آن أوان الشراكة
تاريخ النشر : 2020-06-07 23:36

العنف القائم على أساس النوع الاجتماعي، حكاية تتكرر يوميا في حياة الملايين من النساء والفتيات في مختلف بلدان العالم.

قد تختلف الحكاية من مكان لآخر، تتشظى تفاصيلها في مفاصل متعددة من الحياة.. ولكن يبدو أنها لن تنتهي.

بُذلت الكثير من الأموال، صُممت العديد من البرامج والمشاريع لمناهضته، جند العديد من الناس (رجالا ونساء) أنفسهم / أنفسهن للعمل في هذا الميدان ومحاولة التقليل منه أو القضاء عليه.

حكاية العنف في العراق، متجذرة، ممتدة جذورها في أعماق التأريخ، والتراث الديني والمعرفي والفكري والثقافي لأبناء البلد.. وما يعّـقد تلك الحكاية ويزيد من قساوتها وغرابتها، أن هذا العنف قد تم شرعنته وتقنينه وتسيّده.. فكان الحديث عنه في بداية العمل المدني منذ عام 2003، حديثا صعبا، خطرا.. قد يؤدي بصاحبه الى مخاطر لا تحمد عقباها..

بمزيد من النضال والعمل الجبار للعديد من النشطاء والناشطات في هذا المجال، أصبح الحديث والعمل بقضايا العنف القائم على أساس النوع الإجتماعي، مستساغا ومقبولا نوعا ما، وأن كان لا يزال يعتبر تحديا صعبا لمن يروم التغيير الحقيقي خاصة اذا كانت إمرأة.

العمل في مجال العنف القائم على أساس النوع الإجتماعي، يحتاج الى أدوات عديدة، وتظافر جهود مؤسسات حكومية ومدنية ومنظمات دولية وأفراد حتى نتمكن من الوصول الى تحقيق العدالة والمساواة للنساء والفتيات في كل مكان، العدالة والمساواة في الوصول الى الفرص والحقوق.

وبغض النظر عن تلك الأدوات والجهود، فأن الاساس ينطلق من نقطة صغيرة ولكنها مهمة، يبدأ من (دماغ الإنسان)، من بؤرة معرفية مركّزة حول (مكانة المرأة في الوجود)، هل هي متساوية مع مكانة الرجل؟ هل لديها قدرات مماثلة؟ أيمكن لعقلها أن يفكر كما يفكر عقل الرجل؟ هل تملك صلاحيات الإنسان المتكامل كما يملك الرجل؟

حربنا مع العنف، حرب وعي لا سلوك.. لأن الوعي هو من ينتج السلوك.

لذلك علينا البدء من قناعات الرجال والنساء أيضا، حول هذه المكانة، وهذا الدور، وهذا الوجود.

فالجذر الذي تستند عليه شجرة العنف القائم على أساس النوع الإجتماعي وتتغذى عليه لتكبر وتنمو، يكمن في هذه البؤرة المعرفية في دماغ الرجال والنساء..

لذلك أن فكرنا بمناهضة العنف أو التقليل منه، علينا أن نبدأ بهذا الجذر.. نعمل على إزالته.

ومن المؤكد أننا غير قادرين على إزالة جذر شجرة بعمر مئات الالآف من السنين، في ليلة وضحاها، وبسهولة.

علينا أن نعمل بهدوء وصدق وإستمرار، وأن نعرف كيف نضرب بإحكام.

البداية ستكون من الوعي. وعي الإنسان بنفسه، سواء الرجل أو المرأة.. أن يعيدا تركيبة قناعاتهما تجاه أنفسهما وتجاه الآخر وتجاه الحياة المشتركة بينهما.

الرجل، هو السبب الرئيسي في تجذير العنف القائم على أساس النوع الاجتماعي، فهو من كتب التأريخ وفسر الكتب السماوية ووثق الروايات، هو الذي شرّع القوانين وأسس  لمنظومة العمل والاقتصاد والتجارة والسياسة.. هو من يملك الموارد والسلطة.. وهو عادةً من تخشاه المرأة.

