نميمة البلد: مواصلات الموظفين وبسام زكانه الذي اختلف معه بمحبة
تاريخ النشر : 2020-05-08 14:04

لم أكن انتوي أن اكتب عن تعميم أمين عام مجلس الوزراء المتعلق بمواصلات الموظفين وعلاوة المخاطرة، من باب ان هذا الامر قد طُرقَ في الحكومات السابقة، ولم يجدي نفعا، ومن باب اخر ان الحكومة الحالية لا تؤمن بالنقد والتعقيب والتقييم لأعمالها وقراراتها، ومن باب ثالث ان ما كتبه صديقي بسام زكارنه، الذي اختلف معه كثيرا  بمحبة، في مقاله الأخير كان وافيا وهو على حق، ومن باب آخر انني كتبت أكثر من مرة في هذا الموضوع في عهد الحكومات السابقة لوضع حدٍ يساعد الحكومة والموظفين على السواء، ومن باب رابع أن هذا الشهر هو الشهر الأخير لي في الوظيفة العامة، في ظني، فقد تقدمت بطلب تقاعد مبكر قبل أكثر من شهرين  (أي قبل اعلان حالة الطوارئ بقليل) وانتظر قرار مجلس الوزراء بهذا الشأن.

وتخوفي الدائم من إصرار الحكومة على هذه القضية يعود الى مسألتين الأولى جر الموظفين الى جريمة التحايل لترتيب أوراق السكن، والثانية جعل الموظفين عسسا على بعضهم البعض والثانية أسوء من الأولى ففيها تغيب الثقة بين الزملاء أو جعلهم يغضون الطرف عن مخالفة ما يعني مستقبلا غض النظر عن مخالفات أخرى أكثر مقتا. إن المساهمة في النقاش هنا تتطلب الجرأة في الطرح ووضع حلول عقلانية لهذه المسألة التي تؤرق الاثنين الحكومة والموظف.  

ان إعادة الحديث عن مواصلات الموظفين، يفتح نقاشا دائما في جلسات الموظفين دون حسما لهذا الامر كما حصل على مدار السنوات السبعة الفارطة. هذا الامر "عدم الحسم" يهدر الوقت ويٌثير المشاعر رفضا وقبولا هنا وهناك. أجزم أنني لدي القدرة على التصريح والقول علنا وليس في السر، كما يحدث في دهاليز وأروقة المؤسسة الفلسطينية، مؤيدا أو معارضا لقرار أي حكومة دون خوف منها أو من خصومها. لكن المسألة لا تتعلق بالمعارضة أو التأييد للحكومة أو الاجراء بل في المساهمة في نقاش الموضوع أو الاجراء للحصول على أفضل النتائج من جهة، والتقليل من الاثار السلبية التي تنعكس على الأطراف المختلفة لأي قرار من جهة ثانية.

اتفق تماما مع الحكومة ببحث مسألة المواصلات ودفعها في إطار اصلاح شامل بخطة ترشيد وتقشف للنفقات معلنة وواضحة، وعدم تحميل الخزينة العامة أعباء مالية وإرهاقها بنفقات غير ضرورية من جهة، والاستقرار الاجتماعي من جهة ثانية. وهي مسألة مركزية في تفكير أي حكومة رشيدة تتطلع الى المستقبل بنظر ثاقب، وبخطة قادرة على النهوض بمؤسسات الدولة للحفاظ على مكتسباتها ومتانتها. 

وبغض النظر عن الأرقام المتداولة لحجم توفير هذا القرار على خزينة الدولة، والتي تحتاج الى تمحيص أكبر، فإن اعادة النظر في مواصلات الموظفين في إطار خطة ترشيد للنفقات يمكن العمل من أجلها والوقوف معها مع الأخذ بعين الاعتبار احتياجات الاطراف المختلفة والتجارب السابقة. إن تفهم الترشيد أو التقشف ضروري لكن تفهم ظروف الحياة لمن "استوطن" العاصمة ضرورة ايضا. ما ستقول الحكومة في غلاء اسعار الشقق في العاصمة "رام الله الحلم" أهي ستدفع فروق الاسعار بين المدن وفوائد البنوك، أو ستدفع غلاء الاسعار الباريسية في العاصمة، أو تحسين جودة التعليم في المدارس الحكومية لوقف عبئ رسوم المدارس الخاصة المبالغ بها في كثير من المدارس. أم هي قادرة على تحمل عبئ عودتهم الى الديار وتحمل تأخير الاحتلال لهم على الحواجز؛ فأغلب من هرول الى العاصمة هرب من اذلال الاحتلال على الحواجز في سنوات الانتفاضة الثانية من ناحية، والقيام بواجبهم الوظيفي بالحضور في مواقيت الدوام وتقديم الخدمات من ناحية ثانية.

