عدّاد الدم: المجازر كأدوات لتنفيذ السياسة

تابعنا على:   10:36 2022-12-04

نهاد أبو غوش

أمد/ هل بات علينا التسليم بهذه الوتيرة العالية من عمليات القتل المجاني لشبابنا،لأي سبب كان، وبدون سبب أحيانا؟ بعدما تحوّل الفلسطيني إلى هدف مباح ومستباح للقتل. حياته لا تساوي طلقة وإنهاؤها لا يحتاج إلا لجزء يسير من الثانية، سواء كان هذا الفلسطيني طفلا أو شيخا أو امرأة، مواطنا مسالما في منزله، أو مقاتلا في مجموعته أو كتيبته، تلميذا متوجها إلى مدرسته أو صحفية تقوم بواجبها المهني، أو مزارعا متوجها لجني محصول أرضه. والمحتل صار مخوّلا بالقتل ويملك تفويضا مفتوحا من حكومته لتنفيذ عمليات الإعدام الميداني سواء كان جنديا أو شرطيا أو مستوطنا، أو مجرد شخص عادي يسير في الطريق واشتبه بحركة مريبة لشخص يحمل ملامح عربية. بل إن وتيرة القتل هذه آيلة للارتفاع والتصاعد مع تنصيب حكومة بن جفير – سموتريتش وشريكهما نتنياهو الذي رباهما وسمّنهما وهيّأهما لتسلم المواقع القيادية التي تتيح لهما، في ظل البرنامج الائتلافي المعلن لتحويل عمليات القتل من جرائم وحوادث متفرقة إلى سياسة حكومية بامتياز يحرسها القانون ومؤسسات القضاء العنصري.

عدّاد القتل إلى ارتفاع وازدياد، وهو بحد ذاته اصبح مؤشرا لقياس أداء حكومات الاحتلال في نظر جمهورها المتطرف المتعصب، الذي ينظر إلى نتائج هذه المواجهة الدموية كما ينظر لمباراة كرة قدم، لا سيما مع تزايد الاهتمام العالمي بكرة القدم وتزامن المجازر مع مونديال قطر. نسبة قتيل إسرائيلي مقابل اربعة أو خمسة فلسطينين سوف تبدو هزيمة مروعة لا تتناسب أبدا وطاقة القتل الهائلة التي يملكونها، أليست لديهم طائرات اف 16 وقذائف زنتها طن من المواد الشديدة الانفجار بإمكانها أن تدمر أبراجا على رؤوس ساكنيها؟  حتى النسبة الحالية (8-1)  تبدو غير كافية ولا مُرضية لإشفاء غليل تلك الأوساط المتعطشة للدم، ويريدون نسبة قريبة من 10-صفر أو تزيد.

يمكن العثور على أسباب كثيرة تدفع مئات الإسرائيليين لاقتراف جريمة القتل كل عام، من بينها أسباب ثقافية ونفسية وتربوية، والتعبئة العنصرية الحاقدة، التي تستهين بالآخرين وقيمة حياتهم، وانتشار مشاعر الكراهية، والإحساس بالاستعلاء والتفوق، وأحيانا الخوف، والرغبة في إرضاء الزعماء والمسؤولين، وتقمص دور البطولة، ولا يُستبعَد وجود عوامل مثل التفريغ النفسي والملل الذي يدفع بعض الجنود للتسلي بقنص الفلسطينيين كما اكدت ذلك تقاير الجنود الإسرائيليين من كاسري الصمت عن يومياتهم في غزة والضفة.

لكن هذه الأهداف الفردية والشخصية لا تكفي لتفسير هذا النزوع الجمعي، "القومي" الصهيوني" للقتل، فلا بد من وجود اسباب أعمق من الدوافع الشخصية، وهذه أسباب لا يخفيها الإسرائيليون سواء عبر تصريحاتهم الفجّة والوقحة مثل ما قاله سموتريتش وعنصريو اليمين من أن " بن غوريون لم يكمل مهمته في العام 1948" ، أو بعبارات منمقة وسموم مغلفة بالكلام المعسول من قبيل أن إسرائيل ستفعل كل شيء للدفاع عن أمن مواطنيها.  

