ما يحصل في اسرائيل أين نضعه في سياق صراعنا؟

تابعنا على:   13:31 2023-03-28

صالح عوض

أمد/ ملفات عديدة كل واحدة منها ملغم بقضايا عصية على الحل تتشعب في التجمع الصهيوني الذي لم يستطع حتى الان تشكيل مجتمع، ولم ينجح في عملية الصهر الاجتماعي لايجاد هوية موحدة، ولا انشاء شبكة علاقات اجتماعية ناظمة، الامر الذي يعني ان قنابل التفجير الموقتة قابلة للتفعيل وبشكل مفاجيء وغير متوقع في مراحل معينة لتنهي لعبة الدولة المسخ المختلقة كما يقول المفكر التاريخي اليهودي شلومو ساند.. إثنيات عرقية وثقافية ومذهبية وطيقات اجتماعية متحادة تمثل براكين تحت غطاء شفيف تحاول المؤسسة الامنية والسياسية تأجيل انفجاره باشعال حروب محلية واقليمية.. كيان مؤقت لم يعد يخفي حقيقة نهاياته حتى أقرب حلفائه بل وأكبر قياداته.
طبيعة الكيان الصهيوني:
المشروع الصهيوني هو تفريخ من احشاء الحراك السياسي الايديولوجي في الشمال "الكتلة الاشتراكية والمعسكر الراسمالي" مع اشراف المركز الغربي دوما عليه فكانت بريطانيا ثم امريكا هما المشرفتان الرئيسيتان مع ان كل دول الشمال من روسيا حتى فرت.. وان كان البعض يرجعه الى ما قبل ذلك حيث حملة نابليون على مصر وبلاد الشام في اواخر القرن الثامن عشر.. وفي بدايات المشروع مع نهايات القرن التاسع عشر كان واضحا ان العلمانيين اليهود في احضان العواصم الاوربية هم المعنيون بشكل مباشر بالمشروع وان استخدموا الفاظا دينية يهودية فذلك ليس الا للحشد والتعبئة..
علمانيون لايؤمنون بدين وكثير منهم ملاحدة هؤلاء هم قادة المشروع الصهيوني ومؤسسو الكيان الصهيوني..وهذا يشير بشكل او باخر الى طبيعة الكيان الذي يقصدونه ليؤدي وظيفته المناطة به كواحدة مركزية من سلسات المشروع الاستعماري في بلاد العرب والمسلمين انه كيان يهودي علماني يتسم بسمات النمط الغربي في الوجه السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. وعلى هذا الاعتبار فلم يكن الاعلان عن قيام اسرائيل الا قرارا غربيا شرقيا واضحا مدعوما بكل وسائل التمكين المادية والمعنوية والسياسية.
لم يكن الدين الا شكلا كاريكاتوريا في بناء الكيان الصهيوني هو فقط لنجاح عملية جذب اليهود من المنطقة العربية ومن العالم الا ان المتدينيين الذين وجدوا انفسهم ذوي حظوة في المؤسسة أخذوا يملوا شروطهم شيئا فشيئا في ظل تراجعات واسعة لدى اليسار الاسرائيلي.
استفاد اليمين الصهيوني المتدين من الامتيازات والاغراءات التي نالوها من الحكومات المتلاحقة وكرس وجوده في المستوطنات وفي القدس مع اظهار مبالغ فيه من التزمت في الممارسة والزي واستغلت الطبقة السياسية هذا التوحش في فرض وقائع جديدة على طاولة المفاوضات المفترضة مع الفلسطينيين.. ولكن الوقائع وجدت كم يستثمرها في الداخل الاسرائيلي سياسيا وايديولوجيا لتظهر فكرة الدولة اليهودية وتقليص شكل الدولة الليبرالية العلمانية لاسيما في مجالات اساسية كالتعليم والقضاء..
ادرك اليساريون انهم ازاء مستقبل غامض في ظل تعصب متشدد سيفرض انظمة حكم وتعليم وسلسلة قوانين من شأنها اعادة تشكيل مؤسسات الكيان بمسميات ومضامين جديدة.. وحتى ان جزءا من اليمين الوسط بدأ يشعر بخطورة الانقلاب الذي يزمع اليمين المتطرف احداثه ومن هنا بدأ الحراك الليبرالي واليساري للتصدي لتمدد الانقلاب اليميني لاسيما عندما مس بقوة جانب القضاء.
