سمات الحقبة الكونية القادمة.. أين العرب منها؟

حرب عالمية مكتملة الاركان: روسيا والصين = أمريكا والغرب

تابعنا على:   08:23 2022-12-24

صالح عوض

أمد/ قبل الحديث عن سمات الحقبة الكونية القادمة ينبغي الإشارة الى اعاصير هزت العالم في النصف الثاني من القرن العشرين بعد الانتهاء من الحرب العالمية الثانية.. فمن الواضح ان اهم نتائجها ترتيب الخرائط السياسية في العالم لاسيما الدول العربية والعالم الإسلامي وافريقيا واسيا.. كما صاغت بشكل ما طبيعة الصراع الكوني بشكل جديد باستقطابات حادة داخل حلف المنتصرين على دول المحور بين المعسكرين الشرقي والغربي.. لم تستقر تلك الخرائط في كثير من البلدان لاسيما البلقان الذي كان برميل الانفجار في الحرب العالمية الأولى.. وانتهت تلك الحقبة والتي يطلق عليها الحرب الباردة بين المعسكرين الى سقوط الكتلة الاشتراكية وانهيار الاتحاد السوفيتي بشكل لم يتوقع سرعته وشموله احد وصعود التسيد الأمريكي على العالم.. وهنا بدأت عملية منهجية لترسيم خرائط جديدة في البلدان العربية والعالم الإسلامي بل وفي الجنوب كله في عملية متقدمة للقضاء على احتمالات النهضة..
عناوين الاشتباك في الحقبة السابقة:
فلسطين والجزائر والبلقان وأفغانستان والعراق:
تبدو المنطقة العربية والإسلامية اكثر الساحات عرضة في هذه الحقبة لتفاعلات عميقة وعنيفة لتغيير وجهتها ومعالم الديمغرافيا والجغرافيا وكانت فلسطين بوابة كل قضايا المشرق في مصر وبلاد الشام حيث تم تكريس الكيان الصهيوني في قلب فلسطين وسيجوه بتكريس حالة التجزئة في واد النيل وبلاد الشام..
لم يكن الموضوع الفلسطيني كما يحلو للبعض تقديمه انه استقواء عصابات صهيونية عنصرية متطرفة على اهل فلسطين العزل وتشريدهم وارتكاب المجازر في حق الامنين منهم.. ان هذه العرض السطحي جعل كثير من مواجهتنا للعدوان والاستيطان عبارة عن ضرب في الاشباح في ليل قاتم السواد.. لقد كان قرار قيام الكيان الصهيوني عبارة عن استنتاج بعملية ضخمة من الدراسات الاستشراقية التي انكب عليها دهاقنة المستشرقين في اوربا لاسيما فرنسا وبريطانيا وامريكا فكان القرار الاستعماري مرافقا بالضبط مع حملة نابليون على مصر الا ان سقوط الحملة وانسحابها أجل المشروع حتى جاءت الحرب العالمية الأولى وتم توجيه ضربات قاضية للسلطنة العثمانية واسقاط اسطمبول في شروط الاستعمار وتحويلها الى خصم للامة ولتاريخها وسلحها تماما عن هويتها وتاريخها.. فكان واضحا ان الوقت الذي شهد سايكس-بيكو ووعد بلفور واحتلال فلسطين هو الوقت نفسه بمعنى ان هذه الاضلاع الثلاثة تمثل قاعدة المشروع الاستعماري في المنطقة.. وسقوط أي ضلع من هذه الاضلاع يعني بالضرورة سقوط الضلعين الاخرين..
الجزائر عاشت مع منتصف القرن السابق حالة لتكسير إرادة الشعب وبشكل إرهابي جنوني فلقد نهج الاستعماريون سبيل الإبادة والتشتيت فكانت مجازر أيار 1945 تشير الى منهجية مصرة على اخماد أي صوت حر يطالب بالحرية والاستقلال.. الامر الذي قابله الجزائريون بمزيد من الإصرار على الانعتاق وطلب الحرية فكانت جولات الثورة شبه مستحيلة في مواجهة دولة من اهم دول الأطلسي الخارج لتوه من انتصاره على المحور.. كان الاشتباك في الجزائر يعني بوضوح توجيه ضربة استراتيجية للمشروع الاستعماري الذي غرس الكيان الصهيوني في قلب العرب.. ومن هنا كان الإصرار كبيرا لإحباط الكفاح الجزائري وتكاثفت المؤامرات على الثورة داخليا وخارجيا ودفع الشعب اثمانا باهضة وانتصرت الثورة الجزائرية واخرجت الوجود الاستعماري العسكري من الجزائر ولكنها لازالت تتخلص من غدد سرطانية زرعها الاستعمار في جسم الامة ثقافية حينا وسياسية أحيانا أخرى.. والمعركة الحضارية مستمرة ولكنها بلاشك تتجه نحو تمكين عناصر الهوية والسيادة.. وهي تمثل قلعة أساسية من نهوض الجنوب كله.
