وحدة الساحات ... ماذا بعد؟!
تاريخ النشر : 2022-08-12 16:18

لَم تنتهِ هذه الجولة مع العدو كما يظن البعض، فهي أحد جولات الصراع الممتد ما دام العدو يجثم على صدورنا، ويقتلع آهاتنا، وينتزع أرضنا، ويقيم كيانه غير الشرعي في وطننا، فنحن جيل تلو جيل يسلّم الراية، يذهب شهيد لتتمرد رحم الأرض وتلد ألف مقاتل، وتزهر في بيارقنا وكرومنا أشجار الزيتون، وسنابل الحنطة ليبقى الفلسطيني قابضًا على إيمانه المشروع بحتمية النصر يومًا، ومواجهًا صلافة هذا العدو الذي يحاول كسر كلِّ من يهتف بفلسطين.

خاض الجهاد الإسلامي معركة من ضمن معارك شعبنا الذي يخوضها منذ أنّ جثم الإنتداب البريطاني الأرض وعبد الطريق لعصابات جمعها من كلِّ أصقاع الأرض لينتزع أرض وشعب، جولة لن ولَم تستطيع كسر جبروت الفلسطيني كما أراد لها العدو، ولن تستطيع ترويض المقاتل الفلسطيني، وثنيه عن مكونة الفطري (التحرير) وليس بديل.

ولكن لنقف على حدود مسؤولياتنا التاريخية والوطنية، يجب علينا أنّ نقف على الحدّ الزماني والمكاني لمعركة (وحدة الساحات) التي خاضتها قوات الجهاد الإسلامي مع بعض القوى الفلسطينية في غزة، خلال ثلاثة أيام، تلك الجولة التي جاءت بمعطيات مختلفة عما سبقها من جولات، رغم أنها تأتي في السياق العام، قتل كلِّ فلسطيني يهتف بفلسطينيته.

أعد العدو العدة لتمهيد الأرض لمحاولاته المستمرة بتهيئة الساحات الفلسطينية للخضوع لسياسته وأهدافه ومراميه، فلَم يكن رأس الجهاد الإسلامي المطلوب فقط، بل كانت رأس المقاومة الفلسطينية التي تقف على منصة (المشروع الوطني) الذي يحاول العدو أنّ يخضعه لمقاييسه الإقتصادية والخدماتية فقط، والدفع بأصحاب القرار برفع مطاليب التسهيلات الإقتصادية والحياتية، والإنزواء بالمشروع الوطني من خلال ترويض غزة ودفعها خطوات للخلف للبحث عن تسهيلات حياتية، وتقسيم الضفة لكنتونات تحت رحمة الآلة الصهيونية وهجمات المستوطنين، وإذابة المشروع الوطني برمته بين قوى أصبحت تريد الحفاظ على مساحة نفوذها وسلطتها وحكوماتها القائمة.

ما فرضته معركة الأيام الثلاث أعمق بكثير ممّا نرى فيه أنه معركة ضد فرسان الجهااد الإسلامي، فهي معركة مدروسة ومتطلب صهيوني ملح، وتمَّ تنفيذها وفق خطة معدة وبدقة ومحددة أهدافها، وإنها أخذت أبعاد ظاهرية حاول العدو أنّ يعممها عبّر ماكنته الإعلامية، ووسائله الإعلامية، وتصويبها نحو حركة بعينها كغلاف يمكن أنّ يجذب ناظر الرأي العام المحلي والدولي.

ولذلك علينا إعادة دراسة وقراءة المعركة بأبعادها العميقة، وبرؤيتها المحددة صهيونيًا، وربما ما يؤكد ذلك توحد التناقضات الصهيونية لابييد-نتنياهو في أثناء سير المعركة، وما تلا المعركة من تجاذبات في الشأن الفلسطيني، وعليه فما هو المطلوب منا في هذه المرحلة:

أولًا: حركة الجهاد الإسلامي:

حاول العدو أنّ يستغل تصعيد اللهجة التهديدية التي خاضها الجهاد الإسلامي ضد الهجمة الصهيونية التي تتغول في الضفة الغربية، وفي الأقصى، وضد بعض القيادات، ومحاولاته دفع المبررات لتنفيذ هجمته التي استهدف منها إضعاف موقف حركة الجهاد الإسلامي شعبيًا مستغل الحالة المتأزمة للشعب الفلسطيني - اقتصاديًا وحياتيًا- وعلى وجه التحديد في غزة، وعندما لَم ينجح باستفزاز الحركة ودفعها للبدء في معركة أطلق صواريخه لإغتيال قادة الحركة، وهو يدرك تمامًا أنّ الحركة لن تصمت على اغتيال قادتها، لذلك تحدى ذكاء حركة الجهاد الإسلامي وأشعل فتيل المعركة، ضاربًا بعرض الحائط الوساطات ومحاولات التهدئة التي كانت تدور في ذاك الوقت لنزع فتيل التصعيد، بل وذهب بعيدًا عندما حاول أنّ يحرج الوسيط المصري والتأكيد على أنه لَم يمنح أيّ ضمانات للإفراج عن الأسيرين السعدي والعواودة، مستهدفًا الحاضنة الشعبية التي هيأت لحركة الجهاد الإسلامي في المعركة وبعدها.

