صورة المرأة والطفل في ديوان "الشمس القتيلة" لرحاب كنعان
تاريخ النشر : 2021-03-19 10:52

شغلت المرأة حيزاً وافراً من الأدب شعراً كان أم نثراً, فالمرأة مُلهمة للأدباء والشعراء, وقد اتخذ الشعراء من المرأة معادلاً موضوعياً لأحاسيسهم ومشاعرهم, ومن ذلك حديثهم عن سكن المحبوبة (الطلل), فهذا عنترة يقول:
هلْ غادرَ الشعراءُ من متردِّمِ أمْ هلْ عرفْت الدارَ بعدَ توهُّمِ
يا دارَ عبلةَ بالجواءِ تكلَّمي وعمي صباحاً دارَ عبلةَ واسلمي
فالمرأة هي المبرر العاطفي الذي يبعث حنين الشاعر للمكان. وفي العصر الحديث أصبحت المرأة تتمتع بقدر كبير من الحرية ورفض كل القيود التي كان المجتمع العربي القديم يربطها بها, وانعكس هذا على الشعر وتغير تناول الشعراء لصورة المرأة, فجاءت شخصية المرأة في الشعر عامة والشعر الفلسطيني خاصة, لتواكب الحياة مع الرجل, ولتتحمل شيئاً من متاعب الحياة, وقد أنصفها الشاعر الفلسطيني وأعطاها حقها, أو بعضاً من حقها, فهي الأم والمدرسة والوطن, وهي الصابرة والمناضلة والثائرة, وهي الأخت والزوجة.
ونلتمس في ديوان (الشمس القتيلة) لرحاب كنعان مكانة راقية وسامية لشخصية المرأة في قصائدها المشتعلة بالثورة والصبر والكفاح والحنان, ففي قصيدة (العنقاء) تتمثل صور المرأة في (الأرض الأم), التي فقدت أبناءها, ولا تعلم عن مصيره شيئاً, فتقول:
يا أم ..
كالنيازك تفرقت نجماتك بين المدى
فأين ألوف..
كانت في رحمك كسيول عاصفة ؟!
هل خرجوا من حقل جسدك؟!
يبحثون بين المواسم
عن حبيبةٍ؟!
هل توقف صوتك الناضج أمام أصوات خافتة
تتماوج بين رعشات الريح؟!
تأملي دواخلنا في المصير المعتم
وانهضي من القاع الناشف
من مستنقع التعارضات
وتضاريس الهاويات
وانزلاق الهزائم
جاءت المرأة هنا كعامل موضوعي تنتقل بها الشاعرة إلى ما ترنو إليه, فتمارس في صورة المرأة الخيال الفني لتعالج قضية التشتت والضياع وتخلي الأبناء عن أرضهم, والخروج القهري منها, والذي تسبب بحرمان هذه المرأة من ابنها, فتستنهض الشاعرة الهمم لإعادة هذه الأرض التي صورتها بصورة المرأة الأم التي تخلى عنها أبناءها, فتقول:
يا أم ..
أين ألوف كنت تحملينها في رحمك؟
زرعت فيها جذور العشق
فأيقضت عروقها بابتسامتك
يا أم ..
كانت تلتهب بمدها تحاصر الحصار
ويعصي عليها الانكسار
فمهما أمطرت وفاضت الأنهار
ستبقين كالعنقاء تتحدين الإعصار !!
فهذا دال على العودة إلى الأرض والوطن, ومن الممكن أيضاً أنَّ الشاعرة تريد أن تصل بشخصية الأم إلى كل أم فلسطينية لترسل ابنها للجهاد والكفاح؛ من أجل تحرير وطنها, ففلسطين ستبقى وستلد الأحرار وستنهض من عمق الألم والمعاناة ثورة في وجه المحتل.