في اعقاب تفكك الكتلة الاشتراكية تحررت كثير من الدول الاشتراكية الى مكوناتها القديمة وهنا أعاد البلقان سيرته الأولى ولكن بغير الشروط السابقة.. فلقد كانت البانيا ومقدونيا والجبل الأسود والبوسنة والهرسك وكوسوفو بمثابة كتلة واحدة قبل انتزاعها من السلطنة العثمانية وتوزيعها على دول الإقليم.. وهنا بدأت الملحمة.. ملحمة العودة الى الذات.. يعلن تيلر برانش الكاتب الأمريكي في كتابه اشرطة كلنتون.. ان كلنتون اخبره ان حلفاء أمريكا في اوربا لديهم اعتراض على البوسنة المستقلة لان وجودها غير طبيعي كدولة مسلمة في القلب من اوربا.. يروي علي ديغوفيتش انه كان يتجه لدعم إسلامي وتأييد شعبي عارم فكان الشعب مجمع على الحياة باستقلال وكرامة.. لكن العالم لايريج لنا ان ننتصر كانت فرصة الصرب مدعوما من الغرب ووفقا لتقارير الأمم المتحدة اغتصبوا 12 الف امراة وقتلوا اكثر من 60 الفا من المدنيين العزل تحت سمع وبصر اوربا.. فرضوا على البوسنة والهرسك تقسيما لارضها وشعبها وفرضوا وجود قواعد عسكرية أمريكية بحجة حماية الاتفاقات وكان السم الذي لابد منه حسب راي علي عزت الرئيس البوسني..
من اخطر الالاعيب التي تمت في الحقبة السابقة ما جرى على ارض أفغانستان حيث تم اشغال البلاد على مدار أربعين سنة بحروب طاحنة اهلكت كل شيء وتسببت في تدمير البنى التحتية للبلاد وجره الى مستنقع التخلف.. فلقد عملت الاداراة الامريكية على جر الاتحاد السوفيتي الى كمين استراتيجي باجتياحهم لأفغانستان وكانت الحرب التي جند الامريكان فيها الدين الإسلامي من خلال علماء دين والاف الشباب المسلمين ودول إسلامية لمواجهة السوفييت في حرب انتهت بتدمير الاحتلال السوفيتي وكان هذا احد اهم أسباب سقوط الاتحاد السوفيتي وبعد ذلك غير الامريكان أدوار اصدقائهم فاصبح حلفاء الامس أعداء اليوم.. وتحت مبررات مفبركة بعد حادثة البرجين تم اجتياح أفغانستان وتحطيم دولته وتشريد مئات الالاف من ابنائه وتدمير مدنه وقراه والحاقه بحياة العدم وقتل واعتقال بالشبهة والمظنة.. فكانت أفغانستان صفحة من نكبات المسلمين في الحقبة السابقة ورغم انها أجبرت الامريكان في نهاية المطاف الى الانسحاب بطريقة مذلة حسب وصف الكثيرين من القادة والساسة والإعلاميين الغربيين.. رغم ذلك الا ان أفغانستان تعيش حالة جروح عميقة في بنيانها الاقتصادي والسياسي والبنيوي ولم يستقر لها حال حتى الان.
العراق هي نكبة عربية لاتقل خطورتها عما حصل لفلسطين حيث ان العراق بموقعه الجيواستراتيجي وبما يمثل من قوة عربية متينة لديها أسباب النهضة والصمود الحضاري.. تم استدراج العراق لاجتياح الكويت وكان بالإمكان انهاء المغامرة العراقية البلهاء ولكن الإدارات الامريكية والبريطانية والأمريكية قطعت الطريق على أي محاولة سياسية تعدل المسار في المنطقة فكان العدوان الثلاثيني على العراق وبعده حصار استمر اكثر من 13 سنة كان اشد ايلاما على العراق من الحرب نفسها والقصد من ذلك انهاء العراق تماما من الخريطة وجعله جثة هامدة.. حتى اذا ماجاء العدوان الامريكي الأخير2003 غير المبرر قام بالقضاء على الدولة والجيش والنهضة العلمية وكل اركان الدولة والحق الأذى المعنوى والنفسي بالعراقيين الى اقصى درجاته.
