مصر في مواجهة "عاصفة مكتملة "
تاريخ النشر : 2020-07-27 16:57

تواجه مصر أربعة عواصف عاتية،  تجعل الظرف الحالي في مسميات خبراء الأرصاد الجوية يصنف علي انه قريب من  “العاصفة المكتملة"، لتعدد التحديات ومن اتجاهات مختلفة في آن واحد، بما  لا يترك مسارا او مجالا لتغير الطريق نحوه ، ويفرض مواجهة المشاكل والتحديات مباشرة  بحسم وحكمة للوصول الي بر الامان والاستقرار.

    أول تلك العواصف هي انخفاض معدل نمو الاقتصاد العالمي وانكماش التبادل التجاري ،وما لهما  من تداعيات اقتصادية على المستثمرين والخدمات المرتبطة بانتقال السلع وتبادلها عبر الاسواق، ‏او سفر السائحين من بلد لآخر،  وجاءت تلك العاصفة في وقت كانت فيه مصر في أشد الحاجة لبدء طفرة اقتصادية بعد سنين  عجاف اقتصاديا ، ‏وبعد  اتخاذها  إجراءات اقتصادية صعبة على مواطنيها ، من أجل خلق أرضية مناسبة للرواج الاقتصادي ،  وجذب الاستثمارات الأجنبية، خاصة حول منطقة قناة السويس وإعادة تنشيط أسواق مصر السياحية  ‏والمرافق الخدمية لهذه الصناعة ، بعد  أن توقفت طويلا  نتيجة عدم الاستقرار السياسي والأمني المصاحب لظروف مصر من 2011 إلى 2013.

 

    وفجأة واجه العالم  فيروس الكورونا الجديد ،وفرض  الجميع  القيود  على الحركة المجتمعية ،بما لها من  تداعيات سلبية  على الاقتصاد العالمي والمصري، ‏فتحول  عام 20 20  من  بداية مرحلة انطلاق    إلى مرحلة جديدة من الانكماش الاقتصادي ، واضطرت مصر الاقتراض  مرة أخرى من صندوق النقد الدولي ‏مراعاة لظروف الطبقات الأقل ثراء، فارتفعت  المديونية الوطنية  مرة اخري  ، وهي  تعمل على  تطوير بنيتها ‏الاساسية من طرق واتصالات ومدن ،املا في ‏طفرة اقتصادية سريعة مع تحسن  الظروف   في المستقبل القريب ، مع بدء المجتمع الدولي في استعادة عجلة الحياة الاقتصادية الطبيعية  ،علما أن معدلات النمو الاقتصادي المستهدفة مصريا حتى  قبل الكورونا كانت طموحة وتقدر ب 8 ٪؜ ‏في العام على الأقل لمدة السنوات العشر  القادمة،  بغية ان تتمكن  من الحد  من البطالة ،و استيعاب الشباب الذي يدخل سوق العمل سنويا في ظل معدلات نمو سكاني ارتفع   وصل  إلى3% سنويا ، إن لم تكن  قد تجاوز ذلك ، فقد تفاعلت الظروف الاقتصادية السلبية مع بعضها واحتدت العاصفة وأصبحت أكثرذروة و خطورة .

         وقد يرد البعض وعن حق،  أن  العالم كلة يواجه تلك المشاكل، وانما تتضاعف وتتفاقم التحديات  والمشاكل بالنسبة لمصر  لأنها تواجه أيضا عواصف اخري وفي نفس الوقت، ، وأعني بذلك المشهد السياسي والأمني الكارثي غرب البلاد في ليبيا، في غياب منظومة الدولة الليبية والمؤسسات ‏الوطنية، وانتشار المتطرفين والمرتزقة المنقولين من ساحات أخرى وخاصة من  المشرق،  في ظل سكون واغفال  دولي وعالمي، ‏فضلا عن تبني  تركية أردوغان واليمين التركي نزعة وطنية  وفلسفة أمن قومي بحرية  جديدة  حادة وخشنة ،تحت مسماه  "مافي فاتان أو الوطن الازرق " ، بطموحات واسعة  في بحر إيجا والبحر الأسود وشرق البحر  المتوسط ،،وتنطلق منه بقوة  وبنظرة هجومية  في شمال إفريقيا، بشكل موازى لما نشهده في المشرق العربي وشرق أفريقيا ، سعيا  للهيمنة   على المنطقة ، وتهدف   في ليبيا إلى خلق  المناخ السياسي و الظروف الأمنية الذي  تشكل خطرا مباشرا على  مصر  ، التي تحملها مسؤلية  افشال  انتشار تيار الإسلام السياسي، فضلا عن أنها نقطة الارتكاز الرئيسي في منظومة الدولة الوطنية في العالم العربي ، التي تشكل عقبة أمام الجهود التركية لإعادة كتابة التاريخ واستعادة الأمجاد .القديمة.

