"التنظيم الدولي" للإخوان: وأيديولوجيا النفي والعنف (5/8)
تاريخ النشر : 2022-11-24 07:58

المصلحة ولو في حضن الشيطان
إلا أنه يصبح من باب البحث عن المصلحة حتى لو كانت في يد الشيطان ؛ محاولة الجماعة مغازلة الفكر الفاشي والنازي ؛ ذلك البحث الذي لا يمكن اعتباره من الإسلام في شيء ؛ فإذا عدنا إلي الوراء عند حافة بوادر اشتعال الحرب العالمية الثانية‏,‏ عندما كان القصر الملكي يغازل الألمان سرا ورجاله يغازلونهم علنا‏,‏ بل ويغازلون الفكر الفاشي والنازي أيضا‏.‏ الأمر الذي دفع كاتبا كعباس العقاد إلي الكتابة مهاجما هؤلاء ومتهما إياهم وعلى رأسهم جماعة الإخوان بالعمالة للنظم الفاشية فيقول في مصر دعوة دكتاتورية ليس في ذلك جدال‏.‏ والذين يقومون بهذه الدعوة ويقبضون المال من أصحابها هم الذين يشنون الغارة علي الدول الديمقراطية ويثيرون الشعور باسم الدين دفاعا عن سوريا وفلسطين‏,‏ بينما يسكتون على غزو الألمان والطليان لألبانيا وبرقة وطرابلس والصومال‏,‏ ويسير بعدما تقدم أن نعرف من أين تتلقي هذه الجماعات المتدينة أزوادها ونفقاتها‏.‏
وفي ذلك حاول البنا استخدام الدين الإسلامي وادعاءات غير معقولة وحتى غير عاقلة في تبرير علاقته بألمانيا وإيطاليا ( والكلام لعباس العقاد ) ؛ غير أن أكثر ما يثير من استهجان وإهانة العقل ؛ هو عندما كتب البنا نفسه مقالا غاية في الغرابة نشره في مجلة النذير لسان حال الجماعة‏,‏ زف فيه إلي المصريين والمسلمين جميعا نبأ سعيدا ؛ مفاده أن بعض الصحف الإيطالية ذكرت " أن إيطاليا وألمانيا تفكران في اعتناق الإسلام‏,‏ وقررت إيطاليا تدريس اللغة العربية في مدارسها الثانوية بصفة رسمية وإجبارية‏,‏ ومن قبل سمعنا أن اليابان تفكر في الإسلام‏ ".‏
ثم يتحدث عن أن " هذه الدول الثلاث قد وضعت في برنامجها التقرب التام من العالم الإسلامي ‏,‏ والتودد إلي العرب والمسلمين‏,‏ وقدمت لذلك مقدمات كبناء المساجد‏,‏ ودعوة الشباب العربي إلي المدن والعواصم عندهم‏..‏ إن هذه الدول إنما تعجبها القوة والكرامة والفتوة والسيادة‏,‏ وأن هذه هي شعائر الإسلام‏" ؛ ‏ ويكمل البنا لقد " كتب الإخوان المسلمون إلي ملوك المسلمين وأمرائهم وعلمائهم وحكامهم بوجوب التبليغ لهذه الأمم باسم الإسلام‏ " .
‏ولمزيد من إضفاء مسحة من الجدية علي هذا الأمر‏,‏ يوجه البنا رسالة مفتوحة علي صفحات ذات العدد إلي شيخ الأزهر يدعوه فيها إلي تبليغ ألمانيا وإيطاليا واليابان بالإسلام مع إمدادهم بالعلماء لشرح مفهوم الإسلام‏(‏37 ) النذير‏4‏ ذي القعدة‏1357‏ ـ العدد‏30).
