جون ميلز.. وزيارته المشؤومة إلى نابلس في القرن الـ(19)

تابعنا على:   11:49 2022-12-14

سري سمور

أمد/ يعود الفضل لأحد الأصدقاء من ذوي الاهتمام بالدراسات التاريخية المختلفة إلى قراءتي للكتاب الذي سآتي عليه في السطور القادمة، وتدبيج هذه المقالة عنه وحوله، وقد نشرت عنه بضعة أسطر مقتضبة على صفحته في فيسبوك.

وأنا لن أنظر إلى الكتاب من الزاوية التي يهتم بها باحثنا أو صديقنا، فما لفت نظري أمور قد تبدو حتى خارج المحور الرئيس الذي يتحدث عنه الكتاب.

ما الكتاب ومن الكاتب؟

الكتاب هو: ثلاثة أشهر في نابلس، الطائفة السامرية عن قرب (1855،18860م)

(Three Months’ Residence At NABLUS, AND ACCOUNT OF THE MODERN SAMARITANS)

والكاتب هو: جون ميلز (John Mills)

وأول طبعة منه صدرت في لندن سنة 1864م.

وكما نقول: الكتاب يُقرأ من عنوانه؛ ومن ثم فإن الكتاب يتحدث عن رحلة قام بها الكاتب إلى نابلس ومكث فيها 3 أشهر، لدراسة أحوال الطائفة السامرية التي تقطنها وذلك خلال النصف الثاني من القرن الـ19.

نعم، هذا محور الكتاب وفكرته، ومعظم فصوله تتحدث عن تراث الطائفة السامرية وتاريخها وطقوسها وأحوالها.

ومع أني سأتحدث عن هذه الأمور، فإن ما لفت نظري أشياء أخرى تناولها الكتاب ولو في سطور منثورة في فصوله، هي ربما نقطة في بحر التفصيلات حول الطائفة السامرية.

وأقصد نظرة استشراقية استعلائية من "الرجل الأبيض" تجاه العرب والمسلمين، وتعمّد الكذب الواضح أحيانا، وهو ما أثار اشمئزازي واستفزّني كثيرا.

وهنا لا بد من لمحة سريعة عن المؤلف أو الكاتب، فلعل في هذا تفسيرا لهذا الحقد والتعالي العنصري.

جون ميلز (JOHN MILLS)

ولد في إحدى قرى مقاطعة ويلز في بريطانيا سنة 1812، وتوفي في لندن سنة 1873م، وقد كان له منذ صغره ومرحلة شبابه اهتمام كبير بالموسيقا وأول ما صنّف كان كتابا حولها، وشارك في فعاليات مختلفة تتعلق بالأعمال الموسيقية في زمانه وبيئته.

وصار لديه اهتمام بالدراسات التوراتية والتاريخ اليهودي، وقد توسع البحث والاهتمام كثيرا، خاصة أنه تعلم لغات مختلفة كالعبرية واللاتينية، وقد انتسب إلى الميثودية المتفرعة من المسيحية البروتستانتية، وحصل على رتبة "وزير" في تلك المجموعة أو الطائفة، والوزير بالمعنى الكنسي هو المكلف بمهمات طقوسية ورسمية ودينية لها أهميتها مثل رعاية الاحتفالات وعقود الزواج وما شابه ذلك.

وقد زار فلسطين ونابلس مرتين، بينهما 5 سنوات، وكانت رحلته الثانية التي كتب عنها الكتاب الذي بين أيدينا في 1860م، ومكث فيها 3 أشهر وهي مدة طويلة نسبيا، وكان ميلز عضوا في جمعيات ملكية مختلفة، منها ما يهتم بالجغرافيا ومنها ما يهتم بالدراسات الشرقية والتوراتية.

ربما هذه النبذة عن المؤلف تعطينا لمحة أو ومضة عن تشبّعه بآراء مسبقة عن العرب والمسلمين.

الترجمة العربية

النسخة التي بين أيدينا هي الترجمة العربية التي أعدّها الدكتور عامر أحمد القُبّج المحاضر في كلية العلوم الإنسانية-قسم التاريخ في جامعة النجاح الوطنية في نابلس.

وصدرت الترجمة عن دار دجلة-ناشرون وموزعون في عمان بالأردن، في ربيع عام 2022م.

وحين ألقيت نظرة سريعة على النص الأصلي تبيّن أنه مكون من 335 صفحة، بينما الترجمة العربية التي بين أيدينا 158صفحة فقط، ولعل هذا من مهارات المترجم التي يشكر عليها، ولعله آثر اختصار إسهابات المؤلف واقتباساته التي تطمر الكتاب من أسفار التوراة وأجزاء التلمود والأناجيل المختلفة، والتي أيضا نراها بكثافة في الترجمة العربية.

وهنا أشير إلى أن من عوار النص اعتباره تلك النصوص مرجعا تاريخيا يبني عليه تصوره لمراحل وعصور قديمة، مع أن ميلز يشير غير مرة إلى خلل فيها وفي ظروف إخراجها.

تصورات غريبة وأحكام سيئة عن العرب

عاش جون ميلز في نابلس تلك الفترة في ضيافة عائلة مسيحية من المدينة، وتحديدا في بيت عبد الله (أبو داهود) ، تحدث عنها بشيء من التفصيل، بخاصة أنه تسنّى له شهادة عدة مناسبات كالأفراح والأتراح وتقاسم الإرث عند تلك الأسرة، ويبدو أن تلك الأسرة ميسورة الحال وعندهم خادمة.

