تطور مدينة قرطبة في القرن الرابع الهجري
تاريخ النشر : 2019-08-29 19:23

أهداف الدراسة :
تهدف هذا البحث إلى الكشف عن مدى التعرف على تطور مدينة قرطبة في القرن
الرابع الهجري:

-    التعرف علي اهمية مدينة قرطبة موقعها و تاريخيا .
-    تهدف الي مدي اهم العمارة الاثارية و الاسلامية في مدينة قرطبة . 
-    تهدف من الاغراض السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية في مدينة قرطبة .
المنهج المستخدم :
اعتمد الباحث في الدراسة على المنهج البحث التاريخي، وإعطاء صورة توضيحية عن أغراض وأهدافها وما ترتب عليها من نتائج ، مع الوضع في الاعتبار اعتماد الباحث على المنهج التاريخي لتوثيق الوقائع التاريخية .

أهمية البحث :
-    معرفة الاساليب العمارة و الاثار الاسلامية المتنوعة في مدينة قرطبة .
-    بما يحصل من تراث الاسلامي و عمراني في مدينة قرطبة .
-    تهتم في كشف طبيعة مدينة الاسلامية و تأثيرها عللي أروبا و العالم .

تقسيمات البحث :
عنوان البحث: تطور مدينة قرطبة في القرن الرابع الهجري

الفصل الاول : تطور مدينة قرطبة تاريخيا و حضاريا
المبحث الاول :أصل الكلمة قرطبة
المبحث الاول: تاريخ قرطبة الرومانية
المبحث الثاني : مدينة قرطبة الإسلامية
المبحث الرابع : مدينة قرطبة في عصر ملوك الطوائف والمرابطين
المبحث الخامس : كيف نشأت العلوم في قرطبة؟
الفصل الثاني : العمارة والفنون الإسلامية في مدينة قرطبة
المبحث الاول : العمارة والفنون العربية في قرطبة إبّان الحكم العربي الإسلامي
المبحث الثاني : قرطبة في أيام الحاجب المنصور
المبحث الثالث : قصر الروضة
المبحث الرابع : جامع قرطبة .. المسجد الجامع
الفصل الثالث : الوضعية السياسية في مدينة قرطبة خلال القرن الرابع الهجري
المبحث الاول : الحياة الاقتصادية بالمدينة قرطبة خلال القرن الرابع الهجري
المبحث الثاني : الحياة الاجتماعية في مدنية قرطبة
المبحث الثالث : قرطبة مدينة العلم


الفصل الاول : 
تطور مدينة قرطبة تاريخيا و حضاريا
المبحث الاول :
أصل الكلمة قرطبة
المبحث الاول: 
تاريخ قرطبة الرومانية
المبحث الثاني : 
مدينة قرطبة الإسلامية
المبحث الرابع : 
مدينة قرطبة في عصر ملوك الطوائف والمرابطين
المبحث الخامس : 
كيف نشأت العلوم في قرطبة؟


الفصل الاول 
تطور مدينة قرطبة تاريخيا و حضاريا
«إن قُرْطُبَة التي فاقت كل حواضر أوربا مدنيةً أثناء القرن الرابع (الهجري) كانت في الحقيقة محطَّ إعجاب العالم ودهشته، كمدينة فينيسيا في أعين دول البلقان، وكان السياح القادمون من الشمال يسمعون بما هو أشبه بالخشوع والرهبة عن تلك المدينَة التي تحوي سبعين مكتبة، وتسعمائة حمام عمومي؛ فإن أدركت الحاجة حُكَّام ليون، أو النافار، أو برشلونة إلى جرَّاحٍ، أو مهندس، أو معماري، أو خائط ثياب، أو موسيقي فلا يتَّجهون بمطالبهم إلا إلى قُرْطُبَة». هذا هو وصف أحد الغربيين لمدينة قُرْطُبَة الأندلسية في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، وهو جون براند ترند.
فامتدادًا لحضارة إسلامية إنسانية -علمًا، وقِيَمًا، ومجدًا- بزغ نجم مدينة قرطبة، كشاهدٍ حيٍّ على ما وصلت إليه حضارة المسلمين وعزِّ الإسلام في ذلك الوقت من التاريخ، وهو منتصف القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، يوم أن كانت أوربا تغطُّ في جهل عميق.(1)
قرطبة.. ذلك الاسم الذي طالما كان له جرس مُعَيَّنٌ، ووقع خاصٌّ في الأذن الإسلامية، بل وفي أذن كل أوربي آمن بالنهضة والحضارة الإنسانية، يقول المقري: قال بعض علماء الأندلس: 

§    بِأَرْبَــعٍ فَـاقَــتِ الأَمْصَارَ قُرْطُبَــةُ *** مِنْهُنَّ قَنْطَرَةُ الْوَادِي وَجَامِعُهَا
§    هَاتَانِ ثِنْتَانِ وَالزَّهْرَاءُ ثَالِثَــةٌ *** وَالْعلمُ أَعْظَمُ شَيْءٍ وَهْوَ رَابِعُهَ
قرطبة و موقعها الجغرافي والتاريخي:
هي مدينة تقع على نهر الوادي الكبير، في الجزء الجنوبي من إسبانيا، وقد أرَّخت لها موسوعة المورد الحديثة فقالت: «أسسها القرطاجيون فيما يُعتقد، وخضعت لحكم الرومان والقوط الغربيين» (2)

____________
1)    خضر ،محمود يوسف ، تطور مدينة قرطبة العمراني في عصر الخلافة ،2009، دار الحياة للنشر و التوزيع ،ص17.
2)    أحمد بدر، تاريخ الأندلس في القرن الرابع الهجري، دمشق، 1974م، ص 242.

وقد قام بفتحها القائد الإسلامي الشهير طارق بن زياد، وذلك سنة (93هـ= 711م). ومنذ ذلك العهد بدأت مدينة قرطبة تخطُّ لنفسها خطًّا جديدًا، وملمحًا مهمًّا في تاريخ الحضارة؛ فبدأ نجمها في الصعود كمدينة حضارية عالمية.

وفي عهد عبد الرحمن الناصر (أول خليفة أموي في الأندلس) ومن بعده ابنه الحكم المستنصر، بلغت قرطبة أوج ازدهارها، وقمة ريادتها وحضارتها؛ خاصةً أنه اتخذها عاصمة لدولته الفتية، ومقرًّا له كخليفة للمسلمين في العالم الغربي، وقد جعل منها منبرًا للعلوم والثقافة والمدنية، حتى غدتْ تُنَافس القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية في قارتها، وبغدادَ عاصمة العباسيين في المشرق، والقيروانَ والقاهرةَ في إفريقيا، حتى أطلق عليها الأوربيون: «جوهرة العالم».ة، لا سيما في عام (138هـ= 756م)، عندما أسس عبد الرحمن الداخل (صقر قريش) الدولة الأموية في الأندلس، وذلك بعدما سقطت في دمشق على أيدي الدولة العباسية.(1)

وقد شمل اهتمام الأمويين بقرطبة اهتمامهم كذلك بنواحي الحياة المختلفة فيها؛ من زراعة وصناعة، وبناء الحصون، ودور الأسلحة.. وغيرها، وقد شقُّوا الترع، وحفروا القنوات، وأقاموا المصارف، وجلبوا للأندلس أشجارًا وثمارًا لم تكن تُزْرَع فيها.(2)


____________
1)    المقري، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، ج 1،ص153.
2)    أحمد بدر، تاريخ الأندلس في القرن الرابع الهجري، دمشق، 1974م، ص 242.

المبحث الاول:
أصل الكلمة قرطبة :
اعتماداً على المعلومات التي أدلى بها ياقوت الحموي بشأن أصل مدينة قرطبة أن أصل كلمة قرطبة ترجع إلى مصدرين، أولهما أعجمي روماني وثانيهما عربي. أما معنى الكلمة في اللغة العربية فيقصد بها العدوُ الشديد، وورد في الشعر العربي بيت جاء فيه ذكر الكلمة:
إذ رآني قد أتيتُ قرطباً    وجال في جحاشة وطرطباً
وفي رواية أخرى أن التعبير قرطبة بمعنى صرعه، وتعني أيضاً أن القرطبا هو السيف كأنه من قرطبة أي قطعه(1)
أما بخصوص إرجاع الكلمة أصلها إلى اللغات القديمة فقد أشار إليه مؤلف مقالة قرطبة في دائرة المعارف الإسلامية والعديد من الكتاب الغربيين والعرب فالكلمة أصلها أيبيري قديم مأخوذ من كلمة كوردوبا Corduba أو Corduva. وهي بالفعل كما وجد المؤلفون العرب كلمة قديمة تشير إلى مدينة قديمة أزلية. فقد ورد ذكرها أثناء الصراع بين اليونان وقرطاجنة حيث اشترك أهالي قرطبة في حملة هانيبال على روما. كما أنها أصبحت تابعة للامبراطورية الرومانية بحدود سنة 206 ق.م
المبحث الثاني :
تاريخ قرطبة الرومانية:
تأسست قرطبة مستوطنةً رومانية على الجانب الشمالي لنهر الوادي الكبير (نهر بيتيس قديماً) في عصر جمهورية روما سنة 206 قبل الميلاد، ثم صارت عاصمة لولاية بيتيكا (جنوب إسبانيا) ضمن الإمبراطورية الرومانية. وقد ظلت قرطبة مدينة رومانية لمدة تزيد عن سبعة قرون، ولذلك ما زالت في قرطبة آثار من الحكم الروماني، أبرزها الجسر الروماني ("بوينتي رومانو") الذي يقطع الوادي الكبير، وأطلال معبد روماني، بالإضافة إلى ضريح روماني مكتشف حديثاً. وظهر في قرطبة في تلك الفترة الفيلسوف سينيكا.
بعد سقوط الدولة الرومانية على يد الغزوات المتتابعة من قبل القبائل الجرمانية ("البرابرة")، انحدرت على شبه الجزيرة الأيبيرية (إسبانيا والبرتغال حالياً) بعض هذه القبائل كالوندال والآلان، وتبعهم القوط الغربيون الذين كان أمر الجزيرة بأكملها، بما فيها قرطبة، قد آل إليهم وقت وصول المسلمين في القرن الثامن الميلادي (الأول الهجري)، بعد صراع مع الروم البيزنطيين.(2)
____________
1)    المقري، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، ج 1،ص153.
2)    أحمد مختار العبادي: دراسات في تاريخ المغرب والأندلس، مؤسسة شباب الجامعة، ص 87.

المبحث الثالث :
مدينة قرطبة الإسلامية:
الجسر الروماني في قرطبة، وتبدو بالأفق قبة كاتدرائية قرطبة (المسجد الجامع سابقًا)، أعلى المباني في الصورة.
عصر الولاة
فتح المسلمون الأمويون قرطبة على يد القائد مغيث الرومي مولى الخليفة الوليد بن عبد الملك في سنة 92 هـ/ 710 م بعد أن عبر بقواته إلى أيبيريا (التي سماها المسلمون ببلاد الأندلس) وقتل ملكها لذريق (رودريك). وقد جعل الأمويون الأندلس ولاية تابعة لولاية المغرب، حتى جعلها عمر بن عبد العزيز ولاية الأندلس تتبع للعاصمة الأموية في دمشق بشكل مباشر. وجعل الأمويون قرطبة مقراً لولاتهم على الأندلس فظلت كذلك حتى سقوط الدولة الأموية على أيدي العباسيين عام 750 م.(1)
العصر الأموي
و لكن لم يعل شأن قرطبة إلا مع قدوم الأمير الأموي عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس فاراً من العباسيين، فاستولى على مقاليد الأمور في الأندلس الإسلامية وجعل قرطبة عاصمة له عام 756 م. وقد كان هذا بداية لعصر قرطبة الذهبي، حيث أصبحت عاصمة الأندلس الإسلامية بأكملها وأهم مدينة في شبه الجزيرة، وفي عهد الداخل بدأ العمل على جامع قرطبة الكبير الذي لا زال قائماً في المدينة اليوم. واستمر الحكم بيد الأمويين من سلالة عبد الرحمن الداخل في هذه الفترة.(2)
مسجد قرطبة.
و قد تعرضت الدولة الأموية لعدد من الثورات المتعاقبة وفقد أمراؤها مقاليد الأمور حتى تمكن أحد أحفاد الداخل، عبد الرحمن الثالث الملقّب بالناصر، من إعادة توطيد ملك الأمويين وإخضاع معظم الأندلس لسلطته في قرطبة، وذلك في القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري). وقد بلغت به القوة إلى أن اتخذ لنفسه لقب خليفة المسلمين، مستنداً إلى ما اعتبره حق أسرته القديم في الخلافة السابق لحق بني العباس. (3)
____________
1)    المقري، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، ج 1،ص153.
2)    أحمد مختار العبادي: دراسات في تاريخ المغرب والأندلس، مؤسسة شباب الجامعة، ص 89.
3)    مرجع السابق ،ص90.


