ترامب والخروج عن القواعد
تاريخ النشر : 2020-09-18 15:53

مع اقتراب نهاية السنة الرابعة لإدارة الرئيس ترامب التي أخذت مسارا غريبا في السياسة الخارجية الأمريكية ، وانقلبت على الكثير من القواعد الاستراتيجية والتحالفات المعلنة من الإدارات الأمريكية المتعاقبة، حيث نعت ترامب الحليف التقليدي بالعدو ، ووصف الخصم والمنافس "بالعظيم والشجاع "، وخلق سياسة جديدة تجاه الشرق الأوسط، وانسحب من اتفاقيات ومعاهدات أيدها العالم بأسره ، وهدد بالانسحاب من تحالف قائم منذ أكثر من سبعين عاما، وضرب بعرض الحائط قرارات وقوانين دولية ،وخلق مشاكل تجارية مع أقرب حلفاء الولايات المتحدة الامريكية.

يعد الاتحاد الأوربي حليف الولايات المتحدة الأمريكية منذ تأسيسه، والعلاقة بينهما تعتبر واحدة من أهم العلاقات الثنائية في العالم ،حيث تـشكل نسبة التجارة بينهما 40 % من التجارة العالمية، وبلغ إجمالي التجارة في السلع والخدمات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي حوالي 1.3 تريليون دولار في عام 2018، لكن سعى ترمب إلى تدمير هذا الإرث من العمل المشترك ، لأن ترمب يؤمن بأن الاتحاد الأوروبي تم تأسيسه من أجل الاستفادة واستغلال الولايات المتحدة، لذلك صرح في تموز/يوليو 2018 ان الاتحاد الأوروبي "عدواً" للولايات المتحدة، إلى جانب روسيا والصين، وقال غاي فيرهوفشتات، عضو البرلمان الأوروبي، الذي تكفل بمناقشة ترتيبات "البريكسيت" مع بريطانيا، إن الأوروبيين كانوا دائماً يعتقدون أن أمريكا تقف إلى جانبهم في كل الملفات، لكن الوضع تغير مع دونالد ترمب. ، فللمرة الأولى في التاريخ يرغب رئيس أمريكي بانهيار الاتحاد الأوروبي.

وتدهورت العلاقات بين كندا والولايات المتحدة خلال حكم ترمب، حيث تعتبر العلاقات الأمريكية الكندية وثيقة الصلة النابع من التاريخ والقيم المشتركة، ولديهما التزامات أمنية و عسكرية متبادلة طويلة الأمد بموجب حلف شمال الأطلسي (الناتو) ،وقيادة دفاع الفضاء الجوي لأمريكا الشمالية (نوراد) ، و لديهما علاقات استخباراتية وثيقة لتعزيز أمن الحدود والأمن السيبراني، و تحتفظ الولايات المتحدة وكندا بعلاقات تجارية واسعة النطاق ، حيث بلغ إجمالي تجارة السلع والخدمات عبر الحدود أكثر من 1.6 مليار دولار يوميًا في عام 2017، و على الرغم من هذا التحالف القوى، كان الخلاف جليا في عهد ترمب ، حيث فرضت واشنطن تعريفات جمركية على واردات الصلب والألومنيوم الكندية، وهددت الولايات المتحدة بإلغاء اتفاقية نافتا"NAFTA) )، أو ما يسمى باتفاقية التجارة الحرة بين دول شمال امريكا التى تضم كندا والولايات المتحدة والمكسيك، التي ستضر قطاعات مهمة في الاقتصاد الكندى ، وفي نهاية المطاف اتفقت الأطراف الثلاثة على تعديل الاتفاقية التي عمرها 26عاما ،ومن جهة أخرى عبرت كندا عن خيبة أملها من قرارات الرئيس دونالد ترمب بالانسحاب من الاتفاقات الدولية ، مثل اتفاقية باريس بشأن تغير المناخ ، وتساءلت عما إذا كانت الولايات المتحدة تتخلى عن دورها القيادي العالمي.

