إشهار "رنين القيد"

تابعنا على:   20:45 2022-12-01

حسن عبادي

أمد/ السلام عليكم؛
بدايةً، اسمحوا لي أن أشكر القائمين على حفل الإشهار، فردًا فردًا، مع حفظ الألقاب.
تبيّن لي أنّ الكتابة خلف القضبان متنفّس للأسير، يحلّق من خلالها ليعانق شمس الحريّة المشتهاة، حريّة مؤقّتة عابرة تمدّه بالأمل والعزيمة.

لكلّ أسير قصّة وحكاية، ونحن في بلد المليون أسير، حكايانا وقصصنا كثيرة وعجيبة، ومنها ما تقشعرّ له الأبدان.

في إحدى زياراتي لسجن ريمون الصحراوي حدّثني الصديق أحمد عارضة عن مخطوطة تخص عنان (أعترف بجهلي وعدم معرفتي به سابقًا)، فوعدته بمراجعتها حين استلامها والاهتمام بأمرها لترى النور بأقرب فرصة إذا وجدتها ملائمة لذلك.  

تواصل معي بعدها الصديق رائد عامر بخصوصها، وفعلًا حال قراءتها الأولى (أعذرني عنان، أجهدتني وأرهقتني لسوء الخط) وجدتها مغايرة.

تناول أدب السجون الفلسطيني في بداياته معاناة الأسرى والمعتقلين، وسائل التعذيب وبطولاتهم، محاولين أسطرة قضيّتهم التي هي قضيّتنا، ولكن مع مرور السنين بدأوا بكتابة من نوع آخر؛ بدأوا يحلّقون ويتناولون كافة المواضيع، مثلهم مثل غيرهم من الكتّاب، نثرًا وشعرًا، روايات وخواطر وأبحاث، توثيق وخيال وفانتازيا، ووصفته في حينه بأدب الحريّة، أو أدب السجون الحداثي، إن صحّ التعبير.

قضيّتنا عادلة ورابحة ولكن آن الأوان لتغيير لأنسنتها، بالموازاة لمسار الأسطرة، لتحلّق بعيدًا وتصل العالميّة.

وهذا ما وجدته في رنين القيد.

تناول الكثيرون درب الآلام التي يعبرها ذوو الأسرى في رحلتهم السيزيفيّة للقاء فلذات أكبادهم، وطقوس الزيارة؛ المعاناة والذّلّ والإهانة عند الزّيارة، وقبلها، من إرهاق مادّي وتعب جسديّ، ومضايقات جمّة تصل حدّ التّفتيش العاري لأمّهات الأسرى وأخواتهم وبناتهم، ناهيك عن التحكّم الجبروتي المذلّ والإهانات والشتائم، والمنع الأمني الفجائي الأشبه بالحاجز الطيّار المقيت ووجع المعّاطة المهين، ومزاجيّة السجان المفرطة، والحرمان من الاحتضان والحنيّة.

يبقى الأسير إنسانًا ذا مشاعر، بعيدًا عن البطولة والأسطرة، يحسّ ويتألم ويتجرّع كأس الحرمان ومرارته يوميًا، يحاول كبت تلك المشاعر الدفينة ساعة لقاء الأحبّة، يحبس الدمعة بين مقلتيه ليبدو بأحسن حلّة وحالة، يستجمع كلّ قواه وجبروته ليعبر درب آلامه تلك الخمسة وأربعون دقيقة، يستعجل الوقت ليهرب إلى خلوته وعزلته ويتحرّق ألمًا ووجعًا رغم محاولات السجان كبت تلك الأحاسيس وكيّها وصهرها محاولًا نزع إنسانيّة الأسير وتجريده من تلك الأحاسيس.
"نعم، هاتان هما عرين وهديل"؛ ما أصعبها حين اكتشف عنان أنّه نسي ملامح ابنتي أخته رنين اللتين كبُرتا وهو بعيد عنهما. والله صعبة يا عنان! (بالمناسبة، اليوم عيد ميلاد هديل، وباسمي وباسم عنان نعايدك بعيد ميلاد سعيد). 

صوّر عنان لقاءه بشقيقته الصغيرة، روان، التي ارتبكت حين ناداها، أزاحت نظرها خجلا وحياء لتطعن إنسانيّته في الصميم: "لا تستحي يا صغيرتي .... أنا أخوك ...لست غريبا"، صدمة مزدوجة لكليهما، دمعت عيناها وهي تصغي إلى ارتجاف صوت أخيها/ بطلها المحقون بالوجع الطارئ، نتاج محاولة تشويه المحتل للمشاعر من أجل تفريغ الأسير من إنسانيّته.

