29 عاماً على رحيل القائد الفلسطيني صلاح خلف (أبو إياد)
تاريخ النشر : 2020-01-27 15:58

يصادف يناير 2020 الذكرى 37 للاحتفال بانطلاق الثورة الفلسطينية في يناير 1983م في عدن بعد خروجهم من بيروت 1982م وقد شهدت عدن أكبر حفل عسكري وفني للثورة الفلسطينية حضرته القيادات الفلسطينية وفي مقدمتهم القائد ياسر عرفات وأبو إياد الذي يجلس علي يميني في الصورة من الحفل الفني بسينما بلقيس والذي غنى فيه الفنان الكبير عبد الله حداد أغنية التكتيك العربي. وفي يناير بعد ثمان سنوات اغتيل المناضل أبو إياد في تونس، وكنت قد اطلعت قبل أيام على مقال كتبه الأخ والصديق المناضل عباس زكي عن رفيق نضالنا المشترك المناضل "أبو إياد" وبدأ مقاله بالفقرتين التاليتين:

"تسعة وعشرون عاماً على رحيل من عرف بالرجل الثاني لفتح والقائد الاستثنائي الكبير صلاح خلف " أبو اياد " إلا انه متعاظم الحضور، بقوة ارادته وصلابة مواقفه النابعة من عُمق ثقافته وإيمانه بالله وعدالة قضيته وثقته بجماهير شعبه الذي وصفه الرئيس الراحل " أبو عمار" شعب الجبارين اذا ما فقد الامل صنع المعجزات.

أبو اياد رجل تتوافر فيه سمات القادة الرواد، مهابة الحضور، دماثة في الخلق، مصداقية في القول والصراحة والوضوح حينما يتعلق الامر بالثوابت والبديهيات، رجل حوار من الطراز الرفيع تجاوز في مهمته كل التوقعات لأنه يؤمن بولاء المنتمين حقيقة الى فلسطين، فحلق بعيداً في آفاق السياسة والأمن مع مزيد من الثقافة والفكر والشجاعة النادرة، واختيار الكفاءات القادرة على تنفيذ المهام الصعبة".

وأنا أتفق معه في كل ما قاله عن هذا القائد الكبير الذي خسرته الثورة الفلسطينية وحركات التحرر الوطنية والعربية والعالمية فقد كانت حدوده خارج فلسطين ويحمل في قلبه القضية الفلسطينية التي ناضل واستشهد من أجلها.

لقد تعرفت إليه في أول زيارة له الى عدن وشعرت بالتطابق في وجهات النظر في القضايا الوطنية والقومية والأممية ولهذا تعززت علاقاتنا الشخصية والرسمية منذ لقاءنا في عدن وصنعاء ودمشق وأديس أبابا وحتى استشهاده. وكان يتردد على زيارة عدن للتشاور والتنسيق في المواقف والقضايا الاستراتيجية والأمنية التي تهم نضالنا المشترك، وكنت ألتقي معه برفقة المناضل عباس زكي ممثل منظمة التحرير وعميد السلك الدبلوماسي في عدن حينها، سواء في المكتب أو خارجه وأحيانا أقود به السيارة في عدن إلى محافظتي لحج وأبين لاستكمال حديثنا وللاطلاع على أوضاع هذين المحافظتين وعلى تدريب الفلسطينيين الذين جاؤوا الى عدن بعد عام 1982م واستقروا وتدربوا فيها. وكان يتحدث معي بمرارة عن الخلاف الفلسطيني - الفلسطيني والانقسام في حركة فتح وتشكيل فتح الانتفاضة بقيادة أبو موسى وابو خالد العملة وأبو صالح وقدري بدعم كامل من معمر القذافي، وكنت ضد هذا الانقسام وضد الاستسلام وعرضت عليهم عقد مؤتمر استثنائي لحركة فتح في عدن ولكن استبدل بعقد المجلس الثوري لإيجاد تفاهم ولم يحسم الأمر وكان لدي تفويضاً من قيادة فتح برئاسة الراحل ابو عمار باتخاذ أي إجراءات لرأب الصدع ولو على حساب الشرعية دون التجاوب من قيادة فتح الانتفاضة وإذا كان هناك تغيير في فتح يجب أن يكون من داخلها وليس من خارجها، وكان رأيي أن قوة الثورة والقضية الفلسطينية تكمن في وحدة فتح ومنظمة التحرير بقيادة أبو عمار، ولكن البعض كان يطالب بالتغيير في فتح وفي منظمة التحرير بإقصاء ياسر عرفات لإضعاف المنظمة وقيادتها فالثورة والقضية الفلسطينية ليستا بحاجة إلى تفريخ منظمات أخرى ولكن كان هذا شأن القيادات الفلسطينية وكنا ننصح ولا نتدخل في الشأن الداخلي للمنظمة ولكن بطلب من قيادة فتح وبالتحديد ابو عمار وابو إياد واصلنا الجهود لرأب الصدع الفلسطيني الفلسطيني بين فتح والتحالف الرباعي وانطلقت مسيرة الحوار عدن الجزائر وكان وفد فتح للحوار برئاسة خليل الوزير ابو جهاد الذي تعمقت علاقتي به باعتباره مناضل نموذجي وضم في عضويته هاني الحسن وصخر حبش وعباس زكي وما بين الجزائر وعدن الا انها نجحت بتحقيق وحدة المنظمة واعلان عن قيام دولة فلسطين بالجزائر عام 1988 وقطع الطريق على إقصاء عرفات حيث قال الحكيم جورج حبش "نختلف معه ولا نختلف عليه فهو قائد المسيرة".

