ما دام الخطاب خدماتيّا لا وطنيّا فعلى "أوني على دوّي على تري!"
تاريخ النشر : 2021-01-20 23:07

** الوقفة الأولى... مع تقدمة.

أصدق نفسي القول أوّلًا قبل أن أصدق القارئ، أنّي ومنذ مدّة "يرعاني جلدي" أن أقول ما عندي عن المشهد السياسيّ السورياليّ الذي نعيش في ظلّ "بقرتنا المقدّسة"؛ المشتركة. تردّدت كثيرًا قبل أن قرّرت أن أدلو بدلوي، وقبلها امتنعت عن المشاركة في عدد من البرامج حول الموضوع مُعتذرًا بالتي هي أحسن. كلّ ذلك لاّنّ السؤال \ التساؤل الذي يراودني وراودني دائمًا: "من أنت حتّى يُقرأ رأيك أو يُسمع صوتك؟!، فلا أنت بقائدٍ لا يُشقّ لك غبار ولا بمحلّل لا يُعتلى لك أثير وتُقتفى لك آثار!"

ومع هذا ومع اقتناعي بالسؤال \ التساؤل أعلاه وما يحمل، قرّرت الخروج عن صمتي وحسبي أبو عثمان عمرو بن بحر الليثي – الجاحظ والقائل في مقدّمة أحد كتبه (......)، وأمل دُنقُل الشاعر الصعيديّ المصريّ والقائل، بعد أن نفض عنه صدمته وانحباس قلمه بعد هزيمة حزيران 1967م، بأعلى الصوت: "قلها وامضِ!"   

لا أعرف إذا كانت عودة الكاتب إلى ما سبق له وكتب واقتباسه هي مستملحة في المبدأ أو لا، ومع هذا رأيت أن أعود على بعض ممّا كتبت سابقًا في سياق مقالتي هذه، لاقتناعي أنّ ما كتبت كان صحيحًا يومها وفي السياق الذي طُرح فيه (خطابُنا المتبدّل المُتحوّر)، وصار أصحّ اليوم بعد التطوّرات التي وقعت على وفي جوهر ذلك السياق!    

** الوقفة الثانية... مع حذوك النعل بالنعل والبراغمَتزيّة.

بعيد انتخابات ال-2020 كنت كتبت في وقفات تناولتْ من بين ما تناولت: "توصية المشتركة على غانس" وإسقاطاتها، وقبل أن تصير متوقّعًا صيرورتها، كتبت: "حين أطلق بنيامين بن إليعيزر (فؤاد) الضليع في الشؤون العربيّة، قبل سنوات وعلى وليمة دسمة في باقة الغربيّة، مقولته وببعض تصرّف: "شو عملوا لكم النواب العرب؟! ملتهيّين في السياسة وتاركين مصالحكم!!"، وتناولها بعده جدعون عزرا نائب رئيس الشاباك وراح يبهّرها، استطيبتْ قطاعات واسعة من ناسنا "الطبخة" وراحت تضيف عليها ما شاءت من بهارات، وإن اختلفت المنطلقات لم يغيّر ذلك من طعم الطبخة، البعض استطيبها لسوء في الذوق وآخرون لأغراض في نفس يعقوب. وها رأينا أبراهام ديختير، زميلهما ومثلهما وباللغة العربيّة يحذو حذوهما في الانتخابات الأخيرة، حذوك النعل بالنعل!               

العودة بنا إلى الحملة الانتخابيّة وما رافقها من أطروحات... من قيادات وأكثر من "باحثين معلّقين خبراء" طبقًا ل- "التايتلات" المنعوفة عليهم نعفًا من مقدّمين إعلاميّين أو من أنفسهم، العودة إليها توصلنا إلى نتيجة مُرّة ألا وهي أنّ "خطاب التُأثير الخدماتيّ" هو الخطاب الذي طغى. والفرق كان هذه المرّة فقط أنّ مروّجي هذا الخطاب كانوا منّا وفينا (قيادات في الصفّ الوطنيّ) مع اختلاف المفردات المستعملة واللبوس الذي ألبسوها، وإن كان حدث وفات أحد منهم "إعلاء" هذا الخطاب كان المقدّم الإعلاميّ يعيده إلى سواء السبيل، ولا يفوتك إن كنت صاحب بعض فراسة أن تستنتج أنّ المقدّم في بعض الحالات مُوصى بذلك!

تغلّبَ الخدماتي في الخطاب على كلّ ما خلافه متّخذا شكلًا آخر عنوانه؛ "التأثير في التغيير". هذا لا شكّ كان نقلة نوعيّة ليس بالضرورة نقلة إيجابيّة، ولم يكن نابعًا بالضرورة نتيجة لتبنّي أطروحات فؤاد ورهطه، وإنّما من تغيّر اجتماعيّ حصل عندنا أتى بتغيير سياسي بالضرورة.

