إذن هناك قمع للحريات!
تاريخ النشر : 2021-02-25 16:45

صدر مرسوم إزالة القيود أمام الحريات في مناطق السلطة، بناءً على توصية من الحوار في القاهرة، واعترافاً من طرفي الانقسام، الممسكين بتقاليد السلطة، في الضفة الفلسطينية، وفي قطاع غزة، بأن الحريات في هاتين المنطقتين مقيدة بأشكال مختلفة، الأمر الذي تتطلب مرسوماً يدعو لإطلاق الحريات دون قيود، سوى ما يقره القانون.

والحريات، على اختلاف أشكالها، وتعبيراتها، يفترض أنها مكفولة بحكم القانون، ولا نعتقد أنها بحاجة إلى مرسوم لإزالة القيود من أمامها. هذا في ظل نظام سياسي معافى، يسوده القانون، بمرجعية الدستور الملزم للجميع، تتفاعل فيه السلطات المختلفة، كل في ميدانه، من أجل تطبيق القانون، بما يكفل مصلحة البلاد والمواطنين نظام تتمتع فيه السلطة التشريعية، بالصلاحيات، والقوة القانونية، والمعنوية، وتمتلك الإرادة السياسية لتكون هي مصدر التشريع، ومحطة الرقابة على السلطة التنفيذية، تسائلها وتراقب أعمالها، وتراجع خططها وموازناتها، وبناءً عليه تمنحها الثقة، جماعة أو أفراداً، أو تحجبها عنها. سلطة تشريعية، لا ترتبط بالسلطة التنفيذية بعنصر الخدمات المتبادلة، في علاقات زبائنية، وفي إطار المصالح الفردية والفئوية والجهوية. سلطة تشريعية لا تخضع لهيمنة رأس النظام، بل تشكل رقيباً على دور رأس النظام في إدارة الشأن العام، بما يكفل لكل سلطة صلاحياتها وحدودها وقوتها لتحمل مسؤولياتها.

نظام تتمتع فيه السلطة التنفيذية بنظافة اليد، تقوم على مبدأ خدمة البلاد والمواطن، تضع الكفاءة الشرط الرئيس لتشكيل المؤسسات، بديلاً للولاء الحزبي أو الجهوي أو الزعاماتي، بحيث لا تكون الإدارة ملحقاً بالحاكم، أو الحزب الحكم، أو حزب الحاكم، بل إدارة محايدة سياسياً، تعمل على تنفيذ الخطط والمشاريع وإسداء الخدمات وتوفيرها، وفق منطق التقنوقراط، تاركة للسياسيين وحدهم الصراع على القضايا السياسية.

نظام تتمتع فيه السلطة القضائية بالاستقلال التام، تتوفر فيها لرجال القضاء شروط العيش المريح، وتحصنهم ضد الرشوة، وتمنحهم القوة للتصدي للسلطة التنفيذية، وللسياسيين، وبحيث لا تتحول السلطة القضائية إلى أدوات لتصفية الحسابات السياسية والفردية مع المعارضة، والخصوم وكمّ الأفواه، وقمع المواطنين، باسم القانون، وبذرائع ودعاوي تشوه الحقائق، وتضعف القانون، وتجعل منه مدخلاً لإضعاف الجميع، وإضعاف الحالة السياسية وتشويه الحياة الحزبية.

نظام تكون فيه للسلطة الرابعة، أي الصحافة والإعلام، حريتها تحت سقف قانون، يصون هذه الحرية ولا يهددها، يعليها ويجعل منها عنواناً حقيقياً للحياة الديمقراطية ولحرية الرأي في البلاد. نظام لا يتهدد الصحفيين لا بالسجن، ولا بالفضل من المهنة، ولا الإحساس الدائم بخطر البطالة والجوع، فضلاً عن توفير مستوى راقٍ من الحياة، يبعد رجال الإعلام عن اللجوء إلى الصفقات، أو التبعية، للداخل أو للخارج، في سبيل توفير التمويل. وهنا يكون دور للسلطتين التشريعية والتنفيذية في سن قوانين وتطبيقها تكفل توفير الدعم المالي العادل، للصحافة المحلية، إما عبر الإعلانات الرسمية، بالتوزيع العادل أو بالدعم المالي المباشر، كذلك بالتوزيع العادل.

النظام السياسي الفلسطيني ولد مشوهاً، في سياق سياسي انقسامي، جعل منه، في العديد من مؤسساته، صورة طبق الأصل للحزب الحاكم، وعندما وضع أمام استحقاق الفصل بين مؤسستي الرئاسة والحكومة، اشتعلت الحرب بين تيارات الحزب الواحد، واستمرت هذه الحروب إلى لحظة رحيل الرئيس ياسر عرفات.

شكلت محطة الانتخابات التشريعية عام 2006 تاريخاً فاصلاً، انقسم فيه النظام السياسي على نفسه، مما زاده تشوهاً، في ظل الصراع على شرعية الحكومة، وشرعية المجلس التشريعي. فتحولت السلطة إلى أداة في الاحتراب الحزبي، قادت إلى المزيد من التشويه، كانت ضحيته الحريات الديمقراطية بأشكالها المختلفة.

