آخر إبداعات "المراجعة النقدية".. معارضة أوسلو بإطلاق النار على البرنامج المرحلي
تاريخ النشر : 2020-07-31 14:18

من تداعيات صفقة ترامب – نتنياهو، ومشروع الضم وتطبيقاته، أنه أحدث في الحالة الوطنية الفلسطينية حواراً (غير منظم) حول «ما العمل»؟

ويمكن القول بكل ثقة إن العقل الجماعي الفلسطيني قد أنتج ردأ في المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الأخيرة، تمثل بسلسلة القرارات الجريئة التي اتخذها، والتي من شأن الإلتزام بها، مغادرة أوسلو والتحرر من قيوده وقيود بروتوكول باريس، في معركة لا يقلل أحد من صعوبتها وتعقيداتها، وما تتطلبه من النخبة السياسية في السلطة وفي م.ت.ف، ومن عموم الفلسطينيين، تقديم تضحيات عالية ومكلفة، للوصول إلى الهدف المنشود، إفشال الخطة وإسقاط الصفقة، ودحر الإحتلال، وطرد الإستيطان، والفوز بالحقوق الوطنية المشروعة، أي بتعبير آخر، خوض حرب الإستقلال بكل الأدوات والسبل والوسائل، في الميدان (كما اعتدنا أن نقول) وفي المحافل الدولية.

في الميدان بالصدام اليومي مع الإحتلال والإستيطان، بما يرتقي إلى مستوى وضرورات مواجهة خطر الإحتلال والإستيطان، وفي المحافل الدولية، بما يعيد القضية الفلسطينية إلى موقعها المحوري على جدول أعمال المجتمع الدولي، والمنظومة العربية من بوابة الحقوق الوطنية وعدالة القضية، بعد أن أعادها ترامب ونتنياهو من بوابة الضم وتصفية القضية والحقوق.
خلاصة الأمر، قرارات المجلس الوطني، والمجالس المركزية، تتلخص في مغادرة أوهام المرحلة الإنتقالية من السلطة إلى الدولة، والعودة مرة أخرى إلى أن القضية الفلسطينية هي قضية تحرر وطني؛ بكل ما تعنيه من متطلبات العمل تحت هذا العنوان وتحت هذا التوصيف الدقيق، والذي، إذا لم يتم التوحد حوله، وتحت وشعاراته، ستبقى الحالة الوطنية تدور حول نفسها، في حوارات ومجادلات ونقاشات (غير منظمة) بينما قطار الضم الذي  انطلق، أخذ يتخطى المحطة تلو المحطة.

والحوار الفلسطيني (غير المنظم) يمكن تلخيصه إلى ثلاث اتجاهات.
• الأول: اتجاه التمسك بأوسلو والمطالبة بإحياء مفاوضات «الحل الدائم» حلاً للصراع.
• الثاني: اتجاه العودة إلى تقاليد العمل النضالي وضروراته كون القضية الوطنية ما زالت قضية تحرر وطني، وتنحية الأوهام التي أهدرت من عمر الشعب والقضية أكثر من ربع قرن، وتطبيق قرارات المؤسسة الوطنية التي أعادت التأكيد على راهنية البرنامج المرحلي.
• الثالث: رفض أوسلو، ورفض البرنامج المرحلي، بإعتبارهما وجهين لبرنامج واحد، والعودة إلى برنامج الدولة الواحدة.

كارثية التمسك بأوسلو

لم تعد السلطة الفلسطينية،  واللجنة التنفيذية في بياناتها وتصريحات أعضائها، تخفي أنها دخلت مرحلة يمكن أن نطلق عليها «العودة إلى الإشتباك التفاوضي مع الجانب الإسرائيلي»؛ وذلك من خلال تقديم عرضها التفاوضي إلى اللجنة الرباعية الدولية، وتساوقها مع الجهود الدولية لإعادة إحياء اللجنة بعد أن أفرغتها الولايات المتحدة من مضمونها واستهلكت الوظيفة التي من أجلها تشكلت (وهذا أمر يحتاج إلى استعادة مفصلة لملابسات ولادة الرباعية ودورها) ثم أحالتها السياسة الأميركية إلى الإستيداع فالموت السريري.
الدعوة لإحياء الرباعية والعودة إلى المفاوضات، حلاً وحيداً للصراع مع الإحتلال، لا يتناقض مع صفقة ترامب – نتنياهو.

فمن شروط المبعوث الأميركي إلى المنطقة وراعي صفقة ترامب كوشنير، ومساعده بيركوفيتش الدعوة إلى عدم «التسرع» بالضم، ضرورة أن يكون الضم من مخرجات المفاوضات كما دعت لها صفقة ترامب.

بيركوفينش بدوره رحب بالدعوة لإستئناف المفاوضات، وقال بوضوح إن الولايات المتحدة تقدم صفقة ترامب لتكون إلى طاولة المفاوضات أساساً للحل بين الطرفين.

