة اليهودية، وتمارس شعائرها وتزدهر " كما ألح على القادة العثمانيين للتعاون في هذا السبيل دون جدوى.
والمفارقة أن فكرة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين آمن بها المسيحيون البروتستانت قبل إيمان اليهود بها، وسعوا إلى تنفيذها قبل أن يسعى اليهود إلى ذلك، بل قبل أن يؤمن اليهود بإمكانية تحقيقها(8).
ولكن إذا وضعنا جانباً ‏الصهيونية المسيحية القائمة على أفكار دينية خلاصية، نلاحظ أن ثمة صهيونية أوروبية أخذت معالمها تتضح بعد نشوء المسألة الشرقية وصعود نجم محمد علي بصفته تهديداً ‏لقدرة أوروبا‏ الاستعمارية على التوغل في الإمبراطورية العثمانية. لذلك نشأت الحاجة لدى الدول الاستعمارية الأوروبية، وخصوصاً بريطانيا، إلى إيجاد موطئ قدم ثابت في فلسطين باعتبارها رأس حربة في المنطقة. والتقت هذه الحاجة الاستعمارية مع إمكان توظيف "أسطورة" إحياء دولة يهودية في فلسطين. وبهذا المعنى كتب المفكر الفلسطيني إميل توما أن "الكولونيالية البريطانية تصبح صهيونية قبل نشوء الحركة الصهيونية". وهناك كثير من الأدبيات التي تقرأ نشوء الحركة الصهيونية في الأساس كاستمرار للمشروع الاستعماري، ومن وجهة نظر المصالح الاقتصادية التي يخدمها المشروع (9).

الدور اليهودي في الحصول على الوعد
اكتسبت الحركة الصهيونية بعد مؤتمرها الأول بين 29 و31 أغسطس 1897 في مدينة بازل السويسرية، اهتماما سياسيا وإعلاميا هاما في أوروبا والعالم، وارتباطا بذلك، برز دور الصهيوني حاييم وايزمان الذي ساعدت اكتشافاته العلمية وبالأخص مادة "الأسيتون" في تقربه من القيادات السياسية والعسكرية البريطانية التي راح يلح عليها في استصدار قرار بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين فكان وعد بلفور عام 1917(10).
وفي إطار الدور الوظيفي لهذا المشروع عرض هرتزل سنة 1902 على تشمبرلين وزير المستعمرات البريطاني ضمن حراك عرّابي الحركة الصهيونية على الدول الراعية إقامة “إسرائيل” في فلسطين تأمين المصالح البريطانية وحماية قناة السويس والحيلولة دون تحقيق الوحدة العربية.
ونتج عن ذلك أن تبنت دول الاستعمار الأوروبي المشروع الصهيوني لحل المسألة اليهودية في بلدانهم بتصديرهم إلى فلسطين لخدمة مصالح الدول الغربية والصهيونية(11).
وجاءت بلورة المشروع الصهيوني كمشروع استعماري أوروبي في تقرير كامبل عام 1907 واتفاقية سايكس– بيكو عام 1916 ووعد بلفور عام 1917 ومؤتمر الصلح في فرساي عام 1919 ومؤتمر الحلفاء في سان ريمو عام 1922 الذي قرر وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني.(12) المصدر السابق ذكره.
وقد سبق أن قُدمت لمجلس الوزراء البريطاني عام 1915 مذكرة سرية بعنوان مستقبل فلسطين، كتبها أول صهيونيّ يهودي يصل لمنصب وزير بريطاني هيربرت صموئيل، جاء في الوثيقة:
"الوقت الحاضر ليس مناسبا لإنشاء دوله يهودية مستقلة، لذا يجب أن توضع فلسطين بعد الحرب تحت السيطرة البريطانية لتعطي تسهيلات للمنظمات اليهودية لشراء الأراضي وإقامة المستعمرات وتنظيم الهجرة وعلينا أن نزرع بين المحمديين ثلاثة إلى أربعة ملايين يهودي أوروبي."
-----------------
==============
المصادر

1- علاء البرغوثي، خيوط المؤامرة من نابليون إلى بلفور، 3/11/2016، https://www.aljazeera.net/
2- نفس المصدر السابق.
3- نفس المصدر السابق.
4- رائف زريق، إسرائيل: خلفية أيديولوجية وتاريخية، 18/6/2020، https://www.palestine-studies.org
5- https://mawdoo3.com
6- شمس الدين الكيلاني، ثلاثية شلومو ساند: في حال إسرائيل: التاريخ والمصير، 16/10/2020، https://www.arab48.com/
7- د.صالح حسين الرقب، المرتكزات العقائدية للصهيونية المسيحية والصهيونية اليهودية، 26/04/2018، https://www.drsregeb.com/
8- المصدر السابق ذكره
9- رائف زريق، مصدر سبق ذكره.
10- الصهيونية.. رحلة إقامة دولة يهودية، 29/5/2016، ttps://www.aljazeera.net/
11- د. غازي حسين، المشروع الصهيوني إلى أين !، 9/8/2014، https://kanaanonline.org
12- المصدر السابق ذكره.0

اخر الأخبار