فالوظيفة أصبحت أداة رئيسة للقمع من حلال تعميق صفتها الحزبية، وتعميق شروط الولاء لدخول نعيمها بدلاً من الكفاءة، ما أفسد الحياة الاجتماعية والسياسية وجعل من النفاق أحد العناوين الرئيسية للعلاقات بين الرئيس والمرؤوس في المؤسسة الرسمية، وبين المواطن الضعيف والموظف المتسلط، إلى آخر سلسلة العلاقات السياسية والاجتماعية.

وأصبح قانون تنظيم الإعلام على اختلاف أنواعه، خاصة الرقمي وسيلة «مثلى» للقمع، أتاح للسلطة (عندما نذكر السلطة فإننا نذكر السلطتين معاً)، وممارسة القمع باسم القانون، بدلاً من أن يشكل القانون حماية للمعارض من القمع، وما زالت حتى الآن العديد من المنصات الرقمية محجوبة، هنا وهناك، باسم القانون، لا لشيء، سوى لأنها شكلت صوتاً جريئاً في المعارضة، ومحطة بارزة في احتضان المعارضين، وتبني شكاوي المواطنين وأوجاعهم.

وكما هي الوظيفة أصبحت وسيلة للقمع وللتدجين، كذلك تحولت قوانين التقاعد المبكر هي الأخرى وسيلة أخرى للقمع، تلجأ إليها السلطة في تصفية حساباتها مع الموظفين «المتمردين» و«غير الموالين»، والأخطر القادة النقابيين الذين لعبوا أدواراً في تحركات القطاعات الخاصة والرسمية، على غرار ما تعرض له بعض قادة نقابة المعلمين، عقاباً لهم على دورهم في قيادة تحركات النقابة ضد وزارة التعليم. ولدى صاحب السلطة المساحات الواسعة للتمويه على حقيقة نواياه، وبحيث تشوه سمعة الموظف قبل إحالته إلى التقاعد الإلزامي المبكر، تحت دعاوى مختلفة، من بينها الإخلال بقانون الوظيفة، في الوقت الذي تكون فيه السلطة هي من أخلّ بقانون التوظيف، وقانون احترام الحريات النقابية.

أما القمع بالاعتقال السياسي، وقد أنكرته السلطتان طويلاً، ورفضت الاعتراف باقترافه فهو من أخطر أنواع القمع، حيث يتعرض المواطن لأشكال من التعذيب الجسدي والمعنوي، ما يتعارض صراحة مع مبادئ حقوق الإنسان والمواثيق الدولية ويدخل في باب الجرائم ضد الإنسانية.

صدر مرسوم الحريات، فرحب به الجميع بمن فيهم الذين يمارسون كل أشكال القمع للحريات على اختلاف أنواعها.

وانتظرنا أن نشهد المعتقلين السياسيين، في الضفة وفي القطاع، يغادرون السجون جماعات وأفراداً، تنتظرهم عند البوابات الحديدية وسائل الإعلام، تحتفي بمرحلة جديدة من الحياة الديمقراطية.

ما حصل أن المرسوم تحول إلى مادة جديدة للاحتراب الإعلامي والسياسي بين طرفي الانقسام، فتح وحماس.

السلطة في رام الله، تنكر أن يكون لديها معتقلون سياسيون، أو حزبيون، وأن من لديها موقوفون أو محكومون جنائياً.

وكذلك تدعي سلطة الأمر الواقع في قطاع غزة الأمر نفسه.

ولا يحتاج المرء منا أن يكون شديد العبقرية ليعرف أساليب السلطتين في التلطي خلف القانون، إذ لم يصل الغباء بأي منهما للاعتقال تحت ذرائع سياسية، بل تعمل كل منهما على تلفيق التهم للموقوفين السياسيين، بذرائع مختلفة، خاصة في ظل ضعف سلطة القضاء وعدم مناعتها. فهناك تهمة مخالفة قانون الإعلام، أو تشكيل خطر على الأمن العام، أو التخابر مع أطراف خارجية (كأن يخابر شخص في غزة ما جهة سياسية في رام الله أو العكس) إلى هنالك ما يمكن للعقل القمعي أن يتفتق عنه من إبداعات قمعية، جعلت من السلطتين، في الضفة والقطاع، تحتلان موقعاً متقدماً في سجل السلطات والأنظمة الأقل احتراماً لحقوق الإنسان.

وما زال المعتقلون في رام الله، في السجون، وما زالت حماس تطالب بإطلاق سراحهم.

وما زال المعتقلون في غزة في السجون، وما زالت فتح تطالب بإطلاق سراحهم.

أما مرسوم الحريات، فما زال معلقاً في الهواء. فالعطالة الأساس هي في نظام سياسي لا يحترم الحريات ولا يقدرها، بل كثيراً ما يناصبها العداء، لأنه يرى فيها خطراً على مصالحه67786- الفئوية.