صفقة القرن : حان وقت الحصاد المر
تاريخ النشر : 2020-01-25 22:35

تأسست السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994 وهي تمثل استحقاقا لاتفاق أوسلو الموقع بين العدو الصهيوني ومنظمة التحرير الفلسطينية في 13/9/1993 . ولأن هذا الاتفاق كان اتفاق اطار مرحلي مدته خمس سنوات , فإنه أجل القضايا الرئيسية للصراع بما فيها حجم ومصير الأراضي الخاضعة للسلطة الفلسطينية (الدولة المأمولة) , وقسم أراضي الضفة الغربية الى ثلاث أصناف أ , ب , ج . 
ولذلك فان شكل السلطة الفلسطينية , وصلاحيتها , وحجمها , بقي مبهما وخاضعا للتفاوض , ومعلقا بموازين القوى ,ومفاعيل السياسة , ومآلات المفاوضات .

وبشكل عام أملت السلطة أن تتحول في نهاية المرحلة الانتقالية الى دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967 مع علاقات طبيعية مع جارتها إسرائيل وراهنت في ذلك على عوامل أهمها : 
1-    حسم الخيارات والانخراط في مسار الشراكة مع العدو فيما اطلق عليه (عملية السلام) والالتزام بتقديم تنازلات تاريخية بالقبول والاعتراف (بدولة إسرائيل) على 78% من ارض فلسطين التاريخية , وإلغاء بنود الميثاق الوطني الفلسطيني الداعية الى إزالة إسرائيل , وإدانة كل اشكال الإرهاب (المقاومة الفلسطينية) وملاحقتها .
2-    الموقف الرسمي العربي والإسلامي الداعم -بشكل عام- للتفاوض والمستعد للتطبيع الكامل مع إسرائيل مقابل دولة فلسطينية في حدود 4 حزيران 67 والمتمثل بشعار (الأرض مقابل السلام) , ومبادرة الملك فهد والتي أصبح اسمها (المبادرة العربية) في بيروت عام 2002 . 
3-    الموقف الدولي وقرارات ما يسمى (الشرعية الدولية) التي تعتبر الضفة وغزة بشكل عام أراضي محتلة واشهرها القرار 242 والقرار 338 .
ولاثبات حسم الخيارات وحسن النوايا اسقطت السلطة الفلسطينية من رهاناتها الموقف الداخلي الفلسطيني , واصطدمت منذ وقت مبكر مع قوى المقاومة الفلسطينية ممثلة في حركتي (حماس والجهاد الإسلامي) وبدأ ذلك بالاعتداء على المصلين في مسجد فلسطين في مدينة غزة عقب صلاة جمعة 18 /11/1994 , منعا لمسيرة عزاء الى بيت الشهيد هاني عابد ( أحد قيادات حركة الجهاد الإسلامي) حيث سقط نتيجة هذا الاعتداء 17 شهيدا وعشرات الجرحى , وما تبع ذلك من اعتقالات متكررة في صفوف الحركتين وكذلك محاولات الالتفاف على الحركتين, باستقطاب كوادر منفلشة وابرازها وكأنها تمثل حماس أو الجهاد الإسلامي في مؤسسات السلطة . كذلك أسست السلطة أجهزة أمنية تتنافس في التعاون مع أجهزة أمن العدو ضد قوى المقاومة في رسالة موجهة للعدو وللرأي العام الدولي بأن السلطة جادة في الإيفاء بالتزاماتها الأمنية وفق اتفاق أوسلو , في نفس الوقت الذي كانت فيه إسرائيل تماطل وتسوف في (مسيرة تفاوض) لا تنتهي وتكرر التفاوض في قضايا تفصيلية لا قيمة لها تحت شعار (لا مواعيد مقدسة) , مع استمرارها على ارض الواقع بمضاعفة وتيرة الاستيطان , ومصادرة الأرض , وتهويد القدس , في سياسة عدوانية لم تتوقف يوما بغض النظر عن سياق التفاوض ومواعيد الاتفاقات , وكل ما تقدمه إسرائيل للمفاوض الفلسطيني امتيازات شخصية شكلية لا قيمة لها . 