وتركيا ايضا ذات علاقات التحالف الراسخة مع الولايات المتحدة الأمريكية، حيث ظلت أنقرة لعدة عقود واحدة من أكثر الحلفاء أهمية بالنسبة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط واعتُبرت بمثابة حائط منيع ضد النفوذ السوفيتي. لكن العلاقات بين أنقرة و واشنطن أصبحت امام نفق مظلم و في أسوأ حالاتها منذ 35 عاما كما ذكر السفير الأميركي السابق روبرت فورد. وهنالك أسباب عديدة لهذا الخلاف من أهمها دعم الولايات المتحدة المقاتلين الأكراد في سوريا التي تسمى وحدات حماية الشعب الكردية، والسبب الثاني قضية غولن الذي ترفض الادارة الأمريكية تسليمه لتركيا المتهم بتدبير انقلاب ضد الرئيس التركي اوردغان ، بالإضافة الى اعتقال القس الأمريكي “أندرو برونسون”، الذي أفرج عنه بعد عامين من الاعتقال، فذهبت تركيا بالاتجاه نحو روسيا لشراء منظومة الدفاع الصاروخي S-400، و صرح أوردغان ان تركيا ستشترك أيضاً مع موسكو في إنتاج منظومة الدفاع S-500". ومهد سحب القوات الأميركية من المنطقة التي يسيطر عليها الاكراد الطريق للهجوم التركي، مما أغضب الرئيس ترمب وقال أنا مستعدّ لتدمير الاقتصاد التركي إذا استمرّ القادة الأتراك في زعزعة الاستقرار في شمال شرق سوريا، و في نهاية شهر أكتوبر 2019، أصدر مجلس النواب الأمريكي قرارًا وصف المذابح بحق الأرمن بأنها إبادة جماعية” ،حيث سعى أنصار الأرمن لإصدار هذا القرار من الكونغرس على مدى عقود.

أما بالنسبة لجمهورية الصين الشعبية، فمنذ عام 1979،أقامت الولايات المتحدة علاقات شراكة مع الصين مبني على الانفتاح الاقتصادي والسياسي ، تضاعف من خلالها حجم المبادلات التجارة الثنائية، و كل دولة تبنت حذراً تجاه الأخرى كخصم محتمل، لكنها في الوقت ذاته حافظت على شراكة اقتصادية قوية للغاية، لكن أصبحت العلاقة مشحونة بشكل متزايد مع حكم الرئيس ترمب للولايات المتحدة الأمريكية ، وحذر الكثير من المراقبين السياسيين من اندلاع حرباً باردة جديدة، حيث وصلت الى إغلاق الادارة الأمريكية قنصليتها في هيوستن بحجة أن الصين تسرق الملكية الفكرية الأمريكية ، فردت الصين بإغلاق القنصلية الأمريكية في مدينة شينغدو ، وزاد التوتر بين البلدين بعد انتشار جائحة كورونا ،الذي كان من المفترض ان يكون سببا في التقارب بين البلدين ،لكن اتهم ترمب الصين بأن تكون هي منبع الفيروس، وطالب بتسميته بالفيروس الصيني وليس كوفيد 19. وهنا يظهر الفرق بين السياسة الاوروبية وادارة ترمب تجاه الصين ، حيث اجتمع قادة الاتحاد مع الصين قبل ايام قليلة بهدف حماية المناخ والدفاع عن القيم والحقوق الأساسية ، وتحقيق نتائج ملموسة لكلا الجانبين ، وذلك في غياب مشاركة ادارة ترمب. وفيما يتعلق بالعلاقة مع روسيا، فمنذ عام 1991 سعت كل إدارة أمريكية جديدة إلى تحسين العلاقات الأمريكية الروسية تكون مبنية على العلاقات المستقرة مع منع الطموحات الروسية بالعودة من جديد لتأدية دور القوة المؤثرة فعليا في النظام العالمي الجديد، ، لكن تصريحات وتصرفات الرئيس ترمب كانت مناقضة للسياسة الامريكية التقليدية ،حيث صرح ترمب في يونيو 2018 أن اللقاء مع الرئيس فلادمير بوتين أفضل بكثير من الاجتماع مع رؤساء الدول والحكومات لمنظمة الحلف الأطلسي ، و وصف ترمب في وقت سابق بوتين بأنه "رجلا عظيما وشخصا رائعا" ، ثم اتهم ترمب السياسة الأمريكية السابقة بتدهور العلاقة مع روسيا، حيث قال أن علاقاتنا مع روسيا لم تكن أبدا بمثل هذا السوء بسبب سنوات عديدة من الحماقة الأمريكية، ومن جهة أخرى لم يكن لدى ترمب أي اهتمام او معارضة للقضايا الخلافية الظاهرة بين البلدين منذ سنين مثل الغزوات الروسية لأوكرانيا وجورجيا ، والأزمة السورية .هذه السياسة لقت معارضة شديدة ليس فقط من الديمقراطيين بل من القادة الجمهورين مثل "بول ريان" رئيس مجلس النواب الذي صرح انه كان على الرئيس فهم أن روسيا ليست حليفتنا ولا توجد أي مقاربة أخلاقية بين الولايات المتحدة وروسيا التي لا تزال معادية لقيمنا ومثلنا الأساسية.