وعليه فقد خرجت حركة الجهاد الإسلامي أكثر قوة وأكثر حضورًا بعد المعركة، وأصبحت شريك فاعل ومؤثر بالنّظام السياسي الفلسطيني، وهو ما نقلها من واقع المشارك بالمقاومة إلى واقع المؤثر في القرار الفلسطيني، وهو ما يتطلب من حركة الجهاد الإسلامي قراءته بدقة والعمل على التأسيس على نتائج هذه المعركة - وطنيًا- وأنّ تشكل حلفًا فاعلًا ومؤثرًا في حماية المشروع الوطني الفلسطيني، الذي يحاول العدو استغلال السلطتين في رام الله وغزة والضغط عليهما اقتصاديًا وحياتيًا، وترك الحالة عما هي عليه، انسيابية غير محددة الأركان والرؤى، وهذه الغاية التي يجب أنّ يعمل عليها الجهاد الإسلامي الذي أصبح لديه حاضنة قوية يمكنه من خلالها وضع أسس الشراكة الوطنية، وحماية المشروع الوطني، وإفشال مخططات العدو سواء في غزة أو الضفة، وهذا لن يتأتى دون عملية تحشيد وتحالف متينة تقوم على أسس وطنية ثابته ومحددة، وليدرك الجميع أنّ نضالنا مع هذا العدو نضال طويل وشاق، ولابد من العمل على تحقيق الأهداف الفلسطينية التي لا يمكن أنّ تتوافق مع تضحيات شعبنا بأقل من دولة مستقلة وعاصمتها القدس.

باتت حركة الجهاد الإسلامي اليوم أكثر من أيّ وقت آخر تحت مجهر شعبنا الفلسطيني الذي يعول عليها مستقبلًا في الكثير من القضايا والمسائل الوطنية، بعدما أنّ استطاعت أنّ تشكل صمودًا مسؤولًا، وذكاءً في إدارة معركتها الأخيرة، وأنّ تضع على طاولة السياسيين أنّ مخططات العدو لن تمر ولن تحقق أهدافها.

ثانيًا: اليسار الفلسطيني:

بات من المؤكد أنّ اليسار الفلسطيني اصبح اليوم يواجه متطلبات فرضت عليه، لَم تكن في مراحل سابقة، هذا اليسار الذي كان يشكل رأس الحربة في النّظام الفلسطيني، ولكنه تراجع لمستويات منحدرة في التأثير والتأتر بفعل العديد من العوامل، واليوم هو تحت الإختبار الأخير في تحديد متطلبات برامجه الوطنية وثوابته الأساسية في مواجهة مشروع العدو الصهيوني، وبات من المؤكد أنّ قيادة اليسار الفلسطيني اليوم عليها أنّ تعيد قراءة الحالة الفلسطينية برؤية وطنية مستقلة بعيدًا عن منصات سلطتي رام الله وغزة، والتحرر من التقليدية التي كانت عليها، والتي ظهرت في سياساتها منذ أوسلو 1993، وعليها أنّ تستغل هذا الحدث التاريخي، وهذه الفرصة التاريخية وتصيغ مع حركة الجهاد الإسلامي، والقوى الأخرى، رؤية وحلفًا يحمي ويحافظ على المشروع الوطني الفلسطيني، والعمل على الحدّ من الإنزلاق نحو سياسات العدو الصهيوني، والتأكيد على الثابت السياسي الوطني دون الإصطفاف هنا أو هناك، وفق سياسة الصمت تارة والتمرير تارة أخرى، ورغم حالة الإهتزاز التي عليها بناء وهياكل اليسار الفلسطيني عامة إلَّا أنه لا زال حيًا ويمكنه المناورة وإلتقاط الفرصة الإستراتيجية والعمل عليها وفق برنامج وطني مشترك يستهدف الفعل الوطني عامة.

ثالثًا: حركة حماس:

لقد حاول العدو الصهيوني أنّ يضع حركة حماس في رأس حربة أهداف معركته الأخيرة، بشكل غير مباشر، وتمرير حيادية الحركة، وسحب الحاضنة الشعبية من تحت أقدامها، بعدما كانت تعتبر هي رأس المقاومة الفلسطينية، والقارئ لوضع حركة حماس سواء في الضفة الغربية وغياب فعلها المقاوم وكتائب عز الدين القسام عن المشهد، وعدم مشاركتها في غزة تحت دواعي المصلحة الشعبية لغزة يتأكد أنّ العدو يعزف على هذا الوتر لتمرير حيادية الحركة تحت بعض المنجزات الحياتية والإقتصادية، وبعض المنجزات التي يمكن أنّ يغري بها الحركة وخاصة شبابها المؤمن بالمقاومة سواء بصفقة تبادل للأسرى أو بعض المنجزات الحياتية في غزة، وعليه يكون قد حقق ما يسعى له من أهداف - ذكرناها سابقًا- بتحويل الحركة من حركة مقاومة إلى حركة سلطة، وتحويل البندقية من مقاتلة إلى بندقية حارسة للسلطة، وهذا ما يجب أنّ تراجعه الحركة وتقرأ ما حدث بهدوء وبعمق لتستخلص النتائج، وتنطلق باستراتيجية وتكتيكات جديدة، تحدد معالمها ورؤيتها ومكانتها، وعدم تطبيق ما تمَّ تطبيقه على حركة فتح سابقًا.