الشيء الوحيد تقريبا الذي تم بناؤه من أجهزة السلطة هو أجهزة أمنية مرتبطة بالاجهزة الأمنية الإسرائيلية , تحت اشراف وتمويل وتدريب الوسيط الأمريكي النزيه ممثلا بالجنرال الأمريكي (دايتون) بهدف خلق ما يسمي ( الفلسطيني الجديد) متخففا من الشعور بالمسؤولية الوطنية ومهمته قمع قوى المقاومة الفلسطينية بحجة (مقاومة الإرهاب) , وتحت شعار(التعاون الأمني) فيما هو في حقيقة الأمر تبعية أمنية كاملة لا تتردد معها  قوات الجيش الإسرائيلي من اجتياح مناطق السلطة الفلسطينية المصنفة أ متى تشاء وتعتقل من تشاء وتقتل من تشاء , وأوضح مثال هو اعتقال المناضل فؤاد الشوبكي وأمين عام الجبهة الشعبية المناضل أحمد سعدات ورفاقهما من سجن أريحا . 
اكتشف الزعيم ياسر عرفات في (كامب ديفد 2) عمق الهوة التي أوقع فيها الشعب الفلسطيني , وعندما حاول تعديل قواعد اللعبة قليلا في (انتفاضة2000) تم شطبه جهارا نهارا أمام الجميع فيما لم يرجف جفن النظام العربي أو الشرعية الدولية . 
بعد عرفات -رحمه الله- كان هناك استسلام كامل لزعامة السلطة والمنظمة لإرادة العدو , ودخلوا بيت الطاعة الأمريكي بإعلان لا لبس فيه بأن خيار السلطة الأوحد هو (التفاوض والتفاوض) و اشفعت ذلك بالتوغل في (الاستسلام الأمني ) وملاحقة كل أشكال المقاومة بحجة ( القيام بالتزاماتها ) , وقبلت السلطة الدخول من الباب الأمريكي الوحيد المفتوح للشراكة وهو باب ( الشراكة في الحرب على الإرهاب ) , وتغافلت أنها تمثل شعبا حيا لازال يرزح تحت الاحتلال . وأثبتت السلطة أنها ليس فقط لا تدرك طبيعة التفاوض وانعكاس موازين القوة المختلة بل أيضا هي لا تفهم طبيعة العدو ولا طبيعة تحالفاته مع الوسيط الأمريكي والغرب عموما , كما لا تدرك عمق ارتهان ( النظام العربي ) ان صح التعبير للإدارة الامريكية التي يتنفس بمساعدتها وحمايتها .
أفاقت السلطة على صدمة الاعتراف الامريكي بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل وعلا الصراخ حول الوسيط الامريكي غير النزيه , وعن قرارات حاسمة بوقف التنسيق الأمني , وسحب الاعتراف بإسرائيل , ورفض حاد لما يسمى صفقة القرن .
انقشعت موجة الصراخ الأولى عن إصرار السلطة على التمسك بالتفاوض كخيار وحيد والسير نحو الهاوية بعيون مغمضة في نفس الطريق الذي سارت عليه منذ اكثر من ربع قرن , وأقصى ما طرحته  هو أن لا يستأثر الأمريكي وحده بالوساطة في المفاوضات .
ورغم أن اتفاق أوسلو تم تأبينه من قبل الإدارة الامريكية باعترافها بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل وانفراط الموقف الدولي بعد هذا الاعتراف , ومن قبل إسرائيل التي صعدت وتيرة التهويد والاستيطان الى مستوى غير مسبوق , وصولا الى تحويل سجل الأراضي في الضفة الغربية من الإدارة المدنية الى سجل الطابو في إسرائيل , وانشاء سبع محميات طبيعية في مناطق ج  تابعة للسيادة الإسرائيلية وبعضها مقام على ارض ملكية خاصة , واستحداث منصب خاص في وزارة الحرب الصهيونية لفرض السيادة في الضفة الغربية . رغم ذلك الا ان السلطة بلعت كل تهديداتها ولازالت تناشد الغرب بالتدخل للحفاظ على (المسيرة السياسية) وكأنها تريد تخليد هذا المسار, أو كأن استمرار وجود السلطة في حد ذاته أصبح هو الهدف .
إن الوعود الانتخابية لانتخابات الكنيست23 بضم الأغوار وشمال البحر الميت ليست مجرد مناورات انتخابية بين حزبي الليكود وأزرق – أبيض , بل أصبحت تحظى بإجماع الأحزاب الكبيرة في إسرائيل مع تسارع وتيرة بناء المستوطنات وتوسيع البناء في الخليل وهدم بيوت القدس واخلاء مساكن حي سلوان لصالح جمعية ( عطريت كوهانيم - )  واستباحة مناطق ج التي تمثل 60% من مساحة الضفة الغربية , كلها مؤشرات خطيرة لما يتم فرضه من وقائع بالقوة .