وقام الناصر بنقل حكومته إلى مدينة جديدة اختطها على بعد أميال من قرطبة أسماها الزهراء، إلا أن قرطبة ظلت المدينة الرئيسية في البلاد. بعد أحداث وقعة الربض وصلت المدينة لأوج مجدها في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر (912 - 961)، وابنه الحكم الثاني (961 -976)، ثم تلاهم الحاجب المنصور بن أبي عامر (981 - 1002)، الذي استولى على مقاليد السلطة في قرطبة وصيّر الخليفة الأموي سجيناً في قصوره في الزهراء وابتنى له قصراً للحكم في طرف قرطبة أسماه بالمدينة الزاهرة. وقد كانت دولة قرطبة من أهم الدول الأوروبية في القرن العاشر، كما كانت منارة للعلم والثقافة في أوروبا، وعاصمة من عواصم الأدب والثقافة العربية والإسلامية، وأنجبت المدينة في هذه الفترة الشاعر ابن زيدون، والشاعرة الأموية ولادة بنت المستكفي، والفقيه ابن حزم، والعالم عباس بن فرناس، كما أنتقل إليها الموسيقي زرياب وأسس دار المدنيات.(1)
المبحث الرابع :
مدينة قرطبة في عصر ملوك الطوائف والمرابطين
في العقدين 1020، 1030 سقطت الخلافة بسبب ثورة البربر ونشوء ملوك الطوائف الذين قسموا الدولة إلى أكثر من 12 دويلة، منها غرناطة وإشبيلية والمرية وبلنسية وطليطلة وسرقسطة والبرازين وبطليوس. وتنازع حكام إشبيلية وطليطلة المسلمين على قرطبة حتى استقرت المدينة بيد ملك إشبيلية الطموح المعتمد بن عباد سنة 1078 م، ففقدت قرطبة مكانتها كعاصمة لدولة، وبزغ نجم إشبيلية المجاورة لها بدلاً منها.(2)
وبينما ورثت تلك دويلات الطوائف ثراء الخلافة، إلا أن عدم استقرار الحكم فيها والتناحر المستمر بين بعضها البعض جعل منهم فريسة لمسيحيي الشمال. إلى أن أفتى الفقهاء وأهل الشورى من المغرب والأندلس ليوسف بن تاشفين، زعيم دولة المرابطين في المغرب العربي بخلعهم وانتزاع الأمر من أيديهم وصارت إليه بذلك فتاوى أهل الشرق الأعلام مثل : الغزالي والطرطوشي فاقتحم عامة الأندلس من أيدي ملوك الطوائف وانتظمت بلاد الأندلس، بما فيها قرطبة، في مملكة يوسف بن تاشفين، وذلك عام 1091 م.


____________
1)    المقري، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، ج 1،ص153.
2)    موسوعة المورد الحديثة (1995)،ص43.


قرطبة في عصر الموحدين :
وسقطت دولة المرابطين على يد حركة إسلامية أخرى هي حركة الموحدين، فصارت قرطبة وباقي الأندلس الإسلامية بأيديهم في منتصف القرن الثاني عشر. وقام الموحدون بإعادة عاصمة الأندلس إلى قرطبة، فاستعادت شيئاً من مكانتها السابقة. وفي هذه الفترة ظهر في قرطبة الفيلسوف المسلم ابن رشد، بالإضافة إلى العالم الديني اليهودي ابن ميمون، أشهر فلاسفة اليهودية في العصور الوسطى.
و لم يصمد الموحدون طويلاً بعد ذلك، فقد انهزموا هزيمة قاصمة في معركة العقاب ("لوس ناباس دي تولوزا" بالإسبانية) عام 1212 م، فتهاوت بعد ذلك معظم المدن الإسلامية في الأندلس في أيدي مملكة قشتالة المسيحية، فسقطت قرطبة عام 1236 م على يد فرناندو الثالث بعد ما يزيد على خمسة قرون من الحكم الإسلامي للمدينة.(1)
قرطبة الإسبانية :
فرغت قرطبة سريعاً بعد ذلك من معظم سكانها المسلمين، وسمح الملوك الإٍسبان لمن تبقى منهم بالبقاء على الإسلام بعد استيلائهم على المدينة، أسوة بباقي المسلمين في الأندلس، واستخدموا العمال والمهندسين المسلمين في تصميم مباني وقصور وكنائس لهم على الطراز الأندلسي، وسمي المسلمون الباقون تحت حكم الإسبان بالمدجنين ("مديخار" بالإسبانية)، ولكن ذلك لم يستمر طويلاً، إذ بدوا بعد ذلك بالتضييق عليهم ثم إجبارهم على اعتناق المسيحية من خلال محاكم التفتيش، التي استخدمت أنواع التعذيب والقتل حتى البعض منهم يخشى يكتشف إسلامه حتى لا يقتل إلى أن قرّرت إسبانيا طرد المسلمين وأحفادهم ممن اعتنق المسيحية من سائر البلاد، كما تم طرد اليهود منها أيضاً، وذلك في بداية القرن السابع عشر، وتم توزيع الأراضي والإقطاعيات على مهاجرين مسيحيين من الشمال أعادوا توطين المدن مثل قرطبة.
و لا يزال الحيّان الإسلامي واليهودي القديمان معروفين في قرطبة الحالية، كما بقي مسجدها الضخم قائماً في وسطها، إلا أنه تم بناء كنيسة في قلب المسجد في القرن السادس عشر، ويستخدم الجامع الآن ككاتدرائية تتبع الكنيسة الكاثوليكية. وقد جعلت اليونيسكو وسط مدينة قرطبة (أي الحي القديم بما فيه المسجد والحي اليهودي) موقعاً من مواقع التراث العالمي، بالإضافة إلى مدينة الزهراء المجاورة لقرطبة.(2)
____________
1)    المقري، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، ج 1،ص153.
2)    موسوعة المورد الحديثة (1995)،ص43.

وقد مرت جنوب إسبانيا ("أندلسيا" كما أسماها الإسبان) بفترة من الانحدار الاقتصادي والثقافي بعد ذلك مقارنة بباقي إسبانيا، وازدهرت إشبيلية على حساب قرطبة بسبب استخدامها كميناء يربط إسبانيا بالعالم الجديد، إلا أن المنطقة بأسرها باتت تعيش رخاء اقتصادياً في الوقت الحالي بفعل تنشيط السياحة وإنشاء منطقة أندلسيا ذات الحكم الذاتي. وتشكّل قرطبة مقر محافظة قرطبة داخل هذه المنطقة، وسكانها يتجاوزون الثلاثمائة ألف نسمة.
تبدو قرطبة عاصمة الخلافة الأندلسية الآن مدينة أوروبية حديثة. وهي لا تعد من المدن الإسبانية الكبيرة ولا يتعدى عدد سكانها مئتي ألف نسمة بينما كانت في عصر ازدهارها أيام الخلافة تزيد على خمسمئة ألف نسمة.
وتقع قرطبة على السّفح الجنوبي لجبال قرطبة على منحنى الضفة الشمالية لنهر الوادي الكبير(1)، وهي الآن عاصمة الولاية المعروفة باسم الأندلس، وتربتها مزيج من السهول الخضر حيث تزرع الحبوب والكروم، وغابات الزيتون وحدائق البرتقال والليمون، وفيها الكثير من السفوح المنحدرة من جبال سييرا مورينا، أي "جبال الشارات"، وهي أيضاً تُعد الآن مدينة صناعية في إسبانيا بها مناجم الفحم والرصاص والنحاس.

هكذا أصبحت قرطبة الآن، أما عند الفتح الإسلامي فكانت تتألف من تجمعين عمرانيين يفصل بينهما سور كان الغرض منه عزل قسم المدينة الغربي الذي يضم المؤسسات الحكومية وثكنات الجند عن القسم الشرقي المأهول بالسكان. وكان القسم الغربي يشغل القصبة أو المدينة العليا أو"قبة قرطبة"كما كان يُعرف في ذلك الوقت. وكان القسم الشرقي من المدينة يُعرف باسم الشرقية ويشغل ما كان يطلق عليه اسم"المدينة العتيقة". وكان يحيط بقسمي المدينة سور منذ العصر الروماني تم ترميم الجدار الغربي منه أيام ولاية السمح بن مالك الخولاني. وكان التجمع العمراني الشرقي هو ربض من مجموع أرباض أحياء الجانب الشرقي من قرطبة في عصر الخلافة. وكان يشق قرطبة من وسطها طريق عريض مرصوف يُعرف بالسكة العظمى أو المحجة العظمى أو طريق أوغسطس قيصر. وكان هذا الطريق في أول الأمر ضيقاً تعترض مساره بعض الحوانيت والبيوت فأمر الخليفة الحَكَم المستنصر سنة 361 هـ / 971 م بتوسيعه بهدم ما يعترضه من المباني.(2)
____________
1)    خضر ،محمود يوسف ، تطور مدينة قرطبة العمراني في عصر الخلافة ،2009، دار الحياة للنشر و التوزيع ،ص17.
2)    محمود إسماعيل: الفكر التاريخي في الغرب الإسلامي، ط1، منشورات الزمن، المغرب 2008م، ص 70.


وكانت تتفرع من طريق المحجة العظمى شوارع عريضة تؤدي إلى أبواب المدينة وتتشعب من هذه الشوارع الرئيسة دروب كثيرة وحارات وأزقة حملت إلينا المصادر العربية الكثير من أسمائها. ومنها ذكر المؤرخون درب شراحيل نسبة الى محمد بن شراحيل قاضي قرطبة وكان له مسجد باسمه في هذا الدرب، كما ذكروا درب الزجالي نسبة إلى حير الزجالي وهو منية / متنزه على النهر، كانت تخص أحد أفراد أسرة الزجالي، ودرب الفضل بن الكامل، ودرب بني الأشهب، ودرب بني فطيس ودرب ابن زيدون، وكانت تتخلل هذه الدروب ميادين / رحبات منها رحبة أبان ورحبة خولان ورحبة ابن درهمين، وكانت تتخللها أسواق صغيرة مثل سويقة القومس وسويقة ابن نصير وسويقة ابن أبي سُفيان.(1)
كانت أبواب قرطبة في عصر الإمارة خمسة أبواب زادت إلى سبعة في عصر الخلافة أيام عبدالرحمن الناصر، فقد أمر الناصر سنة 302 هـ / 914 م بفتح الباب المسمى باب عامر القرشي في السور الغربي لتيسير الوصول إلى مقبرة عامر القرشي، والباب الثاني الزائد هو باب سرقسطة أو باب الجديد. وذكر بعض المؤرخين العرب أن عبدالرحمن الناصر لجأ إلى تحصين أبواب قرطبة بطريقة مبتكرة في ذلك الوقت، فكانت أبواب قرطبة القديمة تتألف من فتحة واحدة في السور فأمر الناصر سنة 301 هـ / 913م بأن يُبنى لكل باب، باب داخلي يوازيه ليصبح باباً مزدوج المدخل له فتحتان خارجية وداخلية مما يتيح لحراس الأبواب مضاعفة حراستها وتشديد مراقبة الداخلين والخارجين، وكانت لهذه الأبواب مصاريع متينة من الحديد تستخدم لغلقها.(2)
وخلال السنوات الثماني الأخيرة من عمر الخلافة وخلال أحداث الفتنة التي أعقبت مقتل عبدالرحمن شنجول، بُني حول أرباض قرطبة سور منيع لحمايتها من أي هجوم وأحيط السور بخندق، وكان في هذا السور من الجهة الشرقية ثلاثة أبواب ورد ذكرها في بعض المصادر العربيّة مثل"باب الجديد "الذي فُتح جنوب السور الشرقي، و"باب الفرج"الذي فُتح في السور بين طريق المحجة العظمى وطريق الرملة، و"باب عباس"الذي كان يمر منه طريق المحجة بعد خروجه من "باب عبدالجبار". وذكر ابن غالب أن الخندق كان يدور حول كل أرباض قرطبة وبيوتها وأن طوله من جهاته الأربع يبلغ ثلاثة وعشرين ميلاً. ومن ناحيته ذكر ابن حوقل أن قرطبة في خلافة عبدالرحمن الناصر كان يحيط بها سور ولم يشمل العمائر التي بُنيت في ضواحيها المتطرفة، وذكر أن هذه العمائر امتدت من حي الرصافة إلى ربض شقندة.(3)
____________
1)    خضر ،محمود يوسف ، تطور مدينة قرطبة العمراني في عصر الخلافة ،2009، دار الحياة للنشر و التوزيع ،ص20.
2)    مرجع السابق ، ص22.
3)    الإدريسي: نزهة المشتاق ،ج2،ص579.


كانت مدينة قرطبة الكبرى تتألف من مدن صغيرة عدة: الشرقية والغربية والشمالية والجنوبيّة. وكانت الشرقية تتألف من سبعة أرباض/ أحياء، والغربية من تسعة أرباض. اما المدينة الشمالية فكانت تتألف من ثلاثة أرباض، والجنوبيّة من ربضين فقط. ونستنتج من ذلك أن قرطبة الكبرى بما تضمه من أرباض سكنية تحيط بالقصبة أي قلب المدينة في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، كانت تتألف من جانبين كبيرين: الجانب الشرقي وكان يُعرف في ذلك الوقت باسم الشرقية، وما زال هذا الجانب من المدينة الحديثة حتى الوقت الحاضر يحمل اسم الشرقية / بالإسبانية Ajarquia. والجانب الثاني هو الغربي. وقد توسع نمو المدينة العمراني في اتجاه الشرق حتى تجاوز "باب رومية "و"باب الجديد "الذي بناه عبدالرحمن الناصر. أما من ناحية الغرب فقد امتد عمرانها حتى تجاوز أبواب"عامر القرشي"و"باب الجوز "و"باب العطارين".(1)
وكانت قرطبة الكبرى وأرباضها المحيطة بمركزها تنقسم إلى حارات / حَومَات كما جاء في المصادر العربية التي ذكرت حَومة باب الفرج، وحومة النجارين أو النشارين وحومة عين فرقدة، وكانت هذه الحومات توجد في المدينة الشرقية. كما ورد ذكر حَومة غدير بني ثعلبة.
وحملت بعض أرباض قرطبة أسماء مساجد، وحملت أرباض أخرى أسماء تجارية أو صناعيّة أو أسماء أماكن وأعلام وكان من نتائج الامتداد لمدينة قرطبة الكبرى بأحيائها الخمسة واكتظاظها أن زاد عدد المساجد فيها حتى تجاوزت الألف مسجد.
أما الحمامات العامّة فقد ذكرت بعض المصادر العربية أن عددها وصل في خلافة هشام المؤيد أيام المنصور بن أبي عامر إلى 900 حمام وأكثر.(2)
أما الدّور الخاصة بسكان قرطبة الكبرى فقد وصل عددها في خلافة هشام المؤيد أيام المنصور ابن أبي عامر، وكانت المدينة قد بلغت أوج عظمتها واتساعها العمراني، إلى أكثر من 213077 داراً، ووصل عدد دور علية القوم وكبار رجال الدولة في الفترة نفسها إلى 60300 دار وذلك بخلاف الغرف المُعدّة للإيجار. ووصل عدد الحوانيت والمحال العامة في أيام المنصور إلى 80455 حانوتاً.