كما أن هذا الامر يتطلب قراءة التطورات التي حصلت لهذه المسألة منذ نشأة السلطة الوطنية وإصدار قانون الخدمة المدينة عام 1998؛ فعند نقاشه لقانون الخدمة المدنية لسنة 1998، هدف المُشَرّعُ الفلسطيني، لوضع علاوة المواصلات ضمن الراتب، إلى زيادة الراتب للموظفين خاصة اصحاب الدرجات الدنيا لتتلاءم مع ظروف المعيشة، وهي امتياز يحظى به الموظف على رأس عمله، لكن بخبث تشريعي، لأنها لن تحسب في الراتب التقاعدي عند انتهاء سنوات الخدمة بمعنى اخر لا يثقل كاهل صندوق التقاعد. وقد فات على المشرعِ عام 2005 عند تعديل القانون ذاته النظر في هذا الامتياز حينما عدل جدول الرواتب ورفعه بنسبة 8% التي هي تشكل تقريبا نسبة المواصلات من مجمل رواتب الموظفين.

في ظني أن العقلنة في مسألة اصلاح مواصلات الموظفين لن تأتي بضربة واحدة بل تحتاج الى خطوات وإجراءات على المدى الطويل لإنهائها، ويمكن النظر في خطوات اصلاحية كبيرة اتخذتها الحكومات الفلسطينية في مجال الخدمة المدنية، وذلك في إطار استلهام العبر، وهي:

أولا: في العام 2000 اتخذت الحكومة قرارا بوقف التعيين على مالية رام الله للتخلص من الاعباء التقاعدية على الخزينة العامة المعمول به في قانون التقاعد الاردني القديم، بحيث يصبح موظفو السلطة الفلسطينية جميعا على "ديوان غزة" مرتبطين بصندوق التقاعد العام دون انتهاك لحقوق الاشخاص الذين عينوا على مالية رام الله. هذا يعني اجراء تعديل تشريعي لقانون الخدمة المدنية بإلغاء بند المواصلات في احتساب الراتب عند التوظيف الجديد، والتعاقد مع الموظفين على مكان العمل بغض النظر عن مكان الاقامة للموظف الذي قبل بشروط الاعلان لهذه الوظيفة أو تلك.

ثانيا: التخلص من عبئ تكلفة المواصلات إما بعمل مقاصة مع علاوة الدرجة عند الترقية في نفس الفئة والانتقال الى الفئة أعلى الى أن ينتهي بند المواصلات للموظف على غرار التخلص من سنوات "التنظيم".

ثالثا: في العام 2010 وضعت الحكومة شروطا لضبط صرف هذا النوع من الامتياز "المواصلات" لكنها فشلت في عملية الضبط هذه بسبب ايجاد وسائل للتحايل عليها. في كثير من الاحيان يؤمن الناس ان القانون وضع لخرقه، خاصة عند الحاجة وهي قادرة على التكيف مع هذا الخرق. لذا الوضوح عدل والقواعد التشريعية المُحكمة قد توفر أو تسعى لتوفير هذا العدل. لكن أيضا الانصاف لازم عند النظر في المسائل الاجتماعية، والحكمة مطلوبة عند النظر في مصالح الافراد. وأجزم انها ثَلاثُتها، العدل والإنصاف والحكمة، مطلوبة عند النظر في مسألة مواصلات الموظفين. من نافل القول "لن يصلح العطار ما أفسده الدهر". في المقابل الدهرُ وحده كفيلٌ بإصلاح ما أفسده لكن كي يستقيم هذا الامر يحتاج الى خطة (طويلة الامد)، واضحة (في إجراءاتها)، وصارمة وعادلة ومنصفة.

   في ظني، أن الحكومة الحالية تحتاج الى عقلنة المسألة على المستوى الآني ووقف الحديث عن مسائل قد تثير قلقا وتوترات داخل الوظيفة العامة لأسباب لا تتعلق بالمال فقط بقدر ما تتعلق بتعزيز شرعيتها بعد أن هزت القرارات بقوانين الخاصة بكبار الموظفين الثقة القائمة بين الحكومة وبين الموظفين الذين في اغلبهم من ضعاف الرواتب، وان الحكومة تحتاج الى تقديم التشجيع لهؤلاء الموظفين، حين العودة، دون وجود أية احباطات إضافية، بعد عزل طويل إثر جائحة كورونا، لمزيد من العمل والنشاط.

ملاحظة أولى: الجانب الأكبر من هذا المقال تم تناوله في مقالين سابقين للكاتب نشرا عام 2016 يتناولان المساهمة في التفكير، ويوفران أرضية للنقاش للأطراف المختلفة.

ملاحظة ثانية: أعتذر من القراء عن طول هذا المقال لأسباب تقنية ليس أكثر.