أما الحديث عن «حل الدولتين»، فإن ترامب وكوشنير، وبيركوفيتش لا يعارضون هذا الحل، بل دعت له صفقة ترامب حين أقرت أن يكون للفلسطينيين «دولة» على أجزاء من الضفة الفلسطينية كأحد مخرجات العملية التفاوضية مع الجانب الإسرائيلي.

إذن طريق الرباعية يضع الحالة الفلسطينية أمام احتمال الزج بها في مشروع صفقة ترامب. وهذا، بموجب ما يصدر عن الأطراف الفلسطينية من تصريحات، أمر مرفوض وطنيا، ولا يقبل به فلسطيني واحد.

الحل البديل كما تطرحه السلطة مفاوضات تقود إلى «حل الدولتين»، بمرجعية قرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية وبإشراف الرباعية الدولية، وإضافة مراقبين آخرين، عرباً وأوروبيين.

ولا تفوت السلطة الفلسطينية أن توضح استعدادها «للمرونة» في قبولها تبادلاً للأرض متفقاً عليه، الأمر الذي يقرأه المراقبون قبولاً بضم المستوطنات. كما لا يفوتها أن توافق على «حل عادل ومتفق عليه» لقضية اللاجئين (متفق عليه مع إسرائيل) أي بتعبير آخر التنازل عن حق العودة والعودة بدلاً من ذلك إلى المشاريع البديلة كمشروع كلنتون الذي تمت بلورته في مخرجات « جنيف – البحر الميت»، أي استبدال حق العودة بالبحث عن «مكان سكن دائم» للاجئ وبما لا يمس سيادة الدول المضيفة.

أما بشأن القدس فتوافق السلطة على اعتبارها «عاصمة لدولتين»، وفق بروتوكول يتم التوافق عليه (في الوقت الذي مازالت الحالة الوطنية تطالب المجتمع الدولي بأن يرفض الإعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل) وبالتالي تقود العودة إلى الرباعية الدولية، في ظل الموازين الحالية إلى التالي:

1) تقسيم وتفتيت الأرض الفلسطينية في موافقة مبدئية على ضم الكتل الإستيطانية ومحيطها الأمني إلى دولة الإحتلال، والإستعاضة عن ذلك بالجسور والأنفاق والحواجز، لتوفير «التواصل» بين أجزاء الكيان الفلسطيني.
2) تفتيت الشعب الفلسطيني، من خلال استبعاد الفلسطينيين في الـ48 وإسقاطهم من الحسابات الوطنية، واستبعاد اللاجئين من الحل، واسقاط حقهم في العودة، وبتر علاقتهم بالقضية الوطنية، وتحويلهم إلى مجموعات بشرية تائهة بحثاً عن «مكان سكن دائم» وعن «حماية دولية»، هنا وهناك. ليس من بينها «الدولة الفلسطينية».
3) تفتيت القدس، بين مناطق فلسطينية،  ومناطق يهودية، في ظل خارطة تهويدية استيطانية عمرها من عمر الإحتلال، خلقت وقائع قلصت مساحة المنطقة الفلسطينية لصالح «المنطقة اليهودية»، كما أحدثت ميزاناً جديداً للوجود الديمغرافي فيها لصالح الوجود الإسرائيلي اليهودي.    

وعندما يفتقر أصحاب الدعوة للعودة إلى الرباعية الدولية للحجج والذرائع التي تبرر لهم سياستهم التنازلية التفريطة، فإنهم يذهبون فوراً للتلطي خلف البرنامج المرحلي، ويدعون أن ما يتم العمل على إنجازه هو البرنامج الوطني، أي البرنامج المرحلي، في ظل موازين القوى الراهنة.
بين معارضة أوسلو وإطلاق النار على البرنامج المرحلي
معارضو أوسلو لا ينطلقون من مواقع موحدة، وإن كانوا يلتقون على معارضة بهذه الحدة أو تلك.

هم يتفقون مثلاً، على أنه تنازل عن الحقوق الوطنية وتفتيتاً لها وتقسيماً لشعب الفلسطيني وتحويله إلى تجمعات لا يوحدها برنامج.

وهو يتفقون على أن الإتفاق ألحق الضرر بمنظمة التحرير الفلسطينية فأضعف موقعها التمثيلي حين تخلت عن برنامج يوجد الشعب ويوحد الحقوق ويوحد الأرض.

وهو يتفقون على أن مفاوضات أوسلو ألحقت بالقضية الوطنية كوارث كبرى ولا زالت.
وهم يتفقون أيضاً على أن السلطة الفلسطينية تلجمها قيود أوسلو وإلتزاماته، وأنها فشلت في أن تكون حالة إنتقالية نحو الدولة الفلسطينية المستقلة.