فقد انتقلنا قيادات وناس من فلاحيّة وعماليّة آباء إلى برجوازيّة أبناء حياتيّا وذهنيّا (يمسكون مفاصل حياتنا الاجتماعيّة والسياسيّة)، ولا يستهيننّ أحد بأبعاد مثل هذه النقلة الاجتماعيّة على تصرّف الفرد فكريّا واجتماعيّا وسياسيّا، فليس أسهل (عند البرجوازيين أصلانيّين كانوا أو متحوّلين) من تخطّى الحد الدقيق الفاصل بين البراغماتيّة (في سياقنا التأثير) والانتهازيّة (في سياقنا اعتلاء ظهر التأثير) من حيث يدري ومن حيث لا يدري المخاطِب البرجوازي. وهذا دين وديدن البرجوازيّة كان وما زال وسيبقى، وحين يكون المخاطَب كذلك ممسوسٌ بها فالطامّة أكبر من كُبرى." 

** الوقفة الثالثة... مع ضياع أو تضييع الخطاب الوطنيّ.     

كنت كتبت كذلك وأختصر، وحسبي الجاحظ ودُنقُل كما أسلفت: "الوطنية، وتُعرف بالفخر القومي كذلك، هي التعلّق العاطفي والولاء لأمّة محدّدة بصفة خاصة واستثنائية... تتضمّن الوطنية مجموعة مفاهيم ومدارك وثيقة الصلة بالقومية مثل الارتباط والانتماء... الوطنية مفهوم أخلاقي وأحد أوجُه الإيثار لدفعها المواطنين إلى التضحية براحتهم، وربّما بحياتهم من أجل بلادهم. رفض بعض المفكّرين مقارنتها بالأخلاقيات واعتبرها حجر الأساس الذي تقوم عليه الأخيرة، واعتبر هذا البعض تضحية المرء بفرديته لصالح الشعب أعظم اختبار للوطنية. وقال بعض آخر: لم تنفصل الوطنية عن الحرية وتستحيل في مجتمع مستعبد، كما عبَّر عن ارتيابه ممن يُظهرون انتماءهم للإنسانية دون التزام لأقوامهم."

هذا الكلام ليس إحساسًا وحسب وإنّما ممارسة وطرح، ولا خير في الإحساس دون الطرح والممارسة، وكم بالحريّ في حالنا نحن الأقليّة الفلسطينيّة العربيّة (ليس الجماهير العربيّة ولا المجتمع ولا الوسط العربيّ) في بلادنا، فكلّ مفاضلة بين الخطاب الوطنيّ طرحًا وممارسة وبين الخدماتيّ الماديّ هي مفاضلة بائسة في أضعف الإيمان، وعلينا احترامًا لأنفسنا على الأقل، أن نعيد لخطابنا التوازن الحتميّ بين المركزيّة الوطنيّة والهامشيّة الماديّة.

** الوقفة الرابعة... الخطاب المُتحوّر ومنصور عبّاس.

تستطيع ألّا تتّفق مع طروحات منصور عبّاس وتستطيع ألّا تستسيغها، ولكنك لا تستطيع إلّا أن ترى أن الرجل صادق فيما يطرح، ليس بمعنى صحّة أو عدم صحّة ما يطرح، وإنّما صدق قوله في التعبير عن إيمانه بطرحه وفهمه للخطاب المشترك؛ الخطاب الخدماتي. بالنسبة له التوصية على بنيامين غانس خدمة للخدماتيّة، والتواصل مع بنيامين نتنياهو خدمة للخدماتيّة سيّان، وفي هذا الكثير من الصحّة، أحببنا ذلك أو كرهنا، ولن يغيّر منها لا تجمّل خطابيّ ولا فذلكة تبريريّة.  

يُسجّل لعبّاس في هذا، أنّ "اللي في قلبه على راس لسانه" (إلّا إذا كان عميلًا، وأنا لست من أصحاب مخزون الشهادات)، بينما ياما هنالك من حولنا كُثرٌ غيرُه، "قلبه شكِل ولسانه ليس غير شِكل، بل ألف شكِل" ولا يشفع لمثل هؤلاء في "حربائيّتهم" شعبيّا إلّا كُثرُ "البكّاءات" حولهم؛ تعصّبًا أو سوءَ تقدير أو حُسْن ظنّ!

** الوقفة الخامسة... مع غزوات الأحزاب الصهيونيّة والتسطيح.       

غزوات الأحزاب الصهيونيّة ساحاتنا ليست جديدة، وإن اقتصرت عادة وحتّى سنوات خلت على "اليساريّة" منها، هذا إذا وُجد أصلًا يسار صهيونيّ، هكذا اقتصرت اللهم إلّا في بعض ساحاتنا الخلفيّة؛ "الدروز" و"البدو" فهذه كانت اتّسعت وما زالت ل-"ما هبّ ومن دبّ منها!".