 

  وتلك العاصفة     في الساحة الليبية تشكل خطرا على الأمن القومي المصري بشكل مباشرة ،مع الامتداد الطويل للحدود ‏الليبية المصرية والمخاطر الجمة من وجود دولة فاشلة  في الجوار الجغرافي الغربي  ،كقاعدة انطلاق لجماعات  مارقة ومعاديه لمصر، ‏مدعمه من دول مثل تركيا أو غيرها، وهي عاصفة إن لم يتم التصدي لها  سريعا وبعيدا عن الحدود المصرية تحمل في طياته مشاكل وأخطار عديدة،‏تجعل   خيار التحرك   ‏المبكر على غرار ما يتم مع الأمراض الخبيثة و القاتلة   هو السبيل الفعال  الوحيد، اما أن يتم ذلك من خلال جهد سياسي ‏دولي يشمل روسيا وأوروبا وأمريكا، بحيث تواصل  مصر  اتصالاتها مع تلك الأطراف الرئيسية ،ومع    الدول الدائمة في مجلس الأمن ،وحدها أو في جهد مشتركمع ألمانيا او حتى تنضم اليهم الجزائر دولة الجوار الليبي والرئيس القادم لقمة الدول العربية   ، وذلك بغرض تحقيق الآتي  :

1- وقف إطلاق للنار في المواقع الحالية

2-تصوير المواقع من الأقمار الصناعية للدول العظمى كمرجعية لمجلس الأمن الأممي  

3-تشكيل مجموعة مراقبين دوليين ومن الدول المجاورة لتأمين الحدود والسواحل والمطارات والموانئ   لمنع تهريب السلاح والمرتزقة

4.ترتيب  مفاوضات للأطراف الليبية وفقا لخلاصات قمة برلين وإعلان القاهرة 

والخيار السياسي هو الخيار الأفضل، وانما يحتاج الى تحرك سريع لأن استمرار الوضع على الارض على ما هو علية شبه مستحيل، مع تعدد الأطراف الماركة وغير المسؤولة في الساحة الليبية، والمتوقع أن تستغل التوتر الجيوبوليتيكي    وتسعى لاستثماره لصالحها، مما سيفرض خيار العمل العسكري   بكل مخاطرة وحساباته الدقيقة كخيار أوحد،  حفاظا على الأمن القومي المصري.

   والعاصفة الثالثة والكامنة لحظيا  هي الواقعة شرق  مصر ،  بتوقف عملية السلام الفلسطينية الاسرائيلية، وفي ظل مخاطر السعي للقضاء  شبه الكامل على امل  حل  الدولتين من خلال سياسات اسرائيلية  لضم الأراضي  الفلسطينية ،وهدم أسس عملية السلام ،حيث من  شأنها أن تزرع مرة اخرى بذرة  الإحباط واليأس،  وتولد  سلسلة جديدة من العنف المتبادل الفلسطيني الاسرائيلي، تدفع  ثمنها شعوب المنطقة لعقود طويلة قادمة ، وخاصة الفلسطينيين وفي  الدول المجاورة لفلسطين واسرائيل وعلى رأسهم الاردن ومصر وسورية ولبنان، لذا ادعو  إلى اجتماع قمة مصغر  لمصر و الاردن  بحضور الرئيس الفلسطيني بالاضافة الي من يري الحضور من اعضاء جامعة الدول العربية   لبحث ثلاثة قضايا محددة ألا وهي:

 إجراء تقييم صريح وموضوعي  لجدوى التمسك بالسعي لتحقيق حل الدولتين، أو وضع اسس جديدة للتحرك العربي حفاظا علي حق المواطن الفلسطيني في سياق الدولة الواحدة الفلسطينية الاسرائيلية

  وإذا رؤي مواصلة السعي لحل الدولتين  وضع خطة تحرك  لمواجهة للجهود  الاسرائيلية لضم الاراضي الفلسطينية وهدم أسس عملية السلام

بحث سبل اعادة الترويج لمبادرة السلام العربية لتكون أساس مفاوضات السلام اذا ما تم استئنافها

تنشيط جهود المصالحة الفلسطينية دعما للموقف التفاوضي الفلسطيني

     وارى ان العاصفة الرابعة، هي المعضلة الخاصة بمفاوضات سد النهضة الأثيوبي، إزاء التعثر   في إيجاد حلول تفاوضية   ترضي مصر والسودان وإثيوبيا بعد مفاوضات مباشرة امتدت إلى ما يقرب من عقد كامل من الزمن، وذلك رغم عدم اعتراض مصر ‏أو السودان على طموحات أثيوبيا التنموية، ووجود وفرة في المياه في منطقة دول المنبع، ‏بما يكفي لتغطية الاحتياجات المائية لهم جميعا وغيرهم خاصة إذا نظر لمسألة المياه ومصادرها بشكل كامل، وتم الاحترام الكامل للقوانين الدولية المنظمة لاستغلال الأنهار العابرة للحدود.