في مقابلة صحفية سابقة في شهر 12 /2017 مع وزير الحرب الصهيوني (بينت) و عندما سئل عن حل الدولتين قال : ان حل الدولتين قائم دولة غزة ودولة إسرائيل .
اليوم ومع الحديث عن قرب اعلان ترمب لما يسمى (صفقة القرن) تبدأ موجة صراخ جديدة للسلطة , ولكنها هذه المرة تأخذ شكل تحذيرات أقرب الى التحليل السياسي , لأن تهديدات السلطة -مع تكرارها- أصبحت هزلية لا احد يأخذها على محمل الجد : 
-    رغم التهديد بوقف ما يسمى بالتنسيق الأمني فهو مستمر وبفضله أعلنت إسرائيل قبل أيام قليلة على لسان رئيس هيئة الأركان أنها أفشلت مئات العمليات الفدائية في الضفة الغربية عام 2019 . 
-    وبدل اعلان السلطة عن انتهاء اتفاق أوسلو تعلن أن ( الفترة الانتقالية لم تعد قائمة ) !! .
-    وبدل سحب الاعتراف بإسرائيل تكلف اللجنة التنفيذية باتخاذ قرار (تعليق العلاقة بها) في الوقت المناسب . 
ولسان حال السلطة يقول مكانك سر , والانتظار سيد الموقف , والرهان على إدارة أمريكية جديدة , أو على انتخابات إسرائيل لتحسين شروط التفاوض . 
سلطة تراوح مكانها , وتكرر نفسها , وتغلق خياراتها , تستجدي مساعدة الغرب في معركة دبلوماسية وملاحقة قضائية , تظهر بمظهر المتحدي ولكنها تحدث ضجيجا دون ان تحقق شيئا طالما هناك استمرار في الاستسلام لقواعد اللعبة اللعينة , وطالما بقي الرهان على الخارج فلا أحد مستعد للقتال من أجلها . 
يمكن اجمال الموقف عشية النية بإعلان صفقة القرن بالتالي : 
أولا / فلسطينيا : 
-    السلطة في رام الله تستمر في إدارة الظهر لترتيب البيت الداخلي الفلسطيني : لا انتخابات , ولا عقد الاطار القيادي المؤقت أو اللجنة التحضيرية للمجلس الوطني ولا ما يحزنون , وتستمر بالمناشدات الخارجية واستعدادها لاستئناف المفاوضات وهذا يشجع العدو ليصبح اكثر شراسة في مواجهة كل اشكال المقاومة  بما فيها (المقاومة الشعبية) في الضفة المستباحة متذرعا بمواجهة الفوضى المحتملة في صراعات خلافة أبو مازن.
-    تم تعطيل طاقة أكثر من نصف الشعب الفلسطيني في الشتات بعد أن تم تبهيت منظمة التحرير الفسطينية ومؤسساتها لصالح مؤسسات السلطة التي باتت تهيمن على المنظمة ومقدراتها .كما تم اسقاط أكثر من مليون ونصف فلسطيني من الحساب باعتبارهم مواطنين في دولة إسرائيل .
-    حماس في غزة تواصل التوجه نحو تفاهمات التهدئة وتحسين الوضع المعيشي لسكان القطاع في الوقت التي تحرص فيه أن تبقى قائدة للمقاومة ولو بجولات قصيرة من التصعيد دون انجرار لمعركة في مرحلة تسميها هي ( مراكمة القوة) . وهكذا تنشغل السلطة في مواجهة حماس فيما تستبيح إسرائيل الضفة الغربية .
ثانيا / على المستوى العربي : أصبحت القضية الفلسطينية عبئا على النظام العربي الرسمي طرحها عن كاهله في أوسلو تحت شعار (نقبل بما يقبل به الفلسطينيون) لتصبح بذلك على هامش الاهتمام العربي الرسمي في عمومه , ثم يلقيها ارضا في المبادرة العربية للسلام ويبدأ بعد ذلك مرحلة مد جسور الشراكة مع العدو الصهيوني , ويصبح جزءا من الضغط على الشعب الفلسطيني وحصاره , ويتلاشى بذلك الخطاب القديم حول ( العدو الإسرائيلي) و (خطر إسرائيل) , وتتحول إسرائيل في خطاب الأنظمة العربية وأبواقها بشكل عام الى حليف استراتيجي وشريك تجاري في تحالفات اتفاق شرق المتوسط . ويتشكل وعي جديد -عند الطبقة الحاكمة على الأقل- بأن مصير المنطقة مرتبط بالتعاون والتحالف مع إسرائيل التي أصبحت في نظرهم محورا قائدا في المنطقة .
