البقاء في سياق الوعي الاستراتيجي: نبدعه بأقل كلفة في طريقنا لتحقيق الهدف الأغلى
تاريخ النشر : 2020-10-31 19:48

كمواطن وكاتب، فإن الحال والمستقبل والأمل يدفعني دوما للكتابة كالتزام وطني ومهني، لكن مقالة بروفسور سري نسيبة دفعتني أكثر للكتابة، تلك التي نشرت في 12/تشرين أول أكتوبر2020، بعنوان "قراءة أخرى…البديل هو أن ننسى الحلول وننسى المفاوضات البديل هو الصمود"، والتي خلص فيها الى أن "البديل الواقعي هو تعزيز صمود شعبنا على الأرض وأن يتمسك بأرضه وبما لديه؛ فليست من مقاومة أشرف وأكفأ من تلك. ... هي للعثور على الثغور في النظام التي من خلالها يستطيع النفاذ للحفاظ على نفسه حاجته لمراكمة النقاط لصالحه في صراع طويل الأمد، ..هي للبقاء. للتأقلم حيثما اضطرتنا الحاجة. هي لتحسين ظروف الحياة والصمود والكفاح في وجه النظام الاستعماري الاستيطاني العنصري... هي لـ انتزاع أو “قضم” الحقوق ما استطعنا الى ذلك سبيلا، أكنّا على أرضنا من حملة جنسية إسرائيلية نناضل في الكنيست او خارجه أو كنا عمالا من غزة أو الضفة يسعون وراء لقمة العيش. أو كنا لاجئين في ارض الله الواسعة، لكن، نتمسك أيضا بوحدة شعبنا وهويته وروايته. نتمسك بمنظمة التحرير، بعد إعادة بنائها وتأهيلها وشروعها في العمل بشكلها الرسمي، على كافة الأصعدة وفي كافة المحافل الإقليمية والدولية للدفاع عن القضية الأساس…قضية شعب اغتصبت أرضه وحُرّم من العودة اليها…"، بعد تشخيصه للواقع المرّ.

بعد متابعة المقال وردود الفعل عليها، السلبية منها التي رأته يائسا، وبعضها الإيجابي، فكل ومنطلقه وحقه في التعبير كفلسطيني وكاتب طبعا، وبالطبع فإنني منهم، أقدر ما كتبوا، وأخص ربما بروفسور نسيبة، بما حضر في مقاله، وما غاب أيضا، خاصة عما خلص له وإليه، وهو ما يتعلق بصمود شعبنا.

أمران خبرهما شعبنا على مدار عقود، قرن تقريبا: البقاء في الأرض وعليها، والحفاظ على الخصوصية الثقافية القومية، التي تجلت وتتجلى دوما بكيان سياسي، قوامه أولا الشعب الفلسطيني، في كافة أماكن تواجده، أكان تحت الاحتلال البريطاني او الحكم العربي، أو منظمة التحرير الفلسطينية، خاصة بعد الاحتلال الإسرائيلي عام 1967، وكل عمل وطني ينشد فلسطين وتنشده.

ليس في الأمر كثير كلام بل القليل، لكن كثير الفعل: الزراعي، ضمن منظومة اقتصاد ملائمة، لتظل بلادنا خضراء، وثقافي وتعليمي، لنعمق ما نحن به من خصوصيات ثقافية فلكلورية تراثية وهوية في سياقات قومية، في ظل الاندماج مع الحداثة والعصرنة في سياقات عالمية إنسانية، (محمود درويش مثالا الذي ظل يكتب عن تراب الجليل حتى وصل كل الدنيا)، حيث نضمن صحة المواطن جسديا ونفسيا وثقافيا، في ظل المحافظة على الاستقلال، قبل قيام الكيان السياسي وبعده؛ فنحن شعب مستقل تحت الاحتلال، وهذه معجزة تثير الفخر، ونرجو أن تكون الدول المستقلة كذلك مع كامل الاحترام.

ومهما سيحدث من ترتيبات على الأرض قبل الاستقلال، فإنما هي أمور تسيير أعمال، في طريقنا نحو الهدف الشرعي الناضج، أكان ما له علاقة بالإجماع الوطني بدولة فلسطينية، أو ما له علاقة بإنهاء العنصرية وإقامة الدولة الواحدة، بغض النظر على التفاصيل، ما دامت تقوم على حفظ الحقوق لأصحابها.