____________
1)    خضر ،محمود يوسف ، تطور مدينة قرطبة العمراني في عصر الخلافة ،2009، دار الحياة للنشر و التوزيع ،ص17.
2)    محمود إسماعيل: الفكر التاريخي في الغرب الإسلامي، ط1، منشورات الزمن، المغرب 2008م، ص 72.


وفي ما يتعلق بأسواق قرطبة الكبرى في عصر الخلافة فقد حملت لنا المصادر العربية أسماء الكثير منها، فكان يوجد سوق للدواب يقع خارج أسوار المدينة، وكانت أسواق العطارين تقع بالقرب من باب إشبيلية ولذلك أطلق الأهالي على هذا الباب اسم باب العطارين. كما نقلت لنا المصادر العربية أيضاً أسماء أسواق أخرى في قرطبة مثل سوق الصاغة وسوق البيازرة، وهو سوق الصقور المستخدمة في الصيد. وكان يوجد أيضاً سوق الخشابين ويبدو أنه هو نفسه سوق النشارين. وكان هناك سوق السرادق، أي الخيام ويوجد بالقرب من قنطرة قرطبة.(1)

ومن ناحية أخرى حملت لنا المصادر القشتالية المسيحية بعد استرداد قرطبة سنة 1236 م الكثير من أسماء الأسواق والشوارع القرطبية والتي ربما تكون أسماؤها محرفة عن أسماء عربية وذلك في المدينة المعروفة باسم الشرقية. وقد أسفرت أبحاث علماء الآثار الإسبان في تاريخ قرطبة في العصر الإسلامي عن العثور على خريطة للمدينة وُضعت سنة 1811 ظهرت عليها أماكن بعض المواضع الإسلامية في شكل مُحدد مثل القيسارية التي تقع جنوب شرقي المسجد الجامع. وحول القيساريّة ظهرت أسماء شوارع أسواق نرى منها على سبيل المثال شارع القصابين أو اللحامين Carniceros. والجدير ذكره أن اسم القصابين ورد في كتاب ابن القوطية "تاريخ افتتاح الأندلس"، وشارع الخياطين Calledelos Altayates وشارع السراجين Silleria وقد ورد في بعض المصادر العربية باسم حوانيت السراجين. ويبدو من أسمائها المحرفة عن العربية أن الأسواق الكائنة في هذه الشوارع اتصلت بها النشاطات التجارية والصناعية التي كانت موجودة في قرطبة الإسلامية وظهرت على الخريطة المذكورة أسماء شوارع أخرى وأسواق مثل سوق الخلالين، أي سوق الخل وبالإسبانية Vinagreros، وسوق الوراقين أو الكتيبة Librero وسوق الخياطين Cordoneros، وسوق الحصّارين / أي بائعي الحصر وبالإسبانية Esparteria، وسوق الجيارين، أي بائعي مواد البناء وبالإسبانية Calle del Ye. وفي قرطبة الحديثة شوارع احتفظت أسماؤها بأصولها العربيّة مثل شارع الزنيقه، وشارع المونة، أي شارع الصابون، وهناك أيضاً رحبة المغرة وفي قرطبة الحديثة أيضاً شارع يُعرف باسم شارع السّبع لغات أو السّبع ليّات Calle de las siete vueitas. وكان هذا الاسم الغريب شائع الاستخدام في شوارع المدن الإسلامية القديمة في الأندلس والمغرب مثل أشبيلية ومالقة وقرمونة وهو يُعبر عن الحواري الضيقة التي كانت توجد في هذه المدن.(2)
____________
1)    خضر ،محمود يوسف ، تطور مدينة قرطبة العمراني في عصر الخلافة ،2009، دار الحياة للنشر و التوزيع ،ص17.
2)    الإدريسي: نزهة المشتاق ،ج2،ص579.


المبحث الخامس :
كيف نشأت العلوم في قرطبة؟
لم تشهد الحضارة الأندلسية( قرطبة )، التي امتدت تقريباً من 93 هـ/ 711 م إلى 897 هـ/ 1492 م، أي تطور علمي في مجال العلوم الدقيقة حتى حكم الأمير عبد الرحمن الثاني ( 206 هـ/ 821 م – 238 هـ/ 852 م) الذي كان كما يقول مصدر مغربي متأخر مجهول الاسم، أول من أدخل الجداول الفلكية إلى الأندلس. فقبل تلك الفترة، كل ما نستطيع أن نتبين هو بقاء التقليد التنجيمي اللاتيني؛ وليس لنا إلا أن نفترض أن هذا التقليد قد وجد على الأرجح جنباً إلى جنبٍ مع تقليد عربي في التنجيم الشعبي متعلق بشكل رئيسي بالتنبؤات الطقسية المبنية على نطام الأنواء، وبمسائل الميقات كتحديد القبلة بقصد تثبيت الاتجاه الصحيح تقريباً للمحراب في الجوامع الجديدة. وشهد منتصف القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي بداية فترة من »المشرق « في الثقافة الأندلسية، شجع عليها سواء بسواء العادة الشائعة بالرحلة إلى المشرق من أجل إكمال تعليم الناشئة من أية أسرة تقدر على ذلك، وكذلك السياسة الثقافية للأمراء الأمويين الذين شجعوا علماء المشرق على توطيد أنفسهم في قرطبة، وبذلوا ما في وسعهم لشراء الكتب الجديدة الصادرة في عواصم المشرق العظيمة. وامتدت هذه الفترة على الأقلّ حتى سقوط الخلافة الأموية 422 هـ/ 1031 م (1)الذي ترتب عليه فقدان الوحدة السياحية؛ غير أنه تلت هذه الفترة فترة أخرى امتدت خمسين سنة ( 422 هـ/ 1031 م – 479 هـ/ 1086 م) يمكن اعتبارها العصر الذهبي للعلوم الدقيقة ولكل التجليات الأخرى في الحياة الثقافية في الأندلس؛ إذ دعا حكام »الممالك الصغيرة « (ملوك الطوائف) إلى نمو العلوم، وكان أحدهم، يوسف المؤتمن حاكم سرقسطة (474 هت/ 1081 م – 478 هـ/ 1085 م)، على الأرجح أهم رياضي في تاريخ الأندلس. وشهدت هذه الفترة أيضاً النشاط العلمي، في طليطلة وقرطبة، لأبي إسحاق إبراهيم بن يحيى النقاش، المعروف بالزرقالي (ت 493 هـ/ 1100 م)، الذي أصبح، دون أدنى ريب، أكثر، علماء الفلك أصالةً ونفوذاً في الأندلس. ومن ناحية أخرى، استلزم نصف القرن الذهبيّ هذا تباطؤاً متنامياً في الاتصالات بالمشرق؛ مما عنى أن تطوّر العلوم الدقيقة في الأندلس أصبح منذ منتصف القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي أصيلاً نوعاً ما ومستقلاً عن المشرق. وهذا الفقدان في الاتصال بمنطقة ثقافية، أخذت تنتج، وبخاصة منذ القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي فصاعداً، أفكاراً جديدة في مجال الفلك، كان أيضاً أحد الأسباب الرئيسية لاضمحلال العلوم الأندلسية، الذي ظهرت أعراضه الأولى خلال القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي. (2)

____________
1)    خضر ،محمود يوسف ، تطور مدينة قرطبة العمراني في عصر الخلافة ،2009، دار الحياة للنشر و التوزيع ،ص17.
2)    ابن الأبار: الحلة السيراء، ج1، تحقيق، حسين مؤنس، ج1، دار المعارف، القاهرة 1985م، ص 268 - 277.

وقد دخلت الأندلس الإسلامية في منتصف القرن الثالث الهجري/ التاسع للميلاد أول التأثيرات التقنية والعلمية في المشرق. ويمكن التدليل على ذلك بأمثلة عديدة منها وصول الطبيب الحرّاني إلى قرطبة وانتقاله حال ذلك إلى البلاط للعمل طبيباً خاصاً للسلطان عبد الرحمن الثاني. ويأتي ابن جلجل على ذكر هذا الطبيب وابنين لبعض إخوته هما أحمد وعمر الحراني.(1)
ولابد أن معتقدات السحر التعويذي التي يرجع أصلها إلى مصر قد وصلت في تلك الفترة أيضاً، أي في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، فنحن إزاء فترة الخلافة في قرطبة التي سعت إلى جمع المعارف والمعلومات من كل حدب وصوب بغية مواكبة عصرها، وقد قادت تلك السياسة إلى الطفرة العظيمة إلى الأمام في ميدان العلوم في بلاد الأندلس عقب القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي. 
كان عباس بن فرناس ( ت 274 هـ / 887) أحد رواد الطفرة المذكورة، إذ لم يكن شاعراً وعالماً في التنجيم فحسب، بل حاول الطيران أيضاً بالقفز من قصر الرصافة في قرطبة ـ الأمر البطولي الذي قلد بمحاولات الطيران اللاحقة للراهب الإنكليزي آيلمر دو مالمسبري (Eylmer de Malmesbury). ولسوء طالعه لم يع ابن الفرناس وظيفة ذنب الطيور لدى هبوطها إلى الارض واعياً كافياً فأصيب إصابة بَليغة، بيد أنه كان رجلاً سبّاقاً فحوّر وطوّر حفر الزجاج المرو (quartz) الذي عرفه الساسانيون والروم؛ كما أنشأ في إحدى حجرات داره هيكلاً للأجرام السماوية، واخترع ساعة مائية بمقدورها تحديد الصلاة بصورة تقريبية. ولعل تلك الماكنة (التي يسميها النص العربي المنقانة (minqãna) غدت النموذج الأصلي للساعات المائية التي صنعت في القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي.(2)
وبدوره، حلّ علم الصيدلة المشرقي المتأثر بالنصوص الإغريقية واللاتينية والهندية محل المعارف الصيدلية الشعبية، المتواضعة والعتيقة والمنحدرة من الفترة الرومانية المتأخرة في بلاد الأندلس. وكان كتاب ديوسقوريدس « Materia Medica » الذي نقله إلى العربية إسطفان بن باسيل، أحد أهم الكتب الوافدة إلى قرطبة حدود سنة 337 هـ / 948 م. وقد أهدى الإمبراطور البيزنطي نسخة بديعة من مؤلف ديوسقورديس باليونانية إلى الخليفة عبد الرحمن الثالث، ولم يستطع الأطباء الذين كان لبعضهم إلمام باللغة اليونانية الدارجة قراءة الكتاب. فطلب الخليفة الذي لم يكن لديه خبراء في الحضارة الهيلّينية من الإمبراطور أن يبعث له مَن يلقّن اللغة اليونانية العلمية إلى أطبائه. فلبّى طلبه وارسل الراهب نيكولاس (Nicolas) إلى مدينة قرطبة.
____________
1)    محمد عبدالله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، ج2، الهيئة المصرية للكتاب، ص 621.
2)    محمد عبد الله عنان: الآثار الأندلسية الباقية في إسبانيا والبرتغال، ص19.

واستطاع العرب بمعونة هذا الراهب أن ينجزوا مراجعة دقيقة وكاملة للنص العربي المشرقي لكتاب « Materia Medica » وأن يتعرفوا على هوية القسم الأكبر للنباتات المذكورة فيه، وهو إنجاز ذو أهمية فائقة، لأن اللغة اليونانية العلمية أصبحت تشكّل منذ ذلك الحين جزءاً من ميراث مجموعة من الحكماء مثل حسداي بن شبرط وابن جلجل(1) ومسلمة المجريطي الذين كان لهم تلامذتهم الخاصّون في النصف الأول من القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي. وفي الفترة ذاتها نتعرف على أول نماذج الطب الأندلسي المحلي، إذ وضع عريب بن سعيد في حدود سنة 353 هـ/ 964 م رسالته في علمي طب الأطفال والتوليد. وأهم من العمل المذكور أعمال أبي القاسم الزهراوي ( ت 404 هـ / 1013 م)، مؤلف موسوعة الطب التي تميزت فيها الأقسام المتعلقة بالجراحة (ترجمت فوراً إلى اللاتينية) والصيدلة. وفي الأخيرة يدل الزهراوي أنه كان ملماً بالأساليب المصرية والعراقية المستخدمة من قبل عطّاري المشرق والتي ترجع أصولها إلى حضارة ما بين النهرين. كما يعود للزهراوي الفضل في بعض أول الأوصاف السريرية لداء البرص والمزاج النزفي وفي إدخال الميسم وسواه من أدوات الجراحة التي كثيراً ما تظهر مرسومة على صفائح أطباء عصر النهضة، وفي رتق الجروح بواسطة النمل العادي والنمل الأبيض.(2)
عرفت بلاد الأندلس في أواخر القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي الملاحظات النباتية الشائعة في المشرق، إذ يردّد ابن سَمَجون ( عاش في حدود سنة 390 هـ / 1000 م) أصداء كتاب الفلاحة النَبطية، وكتاب النبات لأبي حنيفة الدَيَنوريّ ( ت 150 هـ / 767 م).(3)

____________
1)    الجيوشي ،سلمى الخضراء ،"الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس"، ج2، ط2 ، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1999 ،ص54.
2)    القلقشندي، صبح الأعشى، ج 5، ص218.
3)    مصدر السابق ،ص219.