وعلى مدار 18 سنة أشرفت الإدارة الأمريكية على تحطيم كل معاقل القوة في المجتمع العراقي مستعينة في ذلك بجماعات سياسية مرتبطة مسبقا مع أجهزة الامن الامريكية او الإيرانية حيث قامت تحت ظل الاحتلال الأمريكي باشعال حرب أهلية أجبرت اكثر من 2 مليون عراقي عربي سني الى مغادرة العراق كما قامت مليشيات طائفية بحرب عنصرية ضد الموصل والانبار وتم تشكيل دستور باشراف بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق حيث كانت مهمته تسليم العراق للمجموعات السياسية المرتبطة والمنسجمة مع الاحتلال..
قام العرب العراقيون بالتصدي للاحتلال بقوة باسلة كانت الفلوجا عنوان للكفاح العراقي .. كانت المقاومة اسطورية ولحق بالجيوش الامريكية خسارات فادحة الا ان تجييش الطائفيين وتحالفهم مع الجلفاء واشعال حرب طائفية بدد الانتصار ولازال العراق في ملحمته الماساوية ولم يستقر على حال رغم ان ارهاصات قوية تشير الى رفض الواقع الطائفي المقيت وطرد القوى الخارجية ونفوذها من العراق.
لقد كان سقوط العراق يعني بوضوح سقوط سورية ولبنان وبلدان عربية عديدة تحت اجتياح الفوضى الخلاقة والاشتعال الداخلي.. كما ان سقوط العراق تمكين حقيقي للوجود الاستعماري في فلسطين.. وكشف الغطاء الأمني عن الجزيرة العربية شمالها وجنوبها.
انقلاب كوني في ميزان القوى:
بلاشك بدأ التحول في مسار الصراع الكوني منذ بدأ الصينيون يرسمون معالم جديدة للصراع الاقتصادي بعد ان اثبتت العولمة وسوق التجارة الدولية إخفاقات كادت تودي بالاقتصاد الأمريكي والاوربي.. و لم يقف الصراع عند حدود بل شنت الصين هجومها الاقتصادي داخل الاقتصاد الأمريكي وتحركت الى افريقيا واسيا وبعض الدول العربية واطلقت على مشروعها الاستراتيجي طريق الحرير ورصدت له الأموال الطائلة واصبح الاقتصاد الصيني خطرا حقيقيا على الاقتصاد الراسمالي المرتبط بسياسة وثقافة لمواجهة الدول والشعوب بشكل فج..
جاءت الحرب الأوكرانية ضربة مكملة لاجتياح الاقتصاد الصيني ولسبب او لاخر وجد الاوربيون انفسهم في الخندق الامامي لمواجهة الروس في أوكرانيا رغم ان هناك هامش ليس صغيرا بين مصالح اوربا ومصالح أمريكا وكان يمكن للاوربيين إيجاد صيغ تسوية امنية مع الروس لكن الامريكان ضغطوا بشكل حازم لدفع الاوربيين لضخ المساعدات العسكرية والمالية لاوكرانيا الى درجة يعلن فيها المسؤولون على مستوى الاتحاد الأوربي ان مستودعاتهم العسكرية تشكو نقصا استراتيجيا.. واما قضية الغاز والبترول المتدفق من روسيا وامتناعه او تعطيله اصبح له من الاثار بالغة الخطر على الاقتصاد الأوربي.. المعركة اليوم ليست بين أوكرانيا وروسيا وليست فقط في مجال الغاز والبترول انها تمس كل شيء وارتداداتها في العالم عميقة..
كيف يفهم الكيان الصهيوني هذه التحولات وكيف يقدر الموقف؟؟
نشرت صحيفة "جيروزاليم بوست الإسرائيلية، مؤخرا تقييما صدر عن وزارة المخابرات الإسرائيلية "وهو أول تقرير تقدير استخباراتي قومي إسرائيلي على الإطلاق". ووفق التقرير فان العالم يقف عند نقطة انتقالية مماثلة لكونه على حافة الهاوية ويضيف ان سلسلة أزمات ستندفع في وقت واحد لترتيب الجغرافيا السياسية للكوكب والنظام الاقتصادي ومكان التكنلوجيا وكذلك الطاقة والصحة..
