حارة نسيها الزمن
تاريخ النشر : 2021-01-13 11:16

 اكتشفت اليوم بسبب عدم ذهابي إلى تلك الحارة منذ مدة طويلة بأنه ينتابني شوق كبير إليها.. حارة عشت فيها أعوام طفولتي وصباي وحزنت حين فارقت اصدقاىي الودودين ملامح وجوههم وتعبيراتها الطافحة بالبراءة والبشر بريق عيونهم واصواتهم الرفيعة.. عندما حملنا امتعتنا ورحلنا وكان ذلك بعد غياب شمس يوم بارد ينذر بهطول المطر ودعني صديقي سمير وكان حزينا اما صديقي عمر فقد حاول أن يخفي مشاعره اما فاطمة بنت الجيران فقد مرت في تلك اللحظة وكان الألم باديا على وجهها الأبيض الجميل وحينها ادركت انها تريدني أن أبقى في الحارة التي ما زالت بيوتها قائمة في مكانها حتى الآن الأبواب والنوافذ والجدران لم تتغير كثيرا فهي كماهي شاهدة على أحداث ذلك الزمن حيث الأفراح والماتم وزفات العرسان على وقع نغمات فرقة فدعوس بالاتها الموسيقية النحاسية الكبيرة التي تمر في تلك الأزقة الترابية المليئة باعشاش ذكور النحل من الدبابير التي كثيرا ما تفوع وتلدغ المارة حين ترجم بالحجارة . في عرس ابن الزقاق شعبان وقفت الزفة امام بيت إسماعيل صاحب فرن الحطب المليء بطبالي أقراص العجين فخرج أولاده لتحية أهل العريس يصبون الكؤوس بشراب الليموناده عالم قديم منسي كان زاخرا بالحيوية صوت بائع السمك بكر الذي كان يأتي من مخيم الشاطئ في الصباح يجر بكتفيه العريضين عربة خشبية اشبه بصندوق كبير وكان استعمالها في السوق شائعا في تلك الأيام.. عربة مملوءة بالسمك كان بكر من صيادي البحر ينادي بأعلى صوته سريدة طيبة.. طيبة يا سريدة فتخرج النسوة من البيوت كل واحدة في يدها ماعون يومها كان المار في تلك الأزقة يرى قشور السمك مرمية بجانب ابواب مفتوحه لا تغلق الا في الليل وكذلك صوت درويش الذي كان يقوم بتصليح بوابير الكاز الذي كان هو الآخر يأتي كل صباح الي أزقة الحارة حاملا صندوقه وكرسي قش صغير ليجلس عليه.. منذ أمد بعيد لم أعد اسمع صوت بابور الكاز الاجش الذي كانت تشعله امي في ليالي الشتاء تضع فوق رأسه المشتعل براد الشاي فيشيع الدفء في المكان وحيث يختلط صوته في الليل الماطر مع صوت المطر والرعد والريح فكان تصل إلى سمعي وانا تحت لحاف محشو بقطع اقمشة من ملابس قديمة اشبه بموسيفونية عذبة تطرب لها الأذن.. لقد مات في شتاء ذلك العام جارنا القديم المجدلاوي الطيب ابو احمد الذي كان يصلح هو الآخر بوابير الكاز وكان بيته معروفا في آخر الزقاق يذهب إليه الناس حتى في ساعة متأخرة في الليل.. لقد لازمته هذه المهنة منذ أن كان شابا يافعا في المجدل واما الكندرجي نبيل الذي كان يقوم بتصليح الأحذية والصنادل وكان موقعه بجانب جدار بيته على ناصية الزقاق فلم يعد يراه احد فقد نزح إلى الأردن بعد احتلال القطاع عام ٦٧ وشاهده احد ابناء المربع في مدينة السلط وأمامه كومة من الأحذية القديمة البالية وبذلك افتقد سكان الحارة رجلا يقوم بممارسة هذه المهنة التي كانت في ذلك الزمن مطلوبة واذكر ان اخر مرة ذهبت إليه كنت حاملا حذائي الأسود الذي اشتراه لي ابي قبل العيد من سوق فراس في تلك اللحظة نظر الكندرجي نبيل لي بعينين جاحظتين نافرتين في وجه احمر يتدفق في وجنتيه الدم وكان فمه َمليئا بالمسامير الصغيرة قائلا ماذا تريد يا شاطر؟ فاجبته حيث الشاكوش الكبير في يده يدق به المسامير وقلت له بصوت مرتعش اريد نعالا جديدا للحذاء بدلا من نعاله القديم عندها شده من يدي ورماه فوق عدد من الأحذية مكومة أمامه محتاجه إلى رقع جلدية ثم تابع عمله بعد ذلك بدق المسامير.. غير أن هذه الصورة للحارة تبقى ناقصة حيث تغيب عنها صورة الدكاكين التي اختفت من تلك الشوارع والازقة فها هو مكان دكان الزهري حمادة ابو حسونة الصغيرة التي كانت مليىئة بالزيت والكاز والطحينة والحلاو ة وأيضا كانت مرتعا للفئران وها هو مكان الأحجار الكبيرة التي كان يجلس عليه بعض أصحابه من الرجال الكبار لقد سويت أرض الدكان بالشارع وازيلت الأحجار .. مات الزهري ومات ابنه الزهار ولم يعد رىئيس بلدية غزة الشوا يستمتع بحكاياته الشيقة أثناء توقفه لبرهة صغيرة أمام الدكان في طريق توجهه إلى بيارته الكبيره المزروعة بالبرتقال في بيت حانون بالشمال كما تحولت دكان الحنجوري إلى غرفه لابنه عبد المجيد حين تزوج واصبح للغرفة بدل باب الدكان الذي اغلقة باحجار الأسمنت نافذة كبيرة تطل على الشارع حيث يسمع المارة فيه في بعض الأحيان خاصة في الليل صوت الراديو وهو يذيع الأخبار أو يبث اغاني فريد وعبد الحليم خاصة اغنية نار ياحبيبي نار التي كان يحب سماعها عبد المجيد ولم تبق إلى فترة قريبة في الحارة سوي دكان الجدع التي ظلت قائمة حتى توفاه الله وحولها ابنه سالم إلى محل ميكانيكي لتصليح السيارات في حين دكان الديب العربي بقت على حالها يديرها ابنه الذي يستقبل بترحاب في ضحى يوم الجمعه من كل أسبوع مختار الحي الأطرش هاشم إلذي كان يصل علي ظهر حمار قبرصي ابيض يعقله أمام الدكان لبرهة من الوقت ثم يمتطيه بعد أن يكون قد أدى فريضة صلاة الظهر وسماع خطبة الإمام في مسجد الايبكي القريب....