سياسة (الإحلال وملء الفراغ) واثرها على العرب ...؟!
تاريخ النشر : 2020-11-13 17:52

منذ إنهيار الدولة العثمانية، وقعت الأقاليم والدول العربية ضحية سياسة (ملء الفراغ الإستعمارية) حيث تقاسمت الدول الإستعمارية مناطق النفوذ فيما بينها وأجرت عملية تقسيم جائرة لهذه الأقاليم، فكانت بريطانيا وفرنسا الإستعماريتين هما من ملأ الفراغ الذي أحدثه إنهيار الدولة العثمانية، ومع نهايات الحرب العالمية الثانية كانت بوادر أفول نجم بريطانيا وفرنسا واضحة للعيان، يقابلها صعود نجم الولايات المتحدة الأمريكية على المستوى الكوني لدورها الحاسم في الحرب العالمية الثانية، وكان الرئيس فرانكلين روزفلت متنبها لهذه اللحظة التاريخية وللإنتصار الحاسم الذي حققته الولايات المتحدة فيها فصاغ سياسة ملء الفراغ وسياسة الإحلال مكان القوى المتنفذة السابقة (بريطانيا وفرنسا)، وكان الإرث الأول الذي ورثته أمريكا بموجب هذه السياسة هو إكمال تنفيذ وعد بلفور البريطاني في إنشاء الوطن القومي اليهودي (المستعمرة الإسرائيلية) على أرض فلسطين لتأكيد هذا التحول من بريطانيا إلى الولايات المتحدة التي سوف تملأ الفراغ بعد إنسحاب بريطانيا من المنطقة، وهذا الأمر إنطبق أيضا على كافة مستعمرات بريطانيا وفرنسا في كل من أسيا وإفريقيا عامة وفي المنطقة العربية خاصة، وقد حلت الولايات المتحدة مكانهما في النفوذ والهيمنة، تطبيقا لسياسة الإحلال وملء الفراغ، تحت مبررات توفير الأمن والحماية والإستقرار والدعم لهذه الدول وحماية مصالحها ، وقد واصلت الولايات المتحدة سياساتها هذه في ظل الحرب الباردة التي حكمت العلاقة بينها وبين الإتحاد السوفيتي، ومثلت الوريث والحليف للإمبراطوريات الإستعمارية الأوروبية سابقا، خوفا من وقوع مستعمراتها في قبضة الهيمنة الشيوعية السوفيتية، وقد خاضت من أجل ذلك حروبا مباشرة وأخرى بالوكالة في أكثر من إقليم من كوريا إلى فيتنام وكمبوديا وغيرها في سياق الإلتزام بسياسة الإحلال وملء الفراغ، هذه السياسة لاشك أنها كانت مكلفة عسكريا وإقتصاديا لميزانيات الولايات المتحدة، لكن مصالح الولايات المتحدة العابرة للحدود الدولية  كانت تبرر لها  ذلك، إستمرارا لهذه السياسات وبعد إنتهاء الحرب الباردة وتفكك الإتحاد السوفيتي وحلف وارسو والإتحاد اليوغسلافي، سعت الولايات المتحدة  أيضا إلى الإحلال وملء الفراغ الذي أحدثاه في دول أوروبا الشرقية والبلقان وفي العديد من مناطق الهيمنة السوفيتية السابقة. 

لكن مع وصول الرئيس باراك أوباما الديمقراطي إلى سدة الحكم في البيت الأبيض، وفي أعقاب أزمات إقتصادية عصفت بالإقتصاد الأمريكي، محملا سبب ذلك إلى السياسات المتبعة من الجمهوريين في الحروب التي شنوها في أفغانستان والعراق، وما نتج عنهما من إنتشار واسع ومكلف للقوات الأمريكية خارج حدود الولايات المتحدة، هنا بدأ الحديث عن سحب القوات الأمريكية من أكثر من منطقة مثل أفغانستان والعراق لتجنب ذلك الحجم من الإنفاق العسكري وبدأ السعي والتوجه إلى عدم التورط المباشر في الصراعات التي بدأت تنتشر في منطقة الشرق الأوسط والبحث عن بدائل محلية للوجود الأمريكي تنوب عنه في الدور (الموازن من الخارج)، وهذا التوجه مثل بداية تراجع مبطن عن سياسة الإحلال وملء الفراغ التي وسمت السياسة الخارجية الأمريكية منذ عهد الرئيس فرانكلين روزفلت، ومع وصول الرئيس دونالد ترامب الجمهوري إلى سدة البيت الأبيض خلفا لباراك أوباما فقد بدأت تتجلى وبوضوح أكثر معالم السياسة الخارجية الأمريكية الجديدة في التخلي التدريجي عن الإنفاق على سياسة العسكري والأمني وملء الفراغ وتمثل في العمل على تقليص الوجود العسكري في كل من سوريا والعراق ومن افغانستان، كما ظهرت أيضا في التخلي عن المسؤوليات الأمنية والعسكرية عن أوروبا في إطار الحلف الأطلسي ومطالبة الرئيس ترامب الدول الأوروبية أن ترفع وتزيد نسبة مساهماتها في تكاليف الحلف العسكري الناتو، وكان أعلن الرئيس ترامب ذلك صراحة أنه لم يعد بإمكان الولايات المتحدة أن تتحمل كلفة تحقيق الأمن والحماية لكثير من الدول التي كانت تعتبر حليفة للولايات المتحدة دون مقابل ودون ثمن ... ومنها دول الخليج العربية، مؤكدا على أن تقوم هذه الدول بتحمل مسؤولياتها الأمنية والعسكرية مباشرة وعلى نفقتها الخاصة، وإذا أرادت الإستعانة بالولايات المتحدة يتوجب عليها أن تدفع التكاليف وتتحمل الأعباء المادية التي تترتب على ذلك. 

