تشكيل نظام دولي جديد والمخاطر الحقيقية التي تهدد البشرية
تاريخ النشر : 2022-11-24 15:16

مقدمة منهجية:

ينبغي الانتباه الى أن أي صراع جزئي “محلي أو إقليمي” يرتبط ارتباطا عمليا بالصراع الكوني الحاصل بين أقطاب العالم، وعلى ضوء وقائع هذا الصراع وقضاياه واطرافه تتحدد علاقات القوى المحلية والاقليمية وأدوارها.. ويجد الجميع في الاطراف نفسه سائرا في سياق الصراع بوعي منه أو لا وعي رغم تعدد الرايات والشعارات الوطنية والقومية والايديولوجية فهي لاتغني من الواقع شيئا.. وهكذا يكون من العبث محاولة قراءة أي صراع محلي وإقليمي بعيدا عن علاقته بالارادات الكبرى للصراع الكوني..

فبعد أن استقر الامر للشمال بعد الحرب العالمية الاولى وخروج المسلمين ككتلة دولية من الخريطة السياسية انهمكت مراكز القوة في الشمال فيما بينها لترتيب دوائر النفوذ والبحث عن المركز الاكثر نفاذية ولم يستقر الامر الا بعد الحرب العالمية الثانية ليتم ترتيب القطبية الدولية بين شرق وغرب: الاتحاد السوفيتي متزعما الكتلة الاشتراكية وامريكا متزعمة الكتلة الراسمالية..اما الجنوب فكان عل كل دولة من دوله ان تبحث عن مكان لها ضمن النظام الدولي القائم وفي دائرة أحد القطبين..

تواصلت الحرب الباردة بين قطبي الشمال وصراع النفوذ وكادت حالة الاشتباك والمواجهة المباشرة بين القطبين ان تصل الى الاحتدام، واستمرت هذه الحرب نصف قرن انتهت بانهيار الاتحاد السوفيتي ومعظم الكتلة الاشتراكية.. كانت فرصة تاريخية للامبريالة لكي تفرد سلطانها على معظم دول العالم لاسيما الاسلامي حيث اعتبرت ان الاسلام هو الخطر القادم ولكنها لم تستطع استغلال الفرصة كما تتمنى في فرض وقائع لها خاصية الديمومة والتبعية خلال فترة وحدانية القطبية.. وبعد عقدين من الزمن استعادت روسيا دورها وتعافت من عثراتها وبدأت تفرض نفسها على المسرح الدولي مستفيدة من ظروف دولية افلتت من قبضة الامريكان.. ليحدث الاصطفاف القطبي من جديد الان في واحدة من اخطر ماواجه البشرية في تاريخها.. اصطفاف مشحون بالنووي والصواريخ والغواصات والاسلحة الذكية والعملاقة.

مناطق الصراع:

1- تايوان وبحر الصين. 2- القطب الشمالي . 3- المثلث العربي الاسلامي.. ولعله من الواضح ان الولايات المتحدة وحلفاءها قد وضعت يدها على الوطن العربي والعالم الاسلامي بشكل او بآخر..ولكن من الواضح ايضا ان الولايات المتحدة ارهقت جراء حروبها الكبرى في افغانستان والعراق.

اطراف الصراع:

1- امريكا والهند وبريطانيا واستراليا وتايوان واليابان

2- روسيا والصين وكوريا الشمالية والى حد ما ايران

ومن المهم هنا متابعة التطور الدراماتيكي في انهيار العلاقات داخل الحلف الاطلسي بعد الصدمة الاوربية من تصرف استراليا بالتعاون مع امريكا باستبعاد الاتحاد الاوربي في مناقشة ملف الصراع المتصاعد مع الصين وكذا ملف الغواصات الفرنسية التي عزفت عن شرائها استراليا لتستبدلها بغواصات امريكية نووية.

قضايا الصراع:

الممرات المائية والثروات الطبيعية والتكنلوجيا والتمدد الاقتصادي ورسم حدود القطبية الجديدة وتبعا لذلك خريطة سياسية للعالم على ضوء نتائج المواجهة المستعرة بين القطبين.