وبعد خروجي من السلطة في عدن، والإقامة في صنعاء، كان يتردد ابو إياد على مكتبي ومنزلي في كل زيارة يقوم بها وهو في الطريق الى عدن، للقاء مع القيادة فيها ومع وزير أمن الدولة سعيد صالح ولا يخفي عنهم لقاءاته معي وحرصه على أن يفتح باب الحوار معنا ولكنهم مع الاسف كانوا يرفضون كل المبادرات التي كان يقوم بها هو والمناضل ياسر عرفات الذي كان يحرص هو الآخر على زيارة مكتبي ومنزلي أثناء زياراته الى صنعاء سواء كنت فيها أو خارجها في دمشق أو أديس أو غيرها ، المهم أنه كان يزور المنزل تقديراً للعلاقات الأخوية والنضالية بيننا، ولا يخفي ذلك عند زيارته الى عدن انطلاقا من حرصه على رأب الصدع وفتح باب الحوار لتجاوز الخلافات بيننا وبين الأخوة في عدن. وقد تحدث معي في أحد اللقاءات أن الأخوة في عدن يرحبون بعودة الجميع باستثناء 48 شخصاً فقلت له أضف صفراً والمهم عودة الآخرين من المدنيين والعسكريين الى أعمالهم ووظائفهم ومساكنهم. فتفاجئ بهذا الحديث وقام من مجلسه وقبل رأسي واعتبر ذلك انتصاراً لمهمته عند اللقاء مع الأخوة في عدن وكنت متأكداً أنهم لن يستجيبوا لكل هذه المبادرات من قبل الاشقاء والأصدقاء لأنهم أصيبوا بنشوة النصر المؤقت.

أتذكر أنه زار العراق بعد اجتياح الكويت مع المناضل ياسر عرفات والتقيا بالرئيس صدام حسين وتحدث أبو إياد بصراحة في هذا اللقاء ونصح الرئيس صدام بالانسحاب من الكويت حرصاً على العراق وأمنه واستقراره لأن القوى المعادية للعراق لن تسمح أن يمر هذا الاجتياح بدون عقاب للنظام العراقي وقائده صدام حسين.

ورد عليه الرئيس صدام: هل أنت خائف من الحرب والعدوان على العراق؟ فلدينا ملاجئ.!

اعتبر المناضل أبو إياد أن هذا الرد مسيء له، فقال له: نحن لا نهرب الى الملاجئ ولا نخشى الموت فنحن نواجه العدو والعدوان على شعبنا في فلسطين وعلى الأمة العربية.

نهض صدام ووضع يده على المسدس دون إشهاره، كما نهض أبو إياد وتدخل بينهما ياسر عرفات واعتذر لصدام لتهدئة الموقف حتى يتم الانسحاب من هذا اللقاء بدون أي تصعيد يضر بالعلاقات الفلسطينية العراقية.

فانفض اللقاء دون أن يعتذر أبو إياد وغادر الى تونس. وبعد هذه الحادثة التقى مع أخي عبد الله ناصر محمد الذي كان يعمل في السفارة اليمنية في تونس وشرح له ما حدث وطلب منه أن ينقل ذلك لي بشكل عاجل ورغبته في زيارة دمشق واللقاء مع القيادة السورية والإقامة فيها. فأبلغت القيادة السورية بهذه الرسالة وأكدوا أنهم سيدرسون هذا الطلب والرد. وانتظر أخي الرد ولكنه تأخر واعتبرت عدم الجواب جواب.