     وقد  وصلنا إلى هذه النقطة الفارقة رغم التوقيع على إعلان مبادئ عام  2015،الذي ‏اعتبره البعض  نقطة التقاء وانفراجه في المفاوضات، ‏وإنما للأسف أثبتت الأحداث والتطورات غير ذلك ،وظلت  الاختلافات ‏ عالقة ، نتيجة لتمسك أثيوبيا بمواقفها وقيامها ‏بممارسات تعكس  أن الخلاف ليس حول جوانب فنية فحسب، أو حتى حول معدلات مرور المياه عبر السد، وإنما تقع  أساسا حول  تمسك أثيوبيا بأن تكون لها اليد العليا و الوحيدة  علي النيل ، لذا تتمسك بأن يترك الاتفاق الذي يتم التفاوض حولة  حق التفسير والتعديل  حسب الظروف   لأثيوبي وحدها  ،خاصة بالنسبة لمعدلات تدفق المياه عبر السد،، مما يخلق  سابقة أولى في إدارة الأنهار عابره الحدود بأن يكون للدولة واحدة القرار السيادي و المستقل ، ‏وغرض اثيوبيافي ذلك يتجاوز سد النهضة ويرتبط  بمشروعات لبناء سدود أخرى. 

  وعقدت في الأيام الأخيرة مفاوضات تحت رعاية جنوب افريقيا الرئيس الحالي  للاتحاد  الافريقي ،وصدرت تصريحات واقوال مختلفة ومتباينة واحيانا  من الأطراف المختلفة فتحدثت مصر والسودان عن أن هناك موافقة على ان يكون  للاتفاق المستقبلي  طبيعة  الزامية ،وتحدث السودان عن الية فض المنازعات ، و  اقتراح قدمه يفتح الباب  لأثيوبيا لبناء المزيد من السدود ،طالما تم الالتزام في ذلك بقواعد  القانون الدولي المنظمة ، بما في ذلك الحصول على موافقة  الاطراف الأخرى ، في حين استمرت   إثيوبيا في سياسة فرض الأمر الواقع ،وأعلنت  صراحة انهاء   الملء الاول  للسد  خلال المفاوضات  و دون  استئذان اي من الاطراف الاخرى، تأكيدا على حريتها في اتخاذ ما تراه من قرارات ,وأضافت  أن المياه أصبحت لها ، وتجنبت  التعرض لما اتفق عليه من عدمه  ،عدا أنه تقرر استئناف المفاوضات بين الأطراف المعنية ، وكان ملفتا للنظر انها اختارت  في هذا التوقيت بالذات تبادل  الزيارات مع دول علاقاتها متوترة مع مصر.

       وسبق لي أن اقترحت في مقالات سابقة الية متدرجة  لإدارة السد، واخري لحل المنازعات من خلال  انشاء الية تحكيم ثابتة تحسم في الاختلافات  بشكل سريع وملزم ، سعيا للتوصل الى حلول توافقية من خلال التفاوض السياسي، إلا أن من  متابعة المواقف والتحركات الاخيرة  أجد من الصعب الاطمئنان إلى أننا في الطريق إلى انفراجه ، ولا أخفي قلقي من أن سياسة فرض الأمر الواقع الاثيوبية لازالت هي الحاكمة لتحركها ، وأمل ان تثبت الأحداث خطأ تقديراتي ، لأنه في   غياب حلول ترضي الجميع  ‏من المرجح أن تشهد المرحلة القادمة توترا وتصعيدا بين مصر وإثيوبيا على مستويات عدة ،  ‏ويكون لها تداعيات واسعة وبالغه الخطورة على المدى الطويل ، في ظل حساسية هذه المشكلة بالنسبة لمصر ،والتي تعتبرها قضية وجودية  لمستقبل البلاد واحتياجات مواطنيها .

    تواجه مصر قضية أمن قومي حساسة غربا وشرقا وقضية وجودية جنوبا، وفي مناخ من الاضطراب والضباب الاقتصادي والمجتمعي العالمي، "عاصفة متكاملة" بكل معاني الكلمة، تفرض قرارات صعبة، وحسابات دقيقة، وعلى مصر مواجهتها جميعا بتوازن دقيق بين "الحكمة والحسم "