‏وأيضا من أجل تعزيز فكرة الموالاة للمحور ألمانيا ـ إيطاليا ـ اليابان التي أعجب بها البنا تنشر جماعة الإخوان شائعة مثيرة للسخرية‏,‏ وهي أن هتلر شخصيا قد أشهر إسلامه وقام بالحج سرا وأسمي نفسه الحاج محمد هتلر‏.‏
مثل هذه المبالغات الفجة أدت إلي لفت الأنظار إلي هذه العلاقة الخاصة ففي لقاء بين السير والتر سمارت المستشار الشرفي للسفارة البريطانية مع وكيل وزارة الداخلية المصرية حسن باشا رفعت أفاد وكيل الوزارة بأن معلوماته تقول إن الأستاذ البنا قد تلقي إعانات مالية من الإيطاليين والألمان والقصر‏(‏ ينقل الأستاذ محسن محمد هذه الرواية في كتابه من قتل حسن البنا ص‏88‏ وقد نقل هذه المعلومات وغيرها عن وثائق أرشيف الخارجية البريطانية‏).‏ وما كان لنا أن نسوق اتهاما غليظا كهذا نقلا عن وشاية من أحد رجال الأمن لممثل السفارة البريطانية‏,‏ لولا أن الأرشيف البريطاني يحتوي علي وثائق أخري تصب في ذات الاتجاه‏.‏
فهناك برقيتان من السفير البريطاني إلي وزارة خارجيته تحتويان علي ترجمة انجليزية لوثائق بالألمانية عثر عليها عند تفتيش مسكن مدير مكتب الدعاية الألماني بالقاهرة‏.‏
ونقرأ وندهش‏ كما يقول الدكتور رفعت السعيد .‏
‏F.o371.-23342‏
‏1939/10/22‏
مكتب الأمن العسكري ـ مصر
الهر ولهلم ستلبوجن مدير مكتب الدعاية النازي‏D.N.B‏ ولا يتمتع بأي صفة دبلوماسية عثر عنده لدى تفتيشه علي مذكرة مكتوبة بالاختزال مؤرخة في‏18‏ أغسطس جاء فيها لقد أرسلت البعثة إلي‏(‏ ح‏.‏ب‏)(‏ الإخوان‏)‏ مرة أخري ذات المبلغ بذات الطريقة لكن الإخوان المسلمين طلبوا المزيد من المال رغم أنني سلمتهم مبلغ الألفي جنيه التي وصلت باسمهم من ألمانيا‏.‏
ثم ترجمة‏(‏ لورقة أخري مكتوبة بالآلة الكاتبة الألمانية مؤرخة في‏8/16‏ تقول إن دفعة جديدة من الأموال قد أصبحت ضرورية جدا‏.‏ إن المحادثة التي جرت مع‏(‏ ح‏.‏ ب‏)‏ شخصيا حول المسألة‏(‏ ب‏)‏ كانت مرضية تماما‏.‏
وبرقية ثانية تحمل رقم‏F.o371.-23343‏ تقول أرسلت البعثة مرة أخري لحسن البنا‏(‏ هذه المرة كتب الاسم كاملا بدلا من ح‏.‏ ب‏)‏ ذات المبلغ بذات الطريقة ـ هؤلاء الناس يمكنهم فعل أشياء كثيرة‏.‏
وبسبب هذه العلاقة وتلافيا للتصادم مع القصر الملكي الذي كان يحمي البنا‏,‏ طلب الإنجليز من حسين سري رئيس الوزراء ضرورة الحد من نشاط البنا فقرر نقله من القاهرة إلي الصعيد وقد استجبت إلي ذلك‏(‏38 ) د‏.‏ محمد حسين هيكل ـ مذكرات في السياسة المصرية ـ ص‏2‏ ـ ص‏208‏ ـ وكان هيكل في هذه الأثناء وزيرا للمعارف‏).‏
‏وتنتهي الحرب ويهزم النازي‏,‏ ويطل علي العالم شبح النفوذ الأمريكي ولا يضيع البنا وقتا‏..‏ ونقرأ في الوثائق الأمريكية‏..‏ فيليب ايرلاند السكرتير الأول للسفارة الأمريكية يكتب في برقيته يوم ‏29‏ أغسطس‏1947‏ إلي وزارة الخارجية التقيت حسن البنا وأشرت إلي المظاهرات الحاشدة التي وقعت هذه الأيام‏.‏ فرد البنا لن تكون هناك اضطرابات جديدة‏,‏ فإن بوسعي بدءها وإنهاءها‏..‏ ويرد ايرلاند‏:‏ من المشكوك فيه إنهاء الفتنة بعد إشعالها‏.