لقد لعبت الولايات المتحدة دوراً رئيسياً في تأسيس الأمم المتحدة، وعلى مر السنين عملت الولايات المتحدة والأمم المتحدة معًا في الكثير من القضايا، و كانت الولايات المتحدة المرشد والممول الرئيسي للمنظمة لأكثر من سبعين عامًا ،وأصبحت الولايات المتحدة شبه مسيطرة بالكامل علي مؤسسات الأمم المتحدة لدرجة أن الكثير من المراقبين اطلقوا عليها اسم الأمم المتحدة الأمريكية، لكن إدارة ترمب انقلبت على هذه القاعدة، فعملت على تقليص أو حتى إلغاء المساهمة المالية للولايات المتحدة او تعليق عضويتها في مؤسسات تابعة للأمم المتحدة وإعادة النظر في سلسلة من المعاهدات، ففي في أكتوبر/تشرين الأول 2017، قررت ادارة ترمب الانسحاب من المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو)،بحجة استمرار الانحياز ضد إسرائيل في اليونسكو، وفي 16 يناير/كانون الثاني 2018 أعلنت الخارجية الأميركية بتقليص مساهمتها لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) حيث جمّدت مبلغ 65 مليون دولار. وفي يونيو/حزيران 2018 أعلنت نيكي هيلي السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة انسحاب بلادها من عضوية مجلس حقوق الإنسان التابع للمنظمة الدولية، وأدعت ان "التحيز المزمن ضد إسرائيل" هو أحد الاسباب الرئيسية وراء القرار، وفي أبريل/نيسان 2020 أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب أنه أمر إدارته بأن تعلّق دفع المساهمة المالية للولايات المتحدة في منظمة الصحة العالمية، بسبب "سوء إدارة" المنظمة الأممية لأزمة تفشي فيروس كورونا المستجد.