أيّةُ محاولة اليوم لتفسير غزوات اليمين وعينيّا الليكود ساحاتنا ب-"الذكاء الخارق" لنتانياهو أو "الثعلبة الاستثنائيّة" عنده، هي تسطيح للموضوع، فالرجل لا خارق الذكاء ولا استثنائيّ الثعلبة، الرجل مقشّط من القيم صحيح ولكنّه وجد ساحة مزاد خدماتيّ فدخلها يجرّب حظّه، وأيّ محاولة لتفسير ذلك بما فعله أو يفعله، طرحه أو يطرحه عبّاس والإسلاميّة – الموحّدة من أفعال ومن طروحات، وفي صلبها التنسيق مع الليكود، كان أو لم يكن هذا التنسيق بينهما، كذلك هذا تسطيح للموضوع.

القضيّة يجب أن تُرى في العمق وهي في عمق خطابنا الخدماتي الذي طغى على حساب خطابنا الوطنيّ، وما الاختلاف بين الأحزاب العربيّة في طرحه وبضمنها الإسلامّية إلا في التكتيك لا في الجوهر، رغم الفلسفة الزائدة، أو في لغة جدّاتنا "الفلفسة" أو الفذلكة في التبرير والتعليل والتجميل.

المشكلة بيننا وبين الأحزاب الصهيونيّة في المبدأ ليست في شعار المساواة، فاليساريّة منها تتغنّى عند الحاجة بوثيقة الاستقلال وضمانها المساواة، واليمينيّة تتغنّى أيضًا عند الحاجة بتراث بنيامين جابوتنسكي في هذا السياق وضمانه المساواة، المشكلة عندها وبيننا وبينها في هذا السياق هي في تطبيق وممارسة هذا الشعار عنصريّا وبالتالي سياسيّا وحياتيّا خدماتيّا.

القضيّة الجذريّة لهذه الأحزاب معنا هي القضيّة الوطنيّة؛ هل نحن "عرب إسرائيل" ممارسة لا كلامًا، أم نحن "وطنيّون فلسطينيّون" ممارسة لا كلامًا وارتباطًا سياسيّا وليس شعارًا تصريحيّا، يعني هل نحن جزء من حقّ تقرير المصير الوطني لشعبنا أم نحن مركّب إسرائيلي ننادي بحقّ تقرير المصير لبقيّة شعبنا. نحن بتغليب خطابنا الخدماتيّ الماديّ "العربي الإسرائيلي" الذي تغلغل في صفوفنا طاغيًا على خطابنا "الوطنيّ الفلسطينيّ" بالمفهوم أعلاه، فتحنا الساحة وهذه هي الحقيقة وكلّ ما عدا ذلك تسطيح في تسطيح. فصار عند نتانياهو وغيره، فما دام القضيّة ماديّة خدماتيّة، ف- "على أونا على دوّا وال- يدفع أكثر، جوّه!!!" 

** الوقفة الأخيرة... مع نور الوطنيّة الفطريّة.    

أنا من أولئك الذين رأوا في "المشتركة" خطأ استراتيجيّا، ومرّة أخرى كتبت وطرحت حينها هذا الاجتهاد، و"على حافّة الشوكة" كما تقول مقولة لا أعرف أصلها، وكمثال فقط فأنّه الكتوراليّا كان وما زال يمكن أن تحصل الأحزاب على نفس عدد النوّاب وزيادة واحد (رغم أنّه وحسب رأيي القضيّة ليست في العدد) بقائمتين مرتبطتين تجمع كلّ منهما الأقرب لبعض سياسيّا واجتماعيّا وفكريّا، تسود بينهما المنافسة الحضاريّة وتتعاونا ميدانيّا على إيصال الرسالة للنّاس، ولن يكون الإيصال صعبًا حين يكون الأمر من باب التعدديّة الحضاريّة؛ الاجتماعيّة والسياسيّة والفكريّة. هذا، التعدّدية الحضاريّة، أفضل ألف مرّة من "ثقافة القطيع!".

أعتقد أنّ الذي سينقذنا من الأحزاب اليمينيّة هو نور "الوطنيّة الفطريّة" التي فينا، والإثبات الفاصل القاطع الباتر أنّه حيث وأينما اهتزّت هذه الوطنيّة وعينيّا في ساحاتنا الخلفيّة (الدروز والبدو) صارت هذه الساحات مرتعًا خصبًا لهذه الأحزاب.

ولكن "الفطريّة الوطنيّة" بحاجة لصيانة دائمة، وهذه مهمّة الأحزاب والحركات حين تعود من خلف الأرائك الخدماتيّة إلى الميادين الوطنيّة.