الى الجزائر مع كل الحب والتقدير
تاريخ النشر : 2019-11-08 13:15

1/10

في السادس والعشرون من اكتوبر 2019 وطئت اقدامنا ارض الجزائر، إلتقينا بمستقبلينا الذين قابلونا بكل حفاوة، كانت نبيلة وابنتها اية ومعهن سيارتهن الصغيرة، المتواضعة في كل شيء إلا من أحلامهن الكبيرة.

بوجوه مشرقة وابتسامات مفعمة تملئها الجدية وأصالة الطباع وحسن الاخلاق وطيبها تعرفنا على بعضنا على عجل وغلف جو المطار بعض الغيم وغلف جو لقائنا الكثير من الود والالفة، وضعنا شنطنا في السيارة وانطلقنا بإتجاه مكان إقامتنا، وما هي إلا كيلو مترات معدودة حتى وصلنا مبتغانا، بعد ان وصلنا مكان اقامتنا المنشود تبين لنا ان الطريق استغرقت نصف ساعة فقط، لم نشعر بها،ا ذ ان دفء اللقاء وضحكات اية ابنة التسع سنوات ساهمت في نشر ذالك الدفء واضفاء تلك المسحة من البراءة والبهاء على ذلك اللقاء.

كانت اقامتنا في منطقة باب الزوار الواقعة على طرف العاصمة الجزائرية، وكانت اول خطواتي خارج مكان الاقامة بإتجاه المسجد الذي كان قد بدا يؤذن لصلاة المغرب، خرجت اجر خطواتي واتبع صوت الاذان بكل آذان صاغية، تتبعت صوت الاذان وسريعا وصلت المسجد من الخلف، بحثت عن مدخل المسجد وجدته يفتح بأتجاه مدرسة ابتدائية، ولم احتج لكثير من النظرات لكي يلفت نظري تلك الرسومات والشعارات المخطوطة على جدار المدرسة؛ كان اجملها علم فلسطين يجاوره علم الجزائر يتلاصقان ويتعانقان وكأنهما يتعاهدان على ان يكون احدهما هو الآخر في كل شيء،لم يكن العلمين لوحدهما على الجدار فقد شاركهما الجدار عبارة كتبت بعناية وخطت بخطوات ومواقف من ذهب، كان العلمين قد خُط عليهما عبارة تقول: "مع فلسطين ظالمة او مظلومة" هذا الشعار او هذه العبارة الذي اطلقها الزعيم الراحل هواري بومدين والذي اصبح ابجدية في علاقة الجزائر وفلسطين، مالبث ان اصبح ادبية ثورية وشعار وطني ادمناه واحببناه منذ الصغر حتى حفظناه عن ظهر قلب.

كان هذا الشعار عنوان حب لا ينقضي ووفاء لا ينقطع، كان هذا الشعار احدى اسباب حبنا للجزائر ولم يسبقه في اسباب ذلك الحب إلاّ التاريخ التليد والعتيد الضارب اوتاده حتى الاديم، وبعضٌ من القصص والحكايا عن الثورة الجزائرية وابطالها العظام، ونشيدهم الملحمي الذي كتبه الشاعر مفدي زكريا من زنزانته في السجن الفرنساوي عام ١٩٥٦، كتبه وربما لم يدر في خلده يوما بأن هذا النشيد سيصدح على لسان فتية صغار في مدارس اللاجئين الفلسطينيين في مخيم البقعة وفي سائر مخيمات الشتات.

كتبه وربما لم يسمع ولم يعلم بان هؤلاء الفتية اللاجئين قد حفظو نشيده واخذو يرددوه وجعلوه نشيدهم اليومي مع كل صباح، ربما مات ولم يدرك او يعلم ان هؤلاء الفتية في ذلك المخيم جعلو من هذا النشيد نشيدهم الوطني وبانهم حفظوه وررددوه قبل ان يحفظو نشيدهم الوطني؟

ربما لم يسمع ولم يعلم مفدي زكريا بأن كل شوارع المخيم كانت تتلقف آذانها النشيد الذي يصدح من حناجر الطلاب في المدارس وتنتظر دورها في ترديده مرة اخرى بعد انتهاء الطابور الصباحي للطلاب ليزهو بابنائهم اولا وليحلموا بذلك اليوم الذي ينهزم فيه الطغيان وتنتصر الثورة...