لكن البنا يعرف كيف يغري الأمريكيين فيطلب مقابلة ثانية وتتم في بيت إيرلاند ويحضر البنا ومعه محمد الحلوجي ومحمود عساف مدير إعلانات صحيفة الإخوان وأشار البنا عبر المترجم إلي خطر الشيوعية في الشرق الأوسط وأن الإخوان يحاربونها‏,‏ ويضطر أعضاء في الجماعة أن يتركوا عملهم الأصلي لدخول الخلايا الشيوعية للحصول علي معلومات‏,‏ وعندما يفعلون ذلك‏,‏ فإنهم يتركون وظائفهم وبذلك يفقدون مرتباتهم‏,‏ وإذا أمكن تعيينهم علي أساس أنهم محققون وباحثون‏,‏ فإنه يمكن حل المشكلة‏..‏ لكن الأمريكان لم يبتلعوا الطعم‏..‏ ورفضوا تقديم أموال‏.‏
‏..‏ ولا تتوقف المحاولات‏.‏
فعندما تولي المستشار حسن الهضيبي موقع المرشد العام حاول ذات الشيء‏..‏ وأقام علاقة مباشرة مع الأمريكيين عام‏1953‏ عن طريق أحد أصهاره ولنرمز له بالحرف‏(‏ م‏)‏ وإن كان الاسم قد ورد كاملا في الوثائق الأمريكية وفيها أن‏(‏ م‏)‏ حمل رسائل من المرشد تحاول إيهام الأمريكيين بأن للإخوان قوة كبيرة في الجيش‏,‏ خاصة في الرتب الدنيا‏..‏ وأنه من السهل الإطاحة بعبد الناصر وعبدالحكيم عامر عندما تري الحركة أن الوقت مناسب‏..‏ ومرة أخري لم تبتلع أمريكا الطعم فالتعليقات في الوثائق تؤكد أن الجماعة تبالغ في قوتها كثيرا‏.‏ ( 39) د. رفعت السعيد ؛ جريدة الأهرام بتاريخ 30/12/2006م السنة 131 العدد 43853 )
ويبدو أن الناظم الذي كان يحكم علاقة الإخوان المسلمين بالغير ؛ كما تشير الوثائق ؛ كان أساسها المصلحة بعيدا عن تلك اللافتة الدينية التي يتم الاختباء خلفها ؛ أي بعيدا عن تلك القيم والمثل التي يجري الحديث عنها ؛ وهذا الأمر يمكن اكتشافه من خلال محاولة نسج علاقات مع دول المحور ؛ وبشكل يجافي العقل السليم ؛ ثم مع كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية لاحقا بعد هزيمة دول المحور ؛ وهو الأمر ما كان يمكن تصديقه دون وجود الوثائق التي تروي تلك الوقائع .
ولعل ما كشفه الباحث البريطاني مارك كيرتس في كتابه « الشؤون السرية» والمأخوذة مادته من الوثائق البريطانية حول العلاقة بين الجماعة والحكومة البريطانية ، من أن بريطانيا مولت حركة «الإخوان المسلمين» في مصر سرا ، وأنها بدأت بتمويل «الإخوان» منذ عام 1942، ثم واصلت التعاون معهم من أجل إسقاط نظام حكم الرئيس السابق جمال عبد الناصر، على اعتبار أن الحركات الأصولية أفضل من الحركات القومية العربية. وأضاف أنه حتى بعد وفاة عبد الناصر واستخدام خليفته أنور السادات «الإخوان» كأداة لتدعيم حكمه، واصلت بريطانيا النظر إلى الإخوان على أنهم «سلاح يمكن استخدامه»، وفقا لمسؤولين بريطانيين لتدعيم نظام الحكم في مصر. (40) ( جريدة الشرق الأوسط ، 11568 العدد ، 31 / 7/ 2010 )
وفي عام 1956، عندما قامت بريطانيا بغزو مصر ضمن ما يعرف بالاعتداء الثلاثي، كان هناك مصادر جديرة بالثقة تشير إلى أن بريطانيا قامت باتصالات سرية مع جماعة الإخوان وغيرهم من الشخصيات الدينية كجزء من خططها للإطاحة بعبد الناصر أو اغتياله. وما تبينه هذه الملفات هو أن المسؤولين البريطانيين كانوا يعتقدون أن هناك «إمكانية» أو «احتمالية» أن يقوم «الإخوان» بتشكيل الحكومة الجديدة بعد الإطاحة بعد الناصر على أيدي البريطانيين. وفي شهر مارس (آذار) عام 1957، كتب تريفور إيفانز، المسؤول بالسفارة البريطانية الذي قاد اتصالات سابقة مع «الإخوان»، قائلا: «إن اختفاء نظام عبد الناصر... ينبغي أن يكون هدفنا الرئيسي».