الفصل الثاني :
العمارة والفنون الإسلامية في مدينة قرطبة

المبحث الاول : 
العمارة والفنون العربية في قرطبة إبّان الحكم العربي الإسلامي
المبحث الثاني : 
قرطبة في أيام الحاجب المنصور
المبحث الثالث :
قصر الروضة
المبحث الرابع : 
جامع قرطبة .. المسجد الجامع

الفصل الثاني 
العمارة والفنون الإسلامية في مدينة قرطبة

مقدمة :
المعروف أن شعوباً كثيرة سكنت إسبانية عامة وأسهمت كلها في تطوير الفنون فيها، لكن التأثير العربي الإسلامي في الأندلس (شبة جزيرة إيبرية) وخاصة في أقسامها الجنوبية والجنوبية الغربية يظل أكثرها أهمية وديمومة؛ لكثرة المشيدات التي بقيت فيها شاهداً على النهضة الفكرية والفنية التي عرفتها الخلافة الأموية والإمارات العربية المختلفة في الأندلس من القرن الثاني حتى التاسع الهجري / الثامن حتى الخامس عشر الميلاديين، ولامتداد التأثيرات الفنية العربية إلى بقية مناطق إسبانية التي ظلت في يد الإسبان أو استردوها حتى انتهاء حكم العرب والمسلمين منها.(1)
المبحث الاول :
العمارة والفنون العربية في قرطبة إبّان الحكم العربي الإسلامي
كانت حقبة الحكم العربي للأندلس حقبة تطور حضاري مهم، فقد وصلت الحضارة العربية إلى تلك البلاد بخصائصها العربية الإسلامية التي كانت قد بدأت تتبلور في بلاد الشام إبان الحكم الأموي.(2)

وقد حمل العرب إلى الأندلس أسلوب معيشتهم وكيفوه تبعاً لشروط الحياة فيها كالمسكن المنفتح على الفِناء الداخلي المزين بالحدائق والسطوح المائية. وطوروا الزراعة وري الأراضي حتى عم الرخاء المدن والريف، وقد نظمت المدن التي أقاموا فيها وفق الأسلوب المشرقي بشوارع ضيقة ذات محاور متكسرة درءاً للشمس وحماية للسكان. وازدهرت صناعة النسيج والخزف والجلود في قرطبة وصناعة الأسلحة في طليطلة.
____________
1)    حسن ،حنان قصاب ، العمارة والفنون الإسلامية في مدينة قرطبة ، ط2،ص328.
2)    محمد عبدالله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، ج2، الهيئة المصرية للكتاب، ص 622.

واستخرج الذهب والفضة والقصدير والنحاس والحديد والزئبق، واستخدمت تلك المواد في البناء والتزيين وفي الصناعات المعدنية؛ وكانت غرناطة مركزاً لصياغة الذهب والفضة، واستعمل الذهب في التنزيل والتزيين فطليت به أبواب المساجد والقصور وقطع الأثاث، وما تزال صناعة التنزيل بخيوط الذهب على القصدير والنحاس والرصاص قائمة حتى اليوم في طليطلة وغيرها من المدن الإسبانية.(1)

وإذا كانت اللغة العربية وعلومها وفنون الكتابة (الخط العربي) من الأمور المهمة التي أدخلها العرب المسلمون إلى الأندلس فقد نقل هؤلاء معهم كذلك ذوقهم في تنسيق الحدائق ومعرفتهم بالنواعير وطرائق رفع المياه والتحكم فيها (مازالت آثار ذلك على النهر الكبير في قرطبة)، كما نقل العرب معرفتهم في صناعة السلاح من سيوف وخناجر ومدى بمقابضها ونصولها الغنية بالزخارف الإسلامية (سيف أبي عبد الله آخر سلاطين الأندلس).

وكانت بلاطات الخلفاء والأمراء في الأندلس مركز إشعاع ثقافي حضاري، فاجتذبت العلماء والكتّاب والشعراء والفنانين والصناع المهرة. وقد اهتم الخلفاء والأمراء بنشر المدارس والجامعات (وأشهرها جامعة قرطبة) والمكتبات العامة (وأشهرها مكتبة الخليفة الحكم) وبناء الأسواق والمشافي والحمامات العامة وملاجئ الفقراء.(2)

صنفت عهود الحكم العربي في الأندلس في أربعة عصور: عصر الإمارة والخلافة الأموية وعصر دول الطوائف، وعصر المرابطين والموحدين وعصر نهاية الأندلس والعرب المتنصّرين.

____________
1)    حمادة ،محمد ماهر ، المكتبات في الإسلام، ص99.
2)    القلقشندي، صبح الأعشى، ج 5، ص218.

المبحث الثاني
قرطبة في أيام الحاجب المنصور
يقتضي الحديث عن الصروح العمرانية في الأندلس التطرق إلى هندسة المدن وتنظيمها. فقد كانت قرطبة في أيام الحاجب المنصور (الوزير محمد بن أبي عامر) واحدة من أعظم المدن في العالم، ويقال إنها كانت تحتوي على مئتي ألف قصر وستمائة مسجد وسبعمائة حمام، وكانت طرقها مرصوفة بالحجارة ومحفوفة بطوارين على الجانبين، وكانت تضاء في الليل حتى يقال إن المسافر كان يستطيع أن يسير على ضوء المصابيح وبين صفين من المباني مسافة عشرة أميال. ولم يغفل الخلفاء والأمراء بناء الجسور على الأنهار ومد قنوات مياه الشرب إلى المنازل والقصور والحمامات إضافة إلى الحدائق والمتنزهات التي تزينها برك الماء المتدفق.(1)

قصر الرصافة في قرطبة
ويقال إن عبد الرحمن الداخل أنشأ في قرطبة قصراً فخماً أطلق عليه اسم قصر الرصافة تيمناً بالقصر الذي قضى فيه صباه بالقرب من مدينة الرقة في سورية، وحذا حذوه من أتى بعده من الأمراء والخلفاء فبنوا قصوراً تغنى بها الشعراء الأندلسيون، مثل الروضة وقصر المعشوق وقصر السرور وقصر التاج. وقد كانت هذه القصور التي اندثر أكثرها آية في الجمال والبراعة العمرانية والترف والذوق الرفيع.(2)

مدينة الزهراء
من أشهر المشيدات العمرانية في حقبة الإمارة العربية والخلافة الأموية ضاحية الزهراء التي تقع إلى الشرق من قرطبة، وقد شيدها الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر (عبد الرحمن الثالث) (300 ـ350هـ) تخليداً لاسم زوجته، واستغرق بناؤها سنوات طويلة (325 - 351هـ، 936 - 961م) وتشتمل الزهراء على ثلاث مدن متدرجة في البناء عثر عليها المعمار الإسباني فلاسكيز عام 1910م، وتنحدر تلك المدن نحو الوادي الكبير ولكل منها سورها، القصور في أعلاها والبساتين والجنان في الثانية، وفي الثالثة الديار والجامع.(3)

____________
1)    حسن ،حنان قصاب ، العمارة والفنون الإسلامية في مدينة قرطبة ، ط2،ص328.
2)    أحمد مختار العبادي: دراسات في تاريخ المغرب والأندلس، مؤسسة شباب الجامعة، ص 90.


المبحث الثالث

قصر الروضة
وابتنى عبد الرحمن الناصر لنفسه قصره العظيم دار الروضة، ويذكر المقري في كتابه "نفح الطيب" أن حيطان القصر كانت من الذهب والرخام السميك الصافي، وفي وسط القصر صهريج عظيم مليء بالزئبق، وأبواب من العاج والأبنوس المرصع بالجواهر، وكانت الشمس تضرب أشعتها من خلالها في صدر المجلس، فيصير من ذلك نور يأخذ الأبصار. وزين مجلسه في قصر الزهراء بتماثيل من الذهب مرصعة بالجواهر في دار الصناعة في قرطبة، وأقام مجمَع منحوتات في قصره هذا، وجلب إليه بركة منقوشة في دمشق ومذهبة فيها نقوش وتماثيل على صور الإنسان لا تقدّر بثمن. ونصب منحوتاتٍ من الذهب الأحمر مرصّعة بالدر النفيس الغالي ممّا عمل بدار الصناعة بقرطبة، تمثل أسداً وغزالاً وتمساحاً يقابلها ثعبان وعقاب وفيل، وعلى الجانبين ركزت حمامة وشاهين وطاووس ودجاجة وديك وحدأة ونسر، وكلّها يخرج من أفواهها الماء.(1)

ويقال إن قصر الروضة كان يقوم على ألف ومائتي عمود من الرخام وإن سقف مجلس الحكم فيه وجدرانه كانت من الرخام والذهب، وله ثمانية أبواب مطعمة بخشب الأبنوس والعاج والحجارة الكريمة. وفي الطرف المقابل للروضة شيد الحاجب المنصور في عام 368هـ/ 978م قصر الزاهرة الذي ضاهى القصر الأول في الفخامة. وانتشر حول القصرين بيوتات الأشراف والمغنين والعازفين والشعراء والخدم. وقد اشتهرت مدينة الزاهرة بالترف والغنى ورخاء الحياة حتى صارت مضرب الأمثال في ذلك الوقت. وقد احترق القصران في ثورة عام 1010م ولم يبق منهما سوى بعض الآثار. وذابت الضاحية كلها في مدينة قرطبة بعد ذلك التاريخ.(2)

جامع طليطلة الصغير
من الآثار التي تعود إلى هذه الحقبة أيضاً جامع طليطلة الصغير، ويعود بناؤه إلى نهاية القرن العاشر الميلادي/الرابع الهجري. وقد حول بعد الحكم العربي إلى كنيسة تعرف اليوم باسم كنيسة القديس كريستو ديلالوث Santo Cristo de la luz.
____________
1)    حسن ،حنان قصاب ، العمارة والفنون الإسلامية في مدينة قرطبة ، ط2،ص328.
2)    ابن الوردي: خريدة العجائب وفريدة الغرائب.، ص86.

المبحث الرابع :
جامع قرطبة .. المسجد الجامع
لكن أهم المشيدات العمرانية التي تعود إلى هذه الحقبة المسجد الجامع في قرطبة ويسميه الإسبان "المسجد الجامع" La Mosquita Aljama. يقوم المسجد الجامع في قرطبة فوق بقعة صخرية تقع جنوبي غربي المدينة على مقربة من القنطرة العربية القديمة على نهر الوادي الكبير، وتحيط به الدروب الضيقة من جوانبه الأربعة.

يشغل هذا المسجد مكانة في تاريخ الفن الإسلامي تقارب ما للمسجد الأموي الكبير في دمشق، وهو كما يصفه أحد المؤرخين "اللحظة الأولى للقاء الغرب بالإسلام، وهو واحد من أعظم الروائع في العالم".(1)

مئذنة الجامع الكبير 
وإبان حكم المرابطين والموحدين بين ق5 - ق7هـ / ق11 - ق13م، ازداد الفن الأندلسي القرطبي خصباً وأصالة، وقد أولى هؤلاء العمارة اهتمامهم فكانوا يحيطون مدنهم الكبرى بأسوار ضخمة تتخللها أبراج ضخمة، مثل برج الذهب الذي كان يطل على الوادي الكبير عند إشبيلية.

ولكن ما تبقى من الآثار المعمارية التي تعود إلى هذه الحقبة قليل، ولم يعرف عن المرابطين ميلهم إلى إشادة القصور الفخمة لاتصافهم بالتقشف، وكانوا يطلقون على مقر حكمهم اسم "بيت الأمة" وقد عثر على أجزاء من بيت الأمة في إشبيلية في موضع قريب من القصر "الكازار".

ومن أهم الآثار الباقية إلى اليوم مئذنة الجامع الكبير وقد شرع ببنائها سنة 584هـ/1188م المهندس جابر في عهد الخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن وبنيت في عهد ابنه الخليفة المنصور أبي يوسف يعقوب بن يوسف، وكان يتابع بناءها بنفسه، والمئذنة مبنية من الآجر.(2)
____________
1)    ابن الوردي: خريدة العجائب وفريدة الغرائب.، ص86.
2)    سالم ،عبد العزيز ، تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس من الفتح العربي إلى السقوط، دار النهضة العربية، 1988م،ص64.


وكانت المئذنة جزءاً من مسجد إشبيلية العظيم الذي شرع ببنائه أبو يعقوب بن تاشفين في شهر رمضان سنة 567هـ أيار 1172م ونجز في نحو أربعة أعوام (سنة 571هـ) وأقيمت فيه أول صلاة جمعة في 24 ذي الحجة سنة 577هـ/30 نيسان 1182م.