روسيا والصين:

مما لاشك فيه ان الصين وروسيا تكتنزان تجربتين مرتين في تعامل الغرب الراسمالي معهما فلقد سبق ان استعبد الغربيون الصين قرن من الزمان منذ 1837 الى 1947 الذي بدأ بالاستعمار البريطاني الذي وصل به الحال ان يقوم بالاتجار بالبشر ويرتكب مجازرا فظيعة ويغزو المجتمع بالافيون.. و بعد ذلك اشتركت فرنسا وامريكا في العدوان على الصين لغرض فتح سوقها وتقييد الحياة فيها وقد لحقت اليابان بهم لترتكب ابشع جرائم الحرب ضد الصينيين فكان قرنا من الاذلال العنيف الذي لم يتوقف الا بعد ان نهضت البلاد بالثورة الماوية على كل المستويات وبدأت عجلة النهضة فيما فر القوميون اليمينيون اصدقاء الغرب الى الاعتصام في تايوان وهي جزء من الصين وظلت تايوان تحتل موقع دولة عظمى في مجلس الامن سنوات عديدة بدعم من امريكا والدول الغربية الى ان اصبحت الصين قوة نووية بمساعدة السوفيت وانتزعت الموقع منها..

اما الاتحاد السوفيتي فلقد تلقى ضربات ساحقة من قبل المخطط الامريكي بكل ادواته من استخدام الفاتيكان ورجال الدين المسيحي واستخدام شيوخ السعودية وكثير من التيارات الاسلامية لتكون هزيمة الاتحاد السوفيتي الزلزال الذي انتهى بتفككه وسقوط مؤسساته وتحول دوله الى مزق ويتم انتهاك كل شيء في الاتحاد السوفيتي.. فقامت روسيا في محاولة اخذ موقع الاتحاد السوفيتي لتكون وريثه على المسرح الدولي وقد اصبحت في ما يقترب من القطبية ولكن بصيغة مختلفة.

تحالف الصين وروسيا تقليدي وراسخ لاسيما بعد أن أصبح واضحا أن روسيا تأخذ على عاتقها حماية التحالف فيما تتوجه الصين لإحداث الضربات الاستراتيجية للاقتصاد الراسمالي والامريكي خصوصا من خلال طريق الحرير الذي يسحب الاسواق العالمية من المنتج الغربي و يفتح ابواب الصين للطاقات والثروات من دول الجنوب.

ميدانا الصراع المباشران:

روسيا تدخل بفعل تغير معاملات المناخ ميدان تنافس دولي حاسم وخطير فلقد وضعت رؤية لكيفية التعامل مع ذوبان جليد القطب الشمالي وما يترتب عليه من واقع ومعطيات وهي تعلن رسميا عن النسب التي ستحصل عليها من ثروات القطب الشمالي من الذهب والنفط والغاز والكروم وغير ذلك من المعادن حيث يحتوي القطب الشمالي كما اعلن بوتين ان 15-20 مليار طن من الوقود المكافيء وتقدر روسيا الثروات المحتملة باكثر من 30 تريليون دولار.. هذا بالاضافة الى امكانية ايجاد ممر جديد يختصر المسافات بين اليابان مثلا ونوتردام لتصبح المسافة مايقارب نصف المسافة التي تحتاجها السفن عبر قناة السويس..

اما الصين فهي تدخل ميدان المواجهة في ميدان آخر عنوانه “تايوان” وان كانت المعركة أوسع كثيرا فهي معركة استراتيجية تنتهي نتائجها بمعطيات مرعبة على الاقتصاد الامريكي والعالمي.. ولكن تتخذ المعركة عنوان تايوان لأنه اكثر احتكاكا واحتمالا للمواجهة بعد ان أبدت الصين نيتها بغزو تايون بحجة أنها جزء من أرضها، ولعل رغبة الصين هذه تأتي ليس فقط من كون تايوان جزءا منها و لاتبعد عنها اكثر من 150 كيلومتر، انما لأن تايوان أصبحت من الأكثر عالميا في صناعة التكنلوجيا الحديثة في مجالين: صناعة الرقائق حيث بلغ ما تنتجه تايوان 65 بالمائة من الانتاج العالمي و صناعة الدوائر الكهربائية وهذه مجالات من التكنلوجيا محرمة على الصين التي فشلت أكثر من مرة في شرائها فهي حكر غربي محض كما حصل ذات مرة أن وقعت عقدا مع هولندا انتهت بفسخه بأمر أمريكي لهولندا فورا..فيما تنعم تايوان واليابان وكوريا الجنوبية بتكنلوجيا الغرب بسهولة.