وتجدر الإشارة أيضا إلى أن الخطط البريطانية السرية للإطاحة بالأنظمة القومية في سورية عامي 1956 و1957 كانت تنطوي أيضا على تعاون مع جماعة الإخوان المسلمين، التي كان يُنظر إليها على أنها وسيلة مفيدة في خلق الاضطرابات في البلاد تمهيدا لتغيير النظام الحاكم. (41) ( المصدر السابق )
هذا السلوك المفارق كما تبين التجربة التاريخية ؛ كان جزءا أصيلا من ثقافة الجماعة وفكرها ؛ سبق أن عبرت عنه علاقة مؤسسها باليمن عبر تلك " العلاقة الوثيقة التي قامت بين حسن البنا والإمام حميد الدين إمام اليمن‏,‏ التي أثمرت عن استثمارات اقتصادية مربحة حققها رجل الأعمال محمد سالم‏(‏ زوج زينب الغزالي‏)‏ ونفوذ فكري وسياسي واسع‏..‏ ثم انهار ذلك كله بسبب تدبير البنا ورجاله وبالاتفاق مع بعض رجالهم باليمن لانقلاب فاشل لم ينته فقط بتدمير كل الحصاد الإخواني هناك‏,‏ وإنما انتهي بإثارة هواجس الملك فاروق ونظامه وغيره من الحكام‏..‏ فالذي يدبر انقلابا في اليمن يمكنه أن يفعلها هنا أو هناك‏. ( 42) جريدة الأهرام بتاريخ 30/12/2006م السنة 131 العدد 43853 ).
وفي رواية أخرى لعلاقة البنا باليمن ؛ والتي يلمس فيها المقدمات الأولى لتشكيل التنظيم الدولي لحركة الإخوان واستطاع إلى جانب ذلك أن ينشئ التنظيم الدولي للإخوان عن طريق الفضيل الورتلانى الجزائري المساعد الغامض لحسن البنا ، وهو الذي فجر ثورة الميثاق في اليمن لقلب الموازين فيها لصالح السعودية، وقد نجحت الثورة في قتل الإمام يحيى، ولكن سرعان ما فشلت وتنصلت منها السعودية ، ورفضت استقبال الفضيل الورتلانى بعد هربه من اليمن وظل الورتلانى في سفينة في البحر ترفض الموانئ العربية استقباله كراهية لدوره في اليمن، إلى أن استطاع بعض الإخوان تهريبه في أحد مواني لبنان، وانتقل منها إلى تركيا، ثم ظهر بعد ذلك كالرجل الثاني فى قائمة جبهة التحرير الجزائرية حين توقيع ميثاقها في القاهرة سنة 1955 .
واكتشفت الحكومة المصرية بعد ما حدث في ثورة اليمن سنة 1948 خطورة حسن البنا وتنظيمه السري وكيف استطاع حسن البنا إجراء ثورة في اليمن عن بعد . ولذلك كان التخلص من حسن البنا سياسياً بكشف أسرار التنظيم وما جرى إبان ذلك من حوادث عنف متبادلة.
ومعروف بعدها موقف الإخوان من تعضيد الثورة ثم الخلاف بينهم وبين عبد الناصر، وتحالف السادات مع الإخوان، وعودة التيار الديني السياسي للسيطرة على أجهزة الدولة في التعليم والثقافة والإعلام مع عصر الثورة النفطية، ثم خلافهم مع السادات، وقتلهم له، واستمرار سيطرتهم في عصر مبارك الذي آثر مطاردة الإرهاب المسلح مع التصالح مع الفكر السلفي الذي أصبح يقدم نفسه على أنه الإسلام.
وهنا ندخل على طبيعة الفكر السلفي التي أجهضت الاجتهاد المصري في الإصلاح الديني لصالح الثورة السلفية. (43) صحيفة المصري اليوم ؛ الخميس 17 صفر 1430هـ - 12 فبراير 2009م )