دراسة في سيكولوجية الوعي المعرفي
تاريخ النشر : 2020-01-25 14:54

يعيش العالم ثورة علمية كبيرة، تفرض على العالم او الفيلسوف استخدام وسائل منهجية عالية الدقة وفائقة النتائج، لذا يدخل علم تحليل المفاهيم في الجانب السيكولوجي والذي ينطلق من فرضية رئيسية تقر بوجود حياة نفسية شعورية إلى جانب حياة نفسية

لاشعورية تؤثر كثيرا في حياتنا الشعورية، وهنا لابد لنا من معرفة كيفية تأثير هذه الحياة اللاشعورية على الحياة الشعورية من خلال دراستنا للكيفية التي وظف فيها باشلار مدركات النفس ومعطياتها في مجال المعرفة الموضوعية .

× باشلار والتحليل النفسي الفرويدي :

لقد تأثر فرويد بالعالمية (داروين) وطور فكره، كما تأثر بالعالم عالم الطبيعة والذي اكتشف سبل الاحتفاظ بالطاقة والذي يظهر في الواقع أن الطاقة كمية شأنها شأن الكتلة ومن الممكن ان تتحول ولا تتبدد، وحين تختفي الطاقة من جزء ما من أجزاء نظام ما ، فإنها تظهر في جزء أخر من أجزاء هذا النظام عينه مما ساهم في كشف علم الديناميت وولادة نظرية (ألبرت اينشتاين) في النسبية التي طورت علم الديناميت الحرارية والالكترو-مغناطيسية – النشاط الاشعاعي والالكترونات .

كما ونظر للإنسان كنظام من الطاقة ...

×فرويد وعلم النفس الدينامي:
تخصص فرويد في علاج الاضطرابات العصبية وأبدع علم النفس الدينامي وتحليل ودراسة القوى اللاشعورية التي ساعدته في بناء نظريته الشخصية ونظريته في الدوافع ونظريته في القلق ووضع نموذجا جديدا للشخصية مؤسسا على الهو والأنا والأنا الأعلى وهي ركائز ومكونات الشخصية بعد أن أجاب عن سؤال كبير المتمثل في معرفة العلاقة بين النفس والتحليل النفسي.

كما ودرس الطاقة النفسية وأماكن صرفها .. والمسؤولة عن تحريك أجهزة الشخصية الثلاثة
علما أن الطاقة النفسية هي المسؤولة عن العمل النفسي "الادراك-التذكر-التفكير"
×استهلاك الطاقة النفسية:

أ- في الهو تستخدم لاشباع الغرائز بواسطة الفعل المنعكس واشباع الرغبة التي تستخدم الطاقة لانتاج صورة للموضوع الجنسي وغاية كلا العمليتين هو انفاق الطاقة الغريزية بطرائق تقضي على الحاجة وتجلب الهدوء والراحة للفرد فهي سيالة جدا يمكن تحويلها من موضوع الى اخر وهو ما يسمى عملية الابدال

×الشحنات الانفعالية والشحنات المضادة

أعاد فرويد في تحليله النفسي الحياة النفسية بأنها تصور دينامي من شد وجذب على التبادل بين قوى ايجابية وقوى سلبية (حافزة، كابحة) و أن الهو لا يمتلك الا شحنات انفعالية فقط بينما (الانا) و (الانا الاعلى) تمتلك اضافة الى الشحنات الانفعالية شحنات انفعالية مضادة وهي شحنات احباط باطني

وفكرة القوى الحافزة والقوى الكابحة تمكننا من أن نفهم لم نفكر ونعمل على نحو ما نفعل. عموما يمكننا القول انه اذا كانت القوى الحافزة أقوى من الكابحة فإن فعلا ما يحدق للفكرة عندما تغدو شعورية ، واذا قهرت الشحنات المضادة الشحنات الانفعالية ، يمنع الفعل أو تكبت الفكرة،ومع ذلك نحن إذا لم تكن هنالك شحنة مضادة ، فإن العملية العقلية تكون من الضعف والوهن بحيث لا يحدث فعل أو تولد الفكرة .

لقد استفاد باشلار من منهجية التحليل النفسي الفرويدي بعد أن افترض وجود دوافع لاشعورية تحرك سلوك الانسان وتوجهه دون معرفة منه ، فقد افترض باشلار أن العالم في مجال العلم يمتلك (مكبوتات عقلية) يتحمل الابستمولوجي وظيفة البحث عنها واظهارها... وتحديد موقعها ضمن منظومة المعارف العلمية، حيث عليه الا يكتفي بما تقدمه التجربة ، بل عليه الايجاد في أعماق التفسيرات العقلية المكبوتة .

وهكذا تظهر مهمة فيلسوف العلم في السعي لابراز الحالة التي توجد عليها بنيتنا العقلية العارفة عبر كل مرحلة من مراحل تطور الفكر العلمي..