مناخ الحرب القادمة:

تكدس امريكا السلاح المتطور بأنواعه في تايوان وتزود استراليا باحدث الغاواصات النووية و تتواجد في جزيرة اوكانوا التي تعتبر موقعا مهما للقوات المسلحة الامريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. تستضيف الجزيرة نحو 26 ألف فرد عسكري أمريكي، نحو نصف أفراد القوات الأمريكية في اليابان، مقسمين على 32 قاعدة و48 موقعا تدريبيا. لعبت القواعد الأمريكية في أوكيناوا دورا مهما في حروب امريكا في كوريا وفيتنام وافغانستان والعراق..هذا ويوجد في المنطقة اكبر حاملات طائرات في العالم اثنتان منهما امريكيتان والثالثة بريطانية كما توجد حاملة طائرات هيلوكبتر يابانية هذا بالاضافة للغواصات الاسترالية التي اشترتها من امريكا.. وفي المقابل تعرض الاقمار الصناعية الامريكية مؤخرا عن مخابيء للصواريخ النووية الصينية على شكل صوامع تحت الارض ولقد سبق للصين ان اخترقت المجال الجوي التايواني قبل 3 اشهر وقد تمت متابعة تدريبات صينية يومية لغزو تايوان وتفيد تقارير انه تم اعداد الف سفينة صينية لاحتلال تايوان.. كما ان روسيا طورت سلاحها ورغم الدرع الصاروخية التي اقامتها امريكا في مواجهة روسيا في اوربا الشرقية الا ان الروس اعلنوا عن غواصات تحمل طربيدات “يوم القيامة” لها خاصية الشبح بحيث يصعب متابعتها ومراقبتها وهي محملة بقنابل تستطيع الواحدة منها إزالة مدينة ساحلية بعد ان تصنع تسونامي عظيم..

وهكذا يمكن رسم مثلت الحشد الامريكي في استراليا واليابان والهند بكل أنواع السلاح الفتاك والنووي.. ولعل الاجتماع الأخير الذي عقده بايدن على هامش أعمال الجمعية العامة مع زعماء اليابان والهند واستراليا يصب في الموضوع ذاته والتحضيرات المحتملة للحرب القادمة.
التحالف الجديد الذي تقوده أمريكا يقام بعيدا عن الحلف الاطلسي وهذا يدفع الاتحاد الأوربي الى محاولة إعادة التمامه حول نفسه والتقدم لصناعة قوة خاصة به وإبداء عدم حاجته لحماية أمريكا وهكذا يتصدع الحلف الاطلسي وتنتهي وظيفته مع تغير قضايا الصراع وتغير أطرافها..وهذا الواقع السياسي الجديد هو الذي فرض على الأمريكان الانسحاب من افغانستان للتقدم نحو معركة أكثر حسما وخطورة وهذا لايعني ان الانسحاب كان منحة من الامريكان بل كان تحت ضغط كبير وفي ظل خسارات فادحة منيت بها الميزانية الامريكية.. وقد يلحقه قريبا انسحاب من العراق وسورية..

آثار الصراع على المنطقة العربية:

منذ قرن تقريبا ومنطقتنا العربية تتحرك كاداوت في المخطط الدولي تنجز لها رغباته واهدافه الاستراتيجية فبعد ان كرس المشروع الاستعماري حالة التجزئة التي رسم حدودها ضباط عسكريون بريطانيون وفرنسيون بين بلاد العرب سهل الغربيون وصول حكومات وانظمة سياسية كرست التجزئة وحمتها وصنعت لها ثقافة وقوانين واعلام ونشيد وطني وجيوش وطنية.. وبعد ان استقر امرها واصبح موضوع وحدة الامة خلف ظهر المنطقة مما يعني فقدان اهم شروط النهضة اخضعت هذه الدول بتبعية اقتصادية وسياسية متواصلة حتى جاء المخطط الجهنمي باستدراج السوفيت الى افغانستان حينها اصبح العرب والمسلمون هم من يجب ان يقوم بتدمير الاتحاد السوفيتي واحتشد الموقف العربي ليجعل من الجهاد في افغانستان شعار المرحلة وبالفعل قام المسلمون يتنسيق مع الامريكان باسقاط الاتحاد السوفيتي كما قام العرب بتوجيه امريكي بمحاصرة ايران ومحاربتها مما اسقط الكتلة الاشتراكية وكبح الثورة الايرانية وبعد ان تحقق ذلك اعاد الاستعماريون توجيه مخططهم لاحتلال افغانستان والعراق وتوجيه الضربات العنيفة للمسلمين والعرب..

في هذه المرحلة الانتقالية اي بعد اسقاط بغداد وكابول تقدم الاستعماريون من وراء حجب لتحريك الشارع العربي الذي يعيش القهر السياسي والفقر والحرمان من حرية الراي والتعبير.. فكان الربيع العربي وتم استغلال القوى الاسلامية والتي تمثل القوة الاكبر في المجتمع العربي وبعد ان وصلت الى الحكم في كل مكان كان فيه ربيع عربي جاءت الفوضى الخلاقة حيث التنافر والتصادم المجتمعي الحاد والذي لازال بعضه قائما في تونس وسورية وليبيا.