وقد اندثر هذا المسجد اليوم ولم يبق منه سوى المئذنة التي تحولت إلى برج لجرس الكاتدرائية الكبيرة. وهي من المشيدات المعمارية المهمة في الفن العربي الإسلامي في الأندلس لأنها تبرز قدرة الفنانين الأندلسيين على الربط بين ضخامة العمارة ودقة التزيينات، ويظهر أن المسجد الجامع في إشبيلية قام مكان جامع أقدم يعد أول جامع في المدينة، وقد بُني المسجد الجامع عام 213هـ/829م بدليل لوحة تذكارية بقيت منه كتب عليها: "رحم الله عبد الرحمن بن الحكم الأمير العادل الذي أمر ببناء هذا الجامع بإشراف عمر بن عدبس قاضي قرطبة ".(1)

ومما يجدر ذكره أن مدينة إشبيلية كانت أيام الرومان صورة مصغرة عن رومة. وقد اتخذها العرب أول عاصمة لهم بعد فتح الأندلس؛ ولما جعل عبد الرحمن الداخل قرطبة عاصمة له لم يهمل إشبيلية، بل شجع على بناء المنشآت العامة والقصور، والدور فيها حتى غلب عليها الطابع العربي الإسلامي.(2)

ومن آثار هذه المرحلة أيضاً قصر إشبيلية (الكازار)، وقد كان قصراً وحصناً في آن واحد وضع تصميمه المهندس القرطبي الجالوني وشيد بأمر من الخليفة أبي يعقوب يوسف الذي بنى مسجد إشبيلية، وكان القصر يحوي ساحات ونوافير مدهشة وقاعة مشابهة لقاعة السفراء في قصر الحمراء سميت قاعة العدل والحكم. وجدير بالذكر أن القصر كان بادئ الأمر بيتاً صغيراً أقام فيه موسى بن نصير. وقد تعاقب على سكن القصر بعد خروج العرب من إشبيلية ملوك إسبانية المسيحيون أمثال بيدرو الأول (1353م) وشارل الخامس (1526م) وأدخلوا تعديلات عليه ورمموا ما تهدم منه.
____________
1)    حسن ،حنان قصاب ، العمارة والفنون الإسلامية في مدينة قرطبة ، ط2،ص328.
2)    حسين مؤنس: شيوخ العصر في الأندلس، الدار المصرية للتأليف والترجمة والنشر، 1965م، ص 83.


الحمامات
أما الحمامات الباقية في إسبانية من الحقبة العربية القرطبي الأندلسية فيعود أكثرها إلى القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين، وهي وثيقة الصلة بالحمامات الشرقية والرومانية إذ تتألف من قاعة كبرى مخصصة لخلع الملابس وتضم إيوانات مرتفعة حول قبة قائمة على أعمدة، وكان لكل من القسم المعتدل الحرارة والقسم الساخن في الحمام قباب فيها فتحات صغيرة لدخول الضوء. وابتكر العرب مجاري لنشر أريج العطر والطيب في أرجاء الحمامات، ومدوا أقنية من الرصاص لجر المياه إليها وإلى المنازل والحدائق والبرك وإلى السبل العامة كما شيّدوا البيمارستانات.(1)
العمارة العسكرية
أقام الأمويون الكثير من القلاع والمراكز الدفاعية لضمان سلامة بلادهم، وما يزال بعض هذه المنشآت قائماً، إلا أن الدراسات التي نشرت عنها قليلة. وأقدم هذه الصروح المعروفة قلعة مريدا Merida وقد أنشئت في عهد عبد الرحمن الثاني سنة 220هـ/835م. ويتقدم هذه القلعة جسر أقيم على نهر غواديانا.
وتشبه هذه القلعة القلاع البيزنطية بسورها المربع المبني من الحجر المنحوت وأبراجها المستطيلة المصمتة الجدران المحاذية للبدنات، وأبراجها المربعة في زوايا السور وبابها الوحيد المخفي عن الأنظار.
وشيدت أسوار أكثر المدن من الحجر المنحوت المرصوف بتناسب هندسي. أما أسوار القلاع ومراكز الخفر وبعض أبراج المراقبة داخل المدن فكانت تشيد من الطين المدكوك على أساس من الحجر الغشيم وتعلوها شراريف هرمية.
ومن أشهر الأبراج في الأندلس برج الذهب، الذي يعد آخر صرح حضاري بناه الموحدون في إشبيلية، وقد أقيم لحراسة المدينة ومراقبة حركة الملاحة في النهر. وهو مكوّن من اثني عشر ضلعاً ومن طابقين، شيد فوقهما طابق ثالث في القرن الثامن عشر بأسلوب شذَّ عن الطابقين القديمين.(2)
____________
1)    ابن بسام: الذخيرة (تحقيق البدري): ج3،ص117.
2)    عبدالمنعم ،عادل ، النقد الاجتماعي، ط2، ص 95.


الحدائق
كان حكام الأندلس يميلون إلى تزيين ساحات قصورهم بحدائق بديعة، ورد ذكر الكثير منها في وثائقهم وتواريخهم وأشعارهم وفي مقدمتها حدائق الأبنية التي أقامها عبد الرحمن الداخل. وبهذا بدت القصور موئلاً لهذا الفن الإبداعي القائم على أسس علمية وهندسية.
وقد كان للحدائق العربية في الأندلس صفات اختصت بها، من ذلك مثلاً أنها كانت تشغل الفناء الداخلي للقصر أو دار السكن، وتحتوي على شرفات مكشوفة يصعد إليها ببضع درجات مكسوة بالقاشاني، كما تحتوي على قنوات مكسوة بالقيشاني تخترق المحور الأوسط للفناء، وكانت هذه القنوات تغذي المسطحات المائية في الحدائق كالبرك والبحرات والنافرات. وقد تعامل المهندسون مع المسطحات المائية بفطنة وذكاء, فاختلف توزيعها وحجمها حسب ما افتضاه المبنى وغدت كمرآة عاكسة لخضرة الحديقة وألوان البناء التي يغلب عليها اللون الأحمر.(1)
الزخرفة
استعمل المزخرفون الحجر والرخام والفسيفساء والخزف والقاشاني والبلاط القرميدي والآجر المطلي بالميناء، واستخدم النوعان الأخيران في النواتئ التزيينية في المآذن.
واستخدمت القوس نصف الدائرية، أو على شكل حذوة الحصان والأقواس المدورة الفصوص في أكثر الأبنية، وخاصة في أجنحة جامع قرطبة، وقد طورت هذه الأقواس وتعددت أشكالها في عصر المرابطين والموحدين.
وتنوع شكل القوس المفصص فكان منه المشجّر والمقرنص، واستعملت فيها الأحجار الملونة بالتناوب، وخاصة الأحمر والأصفر، أو الأحمر والأبيض، وكان لبعض الأقواس حوامل ملتفة، وقد انتقلت تأثيرات هذا الأسلوب في العمارة إلى الفن الاتباعي (الكلاسيكي).
وكانت تيجان أعمدة جامع قرطبة التي تعود إلى عهد الخليفة الحكم الثاني والمنصور تتناوب بين التيجان الكونتية والتيجان المركبة. واتبع الأسلوب نفسه في مدينة الزاهرة، ولكن بروز النحت فيها قليل، وفي زخارفها عناصر مستمدة من الفنون القديمة كحبات اللؤلؤ والحلزون وحلية القلب وأوراق الشجر.(2)
وقد كان للكتابة العربية دور مهم في زخرفة المباني المدنية والدينية، وخاصة مسجد قرطبة. وقد استعمل فيها الحرف الكوفي البسيط أو المشجر كما انتقلت إلى الأندلس الكتابة الفاطمية من إفريقية.
____________
1)    حسن ،حنان قصاب ، العمارة والفنون الإسلامية في مدينة قرطبة ، ط2،ص328.
2)    حسين مؤنس: شيوخ العصر في الأندلس، الدار المصرية للتأليف والترجمة والنشر، 1965م، ص 86.

ولما اختار عبد الرحمن الداخل قرطبة عاصمة له ظهرت في زخارف المباني الأندلسية الزخارف النباتية المتداخلة التي عرفتها دمشق قبلها ولاسيّما إيقاعات نبات الأقنثة (الأكانتوس) وسعف النخل (مراوح النخيل) وورق الكرمة وأغصانها والإضافات الملحقة بها.(1)

وكانت الزخرفة تغطي المساحة المطلوبة بكثافة كبيرة، وذلك من مميزات الفن العربي الإسلامي الذي عرف في أوربة باسم الأرابسك. وتضاف إلى العناصر الزخرفية النباتية في الأندلس الأشكال الإنسانية والحيوانية وخاصة تلك الذي نصبت على الأحواض الرخامية في القصور في القرنين الثالث والرابع الهجريين (العاشر والحادي عشر الميلاديين) ولكن القرن الخامس للهجرة شهد انقطاعاً جلياً في هذه العناصر لتعارضها مع فكر الموحدين واعتقادهم.

وقد راج استخدام الزخارف الجصية في المباني الأندلسية التي بلغت قمتها في القصور قرطبة.
تأثيرات الفن العربي الإسلامي الأندلسي
انتشر تأثير الفن العربي الأندلسي، بدءاً من القرن الخامس الهجري/الثاني عشر الميلادي من إسبانية إلى المغرب، وتتجلى معالمه مع بعض الخصائص في مدن مراكش وفاس وتلمسان وتونس وصفاقس. كذلك تُرى ملامح هذا الفن العربي الإسلامي في إسبانية نفسها خارج مناطق نفوذ العرب.
وقد أوجد المسيحيون الذين عاشوا في ظل الحكم العربي أو الذين كانوا في دار الحرب معهم أسلوباً فنياً فريداً من نوعه أطلق عليه اسم "فن المستعربين" Mozarabe، انتشر في مناطق إسبانية بدءاً من القرن التاسع وهو يقوم على ما يسمى بالأسلوب المدجّن Mudejan لأنه يجمع بين تأثيرات الفن القوطي والفن المسيحي وتأثيرات الفن الإسلامي.
وقد تجلى هذا الأسلوب في العمارة والزخرفة وفي المنمنات الملونة التي كانت تزين صفحات المخطوطات. ويعود الفضل في انتشار هذا الأسلوب إلى الصناع العرب المهرة الذين استخدمهم الحكام الإسبان المسيحيون في تشييد قصورهم وكنائسهم وتزيين مخطوطاتهم بعد رحيل العرب عن الأندلس.(2)


____________
1)    ابن بسام: الذخيرة (تحقيق البدري): ج3،ص113.
2)    عبدالمنعم ،عادل ، النقد الاجتماعي، ط2، ص 93.

تظهر عناصر فن المستعربين واضحة في كنائس منعزلة منتشرة في أنحاء إسبانية لها طابع متفرد تقوم على استخدام الآجر والأقواس الحدودية Arcs outrepassés (الأقواس التي على هيئة حدوة الحصان) وحوامل التماثيل، كما أن حنيّة المذبح في الكنائس كانت تشيد وفق أسلوب تشييد المحراب في المساجد الإسلامية.

كذلك كان لفن صياغة الذهب والفضة ونحت العاج الذي برع فيه الصناع العرب والمستعربون تأثيره الواضح في أسلوب نحت الذخائر المقدسة Reliquaires وصياغتها ونحت الصلبان العاجية في الفن "الرومانسكي» الإسباني Romanesque والفن الرومانسكي الفرنسي في القرن الحادي عشر (الفن الرومي Art Roman).(1)

ومن أهم الكنائس التي بناها المستعربون في إسبانية وتحمل هذه السمات كنيسة سان ميغيل دي إسكالادا San Migele de Escalada وكنيسة سانتياغو دي بينالبا Santiago de Penalba وكنيسة سان ميغيل دي ثيلانوفا San Miguel de Celanova وسان ميلان دي لا كوغولا San Milan dela Cogalla.

وقد حدَّت تأثيرات الفن الرومانسكي الفرنسي في شمالي إسبانية من تأثيرات الأسلوب المدجَّن وفن المستعربين بدءاً من القرن الرابع عشر ولكن ذلك لم يمنع من بقاء بعض الأمثلة التي تربط بين أساليب العمارة الكنسية الفرنسية والتأثيرات الإسلامية العربية أو تأثيرات المستعربين كما يُلحظ في دي سانتو دومينغودي سيلوس Santo Domingo de Silos وكاتدرائية ثامورا Zamora وكاتدرائية سلمنقة وغيرها.(2)


____________
1)    حسن ،حنان قصاب ، العمارة والفنون الإسلامية في مدينة قرطبة ، ط2،ص328.
2)    عبدالمنعم ،عادل ، النقد الاجتماعي، ط2، ص 95.