وفي حديث الشاعرة عن المرأة يتداخل صوتها مع صوت الأرض فتتساءل عن أبنائها أملاً منها أن يكونوا حاضرين لتحريرها, ثم تصف الشاعرة هذه الأم أو الأرض "ستبقين كالعنقاء" فالعنقاء طائر ينهض ويحيى بعد أن يصبح رماد, وفلسطين ستنهض وتتحدى كل مغتصب وظالم, بل وصفت الشاعرة نهوض فلسطين بالديمومة والاستمرارية, كما في الماضي نهضت ستنهض في الحاضر والمستقبل.
ومن الصور التي رسمتها الشاعرة للمرأة هي صورة البطل المناضل, وهي صورة متعددة الأدوار وقد وظّفتها في كثير من الأدوار التي تمتاز بسمات متحركة ثائرة, رافضة للواقع أو متسائلة عما يحيط بها, فتتحرك وفق ما تريده الشاعرة لتشكل ملحمة أو مجزرة عالية الصراع؛ لرسم ملامح القصة حسب دورها المنوط بها, وقد تكون الشخصية هي: الأم, أو الأمة, فلسطين أو القدس أو عكا أو حيفا أو غيرها.
ترَجّلي يا أماه لقوافل الشهداء
زُفي الورود للقبور
لا تتعثري .. فهم تاريخ الزمن والعصور
بالحجر والمقلاع والخنجر
يحمون مسرى الرسول
يعانقون جدار القدس كالنسور
وفي معظم قصائد رحاب كنعان, لم تكن فلسطين الأم أو القدس أو الوطن لتغيب عن عينها, أو عن مخيلتها, وكانت دائمة النظر والتفكير إليهما, وهي ترنو وتحنّ لتحريرهما وللحرية, فتمثلت فلسطين للشاعرة بشخصية الأم التي تفجر فينا صاعق الثورة والانتفاضة على الظلم, وليس للحدث الذي تحياه الشاعرة شخصية مناسبة سوى شخصية المناضل, فالشاعرة فلسطينية مشردة يعيش الإسرائيليون في أرضها وموطنها.
وتنطلق الشاعرة من منطق الواقع الذي تحياه المرأة الفلسطينية, فهي التي عانت وتحملت الكثير, وهي التي فقدت من أنجبت, فالمرأة الفلسطينية يضرب بها المثل في الشقاء والصبر والتحمل, لذلك فإنَّ الشاعرة تشعر بها ولا تفارق ذهنها وتفكيرها, وبالتالي فإنها تنعكس على أشعاره تلقائياً.
فتتجلى صورة المرأة في أشعار رحاب كنعان وغيرها من الشعراء بأدوار متمايزة, فهي الأم الفلسطينية الصابرة, وهي المرأة الثائرة المجاهدة, وهي الأرض المتجذرة من آلاف السنين.
ومن الملاحظ في الشمس القتيلة أنّ شخصية الطفل في الديوان هي الأقل ظهوراً رغم أن الناظر في قصيدة أطفال الحجارة يجد أنها الشخصية الرئيسية التي تدور حولها الحكاية غالباً ما تكون شخصية في فترة الطفولة, وهذه المرحلة من مراحل العمر لم تأخذت جانباً كبيراً من قصائد الديوان, رغم أن وجود شخصية الطفل في الشعر العربي المعاصر وخاصة الشعر الفلسطيني له حضور كبير فقد "تمّ توظيف الطفل رمزاً سياسياً, حين جعلوه رمزاً للثورة المنتظرة تارةً, ورمزاً لنقد السلطة المهملة لحق الأمومة والطفولة تارةً أخرى, كما تمّ توظيف الطفل رمزاً للوطن المحتل, وأخيراً رمزاً لمستقبلٍ أفضل"( ), والشاعرة رحاب كنعان تسقط على هذه الشخصية آلام الغربة والتشتت والضياع, ولتتقنع خلفها بدور الباحث عن الحقيقة والرافض للظلم والهوان.