اسرائيل وحقيقة التصادم:
ليس مزحة مايحصل داخل اسرائيل، وفقط هم وحدهم من لا يمتلكون رؤية لطبيعة هذا الكيان وحقيقة التصادم بين رؤيتين هم من يرون الامر سيان وانه لايهمهم من قريب او بعيد ا وان اسرائيل تعبر عن قوة تكوينها الديمقراطي.. وكأنه لايكفي كل هذا القلق الامريكي والالماني والاوربي والروسي لما يجري في اسرائيل لدرجة ان امريكا تربط دعمها لاسرائيل "كون اسرائيل دولة ديمقراطية" تحافظ على استقلالية القضاء.. ليس مسبوقا ما يجري في اسرائيل ولعل هذا الامر هو ما فاجأ كثيرا من العقول السكونية فلا تستطيع متابعة ما يجري على الارض فلقد وصل الامر الى تهديد بحرب أهلية ورغم ان نتنياهو حاول تأجيل الصدام الا ان الصدام يمتلك كل مبرراته وان تجمد اليوم فسينطلق في الغد القريب اكثر عنفوانا لاسباب موضوعية وذاتية.
ها هي اسرائيل امام اول امتحان جوهري في المواجهة الداخلية المفتوحة ترسل اشارات التحذير والخطر والاستغاثة باحتمال اعاصير كارثية كما صرح العديد من قياداتها السياسية والامنية .. وليس فقط البعد الايديولوجي هو مايهدد الكيان فهناك الجانب العرقي وهو جمر تحت الرماد رأينا مشاهد منه قبل عدة سنوات عندما انطلق الاثيوبيين اليهود بمظاهرات صاخبة اسفرت عن خسائر ورسخت حواجز بين السود والبيض في التجمع الصهيوني .. في التجمع الصهيوني اقليات كل اقلية تحمل معها ما يميزيها وينفر منها غيرها وكل شيء في هذا الكيان قابل للانهيار.
الصدام ليس شكليا وليس مؤقتا.. لأنه تعبير عن شرخ رأسي في الكيان الصهيوني لن يتم اصلاحه فهو تطرف لاتجاهين متناقضين بحدة ليس فقط سياسيا انما ايضا ايديولوجيا لاسيما الاتجاه الليبرالي الذي يجد امتداده في الغرب فهو تكريس للتغريب بتكتل بشري وهذه هي ضمانة الغرب ببقاء اسرائيل في الملعب الاوربي..
حتى الان يحاول نتنياهو كسب الوقت وتنفيس المظاهرات الحاشدة والممتدة الى قطاعات حيوية في المؤسسات.. لكنه على طريقته يقدم حلولا مفرغة الامر الذي دعا خصومه الى رفض المناورة والمطالبة باستمرار التظاهر حتى اسقاط المقترحات المزمع تقديمها للتصويت في الكنيست والخاصة بملف القضاء..ومهما كانت النتيجة في نهاية الصدام فلن تعود الامور الى سابقتها في الكيان الصهيوني.. لن يقبل الليبراليون بخضوع القضاء للحكومة والكنيست ولن يقبل اصحاب الصهيونية الدينية باقل من خضوع القضاء لهم.. هذا بالاضافة الى جملة صلاحيات تطلق ايديهم فيها كالاستيطان وصولا الى مشروع السيطرة على الاردن كجزء من دولة اسرائيل.
ما يحصل يعبر عن مرض عميق في الفكرة الصهيونية التي لا علاقة لها باليهودية كدين انما هي استخدمت بعض شعارات الدين بتعسف كجسر لاحتلال فلسطين.. كما ان ما يحصل يعبر عن خلل وفراغ كبير في تشكيل الكيان الصهيوني الذي اصابه الغرور بقوته المادية في حين اظهرت الازمات المتلاحقة فراغ التجمع الصهيوني من أي قوة تماسك وان كل ما تبديه عضلات الجيش واذرعة الامن لا يمكن تصنيفه الا في سياق المعدات والوسائل.. ورغم كل الخطط والتصورات والسيناريوهات التي نوقشت قبل قيام الكيان الصهيوني الا انهم يواجهون الان صراعا لم يكن في الحسبان وهو اصعب من أي صراع مفروض من الخارج..