الفصل الثالث :
الوضعية السياسية في مدينة قرطبة خلال القرن الرابع الهجري


المبحث الاول :

الحياة الاقتصادية بالمدينة قرطبة خلال القرن الرابع الهجري

المبحث الثاني : 
الحياة الاجتماعية في مدنية قرطبة

الفصل الثالث :
الوضعية السياسية في مدينة قرطبة خلال القرن الرابع الهجري
منذ نهاية القرن الرابع الهجري، استبد الحجاب بالسلطة الفعلية في الأندلس ،وتعاقب على العرش مجموعة من الخلفاء الأمويين العاجزيين والمتصارعين. فضعف الحكم المركزي بقرطبة. وانتهى بسقوط الخلافة الأموية سنة 422 هجرية / 1031 ميلادية. نتيجة لذلك، انقسمت الأندلس إلى مجموعة من الإمارات الصغيرة المتطاحنة سميت بمماليك الطوائف. فشجع هذا الوضع على توحد بعض المماليك المسيحية ،وشرعت في التوسع على حساب المسلمين. وتمثل ذلك في احتلالها طليطلة عام 478هـ/1085م.(1)
بدأ عصر ملوك الطوائف بالأندلس عام (422هـ) عندما أعلن الوزير أبو الحزم بن جهور سقوط الدولة الأموية بالأندلس، وكان هذا الإعلان بمثابة إشارة البدء لكل أمير من أمراء الأندلس ليتجه كل واحد منهم إلى بناء دويلة صغيرة على أملاكه ومقاطعاته، ويؤسس أسرة حاكمة من أهله وذويه، وبلغت هذه الأسر الحاكمة أكثر من عشرين أسرة أهمها:
- دولة بنو عباد بإشبيلية (414هـ - 484هـ).
- بنو جهور في قرطبة(422هـ - 449هـ).
- بنو حمود ب مالقة (407هـ - 449هـ).
- بنو زيري ب غرناطة (403هـ - 483هـ).
- بنو هود ب سرقسطة (410هـ - 536هـ).
- بنو رزين ب السهلة (402هـ - 497هـ).
- بنو ذي النون ب طليطلة (400هـ - 478هـ).
- بنو الأفطس في بطليوس (413هـ - 487هـ).
فصار كل منهم (ملوك الطوائف) يشن الغارة على جاره إلى ان ضعفوا عن لقاء عدو في الدين. حتى لم يبق في ايديهم إلا ماهو ضمان,إتَأوَةٍ في كل عام مقررة.(2)

____________
1)    حسن ،حنان قصاب ، العمارة والفنون الإسلامية في مدينة قرطبة ، ط2،ص328.
2)    محمود مكي: مقدمة نشرته لجزء من المقتبس، الشطر الثاني، ط 1، دار الكتاب العربي، بيروت 1973م، ص 111 - 112.


المبحث الاول :
الحياة الاقتصادية بالمدينة قرطبة خلال القرن الرابع الهجري
ظل اقتصاد الإمارات الأندلسية منتعشا على الرغم من التجزئة السياسية، فقد اقيمت مزروعات متنوعة وغنية كالزعفران وقصب السكر. كما نشطت صناعة المواد الاستهلاكية والمصدرة. وتوسعت تجارة الموانئ الأندلسية عبر البحر المتوسط، بل شملت أيضا سواحل الهند والصين وشرق إفريقيا.
الحياة الثقافية بالمدينة قرطبة في القرن الرابع الهجري
رغم الانقسام السياسي، بلغت النهضة الثقافية ذروتها بالأندلس مع ملوك الطوائف في القرن 5هـ/11م وشملت الميادين الأدبية والعلمية. وحفل العصر بالعديد من رجال الفكر والعلم والأدب. كان من عوامل هذه النهضة، رعاية الملوك لهذه الحركة الثقافية ومشاركة بعضهم فيها، وتنافسهم في اقتناء الكتب، وتأسيس المكتبات والمدارس، ثم دخول صناعة الورق للأندلس في هذا القرن. ساهمت مدينة قرطبة في عصر الطوائف المفكك سياسيا في اثراء الثقافة والفكر العربي، وإغناء التراث الحضاري الإسلامي.(1)
1)    ابن حزم    456هـ / 1064 م    وزير للخلفاء الأمويين الاواخر    ((طوق الحمامة)) كان يدعو للتوحيد، له عدة مؤلفات
2)    أبو الوليد الباجي    474هـ / 1081 م    قاض ومدرس في عهد بني الافطس    ((شرح الموطإ)) مالكي كان يدعو للتوحيد
3)    المعتمد بن عباد    489هـ / 1095 م    ثالث ملوك بني عباد    ترك مجموعة من اروع القصائد.
4)    ابن زيدون    463هـ / 1070 م    وزير لبني جَهْورٍ ثم لبني عباد    أمير شعراء الأندلس
5)    ولادة بنت المستكفي    484هـ / 1091 م    بنت الخليفة الأموي المستكفي    شاعرة
6)    ابن حيان    469هـ / 1076م    وزير بني جَهْورٍ    المقتبس في تاريخ أهل الأندلس.(2)
7)    أبو عبيد البكري    487هـ / 1094م    ابن أحد امراء الطوائف    ((المسالك والممالك)) موسوعة جغرافية.
8)    الزرقالي    480هـ / 1087م    كاتب بني هود    ((افق الدنيا)) اخترع أجهزة دقيقة.
9)    أبو القاسم الزهراوي    403هـ / 1013م    -    ((التعريف لمن عجز عن التأليف)) موسوعة طبية.
____________
1)    حسن ،حنان قصاب ، العمارة والفنون الإسلامية في مدينة قرطبة ، ط2،ص328.
2)    ياقوت الحموي: معجم البلدان، ج 4،ص324.
المبحث الثاني :
الحياة الاجتماعية في مدنية قرطبة
وتعتبر هذه الفترة من أهم فترات التاريخ الأندلسي حيث تشكل فيه المجتمع القرطبي المسلم، وظهرت ملامحه بصورة جلية واضحة وتميزت فيه الشخصية الأندلسية. و بدأ الكتاب بمدخل عن الفتح الإسلامي للأندلس حتى نهاية القرن الرابع الهجري/ العشر الميلادي. تناولت الكاتبة العناصر السكانية المكونة للمجتمع من مسلمين ومسيحيين ويهود وصقالبة وقد عاشت هذه العناصر جميعا جنباً إلى جنب وتصاهرت وتزاوجت وتداخلت فيما بينها. وفي ذلك دلالة على مدى التسامح الذي ساد هذا المجتمع وأنه كان متقبلاً للآخر. وقد أقبل الأندلسيون على الحياة ببهجة وسعادة يشاركون بعضهم البعض احتفالاتهم الدينية وأعيادهم وأفراحهم ومناسباتهم المختلفة، وتميزوا بحبهم للنظافة والتأنق في المظهر واهتموا اهتماماً بالغاً بأزيائهم وملابسهم. واشتهرت عدة مدن أندلسية بصناعة النسيج لتوفر مقومات الصناعة.(1)
وكان لكل فصل من فصول السنة زيّه الخاص به مما يدل على الرقي الحضاري الذي وصلت إليه الأندلس. كما أن الموسيقي والغناء قد مثّلا عنصراً مهماً في الحياة الاجتماعية الأندلسية على الرغم من تشدد فقهائهم في منع آلات اللهو والطرب والموسيقي باعتبارها أموراً منكرة في الدين. وكان الأندلسيون يجدون متعة كبيرة في الاستمتاع بجمال طبيعة بلادهم وسحرها فكانوا يخرجون إلى المتنزهات والحدائق العامة المنتشرة في كل مدنهم طلباً للراحة والاستجمام، ويمارسون هوايات عديدة كالصيد ولعب الشطرنج وغيرها من وسائل اللهو والتسلية. ولعل من أبرز مميزات هذا المجتمع أن المرأة تمتعت فيه بحرية كبيرة واستقلالية وجرأة. وكانت لها مساهماتها المقدرة في الآداب والفنون والعلوم والاقتصاد. كما تميز هذا المجتمع أيضاً بإنشاء مؤسسات رقابية مهمة مثل مؤسسة الحسبة ومؤسسة الشرطة وذلك لضمان سلام المجتمع وبسط الأمن والطمأنينة فيه. بعد أن أكمل المسلمون فتح بلاد المغرب وترسَّخت أقدامهم فيها ودخل الناس في دين الله أفواجاً، اتجهت أنظارهم بعد ذلك لفتح بلاد الأندلس لنشر رسالة الإسلام، وتبليغ الدعوة الإسلامية بين أهلها، ولتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى. هذا من جانب، ومن جانب آخر، لتأمين حدودهم في بلاد المغرب من هجمات الصليبيين في أسبانيا. تأكد المسلمون من قدرتهم على فتح بلاد الأندلس بعد إرسالهم لبعض الحملات الاستكشافية التي جاءت مشجعة لهم على المضي قدماً في الفتح، ومن ثمّ خرجت طلائع الجيوش الإسلامية الفاتحة من بلاد المغرب في عدد قليل من المراكب، واجتازت البحر المتوسط ونزلوا بالبر الأندلسي ليخوضوا معارك ضارية وشرسة مع الأسبان. واستشهد عدد كبير منهم في الأرض الأندلسية التي رووها بدمائهم الغالية الزكية إلى أن تمكنوا من فتح بلاد الأندلس بصورة نهائية في عام 94هـ وصارت هذه الرقعة من أوربا جزءاً من أملاك الدولة الإسلامية. وقد أبدى المسلمون تسامحاً كبيراً في تعاملهم مع أهلها، ولم يكرهوا أحداً منهم على الدخول في الإسلام. (2)
____________
1)    حسن ،حنان قصاب ، العمارة والفنون الإسلامية في مدينة قرطبة ، ط2،ص328.
2)    محمد عبدالله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، ج2، الهيئة المصرية للكتاب، ص 622.
وبفضل هذه السماحة التي وجدها أهل البلاد المفتوحة من قِبلِ المسلمين دخل عدد كبير منهم في دين الله عن رضا واقتناع. وتزاوجوا وانصهروا مع الفاتحين المسلمين، وشكَّلوا جميعاً المجتمع الأندلسي الذي يضم بين جنباته المسلمين، والنصارى، واليهود. واستمر عطاء المسلمين في الأندلس ثمانية قرون تقلبت فيها الدولة الإسلامية الأندلسية بين الضعف والقوة، والأخذ والعطاء. تتجاذبهم الفتن والأهواء والمؤامرات. ولكن ذلك لم يمنعهم من الإسهام بتقديم قدر حضاري إسلامي وافر في كافة مجالات الحياة، في العلوم والآداب والفنون والهندسة والعمران ونظم الحكم، وفي الحياة الاجتماعية والفكرية والاقتصادية. تكمن أهمية هذا الكتاب في أنه يتناول التاريخ الاجتماعي للأندلس منذ استقرار المسلمين فيها حتى نهاية القرن الخامس الهجري. وتشتمل هذه الفترة على عصر الولاة، وعصر الأمارة والخلافة الأموية، ودول ملوك الطوائف. وقد برزت ملامح المجتمع الإسلامي في عصر الولاة ثم تطورت وتبلورت بشكل واضح في العصور اللاحقة. و كذلك يسلط هذا الكتاب الأضواء على جوانب مشرقة للمجتمع الأندلسي المسلم كما يشير كذلك إلى بعض الجوانب السالبة التي أسهمت في إنهاء الوجود الإسلامي في شبه الجزيرة الأسبانية. (1)والتاريخ الأندلسي كما هو معلوم مليء بالدروس والعظات والعبر. وقد فرَّط المسلمون في الأندلس نتيجة لتهاونهم وتقاعسهم وانشغالهم بأنفسهم والعدو يتربص بهم، ويحيط بهم من كل جانب، كما فرَّطوا في كثير من بقاع الأرض الإسلامية اليوم، فضاعت منهم. وقد بكوها من قبل دماً ودمعاً. بكاها الشعراء والأدباء والكتاب قديماً وحديثاً، بكاها أمير الشعراء أحمد شوقي، وبكاها الشاعر السوداني المرحوم محمد أحمد المحجوب الذي نزل عند شطها ولهاناً بعد ما لقي فيها من التبريح ألواناً. ولا يزال اسم الأندلس يجرى على كل لسان فهناك شيء ما في وجدان المسلمين يشدهم إليها. ولذلك وقع اختيار الكاتبة على هذا الموضوع، وكان هذا الاختيار نابعاً من ذلك الوجدان والحزن والأسى على الفردوس المفقود، ولعلها تكون مساهمة متواضعة لإثراء المكتبة السودانية بهذا النوع من الدراسات، ولعلها تضيف شيئاً إلى جهود الباحثين في هذا المجال. تمهيـد الفتح الإسلامي للأندلس كانت الأندلس التي تشمل شبه الجزيرة الأيبيرية (أسبانيا والبرتغال) تابعة لروما، إلى أن تمكن القوط* الذين أتوا إليها في هجرات متتالية من الاستيلاء عليها. ومصطلح الأندلس مأخوذ من قبائل الوندال (Vandals) التي تعود إلى أصل جرماني وكانت قد احتلت شبه الجزيرة الأيبيرية منذ القرن الثالث حتى القرن الخامس الميلادي، وسميت باسمها: فاندلسيا، أي بلاد الوندال ثم سماها العرب بلاد الأندلس(2). ظل الوندال يحكمون الأندلس، إلى أن هاجمهم القوط الغربيون وتمكنوا من طردهم إلى الشمال الأفريقي سنة 456م، واستطاعوا بسط سلطانهم على الأندلس كلها في نهاية القرن الخامس الميلادي.

____________
1)    حسن ،حنان قصاب ، العمارة والفنون الإسلامية في مدينة قرطبة ، ط2،ص328.
2)    الحميري: الروض المعطار في خبر الأقطار ،ج 1، ص453.


