على حاجز "زعترة"
تاريخ النشر : 2019-10-04 18:13

لم يسعفني الخيال برسم صورة مناسبة للحاجز العسكري الذي لطالما صدمنا اسمه في نشرات الأخبار الكثيرة، قبل أن يتراجع الخبر الفلسطيني إلى ذيل قائمة الاهتمام في الوجدان العربي، ويتلاشى تدريجيا من نشرات الأخبار التي احتفت بجرائم الميليشيات والفلول والمعارضة والموالاة والأنظمة في زمن دموي منحوه قسرا اسم “الربيع العربي”.

ثلاثة أعوام كاملة مرت، ولم يستطع الوقت محو ذلك المشهد من ذاكرتي. كان أيار يفتح بابه للذكرى، ونحن نترك رام الله خلفنا، متوجهين نحو الشمال الغربي إلى مدينة طولكرم، حيث قرية دير الغصون، وقد قيل لي إن القرية قريبة الشبه من قريتي ملكا.

الاعتياد يقتل دهشة الأشياء، ويقتل الغضب والفرح. في مرّتي الأولى على حاجز “زعترة” الذي يقطع أوصال الوطن الفلسطيني، وقفت بغضبي الكامل أتأمل جنودا قليلين يتحكمون بمصير آلاف العابرين اليوميين للحاجز.

فتيان صغار السن بملابس عسكرية وبنادق أطول من قاماتهم. يحاولون التصرف بعدائية تجاه المارين من على الحاجز. أحيانا يغلقونه لمجرد التسلية، ويقفلون على أنفسهم صناديقهم الزجاجية، وهم يتطلعون في الوجوه العربية التي امتلك كل واحد منها سببا يجعله مضطرا لانتظار الفرج من أجل أن يعبر الحاجز.

في وجوه راكبي السيارات خريطة كبيرة من الأحلام والأوهام. قال لي مضيفي إن الحاجز هو عبارة عن باب سجن كبير، حين يقفلونه تغلق الأبواب على مدن شمال الضفة الغربية جميعها.

كان الباب مغلقا هذه المرة أيضا. ولكن من الجهة الأخرى، أي للعابرين من الشمال باتجاه رام الله. الفتيان العسكريون المحتمون ببرج المراقبة العالي، وبالسيارات المصفحة، تعودوا أن يتفرسوا في وجوه الفلسطينيين العالقين هناك.. بلا مبالاة!

المسألة ليست تقييم نهج كامل للاحتلال، ولا توثيقا لجرائمه الكثيرة التي ملأ بها الجغرافيا الفلسطينية والعربية، بل هي مسألة مختلفة تماما تلك التي رأيتها على حاجز “زعترة”، أمر يمكن أن نطلق عليه “التعذيب بالعبث”!

في السلوك العنصري على الحواجز الأمنية الكثيرة التي تعمل على تقطيع أوصال الوطن الفلسطيني، يمارس الاحتلال سلوكا جرميا عبثيا في شكله الخارجي، غير أنه مؤسس على سياسة منهجية مؤسسة على القهر. القهر الذي يحاول أن يلون به حياة الفلسطيني؛ حاضرا ومستقبلا، وأن يصعب عليه حياته، وتشبثه بأرضه، ولا يفتح أمامه سوى طريق صغير إلى الهجرة.

من السهل جدا أن يقرر مسؤول الحاجز، فجأة، إغلاقه أمام حركة العبور، والصعود إلى برج الحماية لتناول وجبة غداء أو إفطار، وفيما المركبات تبدأ بالتكاثر على الحاجز، يمارس المسؤول وجنوده هوايتهم الأثيرة بالتفرس في الوجوه العربية، بينما وجوه المحتلين خالية من أي تعبير، سوى البلاهة.

قد يمتد الوقت طويلا قبل أن يقرر الجنود فتح الحاجز من جديد، والسماح للمركبات بالمرور. لكن اللافت أنه في ذلك الوقت الذي قد يطول أو يقصر، يتجرد جنود الاحتلال من جميع الصفات التي قد تجمعهم بالبشر، ويعزلون أنفسهم عن التعاطي بأي مشاعر مع المشهد البائس الذي يرسمونه بممارساتهم العنصرية، غير مكترثين بكل ما قد يجلبه هذا العبث العنصري من مآس كثيرة على عالقين لا حول لهم ولا قوة.

يومها، انتهت زيارتي إلى شمال فلسطين. وحين عدت، مساء، من على الحاجز نفسه. لم يتم إيقافنا. لكن، يومها سقطت مقولة عظيمة كنت أعتقد أنها صحيحة مدة طويلة.. وهي أن الجلاد لا يستطيع النظر في أعين ضحاياه!

عن الغد الأردنية