ربما مات مفدي زكريا ولم يسمع ولم يعلم بأن معسكرات الاشبال والزهرات والفتوة في مخيم البقعة وفي كل مخيمات الشتات الفلسطيني كانت تنتظر دورها في ترديد النشيد عصرا؛ لكن هذه المرة كان النشيد يرافقه مارشات عسكرية وبنادق تحملها ايادي تشدها الى الصدر وتدور بها بانتظام حول السارية، وتنتظر دورها بالوصول الى مكان رفع العلم لتصطف وتؤدي التحية للعلم الجزائري والفلسطيني وهي تصرخ عاليا:

قسما بالنازلات الماحقات

و الدماء الزاكيات الطاهرات

و البنود اللامعات الخافقات

في الجبال الشامخات الشاهقات

نحن ثرنا فحياة أو ممات

و عقدنا العزم أن تحيا الجزائر

فاشهدوا... فاشهدوا... فاشهدوا...

نحن جند في سبيل الحق ثرنا

و إلى استقلالنا بالحرب قمنا

لم يكن يصغى لنا لما نطقنا

فاتخذنا رنة البارود وزنا

و عزفنا نغمة الرشاش لحنا

وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر

فاشهدوا... فاشهدوا... فاشهدوا...

يا فرنسا قد مضى وقت العتاب

و طويناه كما يطوى الكتاب

يا فرنسا ان ذا يوم الحساب

فاستعدي و خذي منا الجواب

ان في ثورتنا فصل الخطاب

و عقدنا العزم ان تحيى الجزائر

فاشهدوا... فاشهدوا... فاشهدوا...

نحن من أبطالنا ندفع جندا

و على أشلائنا نصنع مجدا

و على أرواحنا نصعد خلدا

و على هاماتنا نرفع بندا

جبهة التحرير أعطيناك عهدا

و عقدنا العزم أن تحيا الجزائر

فاشهدوا... فاشهدوا... فاشهدوا...

صرخة الأوطان من ساح الفدا

فاسمعوها و استجيبوا للندا

و اكتبوها بدماء الشهدا

و اقرأوها لبني الجيل غدا

قد مددنا لك يا مجد يدا

و عقدنا العزم أن تحيا الجزائر

فاشهدوا... فاشهدوا... فاشهدوا...

ربما لم يسمع ولم يعلم مفدي زكريا بان النسوة في المخيم كنّ ينتظرن ايضاً اخذ حصتهن من النشيد وحسب طريقتهن، فهن كنّ دائما من يدفعن الفاتورة الابهظ في تحرير الاوطان؛ فهنّ كنّ على الدوام من يدفعنّ فاتورة الدم من فلذات اكبادهنّ وازواجهنّ، حتى جف الدمع وتجعد الوجه وخشنت اليد وقسى القلب ويبست الشفاه وترملت النساء، لكن هذه المرة ارادت النسوة في المخيم ان يأخذن حصتهن من النشيد كما اخذ المحتل حصته من دماء ابنائهن واحلامهن، لا بل واكثر، فقد اردنّ هذه المرة ان يثأرنّ لدماء الشهداء مجتمعين لكن بطريقة احلى واجمل؛ فقد كنّ يقضين يومهن بتطريز النشيد الوطني، ويُحِطنّه بالكثير من شارات النصر والبنادق، ويزينّ اطرافه بأعلام فلسطين والجزائر، ثم يحضرنّ الزوادة وينتظرنّ حتى نزول البنادق عن الجبل وعن اكتاف فلذات اكبادهن ليطلقن الزغاريد في النهاية والرصاص، ويلوحن بشارة النصر من بعيد ويبشرن به من قريب، فهنّ الصابرات الصامدات، وهنّ من قيلت فيهنّ اجمل القصائد والاشعار، وهنّ من دانت لهنّ الجنة حتى قيل: "ان الجنة تحت اقدام الامهات".

يتبع...