لماذا نقرأ؟

تابعنا على:   14:11 2023-03-25

د. يوسف الحسن

أمد/ فِعل القراءة هو عمل اصطفاه الله سبحانه وتعالى لإنارة الفكر، وطمأنة الفؤاد، واكتساب المعرفة، وفي الآية الكريمة «اقرأ باسم ربك الذي خلق» ما هو أول أمر، وأول تكليف، وأول كلمة، وأول آية.

وصدق من قال: «إن ثقافتنا هي ثقافة اقرأ»؛ وحيث تعتبر القراءة مفتاحاً لفهم الحياة والاطلاع على الخبرات والأزمنة وتفاعل الحضارات الإنسانية، واكتساب المزيد من المعرفة، وشحن الفكر وتحفيز الخيال، مما يجعل القراءة رحلة ممتعة ومميزة.

لولا القراءة لما فُتحت أمامنا آفاق جديدة لرؤية الأشياء، ومعرفة الأفكار والسياسات، ومن زوايا عديدة.

ومن خلال القراءة، وبعمق وبكثافة، تتحسن قدرتنا على التواصل مع الأفكار والثقافات والخبرات، وتتعزز مهاراتنا النقدية والذهنية، وتتقوى مناعتنا الفكرية والقيمية في مواجهة عدوى الجهالة والتجهيل والأمية الشاملة، وغبار الحياة وقسوة تعرجاتها.

تعلمت منذ مرحلة الطفولة المبكرة أن الإقلاع عن القراءة هو الذهاب مع سبق الإصرار إلى شيخوخة العقل والروح في آن، وأن لا بديل حتى الآن للإنسان، بمشاعره وإبداعات عقله ومهاراته، عن القراءة، وما أجمل ما كتبه الشاعر التشيلي بابلو نيرودا في قصيدة شهيرة، وقيل إنها لشاعرة برازيلية (مارثا ميديروس): «يموت ببطء من لا يسافر، ومن لا يقرأ، ومن لا يسمع الموسيقى...إلخ».

وقال أيضاً: «الكتاب سفينة من الأفكار محمل بالحقيقة والجمال».

أدلف إلى مكتبتي (وتُسميها أم البنين «الصومعة») وكأني أراها للمرة الأولى، تُلقي عيناي السلام على مؤلفي كتبها، وأبطال روايات، وسير ذاتية وشعراء وباحثين وفنانين، ومذكرات ودفاتر ملاحظات ونصوص محاضرات، هناك كتب تطالعها مثنى وثلاث، وأخرى تمر عليها مرور الكرام، وكتب تستشعر بأن أبطالها أو أفكارها، مبثوثة في المكان، تطاردها حيناً وتطاردك أحياناً، تساعدك على إغناء مخيلتك، أو تخلصك من حالة تشتت ذهني عابر.

تشعر في بعض الأحيان بحاجة إلى قراءات تخفف الضغوط اليومية، وتمسح بعض ملامح البؤس والمآسي، إثر مشاهدة نشرة الأخبار المسائية أو المتأخرة ليلاً.

تبحث عن كتاب لا يتطلب تركيزاً، لعله يشكل راحة للذهن قبل النوم، وقد تهرب إلى الكتابة، وأن تكتب يعني أن تتذكر، وأن تجهد نفسك في مطاردة الأفكار.

تساءل الصديق الدكتور محمد الرميحي، قبل أسابيع في مقال له: لماذا لا نقرأ؟ وهناك من يهزأ بمن يقرأ، فضلاً عن وجود جيل واسع الانتشار في عالمنا العربي، وبخاصة (جيل الإنترنت والتغريدة) عازف عن قراءة كتاب أو بحث أو حتى مقال رصين.

وأذكر أن رئيساً سابقاً للوزراء في دولة عربية، قال في محاضرة له في المجمع الثقافي - أبوظبي في منتصف التسعينات، (وكنت شخصياً أدير هذا اللقاء وأقدم المحاضر الضيف للجمهور الكبير من ساسة وكتّّاب ومثقفين ورجال أعمال) قال: «إنه لم يقرأ كتاباً واحداً منذ تخرجه في الجامعة».