-       طيّب وماذا بعد؟

-       الفعل على الأرض، وتمكين المواطنين/ات بما هو استراتيجي وسياسي، والبناء على ما تم إنجازه، هو هدف النخبة السياسية (الجديدة والمتنورة) التي تنشد الاستقلال، والتي من المهم أن يكون لها أسلوب في العمل مختلف عما ساد من عمل من قبل، والاستفادة من (معادلة البقاء الإبداعي في ظل التمسك بالهدف السياسي، والذي قد تمّ اختباره، في الظروف الصعبة التي واكبت النزاع السياسي، بغض النظر عن وجهة النظر تجاهه، وما نحت من كلمات: انقلاب، اقتتال، انقسام...؛ فكل وما له من فكر ومصلحة؛ فلم يغمض البعض، حتى المتنورين والمفكرين، أعينهم عن تلك الفترة: فترة حكومة د. سلام فيّاض، والتي عمقّ فكرة مهمة، حاولت الانسجام مع التساؤل: كيف عاش شعبنا وبقي في كافة مراحله: أجدادنا وآباؤنا ونحن، قبل تأسيس السلطة الوطنية، كيف عشنا، وأبدعنا وتعلمنا وقاومنا الاحتلال؟

إنها إعادة الاعتبار للذات، لذلك راح الرجل يتنقل خارج منطقتي ألف وباء، مستفيدا بذكاء من لحظة سياسية دولية داعمة لفكرة الدولتين وللتنمية، التي قام بتحويرها، لتخدم المواطنين تحت الاحتلال باتجاه الاستقلال.

وهنا في ظل البحث فوق الطاولة وتحتها، أكان ذلك بمنظور وطني، أو منظور إقليمي له أذرع دولية، يصبح بيت القصيد هو النهج، لا الشخوص، وهو نهج يحقق ما قلنا من (بقاء مقاوم بهدف سياسي)، من خلال تكريس حقيقي على نهج نظام سياسي، يقوم على القانون والمؤسسات وتداول السلطة وفصل السلطات، يسمح لمن يود المشاركة السياسية، بالمشاركة أو المعارضة البناءة، دون منّ حاكم أو إعاقة. ويمكن أن تبني النخبة القادمة شرعيتها باحترام الثوابت الوطنية، وعلى رأسها قضية اللاجئين، وبأن تتحلى طليعتها وقواعدها بالكفاءة والأمانة والمهنية بما يلزم ذلك من احترام للديمقراطية والشفافية، ومواكبة العصر وتطوير الذات علميا وثقافيا..

أي باختصار، من سمات النخبة السياسية القادمة الالتزام الوطني، كما ينبغي لقادة وطنيين يدافعون عن استقلال وطنهم وحريته وسيادته، والقدرات المهنية، كما ينبغي لبنائي الدولة ومؤسساتها.

الخلاص جمعي؛ لا يمكن أن خلاص أفراد وجماعات.. أو نخب أبدا

لذلك، من الأمانة أن نذكر ونذكّر بما أبدع فعلا دكتور سلام فياض، لا كفرد وأحد قادة العمل السياسي، بل كنهج واضح في تقوية البقاء الفلسطيني، في سياق سياسي واستراتيجي، وما كان يسعى اليه بذكاء وطني وسياسي مدرك تماما لما تصنعه حكومات إسرائيل المتعاقبة.

ولعلنا نتذكر ما أوعز به وزير "الأمن الإسرائيلي، نفتالي بينيت"، في حينه وبعد ذلك للجيش بوقف ما وصفه "السيطرة الفلسطينية – الأوروبية" على المنطقة C التي تشكل 60% من الضفة الغربية ومنع البناء فيها...حيث أطلق جهاز "الأمن الإسرائيلي" على مشاريع البناء هذه تسمية "خطة فياض"، نسبة لرئيس الحكومة الفلسطينية الأسبق سلام فياض، وأن هذه "نظام منهجي ومنظم للسلطة الفلسطينية من أجل السيطرة غير القانونية على مناطق واسعة تحت سيطرة إسرائيل في المناطق C، كخطوة إستراتيجية واسعة". ولمن يريد التفصيل ليس عليه غير جوجلة الخبر في صحيفة "يسرائيل هيوم".

بل أن السياسية الشابة سيبي هوتوفلي عندما كانت نائب وزير الشؤون الخارجية منذ عام 2015، طالبت صراحة "علينا كسر خطة رئيس الوزراء السابق سلام فياض، لإقامة دولة فلسطينية من خلال إرساء الحقائق على الأرض ووقف التوسع الفلسطيني قبل فوات الأوان". (Israel Middle East News Palestine" وتشغل "سيبي هوتوفلي" 42 عاما، (ليكود)، منصب وزيرة شؤون المستوطنات.

لقد أدرك الساسة في إسرائيل خطر الفعل الفلسطيني الاستراتيجي على الأرض، وتأييد الأوروبيين، الذي يمكن أن يؤثر (وقتها) على الأمريكيين. فكان ما كان، ولنترك ذلك لذكاء القراء.

"وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين" و" فذكر إن نفعت الذكرى"، حيث راح الفقهاء والمفسرون لكلا الآيتين الكريمتين، يوضحون أهمية التذكير وفوائده ومواطنه.

