قضية المرأة 
تاريخ النشر : 2020-07-06 09:45

غسان لم يتجن في هذه الرواية ، اذ فيها نموذجين من النساء ، ذات صفات وخصائص نفسية طاحنة ومختلفة فيما بينهم ، ولا يوجد اي جامع بين هذه المهاجرة التي سلبت الطفل والبيت ومقتنياته وبين التي ترغب باسترداد الابن والبيت والمقتنيات وكل تفاصيل العلاقة التي نشأت وتبلورة ابأ عن جد وقرونا من الزمن ، والصفة الوحيدة بينهما هي خاصية محدود ( المرأة ) ، ألا وهي الأمومة ، فالقضية أشمل من مجرد هذه العلاقة.
مريام هي نموذج للمرأة المهاجرة إلى الجنة ، 

تقول فيحاء عبد الهادي : (مريام امرأة يهودية حقيقية تبكي لأمها في إيطاليا في مكان سكنها المؤقت بعد نكبة أوشفيتز) تعيش شعور (السبت الحقيقي) حيث لا حركة ولا مواصلات، ولاشيء يخل بتقاليد السبوت اليهودية وقد كانت في عقدة الحدث على هامشه غير إلهام فلم تلعب فيه دور بطلة مميزة ، وتركت الأمر ليتساوى بين أطرافه الرئيسية ، إنها ليست شخصية أحادية الجانب تتصرف بشكل أعمى ، هي تكتشف من خلال هذا الموقف وغيرة ، زيف ادعاء الصهاينة بحقهم وزيف ادعائهم بإنسانية مواقفهم مما يجعلنا نلممن أبعاد الشخصية هام وأساس)).
أما الشخصية الأخرى وهي صفية وكانت زوجة صغيرة لا تستطيع أن تدبر أمرها، وهي ريفية تتعود أن تعيش المدنية الكبيرة، وكانت ترى في المدينة تعقيدا كبيرا فتقول : ((ذلك التعقيد الذي كان راعيا لها وغير قابل للحل)).
تزوجت صفية من سعيد قبل الحرب بقليل ، وحين حدثت الحرب كان لها ابنا يسمى خلدون ويوم الحرب بالذات بلغ الشهر الخامس من عمرة ، تبدأ الحرب وتبقى بانتظار زوجها الذي لم يعد، وتنطلق بين الناس والسيارات، حيث يصف لنا غسان ذلك المشهد بأنها لم نر ما تريد هو هذا دليل أخر على أنها أم بسيطة لا تستطيع أن تدبر أمرها بل تنتظر مجيء زوجها هي حيث يقول غسان كنفاني : "كانت تفكر به عندما جاءت أصوات الحرب من وسط المدينة حيث تعرف أنه هناك، وكانت تشعر أنها أكثر أمناً فالتزمت البيت فترة وحين طال غيابه ، هرعت إلى الطريق دون ان تدري على وجه التحديد ما الذي كانت تريده ، وفي ظل التزاحم تجد نفسها تتذكر طفلها الموجود في السرير وتستمر ولم تعد ، لكنها رددت كلمة خلدون ألف مرة ، وكأنها تودعه مرغمة هذه الأم التي بعد عشرين عاماً تكشف عن أساريرها وتجرؤ من جديد على استعادة حيفا إلى ذهنها بكل ما تعني حيفا البيت وحيفا الابن وتحاول مقاومة رفض زوجها ، فهذا الاغتراب النفسي لا يمنعها من ان تخفي دموعها العزيزة خجلاً وشعوراً بالذنب عن ذلك الابن الذي ضاع ، والذي كان يحمل اسم (هو) بعدما اتفق الجميع انه قد مات وتتثبت بوهمها الذي قتلته سنوات طويلة من السؤال والتفتيش عن هذا الضائع ، وترجو من زوجها ، ان يأخذها إلى حيفا معه إذا أراد الذهاب . " خلدون " واكتشف على التو أن ذلك الاسم لم يلفظ فقط في تلك الغرفة منذ زمن طويل ، وإنهما في المرات القليلة التي تحدث عنه، كانا يقولان (هو) وعندما تصل (صفية) إلى حيفا تصل وترى بيتها، تبدى سذاجة مطلقة في معالجة عودة ابنها لها وتتحكم إلى مقولة اللحم والدم حيث تقول حين تعرض مريام فكرة قرار دوف : ( ذلك خيار عادل ...؛ وأنا واثقة أن خلدون سيختار والديه الحقيقيين لا يمكن أن يتنكر لنداء الدم واللحم).
وهنا تبدو إلى أي درجة كانت ساذجة هذه الأم المحكومة بشعورها الخاص كأم تفكر عن جريمتها بقدرية غبية، لن تجدِ نفعاً في هذا الأمر، ولا تملك دوماً إلا البكاء والانتصار (لقد شاخت هذه المرأة حقاً واستنزفت شبابها وهي تنتظر هذه اللحظة دون أن تعرف أنها لحظة مروعة).
وأخيراً وبعد نقاش حاسم تصل صفية لفقدان الأمل وتعود تخفي حنين وينكر أملها المخبوء مدة عشرين عاماً وذلك لأن غسان علمنا أن الإنسان وأن الإنسان هو ما ينشأ عليه ويتعلمه منذ الصغر حتى بلوغه فترة الوعي ويحطم الكاتب الاعتقاد الشائع عند الناس في موضوع اللحم والدم حيث يقول الإنسان في نهاية المطاف قضية وهكذا قلت وهذا هو الصحيح ولكن أية قضية؟ هذا هو السؤال).
في هذه الرواية أيضاً التقى غسان مع أدب عالمي متميز ينتمي للمدرسة الواقعية الاشتراكية، فقد تقابل كنفاني في هذه الرواية مع مسرحية (برتولت برشت) دائرة الطباشير القوقازية المبنية على القصة التاريخية التي حصلت مع سليمان الحكيم، وانسجم غسان مع برشت في تبني نفس الوقف الثوري من القصة المعروضة فبينما حكم (برشت) بأن يكون الابن لصالح الخادمة (جرشا) التي عانت من ويلات الحرب وصارت والدته التي ربته، فقد حكم غسان لمريام اليهودية، أن يكون لها ابناً عربياً في الأصل بعدما تركته والدته أيضاً بسبب الحرب وكأنهما أرادا أن يقولا بوضوح شديد: أن الأم هي التي تربي وليست الأم التي تلد وكان من الواجب أن تدافع المرأتان عن ابنيهما ولا تسلم بالأمر الواقع هكذا ، فكيف لناقد ان يتجنى على دور المرأة التي تحملت ما لم تتحمله جبال من العذاب ، بان تدعي ان غسان لم يبرز دور المرأة ولم يعطيها حقها في حين ان غسان توقف عن الكتابة فزيائيا وضل حبره يسري في الشرايين كالدم ، وام سعد وصفية ومريم ونادية وليلى يشقا الطريق نحو الغد بكل قوة ، اي بمعني لو ضل غسان الاعطى المرأة اكثر مما اعطاها اي كاتب اخر ولم يتوقف موضوع المرأة عند غسان فقط هنا بل تربعت على منصة النقد الادبي يجادلوه ويجادلهم بالدم دفاعا عن المرأة التي تعتبر في موقع الارض ، الشعب ، الام والاخت والبنت ، انها الثورة الموقدة على الجهل والتخلف .