وقد اتخذ القوط طليطلة عاصمة لملكهم. وتأثروا بالحضارة والأنظمة الرومانية، في قوانينهم ونظمهم. واعتنقوا المسيحية وظلوا يحكمون الأندلس إلى أن قدم المسلمون إلى الأندلس وتغلبوا عليهم سنة 92هـ - 711م(1). استبد القوط بالحكم في أسبانيا قبيل الفتح الإسلامي. وبسوء سياستهم ساءت حالة أسبانيا واضطربت حياة سكانها. فانتشرت الفوضى، وعاش كثير من الناس في شقاء لسوء الأحوال المعاشية ولسياسة الاستغلال. فكان الشعب يستغل لحساب الطبقة الحاكمة والمترفة وأصحاب المصالح، يضاف إلى ذلك الصراع الذي وجد بين الطبقات والحاكمين، وفيما بين الحاكمين أنفسهم(2). وكان الشعب مقسم إلى طبقات عديدة هضمت حقوقها، مع وجود الفوارق الطبقية. فلا يحظى بالعيش الهنيء إلا طبقة معينة حصلت على امتيازات. والأسرة المالكة بيدها كل شيء دون سواد الشعب الذي يلاقى الإهمال والظلم فتفرض عليه الضرائب والتكاليف. وقد انقسم المجتمع إلى عدة طبقات أولها طبقة النبلاء، ومنها الطبقة الحاكمة. ثم طبقة رجال الكنيسة، التي تشارك النبلاء في حكم البلاد والاستمتاع بخيراتها، ثم طبقة التجار والزراع والملاك الصغار، الذين يتحملون الضرائب المختلفة، وطبقة عبيد الأرض الذين يتبعون مالكها وينتقلون مع ملكيتها من سيد إلى آخر. وطبقة العبيد التي تكونت من أسرى الحرب، ويتصرف فيهم بيعاً وشراءً، ولم تعط لهم ولا لسابقيهم الحقوق التي يستحقون، فلم ينالوا تكريماً(3). وإلى جانب الطبقات السابقة كانت توجد طبقة اليهود الذين تواجدوا بأعداد كبيرة في المجتمع الإسباني يعملون في المجال الاقتصادي، ولكنهم كانوا موضع البغض والتعصب والتحامل، يعانون أشد ألوان الجور والاضطهاد. وكانت الكنيسة منذ أن اشتد ساعدها ونفوذها تحاول تنصير اليهود، وتتوسل إلى تحقيق غايتها بالعنف والمطاردة فأجبروا على اعتناق النصرانية، أو النفي من البلاد أو المصادرة، فاعتنق النصرانية عدد منهم كرهاً ورياءً. ولما اشتدت الضغوط على اليهود حاولوا أن يدبروا مؤامرة للقضاء على الحكم القائم إلا أن المؤامرة اكتشفت فزاد الضغط على اليهود، وانتزعت أملاكهم في سائر الولايات الأسبانية، وشردوا وقضى عليهم بالرق الأبدي للنصارى، وأن ينزع أبناؤهم منذ السابعة ويربون على النصرانية. إنَّ وضعاً كهذا لا يوفر دون شك استقراراً ولا عدالة اجتماعية ومن هنا كانت الطبقات المنتجة في المجتمع محرومة من كثير من حقوقها، في حين أنها تؤدى المسؤوليات والتكاليف. ولا ينتظر من مثل هذه الطبقات أن تقدم إخلاصها وافياً، وتدافع بحرارة عن ذلك النظام الذي حرمها الحقوق، ولو أن ذلك لا يمنع من دفاعها عن بلدها.


____________
1)    حسن ،حنان قصاب ، العمارة والفنون الإسلامية في مدينة قرطبة ، ط2،ص328.
2)    ابن الوردي: خريدة العجائب وفريدة الغرائب.، ص84.
3)    الحميري: الروض المعطار في خبر الأقطار ،ج 1، ص456.


وبينما كانت الأندلس تعيش في هذا الوضع المضطرب، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، ويضيق معظم سكانها من الذل والهوان، الذي يلقونه من حكامهم، فهم يعملون، ولكن لا ينالون من نتيجة عملهم شيئاً، ولا يعرفون للحرية طعماً، ولا للكرامة الإنسانية مذاقاً، نجد السكان على الشاطئ المقابل لهم في بلاد المغرب يعيشون في حرية وعزة وكرامة في ظل الهداية الإسلامية، التي ارتفعت راياتها على أرضهم، يسودهم الإخاء والمحبة والعدل الاجتماعي، الذي سوى بين البربري والعربي، ويرنون بأبصارهم إلى الأندلس، هادفين إلى غرس بذور الهداية وإقامة مشاعلها، التي ستنقذها مما تردت فيه، وتجعلها المنبع لبعث الحضارة الأوربية الحديثة(1). مقدمات الفتح كان الفتح الإسلامي لشبه الجزيرة الأيبيرية (أسبانيا والبرتغال) أمراً طبيعياً حسب الخطة التي اتبعها المسلمون أثناء فتوحاتهم، وهي تأمين حدودهم ونشر دعوتهم. وذلك بالمضي في جهادهم إلى ما وراء تلك الحدود، لنشر العقيدة الإسلامية التي تقتضى أن يستمر المد الإسلامي ما دامت فيه القوة على الإستمرار. ولما وصل تيار الفتح الإسلامي إلى شمال أفريقية، كان طبيعياً أن تتجه أنظار المسلمين إلى فتح بلاد الأندلس. وقد تضافرت عوامل عديدة مهدت وساعدت المسلمين على فتح الأندلس منها (2): - ثبات قدم المسلمين في أفريقيا، واعتناق البربر للإسلام، وحماستهم لحمل الدعوة، وبذلهم أرواحهم بسخاء في سبيل ذلك، ورغبتهم في أن يكون لهم من الجهود في سبيل دعوة الإسلام مثل ما للعرب المسلمين. - اليقظة والحذر، الذي اتصف به المسلمون، بمحاولة التعرف على حال البلاد، عملياً بتوجيه بعض الحملات الخفيفة السريعة، التي تعرف بها طبيعة البلاد، وحالة أهلها وتعجم عودهم، وتعطى للمسلمين جسارة على مواجهة عدوهم. - تعريف مقر الخلافة بخطة الفتح، وإحاطتها بمجريات الأمور، لتكون على أهبة الاستعداد على تقديم العون، وإرسال المدد إذا لم تنجح خطة الفتح، وذلك يعطى للحملة صفة الشرعية المستمدة من مقر الخلافة، الساهرة على الإسلام، وتعاليمه، وتبليغها للعالمين. - بذل المسلمين كل جهودهم الممكنة لتكوين ترسانة بحرية وأسطول بحري في الشمال الأفريقي. ابتدأه حسان بن النعمان، وواصل موسى بن نصير(3) في تكوين الأسطول فقد أخذ في عمل السفن حتى صار عنده منها عدة كثيرة. كل ذلك وغيره من الأمور ساعد المسلمين على فتح بلاد الأندلس. بعد أن أتم موسى بن نصير فتح بلاد المغرب وثبت أقدام المسلمين فيها، كتب إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك يستأذنه في فتحها، فأشار عليه الوليد بأن يختبرها بالسرايا ولا يغرر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال. فراجعه موسى وقال له: "إنه ليس ببحر، وإنما هو خليج يتبين للناظر، وراءه، فكتب إليه الوليد: وإن كان فلا بد من اختباره بالسرايا. وتنفيذاً لتوجيهات الخليفة الوليد الذي كان لا يريد أن يرمى بالمسلمين في مغامرة غير مأمونة العواقب، قام موسى، باستدعاء أحد رجاله ويسمي طريف، ويكنى بأبي زُرْعة وأمره بالعبور إلى الأندلس ومعه مائة فارس، وأربعمائة راجل.

____________
1)    حسن ،حنان قصاب ، العمارة والفنون الإسلامية في مدينة قرطبة ، ط2،ص326.
2)    عبادة كحيلة: القطوف الدواني في التاريخ الإسباني، القاهرة 1998م، ص 102.


اشتهرت الأسرة الأموية بحبها للعلم وإكبارها للعلماء ، ويظهر ذلك واضحا منذ أن وطئت أقدامهم أرض الأندلس ، فكان عبد الرحمن الداخل ( 138 هـ 756 م ) - وهو أول أمير أموي - معروفا باتساع ثقافته وحسن قريضه للشعر وتقربه من العلماء ، وقد اتخذ من قرطبة دارا لإمارته وقام بتجميلها وإحاطتها بسور كبير ، وشيد بها المباني الضخمة والحمامات والفنادق ، ونبنى بظاهرها قصر الرصافة وبرزت قرطبة بدورها الحضاري وغشيها العلماء والأدباء من كل بلد .(1)
ونهج الأمراء الأمويون من بعده نفس النهج في عنايتهم بالعلم والأدب ونشر الثقافة الإسلامية بين شعوبهم ، فقد أشار ابن سعيد إلى أن مكتبة كبرى للأمويين أسست في قرطبة في عهد الأمير عبد الرحمن بن الحكم " الأوسط " ( 206 هـ - 821 م ) وقد زودها بكتب كثيرة اشتراها من المشرق الإسلامي ، وعلى ما يبدو أن هذه المكتبة كانت النواة الأولى لمكتبة الخلافة الأموية الكبرى في قرطبة ، والتي تألقت في القرن الرابع الهجري .
ولا غرو أن تتألق مكتبة الأمويين في هذه الحقبة التاريخية ويبرز دورها الحضاري واضحا ، وقد أولاها الخليفة عبد الرحمن الناصر وابنه الحكم جل اهتمامهما وعظيم رعايتهما ، فإن شغفهما الكبير بجمع الكتب قد طبقت الآفاق ووصلت إلى مسامع الناس في كل مكان . فها هو الإمبراطور " قسطنطين " السابع حاكم بيزنطة لم يجد شيئا يتقرب به إلى قلب الناصر حينما عزم على عقد معاهدة معه سوى أن يهديه كتابا جديدا لم يعرفه من قبل ، وهو كتاب " ديوسقوريدس " في الطب ، وجاءت رسله إلى قرطبة تحمل ذلك الكتاب في مجلد جميل مكتوبا باللغة الإغريقية ، وقد ذُهبت حروفه ، وزينت صفحاته بالرسوم الجميلة لبعض النباتات والأشجار التي ورد ذكرها في الكتاب ، ولم يكتف إمبراطور بيزنطة بذلك ، بل أوفد بعد ذلك " نقولا الراهب " ليقوم بترجمته من اللغة الإغريقية إلى اللغة العربية .(2)
وإذا كان هذا هو شأن الناصر ، فإن ابنه الحكم لم يكن أقل منه شأنا في هذا الصدد ، فقد بلغ حرصه على اقتناء الكتب أنه كان يبذل جهدا كبيرا في الحصول عليها أو شرائها قبل أن تظهر أو تشيع في مواطنها " . . . وكان يبعث في الكتب إلى الأقطار رجالا من التجار ، ويسرب إليهم الأموال لشرائها حتى جلب منها إلى الأندلس ما لم يعهدوه " وقد أرسل إليه رجاله الذين بعثهم إلى المشرق لاقتناء الكتب أن أبا الفرج الأصفهاني قد أوشك أن ينتهي من تأليف كتابه " الأغاني " فبعث إليه ألف دينار من الذهب ، وحصل منه على نسخة مبكرة من ذلك الكتاب قبل أن يشيع في العراق .
____________
1)    حسن ،حنان قصاب ، العمارة والفنون الإسلامية في مدينة قرطبة ، ط2،ص328.
2)    عبادة كحيلة: القطوف الدواني في التاريخ الإسباني، القاهرة 1998م، ص 104.


وقد أثمرت جهود الحكم عن تكوين مكتبة كبرى لم يحفل بمثلها حاكم من قبل ، حيث غصت خزائنها بالعديد من الكتب النادرة ، يقول في وصفها ابن حزم : " أخبرني بكية الخصي - وكان على خزانة العلوم والكتب بدار بني مروان - أن عدد الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة ، وفي كل فهرسة عشرون ورقة ليس فيها إلا أسماء الدواوين فقط ، وأقام للعلم والعلماء سلطانا نفقت فيها بضائعه من كل قطر " .
ولم تقتصر همة هذا الخليفة على جمع الكتب فقط ، وإنما كان على قدر كبير من الفهم والإدراك لما تحتويه من معلومات وأفكار ، وكان يقضي أغلب وقته في القراءة والاطلاع ، وقد ضاقت بها خزائن مكتبته ، واستغرق نقلها ستة أشهر .
والغريب أنه لا يقوم بقراءة هذه الكتب فحسب ، وإنما كان يعلق على كل كتاب يقرأه بخط يده ، ويدلي فيه برأيه ، وكان يكتب عليه اسم صاحبه وكنايته وألقابه ونسبه ومولده ووفاته ، وما يستتبع ذلك من غرائب وحكايات صادفت المؤلف في حياته .
وهواية جمع الكتب واقتنائها لم تكن وقفا على الأمراء والخلفاء والأمويين على نحو ما وضحنا ، وإنما كانت هواية قد تأصلت أيضا في نفس الشعب الأندلسي قبل حكامه ، حتى صارت عندهم من علامات الرفعة والسؤدد ، لا يستغني الرجل منهم عن تأسيس مكتبة في بيته حتى وإن لم يكن على قدر من المعرفة.(1)
فكل همه أن يقال عنه : فلان عنده خزانة كتب ، والكتاب الفلاني ليس عند أحد غيره ، والكتاب الذي بخط فلان قد تحصل عليه وظفر به ، ولعل في القصة التي رواها المقري نقلا عن الحضرمي الذي غشى سوق الكتب في قرطبة لشراء أحد الكتب ما يؤكد هذه الهواية : " قال الحضرمي : أقمت بقرطبة ولازمت سوق كتبها مدة أترقب فيه وقوع كتاب لي بطلبه اعتناء ، إلى أن وقع وهو بخط فصيح وتفسير مليح ، ففرحت به أشد الفرح ، فجعلت أزيد في ثمنه ، فيرجع إلى المنادي بالزيادة إلى أن بلغ فوق حده ، فقلت له : يا هذا . . . أرني من يزيد في هذا الكتاب حتى بلغه إلى ما يساوي ، قال: فأراني شخصا عليه لباس رئاسة ، فدنوت منه وقلت له : أعز الله سيدنا الفقيه ، إن كان لك غرض في هذا الكتاب تركته لك ، فقد بلغت به الزيادة بيننا فوق حده ، قال : فقال لي : لست بفقيه ، ولا أدري ما فيه ، ولكني أقمت خزانة كتب ، واحتفلت فيها لأتجمل بها بين أعيان البلد ، وبقي فيها موضع يساوي هذا الكتاب ، فلما رأيته حسن الخط جيد التجليد استحسنته ، ولم أبال بما أزيد فيه ، والحمد لله على ما أنعم به من الرزق فهو كثير . قال الحضرمي : فأحرجني وحملني على أن قلت له : نعم لا يكون الرزق كثيرا إلا عند مثلك " يعطى الجوز لمن لا أسنان له " وأنا الذي أعلم ما في هذا الكتاب وأطلب الانتفاع به يكون الرزق عندي قليلا ، وتحول قلة ما بيدي بيني وبينه .(2)
____________
1)    حسن ،حنان قصاب ، العمارة والفنون الإسلامية في مدينة قرطبة ، ط2،ص328.
2)    عبادة كحيلة: القطوف الدواني في التاريخ الإسباني، القاهرة 1998م، ص 109.