تذكرت ما قاله الشاعر المتنبي:

أعز مكان في الدنى سرج سابح

وخير جليس في الزمان كتاب

وظل القول المذكور على لسان مسؤول عربي كبير يكوي الفعل والفؤاد، ويثير أسئلة التخلف والخسران في السياسة والإدارة والتنمية وبناء الأوطان.

للإنسان حياة واحدة في العمر، والقراءة تعطي هذه الحياة معاني عميقة وكثيرة، وتزيد في عمقها وجدواها وقيمتها وفلسفتها.

وقد تتحول القراءة عند البعض إلى إدمان، وأعرف أشخاصاً مدمني قراءة، ومنهم الصديق الشيخ حمد بن طحنون، والصديق زكي نسيبة، المستشار الثقافي لصاحب السمو رئيس الدولة، حفظه الله.

ويذكر الكاتب آلبرتو مانغويل في كتابه «تاريخ القراءة» أن عمَّال التبغ في مصانع (السيجار) في كوبا كانوا يحضرون جلسة قراءة، أثناء عملهم، ويستمعون لقارئ كتاب يجلس بالقرب منهم، ويدفعون أجرته من جيوبهم الخاصة، وقد وثَّقت صورة للعمال وقارئ الكتاب مجلة أمريكية في أواخر القرن التاسع عشر، كما أطلق هؤلاء العمال الذين (يلفّون السيجار) أسماء أبطال روايات على أحد أصناف (السيجار)، واستمر هذا التقليد إلى نهاية الربع الأول من القرن العشرين، وقيل إن الاستماع إلى القراءة، كان يساعد العّمال على تحمل ساعات العمل الطويلة والروتينية، والمتمثل في لف أوراق التبغ، ويحفزهم على تخيل شخصيات هذه الروايات، وتمنحهم القراءة أفكاراً جديدة.

ويذكر مانغويل أيضاً أن تحذيراً معلقاً في مكتبة أحد الأديرة في برشلونة، حمل لعنات قاسية على من يسرق كتاباً، وليس أقلها أن «تلتهمه نار جهنم يوم القيامة». ومما جاء في هذا الإعلان: «من يسرق كتاباً، أو يحتفظ بكتاب كان قد استعاره، عسى أن يتحول الكتاب المسروق في يد السارق إلى أفعى رقطاء، وعسى أن تصاب أطرافه بالشلل، وأن تعشش الديدان في أحشائه».

سألني أحدهم: ما الكتاب الذي تنصحني بقراءته؟ ترددت كثيراً في الإجابة، لكن في نهاية المطاف، قلت له «اختر الكتاب الذي يوقظك، ويزيد معرفتك، ويعلمك قصص المحبة والوفاء، ويساعدك على التخيل، ويضيء الطريق أمامك، ويشعرك بأنك تعلمت شيئاً جديداً، ويعرَّفك بمغزى وجودك في الحياة، ويساعدك على تقوية ذاكرتك ومهاراتك في التفكير والرؤية النقدية».

في الغد القريب، سنجد نصاً منشوراً في كتاب «أبدعته» واحدة من آليات الذكاء الاصطناعي، وقد يحتوي هذا النص على عناصر منهجية مقبولة، إن على مستوى المعلومات أو الصياغة، لكنه سيبقى نصاً خالياً من المشاعر الإنسانية ووجهات النظر الشخصية للإنسان وتجاربه.

لا بديل حتى الآن للإنسان، بمشاعره وإبداعات عقله ومهاراته.

....

أحباب الكتاب.. فينا من ذاكرة بدايات القراءة المؤمنة بقدرة الكلمة المكتوبة، ما يكفي لإغاثة أرواح البشر.

الخليج الاماراتية

اخر الأخبار