في عام النكبة وعلى امتداد الأعوام التالية استخدمت إسرائيل المذابح الجماعية لتحقيق أهدافها السياسية (التهجير والطرد والترويع والردع)  كما حصل في مذابح دير ياسين والطنطورة والدوايمة وابو شوشة وبيت دراس وعيلبون وسعسع واللد والرملة وغيرها، وعن هذه المجازر ومثيلاتها قال رئيس الوزراء الأسبق مناحيم بيغن " لولا دير ياسين لما قامت دولة إسرائيل"، وظلت "المجزرة" أداة رئيسية من أدوات السياسة الإسرائيلية كما جرى لاحقا في مجازر قبية وكفر قاسم وخانيونس والسموع وصولا إلى مجازر قرى اللطرون وبحر البقر في مصر وكفر أسد شمال الأردن، وصبرا وشاتيلا والمجازر الحديثة في غزة، وهي بمجموعها تهدف غلى إخضاع الشعب الفلسطيني ودفعه للاستسلام والإذعان والقبول بالحل السياسي الذي تريد إسرائيل فرضه من طرف واحد ومن دون مفاوضات، وهو الحل القائم على ضم أوسع مساحة ممكنة من الأراضي الفلسطينية وتحديدا معظم مساحة المنطقة المصنفة (ج)، وتهويد القدس والبلدة القديمة مع بعض أحياء مدينة الخليل والأغوار، وتدمير أي فرصة واقعية لقياد دولة فلسطينية، وحشر السكان الفلسطينيين في أماكن سكناهم الحالية من دون أي سيادة أو حقوق سياسية أو سيادية على الأرض والأجواء، ثم تكبيد الشعب الفلسطيني ثمنا باهظا لأي مظهر من مظاهر المقاومة أو الرفض أو الممانعة أو الاعتراض على المشروع التصفوي الإسرائيلي( للدلالة على ذلك نذكر تجربة بيتا التي سقط فيها عشرة شهداء خلال فعاليات شعبية سلمية مئة بالمئة، وكذلك تجربة مسيرات العودة في غزة).

ما كان لإسرائيل أن تثخن في جراحنا وتمعن في جرائم القتل اليومي لولا اجتماع عدة عوامل مساعدة من بينها صمت المجتمع الدولي وأحيانا تواطؤه من خلال الاكتفاء بالشجب والإدانات وفي أحيان كثيرة مساواة القاتل بالضحية، بل ومكافأة الضحية بدعم إسرائيل ومحاباتها وعقد اتفاقيات الشراكة معها مقابل فرض العقوبات على الفلسطينيين والضغط عليهم،  إحساس القاتل الفرد (جنديا او مستوطنا) أنه  يحظى بالحماية المطلقة من حكومته وجيشه وحتى من السلطة التي يفترض بها تطبيق العدالة اي السلطة القضائية، ثم ترسّخ ثقافة الإفلات من العقاب لدى حكومة الاحتلال وجيشها ومؤسساتها، وكذلك قناعة الإسرائيلي العادي أن الاحتلال أمر مربح وغير مكلف.

من المؤسف ان ردود فعلنا ما زالت تراوح بين الشجب والتنديد أو الخطاب العاطفي اللفظي العالي من دون فعل جدي ملموس على الأرض، أحيانا فصائلنا تظهر تضامنها وتعاطفها مع "شعبها" الفلسطيني وكأنها تتحدث من بلد آخر شقيق او صديق، المواقف الرسمية هي أقرب إلى إعلانات العجز، وسط كل ذلك بات مطلوبا ترتيب أولوياتنا وخياراتنا، من المهم إعادة المطالبة بتوفير الحماية الدولية ووضع خطة عملية وواقعية لهذا الطلب، مع بذل مزيد من الجهود التعبوية والتوعوية لحقن دماء أبنائنا وشبابنا، صحيح أن الموت في سبيل الوطن والكرامة والمبدأ أمر مشرف ومجيد ونبيل، ولكن الموت ليس مطلبا ولا هدفا في كل حال وبأي ثمن.   

اخر الأخبار