أبكيتني يا عنان!

 أعزاءي؛ الكتابة خلف القضبان متنفّس لأسرانا، وهي ليست من باب الترف، واختراق كلمتهم للزنازين وأسوار السجون حريّة لهم؛ وكما تعلمون، هناك صعوبات جمّة في إيصال تلك الكلمة لتحلّق حرّة طليقة في سماء الحريّة.

من تواصلي مع أسرى يكتبون لمست خيبتهم وحسرتهم من التسويفاتِ التي لا أولَ لها ولا آخر، فكلّ من تصله رسالة أسير ورغبته في نشر إصدار له يُسمِع كلمات الترحاب تحت شعارِ: "أقل الواجب"، إلا أنه سرعان ما يتبيّن أن الوعود الرنّانة شيء والمتابعةَ والتنفيذَ شيء آخر، ومقولة "أقلُّ الواجب" شعار وقول فارغ يطلقونه في سماء الحريّة الغائبة المفقودة، بلا قيمة. 

قلتها بصريح العبارة؛ تبيّن لي أنّ الكتابة خلف القضبان متنفّس للأسير، عمل الجلاد دائمًا على كسر إرادة الضحية، لكن أسرانا أصرّوا على كتابة التاريخ بطعم الحريّة، رغم ألم الخسارات، والفقد، وقهر القيد، صمّموا على أن يكسروا روح العتمة ليقولوا للتاريخ، نحن هنا باقون.
وها هو "رنين القيد" يرى النور ليصرخ عنان للتاريخ: أنا باقٍ رغم الجلّاد وقيوده. 

من على هذه المنصّة أناشد كلّ القيّمين على الكلمة الإبداعيّة بواجب تبنّي كتابات الحركة الأسيرة، وبالأخصّ وليدة خلف القضبان والزنازين، وليس مِنّة، فعلًا وليس قولًا، فعلًا وليس ضريبة كلاميّة موسميّة.

اصرخ عزيزي الأسير، لا تحبس دمعتك السخيّة، ذوّب ذاك الجليد الذي تلبّسك، ودَع دمعة من تحبّ تبلّل وتروي تربتك القاحلة والمتيبّسة.

ليس من باب الصدفة أن يكون حفل الإشهار هنا في مخيم عسكر، بلد عنان وبين أهله، ليقولها بصريح العبارة: أنا هنا معكم وبينكم رغم القضبان ورغم أنف السجّان، وها هو بكتابه يتنفّس هواء الحريّة مع أهله وفي بلده مبتسمًا ابتسامة منتفضة، منتشيًا جزِلًا راميًا عرض الحائط تلك القيود ليحقّق حلم الحريّة القادمة لا محالة. 

لا توجد ولادة أسمى من الاحتفاء بولادة مثل هذا المولود، رُغم الغياب القسريّ لوالده، وكلّي ثقة بأن عنان يحتفي اليوم مع زملائه الأحرار بولادة مولوده الأول "رنين القيد"، فكلمته الحرّة هزمت سجّانه وانتصرت على الأسلاك والقضبان والجدران والأسوار وها نحن نحتضنها بفخر واعتزاز.
مبارك لك وشكرًا لك عنان على هذا المولود، آملين أن يتبعه أسرى آخرون ليكتبوا باقي الحكاية.
جئناك من حيفا وأعالي الكرمل لنبارك لنا ولك هذا المولود، وبين أهلك وفي بلدك الذي يشكّل شوكة في حلق المحتلّ.

حاملين تحيّات وتبريكات الأصدقاء الأسرى بمناسبة إصدار الكتاب.
وقبل أن أنهي كلمتي؛ اسمحوا لي أن أشكر كلّ من ساعدني ليرى الكتاب النور، وأخصّ بالذكر الفنان التشكيلي ظافر شوربجي على التصميم والمنتجة، الفنان والكاتب صالح حمدوني على الاهتمام بطباعته، دار الخليج للنشر والتوزيع، نقولا عقل ورامي قبّج على شحنه من الأردن (وبالمناسبة، الكتاب متوفّر في مكتبة الرعاة في رام الله).

وأخيرًا؛ نعم، الحريّة خير علاج للسّجين.

قلتها سابقًا: حريّة البلاد بتحرّر آخر أسير من سجون الاحتلال وصناعة تمثالًا للحريّة من كافّة مفاتيح الزنازين كما اقترح صديقي الأسير معتز الهيموني وتعهّد صديقي الفنان جميل عمرية بذلك.

آملين بحريّة قريبة لك عزيزي عنان ولرفاق دربك الأحرار.
                                 
                  

كلمات دلالية

اخر الأخبار