من الضروري تماما ان ننبه الى ان المواجهات ليست مندرجة تحت عنوان حرية تعبير ولا مطالبة بحقوق وعلى هذا من الخبل اضافة هذا الحراك السياسي الثقافي الايديولوجي كعامل قوة للكيان الصهيوني وذلك لأنها صراع وجود بين تيارين ايديولوجيين يقسمان المجتمع وقناعاته وطبيعة النظام السياسي.
لقد شعر اليسار والليبراليون وحتى يمين الوسط انه ازاء هيمنة فاشية للصهيونية المتدينة التي ستدمر كل ما صنعه العلمانيون من علاقات واستقرار ولو نسبيا في ارض فلسطين.. ومن هنا بالضبط نعلن حاجتنا الماسة الى فهم الحراك الصهيوني داخل المؤسسات المتنوعة في اسرائيل.. ولعله من الواضح ان الليبراليين لهم وجودهم الفاعل في النقابات والمؤسسات المجتمعية بل وحتى المؤسسات الحكومية والرسمية ففي يوم امس كانت الاضرابات تتحلاق بدءا من سفارات اسرائيل في العالم تلتحق بالاضراب العام ونقابات العمال تعلن الاضراب عمال المطارات يضربون عن العمل الشوارع والجامعات تغص بالمحتجين بين قطبي الصراع في القدس وتل ابيب وفي أكثر من مكان ووصل الامر بأن محامي الدفاع عن نتنياهو اعلن عن اعتزال القضية..
لن يعود المحتجون الى بيوتهم قبل الاعلان عن الغاء المقترحات والوعد بعدم تقديمها للمناقشة في الكنيست.. ومطالبة زعماء المعارضة اصبحت اكثر وضوحا في ضرورة الانتهاء من وضع دستور للكيان الصهيوني.. في حين يعلن بن غفير عن تشكيل مليشيا عسكرية "الحرس الوطني" مشرعنة تقوم بمهمات خاصة للردع وحماية تحركاته وكأن ذلك دعوة لممارسة القوة في قمع الاخرين المعارضين لتوجهات الحكومة والكنيست وهنا المعضلة على كل وجه لانها تعني سيطرة اليمين وبالمليشيا على الاوضاع الامنية داخل التجمع الصهيوني لان الاحتمال كبير ان تستنكف الجهات الامنية الرسمية القيام بتلك المهمة وفي المقابل يتضح الهدف السياسي من الحراك الواسع لليبراليين بالسؤال المباشر عند المطالبة بترسيم الدستور وهنا يطرح سؤال جديد ويتقدم بقوة اين حدود اسرائيل؟
الموقف الدولي:
صحيح ان امريكا واوروبا تصطف مع التيار اليساري الليبرالي لكن الموقف الامريكي والاوربي سيزيد الازمة تعقيدا ولن ينهيها..امريكا واوربا تشعران ان تجربتهما الاستعمارية في ورطة تاريخية فكل التاييد العالمي المجند لها لن يجدي نفعا عندما يدب النزاع بين مكوناتها.. ومن هنا تواصلت المساعي الامريكية والاوربية لنزع فتيل الصراع وردع اليمين الصهيوني الديني والتلويح بعدم الاعتراف بفوزه وقيادته.. ولا تخفي الادارة الامريكية والادارات الاوربية قلقها مما يجري وخوفها من المالات عندما تتحول الشوارع في فلسطين الى ساحات حرب بين التيارين الكبيرين الذين وصل كل منهما الى اخر نقطة استقطاب في اتجاهه الفكري.