وهم يتفقون، وهذا هو الأساس، أن أوسلو شكل انقلاباً على الوحدة الوطنية وعلى البرنامج الوطني، وأدخل القضية والحالة الفلسطينية في نفق الإنقسامات السياسية التي أخذت أشكالاً مختلفة، بعضها مازالت تداعياته تلحق الضرر بالوضع الوطني العام.

ومع ذلك، منهم، في الوقت نفسه، من ينجرفون وراء القول بأن أوسلو هو تطبيق للبرنامج المرحلي، وأن البرنامج المرحلي هو الذي قاد إلى أوسلو.

هنا، المفارقة الكبرى أن بعض من يعارض اتفاق أوسلو، يلتقي مع أصحاب أوسلو على أن الإتفاق هو التطبيق العملي للبرنامج المرحلي. وهذه مفارقة سياسية خطيرة، تحمل في طياتها دلالات كبرى، تحتاج إلى جهد نظري، لتفكيكها سياسياً وطبقياً، ووضعها في إطارها الصحيح بعيداً عن المناكفة والمواقف السطحية.

ترى، هل كان الإجماع الوطني على البرنامج المرحلي عام 1974، وبعده عام 1988، وبينهما، اجماعاً أعمى يمهد، عن وعي (أو غير وعي) للذهاب إلى أوسلو؟ وهل اتسم العقل الفلسطيني طوال سنوات ما قبل أوسلو بهذا القدر من الغباء، بحيث تنجح فئة محدودة، شكلت لنفسها مطبخاً سياسياً خاصاً بها، لتجر المنظمة وكل فصائلها منقادة إلى أوسلو؟ أم أن القضية كانت في أطار صراع سياسي شهدته م.ت.ف، وعبر عن نفسه بمحطات كبرى، منها الموقف من مشروع الأمير (ثم الملك) فهد، وبعده مشروع ريغان، وبعده إعلان القاهرة، وبعده إطار التفاهم المشترك مع عمان، وبعده اتفاق عدن. الجزائر، وإعلان الإستقلال وسياسات التفلت من التزامات الإعلان، ثم الإنجرار وراءه الضغوط العربية والأميركية للإلتحاق بمؤتمر مدربه، ثم واشنطن ثم أوسلو.

القفز  عن كل هذا، دفعة واحدة، لتصويب النار على البرنامج المرحلي، بينما الإدعاء أنه على أسلو، إنما يعبر عن سياسة تائهة، لا تملك رؤية واضحة للخروج من أوسلو والتحرر من قيوده، ولا تملك بديلاً لا لأوسلو، ولا للبرنامج المرحلي (الوطني) سوى الشعارات. فهي تارة مع قرارات المجلس الوطني في دورته الأخيرة، وقرارات المجالس المركزية، وهي تارة أخرى ضد هذه القرارات، حملة وتفصيلاً، وتدعو لحل وحيد هو المقاومة، علماً أن المقاومة ليست برنامجاً، بل هي أسلوب كفاحي. ألم «يقاوم» بن لادن وغيره الوجود السوفييتي في أفغانستان؟ وبعده «قاوم» الوجود الأميركي هنا وهناك. قاوم بموجب برنامجه. وبالتالي لا يصح الحديث عن «المقاومة»، مجردة من برنامج يستطيع أن يستقطب الرأي العام لينخرط فيها.

ورغم كل الضجيج ضد البرنامج المرحلي، فإن الوقائع كلها تؤكد أن الدعوات النضالية، خارج أوسلو، مازالت تتحرك موضوعياً تحت سقف البرنامج المرحلي:
1) فدعواتها النضالية تقتصر على المناطق المحتلة في الـ 67 وقضايا اللاجئين.
2) من نضالاتها التصدي الإستيطان والضم ودحر الإحتلال.
3) الإعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، والتمسك بالأرض المحتلة على حدود 67.
4) تقدم م.ت.ف (وهذا المهم) ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، بموجب برنامجها الوطني، أي البرنامج المرحلي، إذ لا معنى، سياسياً، للفصل بين م.ت.ف وبرنامجها المرحلي، فأساس الموقع التمثيلي لمنظمة التحرير، وأساس معيار كونها جزءاً من المعادلة السياسية في الصراع، وعربياً ودولياً، هو البرنامج المرحلي. وفي هذا السياق كم من محاولة بذلت لإقامة «كيان بديل» لمنظمة التحرير، وفقاً لبرنامج بديل، وفشلت كل هذه المحاولات رغم ما لقيته من رعاية سياسية ومالية ومعنوية إقليمية بل ودولية كبرى منها مثلاً جبهة الإنقاذ الفلسطيني.
5) وأخيراً وليس آخراً، إن من يرفضون أوسلو، وفي سياقه البرنامج المرحلي، لم يقدموا حتى الآن البديل القابل للحياة رغم كل شعارتهم الرنانة والبراقة ولكن كما قبل، ليس كل ما يلمع ذهباً.