وذلك من من خلال تبيان الأثر السيكولوجي الذي حملته الثورة المعرفية المعاصرة وكذلك في النظر الى القيم الابستمولوجية المختلفة بوصفها قيما عقلية نفسية، وهنا تبرز مرة اخرى وظيفة الفيلسوف في استقصاء الجوانب الباطنية في العلم، ولجوئه الى تحليلها.
لقد بذل باشلار جهدا كبيرا لتوضيح الاسس التي يجب ان يستند اليه الخطاب الابستمولوجي المعاصر وتحديد مهامه

فقد اعتمد على الانتقائية التي لا تعني عنده الاختيار بين العقلانية والتجربة بل مجاوزتهما معا ..
فالانتقائية عند باشلار تتعلق بالوسائل عكس الانتقائية التقليدية التي تتعلق بالغايات وتعدد الفلسفات التي تكفل تشكيل عناصر متنوعة للتجربة والنظرية .. انها تستخدم منهج تشتيت منظم يقضي على الاحادية الفلسفية اما .. أو .. اما عقلانية أو أما تجريبية حيث ابتكر باشلار طريقا ثالثا مغايرا لمفهوم الانتقائية عن الغاية ليدخله عالم الوسيلة ... فما قام به ماركس في الجدل خير دليل والذي استعاره منه هيغل بعد أن أفرغه من سياقه الأصلي .. وما فعله التوسير الذي استعار من باشلار مفهوم (القطيعة الابستمولوجية) والذي استخدمه كأداة معرفية فعالة لاعادة قراءة ماركس قراءة جديدة تفصل بين الخطاب العلمي وبين خطابه الايديولوجي وعليه بنى التوسير قطيعته الابستومولوجية بين ماركس الشاب وماركس البالغ (ماركس الايديولوجي، ماركس العلمي) كذلك الذي قام به ماركيوز الذي اعتمد في رسمه لمعالم المجتمع الجديد الذي يريده محل المجتمع القائم على اعادة تفسير افكار فرويد على نحو يتيح تعويض ما يفتقر اليه الفكر الماركسي، بعد أن وفق بين أراء ماركس الشاب وبين تعاليم فرويد بعد مزجها بعناصر من نيتشه والذي ساعدته الى تحرر "الايروس" من سلطة الواقع، حيث وجد ماركيوز في مقولة فرويد التي تقول ان الحضارة مبنية على الاخضاع المستمر للغرائز الانسانية مقبولة .. وتساعدنا في الوصول الى بناء ثقافة غير قمعية اعتمادا على مفاهيم فرويد..
حيث اعتبر ماركيوز ان تاريخ الانسان هو تاريخ قمعه لأن الثقافة لا تمارس قمعا وقصرا على وجوده الاجتماعي فحسب بل وعلى الوجود البيولوجي..

أما الصفة الثانية التي تميز فلسفة باشلار وهي صفة العقلانية .. فهي تختلف عن كل العقلانيات التي سبقتها بإرادتها في أن تنطبق ؟ فماذا يعني ذلك؟ يقول باشلار "التطبيق بالنسبة للعقلانية العلمية ليس فشلا ولا تسوية انها تسعى الى أن تنطبق، فإذا ما طبقت بطريقة سيئة فإنها تعمل على تغيير ما بها دون أن تفكر من أجل ذلك في مبادئها بل تكون أكثر طواعية للتبدل، وهذا ما يجعل التمايز والاختلاف يظهر للعيان بين العقلانية الكلاسيكية والعقلانية العلمية عند باشلار والتي أهم ما يميز وجودها كونها عقلانية تطبيقية وتحمل برنامج عمل محدد قابل للانجاز من هنا ميز باشلار بين فلسفة اليوم الواحد (العقلانية التقليدية) والتي تعمل على تأكيد ذاتها من يوم لاخر وتستحوذ على مبادىء العقل الثابتة ويحركها الترديد الميكانيكي في حين أن التطبيقية المعاصرة هي عقلانية العلم المعاصر الذي يتطور بسرعة مذهلة حيحث يرفض باشلار السقوط في فخ التجربة البسيطة التي تنظر الى الفكرة (النظرية) على أنها تلخيص للتجربة ذاتها نسخة من الواقع ..

فالواقع عند باشلار لا يكتسب علميته من كينونته بل من خلال عقلنتها والسيطرة على قوانين وجودها وميكانيزمات ديمومتها .. أي عندما نتمكن من تملك فكرة عنها قابلة للتطبيق .. على أن تتسم هذه العقلانية بالتفتح والمرونة والجدلية التي لا تستلهم جدلها من المنطق الذي لا يبحث في تطابق الفكرة مع ذاتها بل جدل يخضع المبادئ لصيرورة التطور العلمي ..
فالعلم هو مقياس التطور ودعامته الاساسية لليقين. ان الموقف العلمي العقلاني الاصيل هو ذلك الموقف الذي يرسم لنفس اشكالية معينة ينطلق منها لنسج تحليلاته التي تبتغي ان تصل في النهاية الى نتائج

-اما الخاصية الثالثة للعقلانية التطبيقية عند باشلار فهي عقلانيات متعددة يدرس كلا منها ميدان علمي معين (عقلانية خاصة بالفيزياء، بالطب،بالرياضيات، بالفلك) اذ لا يمكن لعقلانية واحدة التعبير عن مستويات متعددة للمعرفة العلمية .. فهناك خصوصية معينة لكل ميدان من ميادين المعرفة.. فهي ترفض التعميم، وترفض استخدام أدوات المادية التقليدية التي تطبق منهجها على المواقف جميعها لذا نجد باشلار يميل الى دراسة مادية المادة والسيطرة على ميكانزماتها وقوانينها من خلال منهجها الابستمولوجي الذي ميزه كفيلسوف تعامل مع كل موقف بما يكفل له خصوصيته وميزاته لذا ولد مفهوم العائق الابستمولوجي ومفهوم القطيعة الابستمولوجية عند باشلار وتمايز به في عقلانيته التطبيقية التي تجاوزت مظاهر مادية المادة وسيطرة على ماهياتها.