وفي تصريحات للصحيفة، قال فيكتور إسرائيل، المسؤول بوزارة الاستخبارات، الذي تولى قيادة التقرير والمؤتمر: "التقرير كان أيضًا تغييرًا واضحًا لقسم الآفاق الذي يتطلع غالبًا إلى الاتجاهات التي تفصلنا عن 20 عامًا، في حين أن هذا التقرير كان يركز على اتجاهات قصيرة المدى مع حد خارجي مدته 10 سنوات".
وأشار المسؤول الإسرائيلي إلى أن "التقرير نظر عن كثب في التفاعل المتبادل بين الاتجاهات المختلفة مثل المشاكل مع البيئة والإيمان بالمؤسسات الحكومية، والمشاكل الصحية العالمية، وقضايا الإمداد والانكماش الاقتصادي التي يمكن أن تؤدي إلى تأثير تراكمي مزعزع للاستقرار".
ولفتت الصحيفة إلى أنه "وفقًا للتقرير، قد لا يكون من السهل على إسرائيل الحفاظ على توازن جيوسياسي بين العلاقات الإيجابية مع الولايات المتحدة والصين وروسيا في نفس الوقت الذي تنتقل فيه هذه القوى من المنافسة إلى صراع أكبر".
ومستندة إلى التقرير، أوضحت الصحيفة: "من نواحٍ عديدة، فإن التوقع هو أن هذه الصراعات الجيوسياسية ستحل محل الحرب مع الجماعات الإرهابية مثل القاعدة وداعش، هو أمر غير موات لإسرائيل، فلقد ازدهرت إسرائيل عندما بحثت عنها دول من جميع أنحاء العالم بحثًا عن أفكار لمكافحة الإرهاب".
وعلى مدى سنوات طويلة، كانت إسرائيل تسوق نفسها على أنها الخبيرة في الصراع مع الجماعات المسلحة، وظلت تبيع سنويا أسلحة بقيمة مليارات الدولارات.
الحقبة التاريخية القادمة جدلية النصر والتضحيات:
قلق إسرائيلي عميق يدفع المجتمع الصهيوني بجنون نحو التطرف والإرهاب بمنهجية مسعورة.. وبداية تحسس عربي لامكانية تحسين شروط التحرك الاقتصادي والأمني من قبل بعض الدول العربية الوازنة.. وتأثر عنيف جراء استمرار الحرب على الاقتصاد الأوربي وعودة فاعلة للوجود الروسي الذي قام بتفعيل نفوذه في العالم واحياء تحالفات لاسيما مع الصين ودول عربية وإسلامية..
تنقل أمريكا الان ترسانات عسكرية الى أوكرانيا وهي تدرك ان الحرب لن تنتهي بهذه الطريقة.. فلن يخرج من القتال أي طرف منتصر انما المعركة في مجالات أخرى وتحت عناوين أخرى تماما.. فامريكا لن تقبل بانسحاب الروس من أوكرانيا فترفع العقوبات وتنهي الإجراءات العقابية العديدة ولن تقبل أمريكا دون تفكيك روسيا وتوجيه ضربات عميقة للاقتصاد الروسي وللروح المعنوية الروسية او على الأقل اخراج روسيا من المعركة مهزومة مذلولة اما روسيا فان تخرج من الحرب الشاملة والمتنوعة قبل ان تفرض وقائع جديدة على السياسة العالمية على راسها انهاء التسيد الأمريكي وترسيم جديد لخرائط القرار الدولي .. فالمعركة عميقة ومتعددة الاشكال وهي مفتوحة على أبواب كثيرة سيكون الاقتصاد هو الفارس الأكثر ضراوة في الأشهر القادمة وسيكون للصين دور كبير فيها..
العرب وفلسطين والجنوب كله في حالة انتظار للخروج من مواقع مستبدة بعد ان اهانتهم الدوائر الاستعمارية باغتصاب فلسطين واحتلال العراق ومؤامرة الربيع العربي والفوضى الخلاقة والحرب المنظمة ضد طموحهم في النهضة والوحدة.. تنتظر ايران وتركيا نتائج الصراع الكبير لتحدد خطواتهما القادمة مع ان تركيا لم تنتظر بل خطت عدة خطوات اقليمية ودولية مستفيدة من حاجة الاطراف لها..قد تطول السنوات ولكن ليس كثيرا فنحن إزاء عقد مضطرم شديد القسوة ليجد السبيل الى فلسطين رجاله الحقيقيين وتدب الروح في العرب فيمسكوا بطرف حبل النجاة.

اخر الأخبار