تلك هي هواية جمع الكتب التي تمكنت في قلوب الأندلسيين ، وكان لها أكبر الأثر في نشر الثقافة الإسلامية ومحو أمية الكثيرين منهم ، ويقول " دوزى " : إن أغلب الناس في الأندلس خلال القرن الرابع الهجري ، العاشر الميلادي أصبحوا قادرين على القراءة والكتابة .
ولكن الأحداث التي توالت على الخلافة الأموية بعد عهد المستنصر قد أثرت على هذه المكتبة تأثيرا بالغا ، حيث قام المنصور بن أبي عامر بحرق كتب الفلسفة والفلك ليرضي فقهاء الأندلس ويكسب تأييدهم له ، وحين قضي على خلافة بني أمية وزال ملكهم وتوزعت الأندلس إلى دويلات ، وبدأ ما عرف في التاريخ بعصر الطوائف ، بيعت تلك المكتبة وتوزعت كتبها في دويلات الأندلس القائمة آنذاك .(1)
وعلى الرغم من مرارة هذه الأحداث التي أودت بمكتبة الأمويين في قرطبة ، فإن هواية جمع الكتب والنهضة العلمية والأدبية التي نماها الخليفة الناصر وابنه الحكم لم تتوقف ، فقد انتهى الحال بهذه المكتبة إلى أيدي عشاق الكتب ، وانتهى بها المطاف إلى خزائنهم في إشبيلية والمرية وبطليوس وطليطلة وسرقسطة وبلنسية وغيرها من أمراء الطوائف الذين عبروا عن هويتهم العلمية والأدبية ، وكانوا سببا في تعدد المكتبات الخاصة في بلاد الأندلس ، حيث كثر هواة الكتب وراجت تجارة الوراقة ، ويكفي أن نضرب لذلك مثلا واحدا ، فقد ذكر المؤرخون أن الوزير أحمد بن عباس جمع في مكتبته بالمرية وحدها ما يزيد على الأربعمائة ألف كتاب ، فضلا عن الرسائل والكراسات .
ونخلص من هذا السرد التاريخي لمكتبة الأمويين في قرطبة أنها قامت بدورها الحضاري في نشر الثقافة الإسلامية إبان القرن الرابع ، وظل تأثيرها في تحبيب الأندلسيين لجمع الكتب واقتنائها وحفظ التراث العربي والإسلامي باقيا ، حتى بعد انتهاء عصر خلافة بني أمية وزوال مكتبتهم في قرطبة ، حيث بدأ ملوك الطوائف يقلدون الخلفاء الأمويين في تعلقهم بالعلم والعلماء ، وتشجيع الكتاب والمؤلفين ، وجمع الكتب النادرة ، وإقامة المكتبات الخاصة بحواضرهم والتي تليق بجلال القدر وأبهة الحكم في عواصمهم ، ففي الوقت الذي انعدمت فيه مركزية الحكم ، تعددت المكتبات الكبرى بتعدد الدويلات التي أقامتها ملوك الطوائف ، وحوت خزائنهم الآلاف من المجلدات والمخطوطات النادرة في شتى فروع العلم والمعرفة ، وظلت هواية جمع الكتب التي وضع أساسها الخليفة الناصر متمكنة في نفوس الناس بالأندلس طوال حكم المسلمين بها إلى أن استولى الملك فرناندو على غرناطة - آخر معقل إسلامي في الأندلس - وفي عام 1492م أصدر أمره بجمع المخطوطات الإسلامية من أيدي المسلمين ، وجمع منها وقتذاك مليونين من المخطوطات وتم إحراقها في ميدان باب الرملة في غرناطة على مشهد ومرأى من الجماهير .(2)
____________
1)    الحموي ،ياقوت ، معجم البلدان، ج4، ص324.
2)    مصدر السابق ،ص325.

المبحث الثالث 
قرطبة مدينة العلم
للحال التي رأينا، وللحياة التي شاهدنا لا غَرْوَ أن تُصْبِحَ قرطبة (منتصف القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي)، وكأنها مدينة عصرية، تُضارع المدن العالمية في الألفية الثالثة! وكيف العجب وقد انتشرت المدارس لتعليم الناس، وانتشرت المكتبات الخاصَّة والعامَّة، حتى صارت هي أكثر بلاد الله كُتبًا‍‍، وحتى غَدَتْ مركزًا ثقافيًّا ومجمعًا علميًّا لكل العلوم وفي شتى المجالات، وقد كان الفقراء يَتَعَلَّمُون في مدارس بالمجَّان على نفقة الحُكَّام أنفسهم؛ ولذا فليس عجيبًا أن نعلم أن جميع أفراد الشعب كان قد عرف القراءة والكتابة، ولم يُوجَدْ في قرطبة شخص واحد لا يجيد القراءة والكتابة، في حين لم يَكُنْ يعرفها أرفع الناس في أوربا، باستثناء بعض رجال الدين!(1)
وجدير بالذكر أن هذه النهضة العلمية والحضارية في مدينة قرطبة في ذلك الوقت، واكبها -أيضًا- نهضة إدارية؛ وذلك من خلال عدد من المؤسسات والنُّظُمِ الرائدة في الحكم؛ منها: الإمارة والوزارة، وقد تطوَّرَتْ أنظمة القضاء والشرطة والحِسْبة، وغيرها، وواكبتها -أيضًا- نهضة صناعية عظيمة؛ إذ تطوَّرت فيها الصناعة كثيرًا، واشتهرت صناعات مثل: صناعة الجلود، وصناعة السفن، وآلات الحرث، والأدوية.. وغيرها، وكذلك استخراج الذهب والفضة والنحاس
أمَّا إذا نظرنا إلى الحياة المدنية والعصرية فيها، فنراها مُقَسَّمَة إلى خمس مدن، وكأنها خمسة أحياء كبرى، يقول المقري: «وبين المدينَة والمدينَة سور عظيم حصين حاجز، وكل مدينة مستقلَّة بنفسها، وفي كل منها من الحمامات، والأسواق، والصناعات... ما يكفي أهلها»
كما تميزت قرطبة -كما يذكر ذلك ياقوت الحموي في معجم البلدان- بأسواقها الممتلئة بكافَّة السلع، وكان لكل مدينة سوقٌ خاصٌّ بها
ومن المقري نذكر بعض إحصائيات عن عمران قرطبة:
المساجد: انتهت مساجد قرطبة أيام عبد الرحمن الداخل إلى 490 مسجدًا، ثم زادت بعد ذلك إلى 3837 مسجدًا.(2)
البيوت الشعبية: 213077 بيتًا.
بيوت النخبة: 60300 بيت.
الحوانيت (المتاجر وما شابه): 80455 حانوتًا.(3)
____________
1)    حسن ،حنان قصاب ، العمارة والفنون الإسلامية في مدينة قرطبة ، ط2،ص328.
2)    عبدالمنعم ،عادل ، النقد الاجتماعي، ط2، ص 95.
3)    محمود إسماعيل: في دراسة التراث، رؤية للنشر والتوزيع، ط1، القاهرة، 2004م، ص 23.


الحمامات العامة: 900 حمام.
الأرباض (الضواحي): 28 ضاحية(1)
وهذه الأرقام كانت تزيد وتنقص باختلاف الأحوال السياسيَّة، وباختلاف روايات المؤرخين، غير أنها اختلافات على «مدى» الفخامة والجلالة والجمال، لا على أصل وجودها وتحقُّقِهَا.
وكان عدد سكان قرطبة في عهد الدولة الإسلامية زُهاء خمسمائة ألف نسمة! والجدير بالذكر أن عدد سكان قرطبة حاليًا يبلغ 310,000 نسمة تقريبًا!(2)

_____________
1)    محمد ماهر حمادة: المكتبات في الإسلام، ص99.
2)    القلقشندي: صبح الأعشى، ج5،ص218.

قائمة المصادر والمراجع :

1)    محمود إسماعيل: في دراسة التراث، رؤية للنشر والتوزيع، ط1، القاهرة، 2004م.
2)    ابن الآبار: الحلة السيراء، ج1، تحقيق، حسين مؤنس، ج1، دار المعارف، القاهرة 1985م.
3)    أحمد مختار العبادي: دراسات في تاريخ المغرب والأندلس، مؤسسة شباب الجامعة.
4)    محمد عبدالله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، ج2، الهيئة المصرية للكتاب.
5)    محمود مكي: مقدمة نشرته لجزء من المقتبس، الشطر الثاني، ط 1، دار الكتاب العربي، بيروت 1973م.
6)    عبادة كحيلة: القطوف الدواني في التاريخ الإسباني، القاهرة 1998م.
7)    حسين مؤنس: شيوخ العصر في الأندلس، الدار المصرية للتأليف والترجمة والنشر، 1965م.
8)    الحميدي: الجذوة، ص28، والضبي: بغية المتلمس، ص34، وابن عذاري: البيان المغرب: 3/146، وابن الخطيب: أعمال الأعلام.
9)    أحمد بدر، تاريخ الأندلس في القرن الرابع الهجري، دمشق، 1974م، ص 242.
10)    ابن بسام: الذخيرة (تحقيق البدري): ج3.
11)    محمود إسماعيل: الفكر التاريخي في الغرب الإسلامي، ط1، منشورات الزمن، المغرب 2008.
12)    ابن حيان: المقتبس (تحقيق مكي، الشطر الثاني).
13)    عادل يحيى عبدالمنعم: النقد الاجتماعي عند المؤرخين والكتاب الأندلسيين، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الآداب، جامعة الزقازيق.
14)    عبدالمنعم ،عادل ، النقد الاجتماعي، ط2.
15)    المقري: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب.
16)    ياقوت الحموي: معجم البلدان، ج 4.
17)    سالم ،عبد العزيز ، تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس من الفتح العربي إلى السقوط، دار النهضة العربية، 1988م
18)    موسوعة المورد الحديثة (1995).
19)    ابن الوردي: خريدة العجائب وفريدة الغرائب.
20)    الإدريسي: نزهة المشتاق في معرفة الافاق ،ج2،دار النفائس .
21)    الحميري: الروض المعطار في خبر الأقطار ،ج 1، دار العم للنشر و التوزيع 
22)    ابن الوردي: خريدة العجائب وفريدة الغرائب،ط2، دار الكوثر .

ملحق صور لمعالم الاثارية في مدينة قرطبة :


الفهرس 
الآية قرآنية ..........................................................................................2
الاهداء................................................................................................3
التقدير و الشكر ......................................................................................4
أهداف الدراسة........................................................................................5
المنهج المستخدم......................................................................................5
أهمية البحث...........................................................................................5
تقسيمات البحث.......................................................................................6
الفصل الاول (تطور مدينة قرطبة تاريخيا و حضاريا) .........................................8
المبحث الاول (أصل الكلمة قرطبة) .............................................................10
المبحث الثاني (تاريخ قرطبة الرومانية)......................................................... 10 
المبحث الثالث ( مدينة قرطبة الإسلامية).......................................................11
المبحث الرابع ( مدينة قرطبة في عصر ملوك الطوائف والمرابطين) ......................12
المبحث الخامس (كيف نشأت العلوم في قرطبة؟)................................................18
الفصل الثاني (العمارة والفنون الإسلامية في مدينة قرطبة)....................................22
المبحث الاول (العمارة والفنون العربية في قرطبة إبّان الحكم العربي الإسلامي)...........22
المبحث الثاني (قرطبة في أيام الحاجب المنصور)...............................................24
المبحث الثالث (قصر الروضة)...................................................................25
المبحث الرابع (جامع قرطبة .. المسجد الجامع).................................................26


الفصل الثالث (الوضعية السياسية في مدينة قرطبة خلال القرن الرابع الهجري).........33
المبحث الاول (الحياة الاقتصادية بالمدينة قرطبة خلال القرن الرابع الهجري)..............34
المبحث الثاني (الحياة الاجتماعية في مدنية قرطبة).............................................35
المبحث الثالث (قرطبة مدينة العلم)................................................................42
قائمة المصادر و المراجع ....................................................................... 44
ملاحق صور ......................................................................................46
الفهرس .............................................................................................49