ففي قصيدة (أطفال الحجارة) تقول :
ترجل أيها الحجرُ
تجل أيها المقلاع
انتفض أيها الخنجر
تحد رياح الحقدِ
تنقل بأيدي الأطفال كالعصفور
ناطح السّحاب, أطلق زغرودة العبور( )
فشخصية الطفل هنا تحارب الباطل, وتتمثل شخصيته في الثائر والمقاوم ضد الظلم,
فالطفل في هذه الأبيات السابقة شخصية تؤثر في الحدث, وتحاول أن تنهض بالثورة, فتكشف عن سمات الشخصية, والتي تؤثر في هذا الحدث, بل ويجمل أيضاً هذا الحدث والثورة ضد الحقد والغدر والظلم؛ لعمل التغيير المناسب الذي تريده الشاعرة كحالة الطفل هنا, وهو الثائر على الظلم, وهذا ما تعبر عنه الشاعرة من خلال وصفها وهي تقول:
ماذا نكتب في قصائدنا وللتايخ؟!
أنكتب عن طفلٍ غفا على صدرٍ ..
أضحى بارداً برودة الأعتاب ؟!
أم عن ضجيج الروح وهي تتقلبُ
تحت أقدام السرية وبين مخالب الثعبان ؟!
ماذا نُجيب يا أمة الحقِّ .. يا أمة الرحمن ؟!( )
فالشاعر بهذا الطفل الذي لم ينعم بالحنان والسكينة تعبر عن الثورة المتأججة, والنار المشتعلة على أشكال الظلم والقهر, فجاء دور شخصية الطفل هنا كأنه الصاعق المفجر للثورة, وأيضاً كان هو الفلسطيني القادم عبر التاريخ إلى المستقبل.
وقد لجأت الشاعرة إلى طرق أخرى في ترتيب أحداثه قصائدها, مبتعداً بذلك عن الترتيب الزمني الطبيعي للأحداث, فقد بدأت بالأحداث من الزمن المستقبل مثلاً, ثم تتجه إلى الماضي, ثم إلى المستقبل, ثم يعود إلى الحاضر أو إلى الماضي مرةً أخرى, وذلك حسب الحالة النفسية التي تسيطر عليها, لأنها تقدم لنا الأحداث كما تراها من وجهة نظرها, فتريدنا أن نرى كما ترى, وأن نشعر بها وأن نعيش ما تعيشه, وكل هذا يأتي ضمن التداعي النفسي, "فالتداعي النفسي هو وسيلة يلجأ إليها المبدع للتعبير عن مخبآت النفس اللاشعورية المستمدة من أحلامه وذكرياته, أو الرموز ذات الدلالة الجنسية, معتمداً في ذلك على الذاكرة والحواس والخيال".( )
وشاعرتنا رتبت أحداث قصائدها ترتيباً اجتماعياً, وذلك حسب الحالة الاجتماعية التي كانت تحياها. ففي قصيدة (أطفال الحجارة) نرى الأحداث مرتبة ترتيباً اجتماعياً وسياسياً لا زمنياً, وبالإمعان في عنوان القصيدة, نجد أنّ عنصر الزمان قد ذاب بين الحجارة والطفولة, فهو يدل على زمن من العنف في حياة طفل, هذا الاختلاط في الأزمنة وعدم وصفها وصفاً طبيعياً هو ما قصدناه بالتداعي النفسي للأحداث, تقول الشاعرة:
ترجل أيها الحجر
تجل أيها المقلاع
انتفض أيها الحجر
تحد رياح الحقد
تنقل بأيدي الأطفال كالعصفور
ناطح السحاب, أطلق زغرودة العبور
ترجلي يا أماه لقوافل الشهداء
زفي الورود للقبور( )
في هذه القصيدة نرى الترتيب السياسي والنفسي والاجتماعي للأحداث واضحاً, فالشاعرة تبدأ من المستقبل القريب الذي ترى فيه النصر والثورة والحرية, وذلك في حبكة تجعل القارئ يُساير الشاعرة, فيذهب معها إلى المستقبل.
فالأفعال التي استخدمتها الشاعرة ( ترجل, تجل, انتفض, ناطح, ترجلي, زفي) تعني الانتقال للمستقبل وإلى الثورة والحرية