الصراع الإقليمي فرصة لبنانية
تاريخ النشر : 2020-01-09 13:04

قررت الولايات المتحدة استعادة انتصاراتها من إيران. فمنذ سنة 1991 (حرب العراق الأولى) لغاية اليوم، وضعت إيران يدها على الانتصارات السياسية لجميع الحروب التي ربحتها واشنطن عسكريا في الشرق الأوسط الكبير. كانت أميركا تزرع وإيران تحصد. حتى أنها استفادت من هذه الحروب أكثر من إسرائيل، حليفة أميركا. من أجل استعادة "الانتصارات المنهوبة"، عرض ترامب على إيران تسوية سياسية من أربع نقاط: إعادة النظر في الاتفاق النووي، انسحاب إيران من دول المشرق، وقف تمويل تنظيمات عسكرية في عدد من هذه الدول، وعدم معارضة الحل السلمي للقضية الفلسطينية.

بغض النظر عن مدى عدالة الشروط الأميركية، رفضت إيران النقاط الأربع وراحت تعزز مواقعها وتتصرف على أنها القوة الإقليمية البديلة من الثنائي الدولي: أميركا وروسيا، ومن الثنائي العربي: السعودية ومصر، ومن جميع العرب المسلمين والمسيحيين في مواجهة إسرائيل. فما كان من واشنطن إلا أن اتخذت قرار المواجهة من دون أن تسقط إمكانية الاتفاق السلمي.

هكذا، أعلن وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو في 10 كانون الثاني/يناير 2019 ومن جامعة القاهرة أن «الواجب يقتضي أن نواجه آيات الله، لا أن نحتويهم، وما كان يجب أن ترفع العقوبات عنهم". وأضاف: "إن عصر العار الأمريكي الذي فرضته أمريكا على نفسها قد ولى، ومعها ولت السياسات الأميركية السابقة".

رغم هذا الموقف الراديكالي، ظلت واشنطن تمارس سياسة اعتباطية خدمت التمدد الإيراني في المنطقة. فالولايات المتحدة اتخذت قرار حرب واستجدت التفاوض، ثم اقترحت الحوار وقامت بخطوات عسكرية. عدا شخصية الرئيس ترامب المزاجية، يأتي هذا السلوك الأميركي من قناعة بأن قوة واشنطن العسكرية لا تحتاج إلى اختبار أمام إيران، فموازين القوى محسومة لصالح أميركا. لكن الانتصار في أي مواجهة لا يتوقف فقط على التفوق العسكري، بل على الإرادة في الذهاب حتى النهاية، وهو أمر افتقدته أميركا في حروبها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

الحقيقة أن واشنطن وطهران مستعدتان للحرب وللمفاوضات، لكنهما لا تدركان كيف تتفاديان الحرب ولا كيف تتقدمان نحو المفاوضات. لا تعرفان ما إذا كان عداؤهما المشترك أكثر إفادة لهما من التعاون أو العكس. اقتربا من الحرب أكثر من مرة ولم يخوضاها، وجاورا المصالحة أكثر من مرة ولم يعقداها. داخل إدارتيهما تتصارع النزعتان وتجدان لهما مناصرين. وإلى أن يتم الخيار النهائي، تدفع شعوب الشرق الأوسط الكبير، واللبنانيون أساسا، ثمن هذا التردد المتمادي. وحتى هذه الساعة، يعمل الطرفان على تفادي الحرب أكثر من السعي إلى بدء مفاوضات جدية.

الطرفان اليوم أمام امتحان جديد. فإذا كانت سياسة إيران لم تتغير، فهناك شيء تبدل في أميركا: فبعد أن كانت حملة الرئيس ترامب الرئاسية تتمحور حول إنجازاته الاقتصادية والنهضة الصناعية وتخفيض البطالة ومحاربة الهجرة، إذ بها تتحول إلى السياستين الخارجية والدفاعية إثر تصويت الكونغرس على مشروع محاكمته بغية إقالته. لذا، من المبكر أن نستكشف جميع تداعيات عملية اغتيال سليماني في المدى القريب.

إن التطورات المقبلة تتعلق بثلاثة معطيات: مسار حملة الرئيس ترامب الانتخابية، مصير الانتفاضة الشعبية في إيران، وموقف إسرائيل في حال واصلت إيران تفلتها من الاتفاق النووي بدون ردع أميركي. في كل الأحوال، من يقوم بعملية من مستوى اغتيال اللواء سليماني - رئيس اتحاد جمهوريات الهلال الشيعي - يفترض فيه أن يكون مستعدا للمواجهة لا للانسحاب، ولحماية حلفائه لا الاكتفاء بحماية نفسه.

في ظل الصراع المفتوح، ردت إيران تكتيكيا بإطلاق صواريخ "سلمية" على جوار قاعدة "عين الأسد" في العراق، واستراتيجيا بالدعوة إلى إخراج الأميركيين من الشرق الأوسط، كأنها سيدة مطلقة الصلاحيات على شعوب المنطقة ودولها. ربما سها عن بال طهران، أن انسحاب القوات الأميركية من دول الشرق الأوسط، وهو حلم شهرزادي، من شأنه أن يحول نقمة الشعوب ضدها أكثر مما سيتوجه ضد إسرائيل، لأن الصراع العربي/الإسرائيلي صار هامشيا مقارنة بالخطر الإيراني/الفارسي على العالم السني عموما، وعلى حضارة المشرق الآرامي - الكنعاني - السرياني - العربي. نحن نقبل إيران دولة "بيننا" لا "علينا". لها حضارتها العظيمة، ولنا حضارتنا المجيدة.

إن غالبية اللبنانيين ليست مستعدة لأن تكون جزءا من الصراع المتعدد الأوجه بين إيران وأميركا، ولا من الصراع العسكري بين إيران وإسرائيل. لقد حانت اللحظة التاريخية لينتقل لبنان من سياسة النأي بالنفس الظرفية إلى نظام الحياد الدائم. خلاف ذلك تصبح التعددية بحل من الواقع الحالي، وتحلل الخيارات الاتحادية الشتى. ليس باستطاعة الشعب اللبناني، بمن فيه المكون الشيعي العزيز، أن يتحمل المشاريع العقائدية والدينية السلمية، فكيف إذا كانت عسكرية.

بالمقابل، نحن اللبنانيين نطالب الولايات المتحدة أن تميز صراعها في الشرق الأوسط مع إيران عن وضعية حزب الله في لبنان. فإذا كانت إيران دولة فارسية تتوسع في المنطقة العربية، فحزب الله، رغم ارتباطه العضوي بإيران، يظل جزءا من الشعب اللبناني والدولة. لكن هذا التوجه يستلزم تجاوب حزب الله مع الدولة اللبنانية، فيقبل باستراتيجية دفاعية تسفر عن وضع سلاح حزب الله تحت سلطة الدولة اللبنانية. هكذا تنتعش الشيعية بأصالتها اللبنانية، تبنى الدولة، تحترم القرارات الدولية، تتعطل آخر ذريعة إسرائيلية ضد لبنان، وترفع العقوبات العربية والدولية عن حزب الله ولبنان. وهكذا نطوي آخر صفحة من الحروب اللبنانية، ونغلق حدودنا أمام الحروب المطلة.

عن النهار اللبنانية