وفيما يخص الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، سعت الولايات المتحدة الأمريكية منذ تأسيس إسرائيل لصياغة العديد من المشاريع لتصفية القضية الفلسطينية، جوهر معظمها كان إلغاء قضية اللاجئين عن طريق التوطين مقابل تعويضات مالية ومشاريع اقتصادية، لكن مع بداية تسعينيات القرن الماضي بدأت الإدارة الأمريكية بالسعي لإدارة الصراع المبنية على مشاريع التسوية التي يتفق عليها طرفي الصراع، ، فمنذ عقود ، وعلى الرغم من الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل، الا ان السياسة الأمريكية المعلنة في معظمها لا تتعارض مع القوانين الدولية ، لا سيما في مواضيع الحل النهائي، فالولايات المتحدة لم تعترف بشكل رسمي أن القدس العاصمة الموحدة لإسرائيل ، وسعى الرؤساء السابقين لتأجيل نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب الى القدس منذ عام 1995 الذي صدر فيه الكونجرس الأمريكي قرار نقل السفارة الأمريكية ، معتبرين ذلك التأجيل من مصالح الأمن القومي للولايات المتحدة. وفي سابقة تؤكد ذلك قبل اشهر قليلة من استلام الرئيس ترمب الرئاسة الأمريكية ، صحح البيت الابيض النسخة الرسمية لتأبين الرئيس أوباما لرئيس الوزراء الاسرائيلي السابق شمعون بيريز لإزالة كلمة القدس كجزء من اسرائيل، ومن جهة أخري اعتادت وزارة الخارجية الامريكية برفض ادراج مدينة القدس كمكان للأشخاص المولودين في اسرائيل. لكن الرئيس الأميركي دونالد ترمب تمرد على هذه السياسة و أعلن رسميا اعتراف إدارته بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل وأمر بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس .أما فيما يتعلق بالاستيطان الإسرائيلي، وعلي الرغم من الدعم والتحيز الأمريكي لإسرائيل الذي كان السبب الرئيسي في توسع الاستيطان الإسرائيلي على مدى عقود، إلا أنه لن تعلن أي إدارة أمريكية سابقة بدعمها الرسمي للتوسع الاستيطاني وإعطائه أي نوع من الشرعية، على عكس إدارة ترمب الحالية، التي اعتبرت التجمعات الاستيطانية جزء من إسرائيل حسب خطة ترمب (صفقة القرن). و رفض ترمب قرار مجلس الأمن رقم 2334 الذي طالب إسرائيل بتجميد جميع أعمال البناء في الضفة الغربية والقدس الشرقية أيضا، وفي الموقف الذي يمثل ارتدادا من قبل إدارة الرئيس الحالي دونالد ترمب عن السياسة التي كان يتبعها أسلافه ،أعلن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو الاثنين 18 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي أن "الولايات المتحدة لا تعتبر المستوطنات الإسرائيلية بالضفة الغربية مخالفة للقانون الدولي"، وأعلنت إدارة ترمب على لسان سفيرها في إسرائيل أن "إسرائيل تمتلك الحق في ضم جزء من أراضي الضفة الغربية". وفي قضية اللاجئين ،تعاملت الولايات المتحدة منذ عقود مع القضية باتجاهين مختلفين الأول مبني على مشاريع التوطين لإنهاء قضيتهم، والأخر الدعم المالي لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين حيث دعمت ميزانية الوكالة بنسبة 65 %، لكن مع بداية مشاريع التسوية السلمية حاولت الادارات الأمريكية السابقة بعدم التطرق لقضية اللاجئين معتبرة أنها من قضايا الوضع النهائي التي يجب أن تُحل بين الفلسطينيين والإسرائيليين أنفسهم ولا دخل للولايات المتحدة فيها، والتزمت الولايات المتحدة بمواصلة شراكتها مع الأونروا لمساعدة أكثر من 5.2 مليون لاجئ فلسطيني مسجل وغيرهم من الأشخاص المسجلين الذين تساعدهم الأونروا حتى يتم التوصل إلى حل عادل وتنتهي ولاية الأونروا، لكن ادارة الرئيس ترمب انقلبت على هذه السياسة، حيث أعلنت عن ثلاثة حلول لقضية اللاجئين في خطة ترمب ،بحيث لا تشمل اى منها بعودة اللاجئين الفلسطينيين الى اراضيهم الأصلية التي هجروا منها، علاوة على ذلك قلصت ادارة ترمب بشكل واسع مساعدتها لوكالة الغوث.

لا شك أن الإدارات الأمريكية تقوم بتنفيذ الخطط التي تعدها المؤسسات الأمريكية السياسية والعسكرية، مع بعض الاضافات التي لا تمس الاستراتيجيات الثابتة، لكن إدارة ترمب خرجت عن هذه القاعدة، حيث تبنت قاعدة المال الأمريكي أولا، فالحليف الأقوى هو الذي يمد الخزينة الأمريكية بالأموال، والعدو هو من يستفيد من أموالنا أكثر مما تستفيد منه الولايات المتحدة الأمريكية، لذلك نعت الاتحاد الأوروبي الحليف الاستراتيجي بالعدو، ونفس السبب المالي هو سبب تغير السياسة الأمريكية حول العالم لا سيما في الشرق الأوسط، التي كان آخرها تطبيع إسرائيل مع دول الخليج العربي التي لم تكن ضمن خطط الإدارات الأمريكية السابقة كما ذكرت في مقال سابق .هذا النهج الغريب جعله على تصادم متواصل مع أركان إدارته، حيث بدأت الاستقالات و الإقالات منذ الشهور الأولي لحكم الرئيس ترمب ،فحتي هذه اللحظة تم ابعاد أكثر من 50 شخصية قيادية من إدارته.