ولكن صعود نجم الصين ومشروعها الاقتصادي العملاق واستعادة روسيا لقوتها وطموحها يفرض الان على الامريكان انتاج مشاريع سياسية جديدة لدى العرب لتكون المنطقة العربية بثرواتها وقد يكون بمقاتليها ايضا قوة اسناد او طليعة في معركة مع الصين الشيوعية وروسيا الملحدة لاسيما والدولتان تمارسان قمعا للمسلمين..!!

وهنا يصبح من المهم الانتباه هذه الايام الى الحركة السياسية في المنطقة العربية المتصادمة.. حيث يهرول الخصوم للمصالحات واللقاءات: مصر وقطر وتركيا والامارات والسعودية.. وكذلك اللقاء المفاجيء في بغداد بين جوار العراق ولا يمكن ان يحدث هذا بمثل هذه السرعة وبغير اعلان الا لكي تكون في اطار لملمة امريكا لاصدقائها في جبهة مفروضة لحرب قريبة..

موقف امريكا الضاغط على تونس للعودة الى الدستور وعمل البرلمان كما هي دعوة الامريكان الى حماية حقوق الانسان في دول عربية كثيرة التقفت الاشارة فاصبحت الدعوة للمصالحات بين الحركات الاسلامية وتلك الانظمة.. كل ذلك يعني ان هناك ترتيب خاص في المنطقة لتحشيدها في معركة محتملة وقريبة ضد معسكر الروس والصين.

سيجد الامريكان أن أكثر القوى انتشارا في الشارع العربي ستكون أكثرها تحمسا في مواجهة الصين وروسيا للاعتبارات السابقة حول حقوق المسلمين في البلدين.. فكما شارك التيار الاسلامي في الحرب ضد الروس في الثمانينات فهو مؤهل كذلك لاستئناف الحرب نفسها لاسيما وروسيا تتدخل بعنف ضد الاسلاميين في سورية وذلك ان وجد محفزات مرحلية وهنا يجد صانع القرار الامريكي ضرورة تنفيس الاحتقانات في المنطقة العربية بين المعارضات والانظمة.
اننا بهذه الانظمة التي تحكم بلداننا لن نكون اكثر من ادوات بيد الادراة الامريكية في معركة طاحنة سندفع ثرواتنا ومستقبل بلداننا وابنائنا من اجل اهداف امريكية بحتة
قد تكون هناك بعض الدول العربية والاسلامية التي لن تقبل الانخراط في المشروع الاستعماري فهذه الدول ستتعرض للابتزاز والنزف وسيكون امنها مهددا وسيتم معاقبتها بازمات داخلية واقليمية..

اما فلسطين فلقد اصبح واضحا ان وظيفة الكيان الصهيوني لم تعد ثمينة لدى المشروع الامريكي المنهمك في مناطق الصراع الكونية الاكثر خطورة: الصين والقطب الشمالي ولن يتشدد كثيرا في ابداء تنازلات ليعطي للموقف العربي والاسلامي ازاءه مبررات على الاقل نظرية.. ولعل الرسائل اصبحت في وتيرة اعلى لكي يتم لجم الكيان الصهيوني عن التمادي في غطرسته كما اتضح في العدوان الاخير على غزة.

المنطقة العربية والاسلامية تعتبر مخزنا استراتيجيا للحروب الامريكية ولعلنا نتذكر ان كل حروب امريكا كانت تجد من بترول العرب واحيانا ابنائهم من يمولها بالمال والدم.. والان السيناريو نفسه يتقدم وهم يتوقعون انهم سينجحون في ذلك كما نجحوا من قبل الا ان اختراق حقيقي يرعبهم الان وهو احتمال قيام ايران وافغانستان وباكستان بتشكيل مثلث اسلامي يرفض الانخراط في هذه المعركة وبوادر هذا التحرك الثلاثي اصبحت اكثر من واضحة حيث تصر افغانستان على علاقات طيبة مع الصين وروسيا وكذلك يمكن اعتبار باكستان صديق تقليدي للصين اما ايران فلها علاقات متينة بروسيا والصين.. سيمثل هذا المثلث عقبة كؤود امام المشروع الامريكي ويمثل رافعة لموقف سيكون له دور مهم في تجميع قوى الامة حول عناوين السيادة والاستقلال والخروج من ساحات المواجهة الدولية المرتبطة بمصالح القطبين.. بلاشك احتمالات الساعات الاخيرة قد تغير كل التوقعات وهذا يوجب علينا المتابعة والتحليل