سافر أخي الى تونس ونقلت عبره تحياتي للمناضل أبو إياد وقلت له أن الأخوة في سورية يدرسون طلبكم بشأن الزيارة لدمشق، لكي يبقى باب الاتصال مفتوحاً، وكنت أعرف أن هناك جفوة بين القيادة السورية وحركة فتح بقيادة ياسر عرفات ولا أريد الدخول في التفاصيل عن هذا الموضوع. بعد شهر من هذا الاتصال بيني وبين أبو إياد علمت باستشهاده وحزنت لوفاته واستذكرت آخر كلمة قلتها له في صنعاء عام 1989م، «اهتم بأمنك» وكان ردّه عليّ، ولكني أخاف عليك أكثر من الخوف على نفسي، وكانت تلك كلمة الوداع الأخيرة.

وأتذكر بعد ذلك أنني قمت بزيارة الى ليبيا أثناء الحصار الجوي عليها، للقاء القائد معمر القذافي وتحدثنا عن الوحدة اليمنية والقضية الفلسطينية وأمور أخرى. وبعد ذلك توجهت الى تونس عبر البر وقطعنا طريقاً صحراوياً طويلاً، ووصلنا إلى النقطة الحدودية «أبي كماش»، وتوقفنا حتى الانتهاء من إجراءات العبور، وسمحوا لنا بالعبور إلى تونس، ولكن عبر النقاط الجمركية المهدمة التي تحولت إلى أطلال وأرض خراب دكّتها البلدوزرات الليبية بتوجيهات من القائد لأنه كان لا يؤمن بالحواجز والحدود بين الدول والشعوب العربية. ومنها انتقلنا إلى النقطة الجمركية التونسية، حيث يوجد جهاز قوي من الإداريين ورجال الأمن الذين يراقبون كل صغيرة وكبيرة، شاردة وواردة ولا يتركون شيئاً للمصادفة. ورغم ما شعرت به من انزعاج لهذا التشدد الأمني، فقد تمنيت لو أن مثل هذه الإجراءات طبقت في الإجراءات الأمنية والحراسة على المناضلين الفلسطينيين أبو جهاد وأبو إياد اللذين اغتالهما الموساد وعملاؤه وهما في ضيافة تونس.

وبعد هذه الرحلة الطويلة وصلنا مساءً إلى تونس، كانت تبدو جميلة وهي تسبح في محيط من الأضواء والألوان... لا أدري وأنا أمرّ بأحياء تونس وشوارعها وأزقتها، لماذا سيطرت عليّ بشكل ملحّ صورتا «أبو جهاد» و«أبو إياد» اللذين اغتيلا هنا، وتخيلت كيف تسلل القتلة إليهما وأزهقوا روحيهما، فقد كانت تربطني بالبطلين الفلسطينيين علاقة صداقة حميمة، فقد كانا من أنبل وأشجع الرجال.

قرأت على روحهما الفاتحة في سري، ودعوت لهما بالخلود والرحمة... وكان قد استشهد قبلهما غسان كنفاني وكمال عدوان وكمال ناصر ولحق بهم بعد ذلك القائدين الكبيرين أبو عمار وجورج حبش إضافة الى غيرهم من القادة والمناضلين الفلسطينيين... ولكن قضية الشعب الفلسطيني لن تموت فهذا الشعب يحمل غصن الزيتون بيد ويحمل السلاح والحجارة باليد الأخرى، ومعهم جماهير الأمة العربية العظيمة من المحيط الى الخليج والتي أسقطت قادة أنظمة الفساد في مصر والسودان وتونس والجزائر وغيرها من الدول العربية فهذه الأمة لا ولن تقهر وهي تحمل في قلبها قضية فلسطين المقدسة وحتماً ستنتصر هذه الشعوب على الظلم والاستبداد والفساد والاحتلال، وحان الوقت الذي يجب أن يلتف فيه الشعب الفلسطيني العظيم وقياداته المخلصة حول مشروع وطني يتجاوز فيه خلافات القيادات والزعامات والمناصب من أجل هدف كبير ونبيل بقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، بإذن الله.

المجد والخلود لشهداء الثورة الفلسطينية وفي مقدمتهم المناضل الكبير ياسر عرفات.