ولازال الضغط الامريكي والاوربي متواصلا على المكونات الاسرائيلية لانتزاع الاقرار بالتنازل عن تقديم المقترحات الخاصة باصلاح القضاء للكنيست وهنا تكون الازمة بلغت منتهاها حيث لم تستطع المعارضة حجب الثقة عن الحكومة والتي لا يهددها الا تفسخ داخلي فيما بينها فيما لو تراجع احد اطرافها الائتلافية في ملف القضاء.. كما ان الخطاب السياسي للصهيونية الدينية اربك اصدقاءهم الاوربيين والامريكان عندما جعلوا الاردن جزءا من دولة اسرائيل الامر الذي لاقى استنكارا واسعا حتى لدى المطبعين العرب..
قد يستطيع الضغط الدولي ان يحقق اكثر مما حقق حتى الان.. بمعنى يمكن ان يصل الى الغاء خطوة تقديم المقترحات ولكن هذا لن ينهي الازمة وستظل مفاعيلها قوية في اوساط الاحزاب المتطرفة والتي تجد رواجا لاطروحاتها في ظل عدم معاقبات اقليمية او دولية.. وقد تأتي الانتخابات القادمة بفوز اكثر قوة للاحزاب اليمينية فيكون الامر لها بقوة القانون او قد ينقص حجمها وتتحول الى مليشيات وعصابات وتنفلت الى ممارسات ميدانية في الاستيطان والقرى والمدن والمخيمات الفلسطينية.

الصهيونية تفقد البوصلة:
ذهبت السكرة وجاءت الفكرة .. لم تشهد التجمعات الصهيونية مثيلا لما يحصل الان في شوارع فلسطين المحتلة.. فلقد كانت الانتصارات على الفلسطينيين والعرب والحشد ضد العدو الخارجي هي السكرة التي تغطي على ازمات عميقة في التجمع الصهيوني.. ولقد جاءهم تطبيع كثير من حكام العرب ليحقق لهم بعض الامان الجودي وتمكنت اسرائيل ان تحيد كثيرا من المقاومين واصحاب الحق بمفاوضات سرابية عقيمة وهدنات مؤلمة بعد حروب مرهقة.. والان بعد ان اصبحت اسرائيل تعتقد انها لابد ان تكون دولة يمكنها التحرك في الاقليم لعقد تحالفات وحاولت جر الاصدقاء الى حلف عسكري امني ضد ايران وتصوير ايران على انها عدو مشترك للمنطقة.. في هذه المرحلة الحرجة صعد نجم اليمين المتطرف الذي توحش على حساب اليسار الصهيوني وقيادات الامن والجيش .. هنا اراد المتدينون تحطيم مؤسسات العلمانية في الكيان الصهيوني اول المؤسسات هي القضاء والقانون لكي يصبح كل شيء تحت تصرفهم لفرض وقائع جديدة خارج اطار القانون..
انه الصدام بين اتباع حلم الكيان الصهيوني ذي الامتداد الغربي العلماني الاستعماري وبين اتباع حلم الدولة اليهودية المتوسعة في المشرق العربي كله.. بلاشك التيارين يشتركان في انهما عدو للشعب الفلسطيني والشعب العربي ولا مجال للمفاضلة بينهما فالاول هو من صنع اسرائيل وسلمها للثاني.. اقول هذا الكلام لكي لا يتسرب لذهن احد السادة القراءة اننا نرى في حالة اختيار بين السم والسم.. ولكننا نحذر ايضا من القراءات التعميمية فليس اليمين المتطرف كالليبراليين وانا اشتركا في عدوانهم علينا ولكن بروز كل منهما يعجل من الصدام بينهما وان العداوة فيما بينهما لاتقل عن عدواة احدهما لنا وانهما على استعداد ان يدخلا صراعا داميا صفريا.. قد تكون هذه اولى ارهاصاته
بجملة مركزة ومحددة ان الكيان الصهيوني يواجه اعظم خطر في تاريخه وهو خطر بنيوي وما بعده لن يكون كما قبله..ولكن الاهم من ذلك أين نضع ذلك في دائرة الصراع بيننا والعدو وكيف يمكن ان يكون بالنسبة لنا قوة اضافية لتحقيق اهدافنا في الحرية والاستقلال.

اخر الأخبار