لذلك لا يمكن الحديث عن مناهضة للعنف القائم على أساس النوع الاجتماعي بمعزل عن الرجل، وبعيدا عنه.. لابد أن يكون هو جزء من هذه العملية ومشارك فعّال فيها.. فمن الضروري ان يُشرك في برامج التوعية ولا فرق بين الرجل المتعلم الاكاديمي، وبين الرجل بسيط التعليم والرجل غير  المتعلم، ولا فرق في الجغرافية التي يقطنها الرجل وإنتمائاته الأخرى.. ففي قضية المرأة يتساوى جميع الرجال.. على إختلاف مذاهبهم وإنتمائاتهم وثقافتهم ومستواهم التعليمي، يلتقون في نقطة واحدة: (الأفضلية للرجال).. وهذا يعني تهميش ومصادرة لحقوق المرأة وإلغاء لأدوارها القيادية في المجتمع والأسرة.

وفي هذا المضمار، هناك فرضيتان، الأولى تستند: الى ان الرجل بطبعه ليس سيئا، إنما بحكم التربية المتعارف عليها والكم الهائل من الموروثات المعرفية والفكرية والدينية التي أنتجت هذا السلوك.. فهو ليس سيئا وإنما يعتقد بان هذا هو الوضع الطبيعي وهذا هو قانون الحياة.. القانون الذي جعله الأفضل وكلّفه بأن يكون سيدا.

ما نراه اليوم من سلوكيات ذكورية في واقعنا الاسري والمجتمعي والسياسي، هو نتاج للتربية الاسرية والتنشئة الاجتماعية والتغذية من مصادر المعرفة التقليدية الشائعة التي ركزت مفاهيم السلطة والقوة بيد الرجال وحدهم.

أما الفرضية الثانية: تعتقد بأن الرجل يعرف، ويعلم.. ولكنه يخشى فقدان السلطة التي لديه، سلطة المنزل، سلطة العمل، سلطة المجتمع، سلطة السياسة.. فأن أعطى للمرأة حقها الكامل في الحصول على حقوقها وممارسة أدوارها القيادية، فماذا سيتبقى له؟

لذلك علينا العمل جاهدين وبكل ما نملك من أدوات للتعامل مع هاتين الفرضيتين. يجب أن نثير علامات استفهام، ونسلط الضوء على الزوايا التي أرادت السلطة الذكورية أن تبقيها في الظلام.. علينا ان ندفع الرجل الى التفكير، الى إعادة النظر في حساباته، الى إثارة مكامن الجهل وعدم المعرفة في داخله (الفرضية الأولى)، والى الإدراك بأن الوقت قد آن للتغيير.. لتقاسم السلطة والموارد معا، وأن القدرات التي يملكها الرجل تمتلكها المرأة أيضا، ولا علاقة للسماء أو الطبيعة بضعف المرأة وتهميشها، الأمر كله متعلق بإرادة الرجل بالاستحواذ على السلطة ليبقى دوما هو السيد (الفرضية الثانية).

علينا التفكير بجدية بأن زمن (العبودية) قد أنتهى، لنفكر ونتحدث بزمن (الشراكة).

شراكة الحياة في مفاصلها المختلفة، شراكة حقيقية تستند الى القيمة الانسانية لكليهما، شراكة تقاسم الوجود، شراكة الادوار القيادية، شراكة الربح والخسارة معا، شراكة التنمية وصناعة الحياة معا.

لذلك لكي نصل الى مرحلة الشراكة الحقيقية، علينا أن نشرك الرجل في مهمة (مناهضة العنف ضد المرأة)، بتحويله من معنف للمرأة الى مساند ومناصر لها. وذلك يتحقق ببرامج التوعية الخاصة بالرجال حول مفهوم النوع الاجتماعي (الجندر) وأهميته في تعزيز حقوق النساء والفتيات وتمكينهن من الوصول الى العدالة في الحصول على الفرص والحقوق، وأثر العنف على حياة النساء والفتيات، وما هي الأدوار التي على الرجل القيام بها ليساعد النساء والفتيات على تخطي هذا العنف.

يجب أن نوجد مناخا مساعدا للرجل لفهم طبيعة المرأة والتعرف على معاناتها اليومية، ومناقشة التفاصيل البسيطة والمهمة التي يستطيع الرجل من خلالها أن يقلل العنف الموجه ضدها أو يساعدها في التغلب عليه سواء صدر منه أو من أقرانه.

سيكون من الضروري مناقشة كل هذا في الهواء الطلق، فان مسيرة إعادة تركيبة الوعي تجاه قضايا المرأة ووجودها وأدوارها، طويلة.. تحتاج الى مزيد الجهد والعمل والوقت.. ولكنها مثمرة، وقادرة على إنقاذ الإنسان من ربق الاستبداد والعبودية.