وبذلك تخلى ما يسمى (النظام العربي) تماما عن اشتراط تطبيعهم وتعاونهم مع إسرائيل بحل القضية الفلسطينية في حدها الأدنى .
ثالثا / على المستوى الدولي : ليس هناك ما يمكن المراهنة عليه فجميع القوى الدولية بما فيها روسيا تبحث عن مصالحها في المنطقة ومستعدة للاتفاق مع إسرائيل والضغط على الفلسطينيين وتعطي الإدارة الأمريكية التفرد في علاج القضية الفلسطينية . 
فإن هناك تخوف حقيقي من توقيت ومضمون ما يسمى (صفقة القرن)  , والتي هي -في تقديري - انخراط في ترتيبات وشراكة إقليمية بين إسرائيل ودول عربية  - مصنفة معتدلة – متجاوزا حل الدولتين ومنطلقا من الوقائع الجديدة التي خلقتها إسرائيل وأمريكا على ارض الضفة الغربية معترفا بالسيادة الإسرائيلية على المستوطنات اليهودية التي تحول بقية أرض الضفة الى معازل حقيقية , ومعترفا بالقدس الموحدة عاصمة للكيان الغاصب , وداعيا الى توطين اللاجئين الفلسطينيين في أماكن شتاتهم , ويحضر الضفة الغربية  لوقائع جديدة خطرة , لنجد الضفة مفتتة بين العدو الذي يرى في أي كيانية فلسطينية  فيها خطرا عليه , وبين الأردن مع حساسيته السياسية التاريخية وتداعيات أي ترتيبات إقليمية عليه  , وما يحدثه ذلك من صدمة على مستوى الإقليم . 
وفي هذه الأحوال فإن التنديد والادانة والصراخ لا يجدي  يا سادة .
هكذا مقدمات تؤدي حتما الى تلك النتائج . ان الإصرار على خيار (التفاوض حياة) يسلمنا الى ( صفقة القرن) لا محالة . وعندما تتخلى أي سلطة عن شعبها الذي هو مصدر قوتها الحقيقية , وتنخرط في تزييف وعيه , فإنها تفقد ثقة الشعب فيها وتنتهي في العراء . 
إن من يستشعر خطورة صفقة القرن ويعلن رفضه لها , عليه أن يستعد للتصدي لهذه الصفقة وامتلاك أوراق القوة التي في مقدمتها قوة الشعب : الايمان بالشعب , بقوته وحيويته وقدرته على التحدي والصمود والانتصار .
قناعة شعب فلسطين تتعاظم بفشل المفاوضات وبأن إسرائيل تريد اقتلاع فلسطين والسيطرة على الإقليم .
وسواء أعلن ترمب عن الصفقة أو لم يعلن فإن الوقائع على الأرض قاسية وصادمة .
ولأن كل التحركات في المنطقة عينها على فلسطين فقد دعونا كما دعا الشرفاء من أبناء شعبنا وأمتنا على مدار الوقت الى بناء تفاهمات وتوافقات وطنية عريضة بعيدا عن الرهانات البائسة واليائسة وبعيدا عن استراتيجية (المفاوضات حياة) , وبلورة ذلك خطوات عملية على ارض الواقع , و آليات عمل , وأشكال مقاومة , وتقاسم أدوار , يزيل وهم ما يسمى ( المسيرة السياسة) , و ( الراعي النزيه ) . يصاحب ذلك تطوير المؤسسات القيادية الفلسطينية بدءا من م.ت.ف  والحوامل السياسية والاجتماعية  في الداخل وفي الشتات التي تتولى النهوض بالمشروع الوطني وتنفيذه بعيدا عن التسويف والعجز و المماطلة , وخلق قيادات تؤمن بالحقوق والثوابت الوطنية ومستعدة للتضحية من اجل تطبيقها , قيادات تؤمن بقدرة الشعب وتضحياته , وترعى وتوجه انتفاضته الشعبية  وتحميها وتحولها الى انتفاضة شعبية عارمة تعكس تلاحم كل مكونات الشعب وقواه في كل أماكن تواجده وتعيد صياغة روح شعب فلسطين بل وروح الأمة . 
والبداية أن نغادر أوهام المفاوضات واستراتيجية المراوحة والانتظار , ولغة المراوغة , ونضبط ألسنتنا على حجم قدراتنا .
ولا زال هناك انفراجة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .