الفكــرُ والفــنُ فـــي رواية اليهودي الأعرج
تاريخ النشر : 2021-06-23 09:35

الفكر والفن مصطلحٌ يعبرُ عن رؤية الأديب والأبعادِ الفكرية التي يريد أن يبثها داخل نصه الأدبي، عبر تقنياتٍ سرديةٍ تعبر عن تلك الرؤى والأفكار بطريقة لغوية فنية.

ولكل عملٍ أدبي رؤيةٌ تمثل في جوهرها مجموعة القيم التي يتعامل الفنان مع الواقع على أساسها، وتعكس موقفه من العالم والحياة، فالأديب هو من يحدد نوع الرؤية في عمله الإبداعي من خلال استخدامه مجموعةً من الأدوات والوسائل بطريقة متلائمةٍ ومتناسقةٍ.

وعرض الكاتب (هاني السالمي) في روايته (اليهودي الأعرج) أكثر من بعدٍ ورؤية، فقد سلط الضوء على العديد من الممارسات السياسية بحق أهالي فلسطين خاصةً في المخيمات، والعادات والأعراف الاجتماعية، كذلك التضييق على الأهالي.

ويعد البعدُ السياسي من أهم الجوانب المسيطرة لدى الكتّاب في روايته (اليهودي الأعرج)، فالكاتب يتبنى موقفاً تجاه الكشف عن حقيقة هذا اليهودي وما وجده في القدم الخشبية، هو السارد العليم والوحيد للأحداث التي دارت حولها الرواية، وبذلك تعتبر الرواية من أهم الأدوات الفنية المعبرة عن الواقع والمآسي الاجتماعية والسياسية بشتى أشكالها.

 فقد وظف الكاتب هاني السالمي التاريخ الإسلامي للتعبير عن حيرته ومأساته وما يعيش به من تشتتٍ ورفضه لواقعه الأليم، فقد استدعى التاريخ الإسلامي في عهد الخليفة الأموي [عبد الملك بن مروان], وذلك من خلال حلمه بالصحابي الجليل عروة بن الزبير، وجعل من هذا الحدث  قناعاً فنياً يعبر به عما يحياه  غسان بطل الرواية من تشتتٍ وما يحيط به من الضبابية.

فيأتي هاني السالمي في رواية (اليهودي الأعرج) معتمداً على فترةٍ معينةٍ من التاريخ, وهي الزمن منذ الانتفاضة حتى قدوم السلطة، فيحاول الكاتب فيها أن يجعل من التاريخ أي الزمن عاملاً فارقاً في حبك أحداث الرواية حيث حديثه في صفحة 25 حول زمن ازياد حركة السلاح في المخيم  إذ يقول: ( في فترةٍ غير مناسبةٍ من تاريخ المخيم ازداد عدد المسلحين والاتجاهات والتفكير في نمط المقاومة والسلام، وأصبحت لغة السلاح تتحكم في قرارات وتفاصيل الحياة عندنا.

صار السلاح يتدخل في الزواج والطلاق والمشاكل العائلية، على مساحة البيوت، والشبابيك التي تفتح على الشوارع الفرعية، ومن كان لا يملك سلاحاً أو رصاصاً لا يستطيع أن يدافع عن حقه في العيش في المخيم.)  فالرواية مليئةٌ بالأحداث المشابهة لما تمر بها غزة اليوم، حيث شكل السلاح والقوة في غزة ركيزةً أساسيةً في تشكيل القرار, وقد وظف الكاتب التاريخ وأسقطته على الزمن الذي كتبت فيه الرواية، وكأنه يحذر من العواقب الوخيمة التي ستترتب على هذه الظاهرة. وفي صفحة 60 نجد أن التاريخ يشكل الفكر والثقافة, وفي حوار (شوندر مع عرزا) يأتي التاريخ والزمن عند اليهودي للتحريض وبث الكراهية والحقد عند اليهودي تجاه الفلسطينيين ومن أمثلته ما جاء في صفحة 76  و 77 وكأن السالمي يحذر من العواقب الوخيمة التي ستترتب على هذه الخديعة وكيف لهذا اليهودي الذي يدعي مهنة الطب ينظر إلى الماضي وكأنه ناقوسٌ يدق في سويداء قلبه فيدفع للحقد والكراهية وقتل الفلسطينيين وخداعهم.

ويرجع هذا للارتباطٌ الوثيق بين الأدب والتاريخ، فيتحول هذا التاريخ من وقائع وأحداثٍ جامدةٍ إلى صورٍ حية تنبض بالحياة تعبر عن نفسية الكاتب أو الروائي.

فيخيل إلينا أننا نعيش ذلك الزمن، فهو لا يمر مرور الكرام على حادثةٍ ما، وإنما يصورها لنا ويتفنن في ذلك حتى يخيل لنا، أننا نعاصر ذلك الحدث بكل ما فيه من آلامٍ وأوجاعٍ، وقد رسم السالمي لنا أحداث الرواية ببراعةٍ فائقةٍ، حيث استطاع أن يرسم صورةً فنيةً لليهود المهزومين في دواخلهم نتيجةً لأحقادهم ومكرهم.

وتبدأ الأحداث السياسية في الرواية بذهاب (غسان) مع صديقه (آسر) إلى بيت تعرض للتدمير من قبل جيش الاحتلال وتم قصف بيته حتى لا يبقى له أثر، فيجد هناك قدماً خشبيةً, وجاء بهذا الحدثِ تمهيداً ليشغل البطل غسان بهذه القدم بعد أن يترك مهنته في جمع الرصاص وإعادة تصنيعه بالبارود نتيجةً لتهديدٍ له من المسلحين.

قدم  حدث وجود القدم الخشبية كإشارة لما هو آتٍ من محاولات الغدر والمكر الذي يتمثل في شخصية اليهودي الأعرج وهو ما يتضح من العنوان، فغياب صاحب هذه القدم وهويته التي بدأ غسان بالبحث عنها، هو دليل على أن هناك خطباً ما، فالكاتب يريد أن ينبهنا إلى خداع العدو، والحذر من غدره ونقضه للاتفاقيات والمعاهدات.  والكشف عن هذا الخداع فيقول: ( علمتُ بأن آسر يعاني من تلبُك معوي شديد، وصرت أنتظر شفاءه بفارغ الصبر، لأكمل البحث عن اليهود الذين عاشوا بيننا، وكان الهدف بداخلي أن أجد الأعرج، لأنه في بداية الهجرة اختفى ولم يَبنْ له أي أثر.  وتخيلت في لحظات أنه شخصيةٌ خيالية، أو مجرد رمزٍ، لكن حسب الصور الموجودة بين يدي يوجد رجلٌ يقف في الوسط وحوله شخصيات، طبعاً أنا وجدت شخصيتين، (حارس البئر، والهاليون). صرت أدعو من كل قلبي أن يتماثل آسر للشفاء بأسرع وقت، لنكمل البحث)

وتحدث هاني السالمي في روايته –موضوع الدراسة- عن" انتفاضة الحجارة" الفلسطينية، التي  كان سلاح الأهالي فيها الحجارة، ليبينَ للمتلقي قلة الامكانيات والعتاد في مواجهة المحتل ومن ذلك ما جاء في قوله: (أبو الليل كان منتمياً  لأحد التنظيميات العاملة في انتفاضة الحجارة، كان ينفذ قرار الإعدام للعملاء في المخيم، كان كل ما يملك هذا التنظيم هو قطعة سلاحٍ كارلو ستاف قديمة) فسرد وقائع بعضاً من وقائع هذه الانتفاضة باستخدام ضمير الأنا وهو ما يعرف بالسارد العليم, وأشار إلى أن التنظيم بكامله لا يمتلك إلا قطعة سلاحٍ واحدة.

ركز الروائي على الصراع السياسي بأشكاله المختلفة بين الفلسطينيين وبين هذا  المحتل الذي يستخدم كل ما لديه من أساليب المكر والخداع فطرح (هاني السالمي) في روايته -اليهودي الأعرج- أكثر من شكل فني، نراه مرةً سرداً، ومرةً مناجاة ، ومرة على شكل أحلام يراها غسان، فقد رأى غسان في المنام صحابياً جليلاً  عروة بن الزبير، وهذا الحلم يدل على الهروب من الواقع، والعجز عن تحقيق المراد وتحمل الألم والمعاناة، فيلجأ العقل الباطن إلى الأحلام.

 ونجد في رحيل ماجد صديق غسان محاولةً ربط الأسباب بالنتائج، فنجد أنه لم يتعظ من تحذير صديقه غسان وأخذه الغرور فجاء رحيله نتيجة حتمية للحال التي وصل إليها ، فقد أصبح مسؤولاً في جهازٍ عسكري  له مهمة سيقوم بها ويتنهي دوره حيث كانت النتيجة الحتمية له هي الرحيل.

عرضت الرواية لقضية الاسقاط في وحل العمالة من خلال شخصية (سمحى ليفي) التي كانت تملك شاحنةً من نوع بيجو تأتي في الشوارع وتجمع العمال وتقلهم للعمل في المستوطنة فكانت تتحرش بهم بهدف اسقاطهم في وحل العمالة، وكانت تُصوِّر العمال في أوضاع مخلة! فيخاف العامل من الفضيحة؛ فكان يأتي لها بالمعلومات والأخبار عن المخيم وخاصةً عن حَمَلة السلاح.  

نلاحظ أن الكاتب (هاني السامي) في هذا المضمار ذكر شخصيتين يهوديتين، أحدهما (سمحى والشحاد أبو كرش)  وهو الضابط (دانيال كوهين) ، ولم تختر هاتين الشخصيتن عبثًا، بل اختارتهما بعناية وقصد، وفي ذلك إشارةً لى أن  اليهود لم يحترم أي شيء يخص الفلسطيني حتى العرض بل جعلوه نقطة ضعف لإسقاط الفلسطيني. ولم يترك اليهود أي وسيلة لإسقاط الفلسطيني.

فقام بناء الحدث الروائي في رواية اليهودي الأعرج  على الأحداث التي مر بها الفلسطيني في المخيم ممزوجة بالخيال، الذي يعتمد تحويل لغة واقع المخيم إلى فضاءات مغايرة عن طريق المحاكاة ، فقد أبدع الكاتب في صياغة الأحداث وفق طرق فنية يتفاعل فيها الواقع مع المتخيل، فاعتمد على الراوي العليم الذي يحكي سيرورة الحدث وفق متخيل سردي، والراوي العليم الذي مثله بالحوار بين الشخصيات, كشف من خلاله العديد من الأحداث التي مرت بها تلك الشخصيات، أو من خلال استذكار بعض الشخصيات لأحداث سابقة وما زال أثرها باقياً، عليهم، حيث شكلت الذاكرة دوراً أساسياً في تشكيل الخطاب السردي في النص الروائي.

ومن المعلوم أن المخيم حظي باهتمام الروائيين، وتمثل حادثة الخداع وزرع العملاء بين الفلسطينيين الحدث الأعظم في الرواية، فقد سرد الكاتب هذا الحدث بأكثر من تقنيةٍ من خلال عدة شخصيات، فالرواية ليست فقط سرداً لأحداث المخيم ومكر اليهود وفق قالبٍ روائي فقط، وإنما هي تسليط للأضواء على قضية الشعب الذي عانى ويلات هذا المحتل حتى بعد أن أصبح الشعب لاجئاً ومشرداً.