نذكّر بمقترحات د. فياض، بعد استقالته من رئاسة الحكومة، في إدارة التعدد، الذي يعني تحقيق متطلبات كل من الحوكمة الوطنية والالتزام الدولي، في ظل الحالة السياسية التي نعيشها. وكيف أنه رأى أنه لا بد من الانطلاق من غزة، لسببين "هما الحاجة الملحّة للتعامل مع الأوضاع الإنسانية الكارثية هناك، وكذلك لسبب استراتيجي نظرا للحاجة إلى إعادة إدماج غزة كجزء لا يتجزأ من النظام السياسي الفلسطيني كشرط أساسي على درب السيادة، من خلال الدعوة لانعقاد وتفعيل إطار القيادة الموحّدة بصفة فورية، بتفعيل الإطار القيادي المؤقت لمنظمة التحرير، مما يضمن تمكّن الحكومة الفلسطينية من السلطة الكاملة وتمثيلها لكامل الطيف السياسي، ويمكن لجميع القوى المشاركة الوجود في هذا الإطار، حيث وضع د. فياض مخرجا سياسيا "بعدم اشتراط العضوية فيها بقبول الفصائل الخارجة عن منظمة التحرير الفلسطينية للبرنامج السياسي للمنظمة(حماس والجهاد) بشكله المعدل من أجل الاستجابة لمتطلبات إطار أوسلو". وبهذا المخرج الذكي والكريم والعملي بل والاستراتيجي " تضمن الفصائل من خارج منظمة التحرير الفلسطينية بما فيها حركة حماس والجهاد الإسلامي شراكة حقيقية في سعي الفلسطينيين لتحقيق طموحاتهم الوطنية، وفي ذات الوقت تتمكن المنظمة من الحفاظ على برنامجها وتمثيل كل الفلسطينيين" وبين وقتها هدف حكومة إدارة التعدد ب " إعمار غزة وإعادة توحيد المؤسسات الفلسطينية والأطر القانونية في كامل أنحاء الضفة وغزة، ويجب أن يتم ذلك مع المسؤولية الكاملة التي تأتي إثر الانعقاد الفوري للمجلس التشريعي".

ولم يغفل وقتها دعم القدس وصمود المقدسيين..كما لم يغفل دور الشباب.

 بل مضى لما هو استراتيجي: "ويمكن لتلك الإجراءات أن تمهد، للشروع من حالة التهميش إذا رافقها تبنّي إطار القيادة الموحدة لالتزام مسقوف زمنياً بنبذ العنف. على إثر ذلك يكلِف إطار القيادة الموحدة منظمة التحرير الفلسطينية بإبلاغ إسرائيل والمجتمع الدولي بذلك الالتزام نيابة عن كل الفصائل الفلسطينية". وفي ذات الوقت يتم العمل على تأمين اتفاق (سيتم التنصيص عليه في قرار لمجلس الأمن) حول تاريخ مؤكد لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي بنهاية مدة ذلك الالتزام".

لم يغفل د. فياض وقتها عما هو مطلوب دوليا، بل أشار لذلك بشجاعة ومنطق عملي وسياسي: "يجب التخلي عن الإصرار المتواصل من قبل المجموعة الدولية على التطبيق الصارم لمبادئ اللجنة الرباعية لفائدة توقّع التمسك الفلسطيني بالالتزام بنبذ العنف الأقل صرامة "الهدنة"، (.....) في ظل أن "قبول حق الفلسطينيين في إنشاء دولة، لم يتمّ أبدا توقّعه رسميا من الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ أوسلو"

كان يمكن ربما قبل صفقة ترامب، إقناع العالم، أن الدولة الفلسطينية من المنظور الديمقراطي الفلسطيني وحدها "ستكون جزءا من الرد طويل المدى على "النزعة الرفضوية" الناجمة عن حالة الحرمان والتهميش واليأس التي شكلت وريداً مغذياً للتطرف في المنطقة منذ مطلع القرن الحالي".

وبعد، فهذا ما غاب ربما عن مقالة د. سري نسيبة، وما حضر على الأرض، وما كان يمكن أن يصير أكثر حضورا، لولا انتباه الاحتلال من جهة واختلال الرؤية لدينا من جهة أخرى.

والحق أن حكومة رئيس الوزراء محمد اشتية كحكومة شعبية، تحاول الفعل على الأرض، لكن الظروف الآن تكبلها، ولا تمنحها فرصا كبيرة، إلا أنها تعبر عن ذلك سياسيا، وتصنعه فيما مجال الإنتاج الزراعي والبناء، وكشف زيف و"خداع الرأي العام الدولي، لإضفاء الشرعية على الاستيطان ومحاولة للمساواة بين بناء الفلسطيني على أرضه والبناء الاستعماري الاستيطاني، الذي يسرق الأرض والماء والهواء".