رابعًا: حركة فتح:

حركة فتح هي عصب النّظام السياسي الفلسطيني، وإنّ حاول العدو من عقود تحييد الحركة، وتحويلها لمسار الحركات السياسية، وحركات السلطة السياسية إلَّا أنّ الشهيد ياسر عرفات قد فطن لهذه الأهداف والسياسات الصهيونية، واستطاع أنّ يعيد حركة فتح لمسار المواجهة مع العدو وتحشيد الشارع الفلسطيني نحو الحقوق الوطنية الثابتة، إلَّا أنّ ما أعقب استشهاده سار على نفس المنهج السابق بأنّ تكون حركة فتح حركة يتم تحييدها وتحويلها لحركة سياسية، إلَّا أنّ الشباب الفتحاوي المؤمن بثوابته الوطنية لا زال يؤكد على أنّ حركة فتح هي رأس الحربة السياسي للشعب الفلسطيني، وأنها شريك قائم ودائم حتى تحقيق الأهداف الفلسطينية، وعليه فالمطلوب من حركة فتح والقيادة الفلسطينية اليوم إعادة تشكيل المفاهيم الفتحاوية في الفعل الفلسطيني، وإعادة إنتاج الرؤية الفتحاوية التي تشكل شريكًا فاعلًا وناجزًا مع القوى الفلسطينية، للوقوف في وجه هذا العدو المتغول على كلِّ ما هو فلسطيني، والذي يحاول فرض سياساته على الواقع الفلسطيني، والتغول استيطانيًا في الضفة الغربية، وكسر الإرادة الوطنية في غزة، وتحويل القضية إلى قضية إنسانية وتسهيلات اقتصادية، وتمتلك فتح من القوة والتأثير ما يمكنها من قيادة العمل الوطني الفلسطيني الموحد بعيدًا عن تشنجات التناقضات بينها وبين العديد من القوى الوطنية، كما مطلوب من فتح إعادة دراسة تجربة أوسلو 1993 وتجربة السلطة الوطنية برمتها والخروج بإستراتيجيات تفعيل للمشروع الوطني.

خامسًا: شعبنا الفلسطيني:

يمتلك شعبنا الفلسطيني ذخيرة حية من الوعي والقدرة على التمييز في الفعل الوطني، كما أنه يعتبر هو حجر الأساس ورأس الحربة الذي يقاوم ويقاتل كلِّ مشاريع التمرير التي تستهدف القضية الفلسطينية، والأهداف والطموحات الفلسطينية، ويؤكد شعبنا الفلسطيني بكلِّ أماكن تواجده أنه شعب حي لا ينسى ولا يغفل أو يتغافل عن حقوقه المشروعه، وهذا يتضح جليًا من الحاضنة التي يشكلها شعبنا لمقاتليه في كلِّ الساحات سواء في الضفة أو في غزة وأنه ينحى الخلافات والتناقضات جانبًا في معاركه مع العدو الصهيوني، وأنّ شعبنا يقف جامعًا كقوةٍ اسنادية لمقاتلية ومناضليه دون التمييز بالألوان والتناقضات السياسية. لذلك فإن المسؤولية الكبرى اليوم على عاتق شعبنا الذي عليه أنّ يكون يقظًا ومدركًا لأهداف السياسات الصهيونية، ومؤامرات الإحتلال ضد قضيتنا ومشروعنا الوطني الكبير، وأنّ يشكل حافزًا وحاضنًا لأي قوة فلسطينية تقف سدًا أمام تمرير مخططات العدو وسياساته، وكذلك فإن شعبنا اليوم مطالب أنّ يقف أمام مسؤولياته الوطنية ويتمرد على واقعه الحزبي بالوقوف في وجه القوى التي لا زالت تتمسك بتقسيم شعبنا والمحاصصة الحزبية على حساب مشروعه الوطني.

آخر الكلمات:

في عام 1992 كنت بمحاضرة في سجن غزة المركزي مع بعض الرفاق قلت لهم يومها " شعبنا والتاريخ لن يغفر للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إنّ مر مشروع أوسلو" ولا أملك إلَّا إعادة نفس الكلمات أنّ شعبنا لن يغفر لقواه الحية إنّ مر مشروع تسييس أهدافنا الوطنية.