ولكنه ذهب بعيدا في إطلاق أحكام، وآراء ذات طابع "تنميطي" مشبع بالتشويه المتعمّد، كما هم أهل الاستشراق حين يدبّجون مصنفاتهم عن مجتمعاتنا.

قلت إن هذا مستفز ودفعني إلى الكتابة عن الكتاب، كي أعطي لمحة لمن لا وقت لديه، أو بالأحرى لا جَلَد لديه، لقراءته، ولكن أنصح بقراءة الكتاب.

يقول جون ميلز في الصفحة 58 من الترجمة العربية: "حسب الطقوس العربية المتوارثة فإن العربي لا يستحم إلا كل شهرين أو ثلاثة"!

هذه المعلومة الغريبة استوقفتني كثيرا؛ فهي من ناحية تنمّ عن انعدام الأمانة العلمية، ومن ناحية أخرى تفرط في التعميم الكاذب، وتتغافل عن حقيقة كون الاستحمام أو الاغتسال كان مشؤوما حد التحريم في أوروبا التي جاء منها ليكتب عن مدينة عربية (نابلس)…ألم يكن وهو المتبحر في الدراسات الشرقية قد علم أن الغُسل في حالات لا فكاك منها تقريبا فرض على المسلم وهو هنا عربي، في حالات عدة؛ خاصة أنه تحدث عن تفصيلات أدق وكتب عن أمور نفسية غير مرئية؟ ذاك هو الحقد والتعصب بأوضح صوره.

وكان يمكنه أن ينسب هذا ويخصصه لأسرة معينة أو أفراد لا أن يزعم أنها "طقوس عربية متوارثة"… مع أنه في الصفحة ذاتها يستدرك فيقول: "فإن لديهم الكثير من مظاهر البساطة واللطف والطيبة".

ويعنون الفصل التاسع: الطباع الشخصية (حب المال-عدم الصدق-المكر والخداع-قلة الورع والتقوى)، تخيل هذا الافتراء الذي يصدّر به فصلا من فصول كتابه، كأنه يتحدث عن (أبالسة) ملعونين لا عن بشر من طين ولحم ودم تجد فيهم خيرا وشرا.. بل يقول إن هذه الصفات القبيحة صفات عربية راسخة!

وفي الصفحة 77 يستمر جون ميلز في صبّ أحقاده فيقول: "يمكن القول إن العربي يعامل فرسه بلطف ورقة أفضل مما يعامل زوجته وأهل بيته"!

ثم يقول في الصفحة 78: "وعلى الرغم من كل ما ذكر، فإن العرب يملكون بعض صفات الوفاء والرجولة والشهامة"، وهذا القول ربما جاء استدراكًا أو تجنّبًا لما هو واضح من وصفه بالحقد الأعمى.

فكيف نجمع بين فسيفساء الصفات التي يحاول إلصاقها بالعرب؟

ولنتذكر أن الكتاب طبع في زمن ما قبل الغزو الاستعماري لبلادنا بمدة طويلة نسبيا، ومثل جون ميلز في ذلك الزمن يعدّ كالقناصل والجواسيس؛ مرجعا مركزيا لقومه، رسميا وشعبيا، في الحكم وطريقة تقييم الشعوب والمجتمعات.

وحين يتحدث عن الوضع الاجتماعي، فإنه يطلق حكما عاما في الصفحة 123: "يعدّ أهل نابلس أكثر أهل فلسطين المسلمين تعصبا وشرّا"!

لا أدري من أين جاء بهذا الحكم على أهل نابلس وتحديدا المسلمين العرب فيها وهم الأغلبية الساحقة، بخاصة أنه هنا لم يقل إن هذا انطباع أو ملاحظة؟

وبخاصة أن نابلس توصف بأنها "دمشق الصغرى"، وفي الوصف إشارة إلى أمور كثيرة لا تقتصر على المباني والعادات، بل على طبيعة من يتعاطون التجارة، حيث يميلون عادة إلى التلطف والانفتاح والتسامح والميل إلى التفاوض والتفاهم. الحمد لله أنه يتحدث عن مدينة كبيرة معروفة لطالما كانت تحت أقلام -ولاحقا كاميرات- الدارسين، وإلا لكان جون ميلز صاحب شهادة "ملزمة" أو لا نظير لها.

وفي الصفحة ذاتها يواصل بثّ سمومه ويتهم المسلمين باضطهاد السامريين وبقية الطوائف، ويرى أن المسلمين متعصبون عدوانيون!

وليس أسهل من الرد على أباطيل وأكاذيب جون ميلز من استمرار وجود طوائف غير مسلمة عبر كل العصور، وتعايشها مع الغالبية المسلمة، بعكس أقليات وعرقيات أخرى كبيرة وصغيرة، وقعت تحت سطوة "الرجل الأبيض" الذي -كما يبدو- هو رمز التحضر والتمدن عند جون ميلز وقومه، ومن سار على نهجهم من أبناء جلدتنا، فأبيدت تلك العرقيات وفق منهج تطهير عرقي مؤكد.

هذا أكثر ما استفزني وأثار غضبي في الكتاب، ولكن الأمانة تقتضي أن أتحدث عن محور الكتاب، وهو ما يتعلق بالطائفة السامرية، وهذا يحتاج إلى مقالة خاصة بعون الله

اخر الأخبار