 يعد هذا مؤشرا أكثر وضوحا قدمته إدارة الرئيس دونالد ترامب في التخلي وفي تقليص تكاليف سياسة ملء الفراغ وتحميل الجزء الأعظم منها لتلك الدول، والبحث ايضا عن بدائل لها وفق (نظرية الموازن من الخارج)، لذا وجدنا الوجود الروسي المباشر في سوريا، والتنافس والتوافق والتعارض الإقليمي بين القوى الإقليمية (إيران تركيا والمستعمرة الإسرائيلية) على بسط الهيمنة وإقتسام النفوذ في المنطقة العربية وظهر هذا جليا من خلال الأزمة والصراع في وعلى سورية. 

هكذا بدأت المنطقة العربية تشهد جملة من التقلبات الإستراتيجية وفق متغيرات السياسة الأمريكية الساعية إلى فرض التطبيع للعلاقات العربية مع الكيان الصهيوني لدمجه في المنطقة بسبب الرعاية الخاصة التي توليها الولايات المتحدة للكيان الصهيوني، الذي يسعى هو الآخر أن يكون له دور أساسي للمشاركة في سياسة ملء الفراغ الذي سيحدثه التحول والتغير في السياسة الأمريكية. 

 ولقد أكدت سياسة إدارة الرئيس دونالد ترامب على مدى أربع سنوات أن الصين وشرق أسيا باتا يمثلان التحدي الأكبر للولايات المتحدة والذي يفرض عليها المواجهة المباشرة بدءا من إحتواء كوريا الشمالية ورئيسها كيم إيل سونج إلى مواجهة تمدد العملاق الصيني اقتصاديا وتقنيا الذي بات يشكل التحدي الرئيسي لمستقبل الهيمنة الإقتصادية للولايات المتحدة على المستوى العالمي وعلى مستوى السوق الداخلي الأمريكي..  

إن الرئيس الأمريكي جو بايدن المنتخب سوف يرث هذه التركة الثقيلة في العلاقات الدولية عن سلفه ترامب بعد شهرين من الآن والذي سوف يعمل على اصلاح بعض الخلل الذي احدثته الإدارة السابقة في العلاقات الأمريكية الدولية  خصوصا مع حلفائها التقليديين في اوروبا وحلف الناتو بشكل رئيس كما يتوجب عليه اعادة الإعتبار والتوازن في علاقات الولايات المتحدة ودورها في هيئة الأمم المتحدة ومنظماتها المختلفة، كما على السيد جو بايدن اضافة إلى ذلك أن يقوم بجملة من الإصلاحات الداخلية على صعيد استعادة التوازن المختل في النسيج الإجتماعي الأمريكي وكبح بروز العنصرية وتأكيد  احترام حقوق الأقليات والمرأة كما ستكون هذه من ضمن اهتمامات إدارته في علاقاتها مع الدول الأخرى.. وسيبقى الكيان الصهيوني محل الرعاية الخاص بالنسبة لإدارته .. وستبقى الصين تمثل له التحدي الإقتصادي الأكبر للإقتصاد الأمريكي .. وسيواصل إدارة الصراع العربي الاسرائيلي بشكل أقل خشونة من إدارة الرئيس ترامب وسيظهر اهتماما أكثر بعودة المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية دون التراجع عن بعض الإجراءات التي اتخذتها ادارة ترامب مثل نقل السفارة الأمريكية إلى القدس .. وسيعمل على اظهار السياسة الأمريكية أنها ملتزمة بحل الدولتين بشكل أكثر جدية من ادارة ترامب واقل إنحيازا منها لصالح الكيان الصهيوني .. 

هذا يوجب على الجانب الفلسطيني والعربي واجبات مهمة في إنهاء حالة الإنقسام الفلسطيني واعادة بناء المؤسسات الوطنية الفلسطينية بالإحتكام إلى الإنتخابات وتعزيز الوحدة الوطنية في اطار م.ت.ف وتأكيد وحدة الموقف العربي حول رؤيته للسلام واعادة الإعتبار لمبادرة السلام العربية والوفاء بالإلتزامات الواجبة والمقرة تجاه دعم صمود الشعب الفلسطيني وسلطته الوطنية ووقف الهرولة العربية نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني دون ثمن يرتبط بإنهاء الإحتلال وتمكين الشعب الفلسطيني من اقامة دولته المستقلة على حدود الرابع من حزيران وعاصمتها القدس ...! 

هكذا تكون المنطقة العربية قد ظلت مسرحا وحقلا لتطبيق سياسات الإحلال وملء الفراغ دون أن تتمكن من أن تكون لاعبا رئيسيا في تحديد مصيرها ومستقبلها، يبقى السؤال إلى متى تبقى المنطقة العربية مسرحا لهذه السياسات من القوى الإقليمية والدولية المختلفة على السواء ..؟ 

إن غياب وجود مشروع عربي نهضوي تنموي جامع يقوم على اساس احترام مفهوم الوطن والمواطنة واحترام حقوق الإنسان  والحرية والمساواة  ودولة المؤسسات والقانون   هو السبب في بقاء المنطقة العربية مستباحة من قبل القوى الإقليمية (الكيان الصهيوني وتركيا وايران) والقوى الدولية المختلفة .. على السواء.